صفحة الكاتب : ادريس هاني

بمناسبة المولد النبوي ومولد السيد المسيح..على طريق التعايش الإسلامي ـ المسيحي
ادريس هاني

المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الموقع، وإنما تعبر عن رأي الكاتب.
في هذه المناسبة، حيث المولد النبوي المحمدي وميلاد المسيح..نغتنم الفرصة لنعزّي أرواح العلماء والشهداء..الشهيد القنطار مقاوما والشيخ محمد خاتون عالما وغريغوار حداد قسّا حرّا وإنسانا.. وفي الوقت نفسه نحيي المسلمين والمسيحيين بالمولدين..نحيي المسلمين بولادة عيسى ومحمد..ونحيي المسيحية بمناسبة ولادة عيسى ومحمد..نذكّر المسلمين اولا وقبل كل شيء أنّهم لم يعودوا محمّديين كما يجب..وبأنّ المهمة المحمدية تقتضي منهم أن يكونوا أهل رحمة وصدق واستقامة..وبأنّ التخلف والتوحش والنفاق والهشاشة الروحية والعقلية ليست من سنّته..وأنهم ليسوا أحرارا في تأويلهم الفاسد لمضمون رسالتهم..وبأنّهم طالما هم عبيد للاستعمار وعملاء للإمبريالية فهم ليسوا محمّديين ولا عيساويين..قال قسّ ثائر من إحدى الكنائس بأمريكا اللاتينية يوما بأنه لو كان المسيح حيا اليوم وشاهد حالة الفقر والجوع والاضطهاد لما وسعه إلا أن يحمل البندقية ويناضل..وهذا هو الذي حدّد ميلاد لاهوت التحرير.. كان ذلك هو الشكل العقلائي الذي جعل الجهاد الإسلامي لا يكون عقلائيا وشرعيا حتى يكون لاهوت تحرير وليس لاهوت توحّش..والمقاومة هي اليوم المصهر التاريخي للجهاد المقدّس ولاهوت التحرير في آفاقهما الكفاحية والإنسانية...
لقد حاولت داعش وورائها الإمبريالية وذيولها الرجعيين التفريق بين المسلمين والمسيحين في منطقتنا ولكن سلطة الزمان القاهرة فرضت تقاربا بين ذكرى نبيين هما في منطق القرآن من أولي العزم..بالنسبة لعربي لم يشهد من قبل تعانق المآذن بأجراس الكنائس كان النصراني ـ هكذا بتعبيرنا في المغارب ـ يعتبر كافرا وتتصل صورته بالغزو والاستعمار..تشكلت هذه الصورة في وجداننا لأنّ النصرانية كانت تعني لنا تاريخا من المعارك مع البزنطيين وفي العصر الحديث مع الاستعمار الذي باركته الكنيسة..ومن هنا سيكون من السهل أن يجد الدواعش في متطرفي هذه البلدان دوافع نفسية وتاريخية لذبح المسيحيين في الشرق العربي..ومع الاحتكاك الذي كان يصلنا بمسيحيي الغرب كان الأمر محض مسايرة ربما لعبت فيها الميول إلى التسامح والإنسانية مع بقاء بعض الأحاسيس اللاشعورية الغامضة ضد كل ما هو مسيحي..في الشام تعلمت احترام التنوع..هو درس سوري ما كان لأنساه..يوم لفت انتباهي قدّاس في إحدى الكنائس بباب توما..دخلت لأرى هذا المشهد وكيف أنّ للناس طرقا أخرى إلى الله غير تلك التي يعرفها علم الكلام..إنّ التّدين الفعلي غير النظري، هو شوق إلى الله مهما بدت مظاهره غريبة إلا أنه ينطوي على مضمون تجريدي عميق..كنت أرى في هذا التوجه في عالم مادّي قطعة روحية بالغة الأهمية..أحببت أن أرى وأفهم لأن منهجي كان أن أفهم قبل أن أحكم..وشيئا فشيئا بدا الآخر هو أنا بكيفية أخرى.. المسيحي اليوم ليس هو بيزنطة بل هو اليوم يتم التآمر عليه من ورثة بزنطة الأوردوغانيين..في سوريا كان الأصل أن تكون سوريا..شيئا فشيئا انتهت صورة المسيحية التي ارتبطت عندنا بالغرب وكنائسه التي مجدت الاستعمار..هنا في سوريا منشأ المسيحية والمسيح.. هنا وعلى طول المستقيم قرب مدحت باشا مشى بولس الرسول..وهنا كانت المسيحية لما كان الغرب يعيش على سبيل التوحش..المسيحية شرقية وليست غربية المنشأ..بدا لدينا شعور فريد..أنّه لا بدّ من الوفاء لهذا التنوع الجميل..أي قيمة للتعايش إن لم ننصهر في المصير الواحد..المسيحية هي مصير الشرق..وفي المعتقد الإسلامي إن عيسى مدّخر للمستقبل..يوم الخلاص..لأنّه واحتراما للمسيحيين هو من سيخاطبهم..ليربطهم بالمسلمين..ليس داعش هو من سيفرض عليهم خطابه، بل وحده المسيح من سيخاطب أتباعه..لتكتمل اللحمة ويتحقق الخلاص المزدوج للمسلمين والمسيحيين معا.. المسيحيون أمانة في أعناق المسلمين..هم ليسوا أقلّيات..ملعونة هذه العبارة المتداولة في المعجم السياسي للتجزئة..هم مواطنون وكفى..هم ليسوا شركاء في الوطن بل هم أهل الوطن..ازدان بهم الشرق وأغنوا معنوياته ورفدوا ثقافته بأبعاد أخرى..الدواعش الذين قتلوا المسيحيين في سوريا والعراق هم أنفسهم الذين قتلوا المسلمين في البلدين..هم ليسوا منّا..ولو كان مجرد قتلهم للمسحيين هو الشيء الوحيد السيئ في سجّلهم لكانوا بذلك كفّارا..نحن نكفّرهم ليس فقط لأنهم يقتلون المسلمين بل نكفّرهم لأنهم يقتلون المسيحيين والإنسان..صمدت سوريا ولا زال العراق يصمد..وانتصارهما وحده ضامن لبقاء المسيحيين بالشرق..وفي هذه الحرب القذرة تآمر الغربيون الإمبرياليون ضد مسيحيي الشرق حينما ساندوا قوى التطرف ومنحوها فرصة قتل المسيحيين بالشرق..
دعك من داعش التي أكبرتها استخبارات أوردوغان ونفخ فيها اللوجيستيك الوهّابي..ودعك من الوهابية المنتوفة التي أكبرها البترودولار..ودعك من كل صور الجهل التي أريد لها أن تكون مطية لخلق بعبع الإسلاموفوبيا...إنّ خصائص هذا الدّين تتجلّى في:
أوّلا، إن موقفه من الأديان نابع من إيمانه بوحدة المسار النبوي عبر تاريخ الرسل..أمّا في المهام وجوهر الرسالات فالقول الفصل فيها:(لا نفرق بين أحد من رسله)(البقرة/285)..
نحن في معتقدنا نعتبر أنّ رسالة المسيح هي رسالة الإسلام..تعدد أدوار ووحدة هدف..
على مستوى التعايش الواقعي والتجربة التاريخية العملية أكدت أنّ الصلة بين المسلمين والمسيحيين هي الأكثر متانة..والحاسم فيها:(ولتجدن أقربهم مودّة للذين آمنوا الذين قالوا إنّا نصارى، ذلك لأنّ منهم قسيسين ورهبانا وأنهم لا يستكبرون)(آل عمران/64)..
كانت المسيحية سابقة للإسلام..لذا كان من الطبيعي أن تظهر فيها حالات نفاق وانحراف..لذا استعمل القرآن عبارة موضوعية :(منهم قسيسين ورهبان)..وكان الإسلام حديث عهد لم تتنام فيه بعد ظاهرة النفاق التي سيكون لها أيضا وجود داخل الإسلام وستكون هناك سورة خاصة في القرآن عن المنافقين (المتأسلمين)..وحيث اليوم طال على المسلمين الأمد فقست قلوب الكثير منهم عادوا في الهمّ شرق، وأصبح منهم شيوخ وزعماء لا يستكبرون بينما منهم منافقون كثير..والقرآن نفسه يقول:(وممن حولكم من الأعراب منافقون ومن أهل المدينة مردوا على النفاق)...وبتنا نجد في رهبان مسيحيين كثيرا من المواقف النضالية المشرفة بينما نجد في شيوخ متأسلمين الكثير من المواقف الرديئة..يكون القسّ الممانع أقرب إلينا من ألف قرضاوي وقرضاوي..ويكون الراهب الإنسان أقرب إلينا من ألف عرعور وعرعوري..هناك قيم محلّية ووجدانية ووطنية وأخلاقية هي التي تحدد البعد والقرب..سأقاتل إلى جنب القسيس المقاوم الشريف كل هذه الحماقة الداعشية والمتطرفة...
وعلى مستوى الموقف كان التناصح بين الإسلام والمسيحيين قائما على الحق والموضوعية مما يعطي انطباعا بأنّ الخلاف هنا في العوارض التي قد يقع فيها المسلم أو المسيحي عند التنزيل..لذا قال: (قل ياأهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئا ولا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله)( آل عمران/64).. هذه الآية تعكس روح الدستور المنظم للتعايش بين المسلم والمسيحي..فهي تؤكّد بالمفهوم قبل المنطوق أنّ الفعل التضامني والتقاربي ممكن بل واجب..فلو لم يكن في بنية الاعتقادين ما ييسّر سبل تحقيق هذا الإمكان لما كانت تصحّ الدعوة إلى الكلمة السواء..ثم إنّه لم يربطها بتفاصيل المعتقدات بل ربطها بأصل الأصول قاطبة: الآلوهة..فمهما كان التنوع فإنه في النهاية يكون تنوعا في الطريق إلى الله..وقديما قال العارف: الطرق إلى الله بعدد أنفاس الخلائق..فمن كان طريقه محفوفا باليقين والقطع فحتما يصل إلى المنعطف المطلوب..وكثيرة هي الأمور التي تأتي بالخبرة والتجربة والتمثل لا بالإقناع النظري..لذا كان الإسلام يخصّهم بخطاب منفرد يكاد يفيض بالملام:(قل يا أهل الكتاب لم تكفرون بآيات الله والله شهيد على ما تعملون)(آل عمران، 98)..هو خطاب يوجهه القرآن لأهل الكتاب جميعا وعند التأويل هو يشمل حتى المسلمين الذين نبههم مرارا بالعاقبة السيئة إن هم كفروا:(ولئن كفرتم إنا عذابي لشديد)(ابراهيم/7)..هو الملام إذن على أن أهل الكتاب أولى أن لا يكفروا..وكأن الإسلام كان يقول لمجموعة من النصارى في الجزيرة العربية، أولى لكم نحن من أولئك الوثنيين الكفرة..وهذا ما جعل ملك الحبشة يكون حاضنا لهجرة المسلمين..ولربما سلطت السيرة الضوء أكثر على الهجرة الى المدينة لأنها كانت هجرة النبي(ص) إليها بينما هجرة المسلمين بقيادة جعفر الطيّار كانت على درجة فائقة لأنها قامت على الإقناع وليس على الكاريزما..وكان المسيحيون بالحبشة أنصارا أيضا..فلقد لحق جعفر قوم من مشركي ، موصولين لأرسطقراطية أبي سفيان، مكة وحاولوا استمالة النجاشي، غير أن جعفر بادر بالاستدلال بالقيم مما جعل النجاشي يحسم في الأمر ويرسم خطّا فاصلا ليقول بأنّ أقرب الناس إلى ما نعتقد فيه هم هؤلاء..وهكذا كان..وكان التعايش يقتضي المعايشة التي لا تقوم في الاجتماع من دون مآكلة ومشاربة ومصاهرة..فقرر الإسلام تشريعا يحثّ على المعاشرة والمعايشة، وكان الحاسم في الأمر أيضا: (اليوم أحل لكم الطيبات وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم وطعامكم حل لهم والمحصنات من المؤمنات والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم ) (المائدة /5)..لم يكتف الإسلام بالمسايرة ولا بالمجاملة بل أقرّ تشريع المعايشة والمصاهرة وهو أبلغ في حفظ التنوع والاعتراف..لم يكن له مثال سابق في سائر ضروب الاجتماع..
إنّنا في هذه المناسبة ندعوا إلى أن يعمل كل مسلم في بلدان التنوع على حماية حق الآخر في العيش المشترك عزيزا كريما بعدل وإحسان..فالإسلام لم يقف عند تشريع العدل الذي قد تضمنه دولة الحق والقانون بل دعا للإحسان وهو ما يفوق العدل، حيث يصبح الآخر أعزّ عليك من نفسك.. لقد سعوا إلى تفجير الفوضى في هذه المنطقة، وكانت المسيحية الشرقية في خطر أكثر من أي وقت مضى..قتل أهلها وخربت كنائسها وحرقت مخطوطاتها..بتعبير آخر: لن نسمع للمسيح بأن يغادر شرقنا الجميل..وهذه آمانة في عنق المسلمين..وكل عام وأنتم بخير

قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat


ادريس هاني
 (للدخول لصفحة الكاتب إضغط هنا)

    طباعة   ||   أخبر صديقك عن الموضوع   ||   إضافة تعليق   ||   التاريخ : 2015/12/30



كتابة تعليق لموضوع : بمناسبة المولد النبوي ومولد السيد المسيح..على طريق التعايش الإسلامي ـ المسيحي
الإسم * :
بريدك الالكتروني :
نص التعليق * :
 



حمل تطبيق (كتابات في الميزان) من Google Play



اعلان هام من قبل موقع كتابات في الميزان

البحث :





الكتّاب :

الملفات :

مقالات مهمة :



 إنسانية الإمام السيستاني

 بعد إحراجهم بكشف عصيانها وخيانتهم للشعب: المرجعية الدينية العليا تـُحرج الحكومة بمخالفة كلام المعصومين.. والعاصفة تقترب!!!

 كلام موجه الى العقلاء من ابناء شعبي ( 1 )

 حقيقة الادعياء .. متمرجعون وسفراء

 قراءة في خطبة المرجعية : هل اقترب أَجلُ الحكومةِ الحالية؟!

 خطر البترية على بعض اتباع المرجعية قراءة في تاثيرات الادعياء على اتباع العلماء

 إلى دعاة المرجعية العربية العراقية ..مع كل الاحترام

 مهزلة بيان الصرخي حول سوريا

 قراءة في خطبة الجمعة ( 4 / رمضان/ 1437هـ الموافق 10/6/2016 )

 المؤسسة الدينية بين الواقع والافتراء : سلسلة مقالات للشيخ محمد مهدي الاصفي ردا على حسن الكشميري وكتابيه (جولة في دهاليز مظلمة) و(محنة الهروب من الواقع)

 الى الحميداوي ( لانتوقع منكم غير الفتنة )

 السيستاني .. رسالة مهدوية عاجلة

 من عطاء المرجعية العليا

 قراءة في فتوى الدفاع المقدس وتحصين فكر الأمة

 فتوى السيد السيستاني بالجهاد الكفائي وصداها في الصحافة العالمية

 ما هو رأي أستاذ فقهاء النجف وقم المشرّفتَين السيد الخوئي بمن غصب الخلافة ؟

 مواقف شديدة الحساسية/٢ "بانوراما" الحشد..

أحدث مقالات الكتّاب :


مقالات متنوعة :





 لنشر مقالاتكم يمكنكم مراسلتنا على info@kitabat.info

تم تأسيس الموقع بتاريخ 1/4/2010 © محمد البغدادي 

 لا تتحمل الإدارة مسؤولية ما ينشر في الموقع من الناحيتين القانونية والأخلاقية.

  Designed , Hosted & Programmed By : King 4 Host . Net