صفحة الكاتب : د . عبير يحيي

 - [ ] قيظ ذلك اليوم كان لا ينسى ،  يوم من  أيام شهر أغسطس إلّا أن حرارة الموقف كانت أشدّ وأعلى، رائحة النتانة تفوح من تلك الأجساد المتراصّة على بعضها في الناقلة  المحمَّلة بالشبّان الذين تم ضبطهم في أحد الفنادق الرخيصة التي تباع فيها المتعة المحرمة بابتذال، لقاء مبالغ زهيدة.

- [ ]  في البلاد التي تسكنها الحروب، المناطق الآمنة فيها يسكنها نوع آخر من الشرور، وكأنّ إبليس قد وزّع زبانيته فيها كلّ في موقعه، بعد أن كثر عدد الوافدين إلى المدينة الصغيرة ، هاربين من انعدام الأمن والأمان في مناطقهم الواقعة على خط النار، مناطق اشتباكات بين جيش الحكومة وفئات مسلحة تابعة للمعارضة، انتشرت في المدينة تجارة توازي تجارة السلاح استقطبت ما بقي من أخلاق، لتردي الجميع في بوتقة موت كبير.  
وقف ينظر نظرات ساهمة ، ضائعة ، زائغة بين الماضي والحاضر ، لن يفكر بالمستقبل لأنه لا يملكه، شاب لم يتجاوز الثامنة عشر عاماً  وسيم ، أبرز ما يميّزه وجهٌ بتقاسمَ  جميلة علم أَنَّهُ  اكتسبها من أمّه! لا يدري لماذا يتذكّر أمّه كلّماعضّته الأيّام ! لا يعرفها ! رآها مرة واحدة، يوم زارها في عيادتها  وفي داخله أشواق كلّ أطفال العالم للقيا صاحبة بيت رحمه، كان ينظر إلى سرّته ويتخيّل الحبل السرِّي الذي كان يصله بها، دمها يجري في عروقه ، لم يحقد عليها يوماً، لكنها نكرته وطلبت منه بغلظة أن يغادر وألّا يحاول القدوم مرة أخرى ،  كان يوماً أظلمَ فيه كلّ شيء حتى الشّمس والقمر.
غار قلبه في ذكرى ذلك اليوم الذي صرخ فيه أبوه في وجهه شاتماً أمّه، كم أحسّ بالحنق والغيرة عليها، كان ابن ثلاثة عشر ربيعاً، حمل دموعه ليمسحها بحضن خالته.
 -"ماما، أرجوك أريد أن أعرف أمي ، أريد أن أعرف الحقيقة ، لماذا يحقد عليها أبي كلّ هذا الحقد ؟ ولماذا تركتني؟ ولا تريدني ، من هي ؟ وأين هي ؟ أجيبيني ماما ، لماذا يعاملني أبي بهذه القسوة ؟ بينما أخي الأصغر يرفل بالدلال والمحبة ؟
لماذا ؟".
لم تجرؤ خالته يومها على الكلام ، لكنها أعطته عنوان صديقة أمّه المقرّبة وقالت له : " هي ستخبرك كلّ شيء ".
كانت الناقلة تسير على طرقات تكثر فيها المطبات، أوشك أن يقع عند هبوط أحدها ، فأمسك بكتف الواقف أمامه، استدار إليه الشاب متألّماً ، فتمتم معتذراً منه، نظر إليه متأمّلاً ، هذا الشاب يبدو بعمره أو أصغر منه، لفته أنه يشبهه !
هز رأسه محاولاً التركيز على مخيلته وكأنّه يؤرشف أحداثاً يحرص على حفظها، وجه صديقة أمّه فاض بشراً عندما رأته، أخبرها أَنَّهُ ابن الدكتور فلان ، لم يكن يعرف اسم أمّه !
حضنته ، يومها تسلّل إلى أنفه طيف عطرها، "نعم ربّما كانت أمي تضع نفس العطر، أليستا صديقتان ؟ قد يكون لهما نفس الميول العطرية ".
كانت جلسة دسمة، ينتظرها بجوع السنين الماضية.
- " حسناً حبيبي، سأبدأ من قبل أن تتكوّن جنيناً في رحم أمّك،أمّك التي كانت ملكة متربّعة على عرش الجمال بلا منافس، (وقد رأيتها هكذا يوم زرتها)، طبيبة ناجحة أغرم بها والدك الطبيب الناجح أيضاً، تزوّجا، وبدءا حياة سعيدة إلى أن جاءت جدّتك مع عمتك من القرية بقصد السكن عند أبيك، لأن عمّتك كانت  تريد أن تلتحق بالجامعةفي هذه المدينة، مع مرور الأيّام -سبحان الله- كأن عمّتك والجدة تملّكتهما الغيرة من جمال والدتك فحقدا عليها، وبدءا يكيدان لها عند أبيك، طبعاً والدتك أيضاً كانت منزعجة من وجودهما، سيما بعد أن شعرت بتغيّر سلوك والدك معها، فصارت أيضاً تشتكيهما لوالدك كما تفعلان ، ثم ّ حملت بك ، فرح والدك  كثيراً وبهذه المناسبة أحضر لها خاتم الماس، تملّكت عمّتك نار غيرة قاتلة وعزمت على أمرٍ خطير، أحضرت مادة حارقة سائلة ورمت بها على وجه والدتك وهي نائمة ، وبدأ وجه أمّك بالاحتراق صرخت تطلب النّجدة ،والجدّة تحاول إسكاتها، وتصادف ذلك مع دخول والدك البيت ، أخذته الجدّة ، وبدأت تقنعه بإنكار ما رأى وأنّ أمّك هي من تحاول الانتحار، انتفضت أمّك من وجعها وَمِمَّا سمعته من جدتك، وتعالى  صراخها فقام والدك إليها محاولاً إسكاتها ، ودون أن يشعر هوى بقبضة يده عليها فوقعت متكوّمة على الأرض مغشيّاً عليها....
- عندما استيقظت كانت بالمشفى، والدها ووالدتها فوق رأسها حاولت التحرك فمنعوها، تحسّست وجهها، وصرخت ، كان ملفوفاً بالشاش، زاد صراخها عندما رأت والدك  في زاوية الغرفة ، طلبوا منه المغادرة فوراً، سألت عن الجنين ، أخبرتها جدتك أن هناك انفصال بالمشيمة ويمكن تدارك الوضع إن هي قبلت أخذ مثبتات، حقن عضلية لتثبيت الحمل، أجابت بسرعة:" طبعاً أريد طفلي، لكني لا أريد زوجي ".
- وكان ... طلقها والدك مقابل أن تتنازل عن الدعوة التي أقامتها ضد أمه وأخته، وخضعت لعلاج مكثف للحروق ، ولم تتمكن من الخضوع لمعالجات تجميلية بسبب الحمل، ثم أنجبتك، الشيء الغريب الذي أذهل الجميع أنّها بعد أن وضعتك لم تشأ أن ترضعك، حتى لم تحملك ولم تنظر إليك طلبت من الممرضة أن يحملك جدك ، ثم ترجّته أن يذهب بك إلى والدك ، وأمام إلحاحها ورفضها إرضاعك ، خضع جدك لمطلبها وذهب بك إلى أبيك الذي كان قد تزوّج ابنة خاله كما كانت تخطط له أمّه منذ البداية ، تناولك والدك بمنتهى الدهشة وناولك لزوجته التي أخذت تعتني بك، أنا الوحيدة التي كانت تعرف سر تصرفها الغريب ، لقد أسرّت لي أنها كانت تريد أن تترك لوالدك ما يذكّره بها طوال حياته ,
ولم ترغب أن تراك لأنّها لا تريد أن تتذكّره أبداً ."
-" لم أشمّ رائحة أمّي مطلقاً في حياتي ، وكلّما تنشّقت عطراً شذياً أقول لعلّ رائحتها مثل هذه، خالتي كانت حاملاً في شهور حملها الأولى ، كنت محظوظاً بعنايتها إلى أن وضعت طفلها، أخي ، ثمّ كان لزاماً عليها أن تعتني بطفلها، حقها طبعاً، كبرت مع أخي ، الغريب أن خالتي كانت حنونة كثيراً ، لكن أبي أبداً ".
وتعود به اللحظات إلى ذلك اليوم الذي زار به أمّه في العيادة ، بعد أن أخبرته صديقتها باسمها -"كم تمنيت أن ارتمي في حضنها معانقاً ، أشمّ رائحتها وأحزر أي عطر تشبه !
لكنها قتلتني ببرودها عندما حاولت الاقتراب منها دفعتني عنها ، قالت لي : " رجاءً لا أريد أن أراك ، اذهب إلى والدك وعش حياتك واعتبرني ميتة ! وقع كلامها عليّ كالصاعقة ، في الوقت الذي كنت أتحسس فيه سرَّتي ، لأذكّرها أنّي ابن بطنها ولها عندي دم يجري في عروقي ، خرجت من العيادة مسرعاً، تسبقني دموعي، وسكين في قلبي تقول لي : "منبوووووووذ ، أنت منبوذ".
 ومرّ بيده على عينيه يمسح مشروع دمعتين حاولتا النزول، أحس أنّ الشّاب الذي اتّكأ عليه منذ قليل، ينظر إليه بدهشة، هناك خبيئة غريبة داخله تجاه هذا الشاب لم يستطع أن يحددها، أشاح بوجهه للجهة الأخرى بعيداً عن مرمى نظراته، وعاد إلى سيرته الذاتية التي أخذت تتسلسل في مخيلته وكأنّه يبوح لأحدهم بآخر كلام له بالدنيا:" تفوّقت في دراستي ، قلت لعلّي أرضي أبي ، فيفخر بي ،لكني كنت مخفيّاً أمامه لا يراني أبداً ، كلّ اهتمامه كان منصبّاً على أخي، الذي أُحبّه ، ويحبّني ويتألّم لأجلي ، أخذت بعين الاعتبار أن أكون من الناجحين اجتماعياً حتى تفخر بي أمي مستقبلاً ، فأنا لم أيأس من التفكير بأني سأشمّ رائحتها يوماًما، عندما سألت صديقتها عن شعور الأمومة لديها، أخبرتني أنّ فيض أمومتها أغدقتها على ابن أخيها، وهو تقريباً في مثل عمري 
مرت السنون كبرت كنت في الثانوية العامة عندما جاء أبي كعادته يتهكّم علي كنت يومها مريضاً، بدأ يطلب مني الكثير من الطلبات المتتالية، آخرها كان إحضار كوب عصير ، أحضرته وأنا أترنّح من الحمّى ، لم أستطع التحكّم بالكوب فوقع من يدي على والدي ، وكأنّ القيامة قامت في هذه اللحظة ، انهال علي ضرباً وشتيمة ، تخيّلت كيف يمكن أن يكون قد ضرب والدتي ، فصرخت في وجهه :" مجرم ، مجرم !"
قادني من ياقة قميصي وفتح الباب وقذفني إلى خارج المنزل كقطّ مطرود ، وحذّرني من محاولة العودة .
ذهبت هائماً على وجهي، كان الوقت قد تجاوز الثانية عشر مساء، ليس لي أقرباء يمكنني اللجوء إليهم ، خالتي في زيارة عند أهلها في القرية ، أمشي بتثاقل أكاد أقع مغشيّاً علي من الحمّى، كنت أنوي الذهاب إلى أحد المساجد والنوم فيه، لكن أي مسجد سيفتح أبوابه بعد منتصف الليل؟ 
فجأة رأيت أنوار فندق صغير من الفنادق الغير مصنّفة، مددت يدي إلى جيبي فلاقت ثروتي ، بضع آلاف ليرات ربّما تكفيني مبيتاً لثلاث ليالٍ. خلف مكتب أقل من متواضع جلست عجوز ستينية، وكأنّ طفلاً صغيراً قد رشق وجهها بأصباغ ملونة فكان لوحة 
فوضى عارمة ، نظرت إليّ كمن يفحص بضاعة 
، سألتها إن كان هناك غرفة شاغرة ، اكتفت بإيماءة أي نعم سألتني بحذر إن كنت أريد فيها شيئاً معيّناً، لم أفهم ، طلبت منها أن تفسّر سؤالها، لكنّها تجاهلت ، وأخذت تكتب بيانات الهوية ، خلال الأحداث التي عصفت غضباً في بلادي اعتدنا على حمل بطاقة الهوية، دائماً بحوزتنا.
وكما كان تقديري النقود التي معي تكفي لبيات ثلاث ليالٍ فقط .
دخلت الغرفة ، كانت دون الوسط لكن فقط أريد أن أصل إلى السرير وأنام،
نزعت عني ملابسي وبقيت بثيابي الداخلية، وهبطت فوق السرير وخلال دقائق عانقني النوم ومضى بي، 
لم أدرِ كم نمت ، نصف ساعة ،ساعة ؟ ثّم وكأن إسرافيل نفخ في الصور فقام كلّ الموتى ، الطرق على باب الغرفة كان بقصد المداهمة لا الاستئذان ، دخلوا كغرابيب سود وانقضوا علي في سريري ،سألوني أين شريكتك ؟ عندما تأكدي أَنِّي بمفردي سمحوا لي أن أرتدي ملابسي واقتادوني مع كل من في الفندق ، كل ما أذكره من أشكالهم ألوان الملاءات التي سترتهم !"
كانت الناقلة قد وصلت إلى قسم شرطة تم إفراغها من حمولتها بمنتهي الذّل والإهانة ، ثم كوّموهم في غرف حجز لعرضهم على الضابط في اليوم التالي ، أفضى التحقيق الأولي إلى حجز احتياطي ريثما يكتمل التحقيق ، في اليوم التالي نودي عليه ضمن من لديه زيارة ،
نظر إلى يمينه ، وجد ذات الشاب ينظر إليه بنفس الدهشة ، تجاهله ناظراً من بين شبك الحاجز لمح والده قادماً باتجاهه ، يشتمه بصوت منخفض ، 
لم يأبه لشتائمه ، وكأنّ سلكاً كهربائياً لامس سرّته مترافقاً مع عبير عطر داعب أنفه ، وخيال ملاك لاح قادماً ، كانت هي !!!
أمّه وقد اتجهت إلى الشّاب الذي على يمينه تناديه : "ولدي" !!!!

قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat


د . عبير يحيي
 (للدخول لصفحة الكاتب إضغط هنا)

    طباعة   ||   أخبر صديقك عن الموضوع   ||   إضافة تعليق   ||   التاريخ : 2016/01/06



كتابة تعليق لموضوع : منبوذ
الإسم * :
بريدك الالكتروني :
نص التعليق * :
 



حمل تطبيق (كتابات في الميزان) من Google Play



اعلان هام من قبل موقع كتابات في الميزان

البحث :





الكتّاب :

الملفات :

مقالات مهمة :



 إنسانية الإمام السيستاني

 بعد إحراجهم بكشف عصيانها وخيانتهم للشعب: المرجعية الدينية العليا تـُحرج الحكومة بمخالفة كلام المعصومين.. والعاصفة تقترب!!!

 كلام موجه الى العقلاء من ابناء شعبي ( 1 )

 حقيقة الادعياء .. متمرجعون وسفراء

 قراءة في خطبة المرجعية : هل اقترب أَجلُ الحكومةِ الحالية؟!

 خطر البترية على بعض اتباع المرجعية قراءة في تاثيرات الادعياء على اتباع العلماء

 إلى دعاة المرجعية العربية العراقية ..مع كل الاحترام

 مهزلة بيان الصرخي حول سوريا

 قراءة في خطبة الجمعة ( 4 / رمضان/ 1437هـ الموافق 10/6/2016 )

 المؤسسة الدينية بين الواقع والافتراء : سلسلة مقالات للشيخ محمد مهدي الاصفي ردا على حسن الكشميري وكتابيه (جولة في دهاليز مظلمة) و(محنة الهروب من الواقع)

 الى الحميداوي ( لانتوقع منكم غير الفتنة )

 السيستاني .. رسالة مهدوية عاجلة

 من عطاء المرجعية العليا

 قراءة في فتوى الدفاع المقدس وتحصين فكر الأمة

 فتوى السيد السيستاني بالجهاد الكفائي وصداها في الصحافة العالمية

 ما هو رأي أستاذ فقهاء النجف وقم المشرّفتَين السيد الخوئي بمن غصب الخلافة ؟

 مواقف شديدة الحساسية/٢ "بانوراما" الحشد..

أحدث مقالات الكتّاب :


مقالات متنوعة :





 لنشر مقالاتكم يمكنكم مراسلتنا على info@kitabat.info

تم تأسيس الموقع بتاريخ 1/4/2010 © محمد البغدادي 

 لا تتحمل الإدارة مسؤولية ما ينشر في الموقع من الناحيتين القانونية والأخلاقية.

  Designed , Hosted & Programmed By : King 4 Host . Net