صفحة الكاتب : الشيخ عبد الحافظ البغدادي

مجلس حسيني- تحليل لشخصية الرسول{ص} وقيادته الفريدة
الشيخ عبد الحافظ البغدادي

المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الموقع، وإنما تعبر عن رأي الكاتب.

 ما بَالُ عَينِكَ لا تَنَامُ كأنّمَا**********كُحِلَتْ مآقِيها بكُحْلِ الأرْمَدِ

جزعاً على المختار أصبحَ ثاويا**، يا خيرَ من وطىء َ الحصى لا تبعدِ
وجهي يقيكَ التربَ لهفي ليتني*******غُيّبْتُ قَبْلَكَ في بَقِيعِ الغَرْقَدِ
نُوراً أضَاءَ على البَرِيّة ِ كُلّها،******  مَنْ يُهْدَ للنّورِ المُبَارَكِ يَهْتَدِ
صلّى الإلهُ وَمَنْ يَحُفُّ بِعَرْشِهِ  ******والطيبونَ على المباركِ أحمدِ
 
يجد الناظر في شخصية الرسول صلى الله عليه واله وسلم جانبين مهمين لهذه الشخصية هما:
الأول: الجانب النبوي أو الرسالي .. بوصفه رسولاً مبلغاً مسدداً بالوحي من الله تعالى، وهذه المسالة اعتقاديه  لجميع المسلمين , ولا تختص بالمتدين , فنحن جميعا نتمسك بكل قول عنه في حياتنا سواء في الصلاة والعبادات والمعاملات وغيرها , لذل ترى غير المتدين يستفز اذا قلت له انك لا تعرف النبي {ص} فهو يعرفه ولكن نسبة التعامل مع الرسالة تختلف بين إنسان وآخر ... 
الثاني: الجانب الإنساني، وهذا الجانب متشعب، ويهمني منه الجانب القيادي في شخصية الرسول {ص} ويتمثل هذا في نقاط مهمة تستحق الدراسة والتعرف على شخصيته عن كثب ..
    قبل الخوض في شخصيته  نتوجه إلى القران الكريم حين يتحدث مع النبي , وعن صفاته ومؤهلاته البشرية  التي فاقت جميع العالم .. يقول تعالى له : الم نشرح لك صدرك : وشرح الصدر يعني التوسع والقدرة على القيادة لجميع الناس على الأرض , لا يمكن أن يأتي حاكم يحكم في الأرض أكثر من مؤهلات النبي محمد {ص} لان الله أعطاه السعة والعلم والقدرة الكبيرة ..- من ابرز تلك الامكانيات - 
ــــــ الإرادة والهمة العالية : تعتبر الهمة العالية  من شروط رجولة الانسان , لان الرجولة شيء والذكورة شيء اخر , فلا يوجد رجل لا يحمل همة عالية بالمواقف .. هذه النقطة من النقاط الواضحة  في سيرة النبي {ص} ، فقد كان ذا تصميم عجيب على تحقيق ما يريد، لا يتردد في ذلك، ولا يضعف،- لأقرب لك المعنى – هناك رؤساء وملوك يوعدون الناس بأشياء ويتناسونها  تماما , بل حتى من يذكرهم بها يتهربون من موقفهم , وهذا يدلل ان ذلك الرئيس أو الملك ليس رجل قيادة , ولا صادق مع نفسه ومع شعبه , فصاحب الإرادة والهمة العالية ضرورة من ضرورات العلاقات بين الحاكم والمحكوم ..
 كان كافور الإخشيدي وصاحبه عبدين أسودين ... جيء بهما إلى  مدن  بن طولون أمير الديار المصرية وقتها ليباعا في أسواق العبيد ... جلس كافور وصاحبه يتحدثان ... وبدأ كل منهما يسأل الآخر عن أمنيته وطموحه ..  قال صاحبه: أتمنى أن أباع لطباخ ... لآكل ما أشاء وأشبع بعد جوع.  وقال كافور: أما أنا ... فأتمنى أن أملك مصر كلها .. لأحكم وأنهى .. وآمر فأطاع.  وبعد أيام ... بيع صاحبه لطباخ ... وبيع كافور لأحد قادة مصر ... وما هي إلا أشهر حتى رأى القائد المصري من كافور كفاءة وقوة .. فقربه منه ... ولما مات مولى كافور ... قام هو مقامه ... واشتهر بذكائه وكمال فطنته حتى صار رأس القواد ... وما زال يجد ويجتهد حتى ملك مصر والشام والحرمين.  بعدها .. مر كافور يوماً بصاحبه ... فرآه عند الطباخ يحمل أكياس الطعام من السوق .. يعمل في جد وقد بدا بحالة سيئة .. التفت كافور إلى أتباعه وقال: " لقد قعدت بهذا همته فكان ما ترون ... وطارت بي همتي فصرت كما ترون ... ولو جمعتني وإياه همة واحدة ... لجمعنا مصير واحد ". 
تحتاج الأمم جميعها إلى أصحاب الهمم والطموح، فهم صناع الحياة وقيادات المستقبل في أي أمة من الأمم في القديم والحديث  إذا لم يكن القائد صاحب همة وثبات على المبدأ ستفشل تلك الأمة , لان موازين الحكم ثابة وواحدة في كل زمان ومكان .. .. وحتى في موازين الله تعالى في الدنيا والآخرة، فضَّل الله أصحاب الهمم العالية والمثابرة على غيرهم  قال تعالى:  فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلاَّ وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا: (النساء – 59). 
 يقال ان القاسم بن الحسن {ع} حين حمل على أهل الكوفة توجه مباشرة إلى قلب الجيش وحمل على حامل راية عمر بن سعد أراد ان ينكسها يقول أرباب المقاتل " وقد بلغت به همته ان ينكس راية ابن زياد " وهو شاب لا يتجاوز 14 عام ولكن همته كهمة جده أمير المؤمنين منكس الرايات .. 
    صورة أخرى لعلو الهمة والصبر والمطاولة :... لم يستغل رسول الله {ص} منصبه ووظيفته كرسول تسنده السماء بل توسل بجميع الوسائل التي تؤدي للنصر .. منها 
الهجرة :. حين ماتت زوجته وجده أبو طالب , ابلغه جبرائيل بالهجرة من مكة , وقد بدأت مقدمات الهجرة  بسفر المسلمين زرافات ووحدانا إلى المدينة , ثم جاءت هجرته الشريفة ...  هنا تثار أسئلة .. لماذا لم يطلب النبي {ص} من جبرائيل أن يغير الله قلوب أهل مكة وتنتهي المشكلة لا هجرة ولا حروب ولا شهداء أعزاء بعدها , ثانيا : لماذا استخدم دليل يدله على الطريق وهو رسول الله ممكن أن يطلب الدلاله من جبرائيل {ع} ولكنه لم يفعل , هذه الإرادة وعلو الهمة التي لا توجد إلا عند الأنبياء والأوصياء , ولو تعرض أي مسؤول الآن لمثل ما تعرض له رسول الله {ص} لاستنجد بأصحابه وحمايته .. 
        وفي معركة الخندق شارك بنفسه ومجموع المسلمين بحفر الخندق لدرء الخطر عن الناس , لان المعركة ليست فيها أخلاق , فإذا دخل أي جيش بلدا معينا يستباح وتهدم البنى التحتية , فكان شعوره بالهمة العالية أن جمع المسلمين واستشارهم وتقرر حفر الخندق , كان يمكنه أن يجلس في المسجد ويكلف احد المقربين له بمراقبة العمل على الحفر , وتوصل له التقارير بالانجاز .. ولكن لو عملها ووصلت تقارير خاطئة وعبر الجيش من نقطة معينة لم تنجز فان جميع من يقتل من المسلمين بسبب إهماله وجلوسه في المسجد .. ولكنه كان ذو همة عالية وقام بحفر الخندق بنفسه  مع المسلمين  .
النقطة الثانية :   الصبر وسعة الصدر والقدرة على التحمل: معنى الصبر :.. نقول فلان  يَتَحَلَّى بِالصَّبْرِ :  أَيْ لاَ يُظْهِرُ شَكْوىً مِنْ أَلَمٍ أَوْ بَلْوىً تقع عليه , ويسمى  : التجلُّد وقوة الاحتمال ( رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا ) ويسمي العرب  شَهْرُ الصَّبْرِ : شَهْرُ الصِّيَامِ , الصَّبْرُ عن المحبوب : حَبْسُ النفس عنه ,الصَّبْرُ على المكروه : احتماله دون جزع ,  صَبْر أيُّوب : شدّة الاحتمال ، صَبْرٌ جميلٌ : اللّهمَّ ألهمنا الصَّبْر ، ( فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ ) فإذا فرغ الصبر : جزع ولا يتحمل أي مصيبة تقع عليه ..
تشير الروايات إلى تحمل النبي {ص} الأذى في تبليغ الدعوة: وتحمل الأذى يعني قوة الإرادة والصبر على البلوى والبقاء بالتمسك بالحق وقد ضرب رسول الله {ص} أروع الأمثلة في التمسُّك بالحق والثبات عليه وعدم الاهتزاز أمام الباطل وسلطان سورة الغضب عند العرب .. 
فعن عقيل ابن أبي طالب قال: "جاءت قريش إلى أبي طالب رضي الله تعالى عنه فقالوا: "إن ابن أخيك يُؤذينا في نادينا وفي مجلسنا فانهه عن أذانا"، فقال لي: "يا عقيل ! ائت محمداً". قال: "فانطلقت إليه، فجاء في الظهر من شدة الحر فجعل يطلب الفيء يمشي فيه من شدة حر الرمضاء، فأتيناهم"، 
فقال أبو طالب: "إن بني عمك زعموا أنك تُؤذيهم في ناديهم وفي مجلسهم، فانْتَهِ عن ذلك!" فحلَّق رسول الله {ص} ببصره إلى السماء فقال: «أترون هذه الشمس؟» قالوا: "نعم!" قال: «ما أنا بأقدر على أن أدع ذلك منكم على أن تُشعلوا منها شعلة». فقال أبو طالب: "ما كذبنا ابن أخي قط فارجعوا"  فقد ُبين لهم شِدّة تمسُّكه بالحقّ الذي هداه الله إليه، واستحالة تركه أو ترك الدعوة إليه؛ فكما أنهم عاجزون عن أن يُشعلوا شعلة من الشمس فهو لا يُمكنه ترك ما أوحاه الله إليه. 
وإزاء هذا الإِباء والثبات، عادْته قريش وآذوه وصدوا الناس عنه، حتى بلغ بهم الأمر أن يتعاقدوا ويتعاهدوا على مقاطعة الرسول والمؤمنين ومن يُسانده من أقربائه حتى لو كانوا على دين قريش، فقاطعوهم مُقاطعة اجتماعية، لا يتزوجون منهم ولا يُزوجونهم ولا يُكلمونهم ولا يُجالسوهم، وكتبوا بذلك صحيفة وعلّقوها في سقفِ الكعبة، وظلّت هذه المقاطعة ثلاث سنوات. هذه المقاطعة السياسية والاجتماعية والاقتصادية أثرت كثيرا على النبي وعائلته وعمومته .. وهي لم تحدث مطلقا في تاريخ العرب .. المقاطعة والحصار الاقتصادي في شعب أبي طالب
ما هو سبب الحصار الاجتماعي ..؟  حين عاد وفد مكة من الحبشة إلى الحجاز فاشلين بسبب موقف ملك الحبشة النجاشي , لاحظ المكيون إن المسلمين في الحبشة يتمتعون بحماية الملك النجاشي في الحبشة . وعندهم في مكة يمارسون عملهم بحرية كبقية الناس عمدوا إلى حركة خبيثة أن يبعدوهم وينالوا منهم بأجراء اقتصادي  يسمى اليوم الحصار الاقتصادي .. فاجتمع كفار مكة اجتماعًا طارئًا ، بعدما رأوا من اجتماع بني عبد مناف للدفاع عن رسول الله ، وخرجوا منه في نهاية الأمر بقانون جديد، فقد ابتكروا وسيلة جديدة لحرب أهل البيت {ع} ، وقرروا بالإجماع أن ينفذوا قانون "المقاطعة"، تفعيل سياسة الحصار الاقتصادي لبني عبد مناف، وسياسة التجويع الجماعي لهم .
بنود المقاطعة :...  أبرموا فيه أنه على أهل مكة بكاملها في علاقتهم مع بني عبد مناف ما يلي: أن لا يناكحوهم -لا يزوّجونهم- ولا يتزوجون منهم، وأن لا يبايعوهم، لا يبيعون لهم ولا يشترون منهم، وأن لا يجالسوهم، ولا يخالطوهم، ولا يدخلوا بيوتهم، ولا يكلموهم، وأن لا يقبلوا من بني هاشم وبني المطلب صلحًا أبدًا، ولا تأخذهم بهم رأفة حتى يُسْلموا رسول الله  لهم للقتل.هكذا في غاية الوضوح: السبيل الوحيد لفك هذا الحصار هو تسليم الرسول  حيًّا ليقتله زعماء الكفر بمكة.
وقد صاغوا قانون العقوبات هذا في صحيفة، ثم علقوها في جوف الكعبة، وقد تقاسموا بآلهتهم على الوفاء بها، وبالفعل بدأ تنفيذ هذا الحصار الرهيب في أول ليلة من ليالي المحرم في السنة السابعة من البعثة، وقد دخل بنو هاشم وبنو المطلب مؤمنهم وكافرهم إلى شعب أبي طالب وتجمعوا فيه، ومعهم رسول الله ؛ وذلك ليكونوا جميعًا حوله كي يحموه من أهل مكة.
المعاناة والألم .. وصور الباطل تتكرر:....  من حينها تكون قد بدأت مرحلة جديدة من المعاناة والألم، تلك التي عاشها المسلمون في بداية الدعوة الإسلامية، فقد قُطع الطعام عن المحاصرين، لا بيع ولا شراء، حتى الطعام الذي كان يدخل مكة من خارجها وكان يذهب بنو هاشم لشرائه، كان القرشيون يزيدون عليهم في السعر حتى لا يستطيعون شراءه، ومن ثَمَّ يشتريه القرشيون دون بني هاشم.
وقد بلغ الجهد بالمحاصرين حتى كان يسمع أصوات النساء والصبيان يصرخون من شدة وألم الجوع، وحتى اضطروا إلى التقوت بأوراق الشجر، بل وإلى أكل الجلود، وقد ظلت هذه العملية وتلك المأساة البشرية طيلة ثلاثة أعوام كاملة، ثلاث سنوات من الظلم والقهر والإبادة الجماعية، وهي وإن كانت صورة جاهلية من اختراع أهل قريش في ذلك الوقت، إلا أنها -وللأسف- تكررت بعد ذلك كثيرًا، وللأسف أيضًا فإنها في كل مرة كانت تتكرر مع المسلمين فقط...
ومع هؤلاء المحاصرين فإنا نتفهم حقيقة أن يضحي المؤمنون من بني هاشم وبني المطلب بأنفسهم وبزوجاتهم وأولادهم؛ وذلك لأنهم بصدد قضية غالية جدًّا، إنهم يصمدون ويضحون من أجل العقيدة، لكن الغريب حقًّا هو كيف يصبر الكافرون من بني هاشم وبني المطلب على هذا الحصار؟! هؤلاء الكفار لا يرجون جنة ولا يخافون نارًا، بل إنهم لا يؤمنون بالبعث أصلاً، ورغم ذلك فقد وقفوا هذه الوقفة الرجولية مع مؤمني بني عبد مناف. وفي تفسير واضح لهذا العمل الرجولي والبطولي فقد كانت الحمية هي الدافع والمحرك الرئيسي له، حمية ولكنها في النهاية حمية الكرامة حين يهان رجل من القبيلة، حمية لصلة الدم والقرابة، حمية العهد الذي كانوا قد قطعوه على أنفسهم قبل رسالة محمد  على أن يتعاونوا معًا في حرب غيرهم، حميّة واقعية يدفع فيها الرجل بنفسه وأولاده وهو راضٍ، حمية بالفعل وليست بالخطب والمقالات والشعارات، ويا ليت هذه الحمية تعود، بعد أن ماتت الذمم، وإخواننا يموتون جوعا!!..   
هشام بن عمرو ومشاعر الفطرة السليمة:....  مرت الأيام والسنوات عصيبة على المحاصرين، مرت تحمل الآلام والأحزان، حتى جاء شهر المحرم من السنة العاشرة من البعثة، وشاء الله  أن تنقضي في هذا الشهر الكريم تلك الصحيفة الظالمة، وأن يُفك الحصار البشع عن بني هاشم وبني عبد المطلب بعد ثلاث سنوات كاملة. وكانت البداية حين شعر أحد المشركين من بني عامر بن لؤي وهو هشام بن عمرو، وهو ليس من بني هاشم ولا بني المطلب، شعر هذا الرجل بشيء يوخز  في صدره، شعر بشيء من الغصة في حلقه، إذ كيف يأكل ويشرب وهؤلاء المحاصرون لا يأكلون ولا يشربون؟! وكيف ينام أطفاله شبعى وينام أطفال هؤلاء عطشى وجوعى؟! ...  وإزاء هذه المشاعر وتلك الأحاسيس التي تولدت بداخله، ورغم أنه كان كافرًا، فقد بات يحمل الطعام بنفسه سرًّا إلى شعب أبي طالب يقدمه لهم، وعلى هذا الوضع ظل هشام بن عمرو فترة من الزمان، لكنه وجد أن هذا ليس كافيًا، وأنه لا بد من عمل أكبر، ولأنه كان وحيدًا، وقبيلته لم تكن بالحجم الذي يخول لها أن تمده وتناصره، فقد عمد إلى أن يجد لنفسه معينًا -ولو من خارج قبيلته- ليساعده على نقض الصحيفة وإلغاء العهد الذي كان قد قطعه زعماء قريش على أنفسهم بقطيعة بني هاشم وبني عبد المطلب. فاهتدى هشام بن عمرو إلى أن يستعين بقبيلة بني مخزوم؛ وذلك لأنها كانت من أكبر القبائل القرشية، كما أنها كانت تعارض  بني هاشم وتنافسها، فقد رأى أنه إذا قبلت هذه القبيلة بفك الحصار على بني هاشم؛ فإن بقية القبائل -بلا شك- سترضى , وإذا كان هشام بن عمرو قد وجد ضالته في قبيلة بني مخزوم، فإنه لم يجدها بعد فيمن يذهب إليه من بني مخزوم ..
الأمر وإن كانت غاية في الصعوبة، فقد وجد هشام بن عمرو ضالته في زهير بن أبي أمية المخزومي، وذلك لأن أمه (أم زهير) من بني هاشم، وهي عاتكة بنت عبد المطلب بن هاشم، بل إن أم زهير هي أخت أبي طالب نفسه، أي أنها عمة رسول الله ، وبذلك يكون هشام بن عمرو قد لعب على وترين حساسين، هما الدوافع الفطرية من جهة، والدوافع العصبية وروابط الدم من جهة أخرى، مما يكون له كبير الأثر في نفس زهير بن أبي أمية المخزومي. , فذهب هشام بن عمرو إلى زهير بن أبي أمية المخزومي، وفي محاولة مخلصة لكسب مشاعره واستمالة عواطفه، واستثارة لنزعة الكرامة عنده قال له: يا زهير، أرضيت أن تأكل الطعام وتشرب الشراب وأخوالك حيث تعلم؟! ثم بعد ذلك يضرب على وتر الحمية والتحدي لأبي جهل فيقول: أما إني فأحلف بالله أن لو كانوا أخوال أبا جهل ، ثم دعوته إلى مثل ما دعاك إليه منهم، ما أجابك إليه أبدًا. وهنا قال زهير: ويحك! ما أصنع وأنا رجل واحد، أما والله لو كان معي رجل آخر لقمت في نقضها.وعلى الفور كان أن فاجأَه هشام بن عمرو بأن قال له: قد وجدت رجلاً، فقال زهير: فمن هو؟ قال: أنا. ولأن الموقف جِدُّ عسير، فقد رد زهير بقوله: أبغنا رجلاً ثالثًا.
لم ييئس هشام بن عمرو، بعد ان ترك زهيرًا ذهب إلى رجل آخر، ذهب إلى رجل صاحب أخلاق وإن كان كافرًا، ذهب إلى المطعم بن عدي من بني نوفل، وقد ذكّره بأرحام بني المطلب وبني هاشم، ولامه على موافقته للظلم الذي وقع عليهم، وهنا قال له المطعم: ويحك، ماذا أصنع؟! إنما أنا رجل واحد. قال هشام: قد وجدت ثانيًا. قال: من هو؟ قال: أنا. قال المطعم: أبغنا ثالثًا. وهنا فَاجَأَهُ أيضًا هشام وقال: قد فعلت.قال: ومن هو؟  قال: زهير بن أبي أمية. ولأن المهمة -ولا شك- صعبة، قال المطعم: أبغنا رابعًا. لم يدخل اليأس قلب هشام بن عمرو، ومن فوره ذهب يبحث عن رابع حتى وجده في شخص أبي البختري بن هشام، ذهب إليه هشام وقال له مثل ما قال للمطعم. فقال أبو البختري: وهل من أحد يعين على هذا؟ قال هشام: نعم، زهير بن أبي أمية، والمطعم بن عدي، وأنا. وكسابقه رد أبو البختري أيضًا بقوله: أبغنا خامسًا. إنه في الحقيقة مجهود ضخم يقوم به هشام بن عمرو، وهو ليس بمسلم، وليس من بني هاشم أو بني عبد المطلب، ولكن لشيء كان قد تحرك بداخله، ولمشاعر كانت ما زالت نقية أصيلة.
أسرع هشام بن عمرو من جديد وكله حمية يبحث عن خامس، فذهب إلى زمعة بن الأسود (من بني أسد). فقال له زمعة: وهل على هذا الأمر الذي تدعوني إليه من أحد؟ قال: نعم. ثم ذكر له الأربعة السابقين، فوافق زمعة بن الأسود الأسدي. اجتمع الخمسة رجال، وأخذوا القرار الجريء الذي سيعارضون به أكابر القوم، القرار الذي قد يؤدي إلى انقسام حاد في المجتمع المكي، وقد يؤدي إلى نصرة دين لا يقتنعون به، يفعلون كل ذلك لشيء كان قد تحرك في صدورهم جميعًا، إنه حمية النخوة، النخوة المتمثلة في أن تجد إنسانًا -أي إنسان- مؤمنًا كان أو كافرًا، أن تراه يعذب، أن تراه يظلم، أن تراه يجوع أو يعطش، ثم تقول بملء فيك: لا، إنها النخوة التي زرعت في قلوب أناس ما عرفوا الله ، وهي نفسها (النخوة) التي لم نرها من مسلمين كثيرين، قد رأوا بأعينهم جرائم الحصار والقتل لآلاف وملايين من المسلمين، في العراق والبوسنة وكوسوفا والشيشان وكشمير وفلسطين وغيرها، ثم لم يتحرّك لهم ساكن.   كيف أن هشام بن عمرو الكافر ومن معه من الكفار لم يهدأ لهم بال والمسلمون يعذَّبون؟! وكيف أن الكثير من المسلمين اليوم يأكلون وينامون ويتمتعون، وليس في أذهانهم ما يحدث لإخوانهم وأخواتهم في أماكن كثيرة في العالم؟! أين النخوة التي تحركت في قلوب الكافرين الخمسة؟! أين النخوة التي دفعتهم لمعاداة قريش دون مصلحة شخصية محققة؟!  أيأتي على المسلمين زمان نرجو فيه أن تكون أخلاقهم كأخلاق الكافرين؟!  إننا نحتاج إلى وقفة مع النفس!...
اجتمع الرجال الخمسة واتفقوا على القيام بنقض الصحيفة، وقال زهير: أنا أبدؤكم فأكون أول من يتكلم. ولما كان الصباح ذهبوا إلى المسجد الحرام، ونادى زهير على أهل مكة فاجتمعوا له، فقال: يا أهل مكة، أنأكل الطعام ونلبس الثياب وبنو هاشم هلكى، لا يباع ولا يبتاع منهم؟! والله لا أقعد حتى تشق هذه الصحيفة القاطعة الظالمة.  هنا قام له أبو جهل زعيم مكة وزعيم بني مخزوم، قام يرد عليه وكله حماسة وغلظة، فقال: كذبت، والله لا تشق. فقام زمعة بن الأسود وقال: أنت والله أكذب، ما رضينا كتابتها حين كتبت. ومن بعده قام أبو البختري بن هشام فقال: صدق زمعة، لا نرضى ما كتب فيها ولا نقرّ به. ومن بعده أيضًا قام المطعم بن عديّ وقال: صدقتما وكذب من قال غير ذلك (يقصد أبا جهل)، نحن نبرأ إلى الله منها ومما كتب فيها. وهنا قام الرجل الخامس هشام بن عمرو، الذي جمع كل هؤلاء فقال مثل ما قاله المطعم، وصدّق المطالبين بنقض الصحيفة. وقد حدث كل هذا في دقائق معدودة، ووجد أبو جهل نفسه محاصرًا بآراء خمسة من الرجال، حينها أدرك أن هذا لم يكن قدرًا ولا مصادفة، فقال: هذا أمر قُضِي بليل.  وكانت معيّة الله ... 
أصبح الموقف متأزمًا، فإذا كان رقم الخمسة رجال كبيرًا، فإن على الناحية الأخرى أبا جهل، وهو زعيم مكة، ومعه كثير جدًّا من زعمائها، ومن هنا فقد لاح في الأفق بوادر أزمة ضخمة في مكة، لكن الله  أراد أن تنتهي هذه المعضلة ويفك الحصار، فحدث أمر آخر قد تزامن مع هذه الأحداث، فقد أوحى الله  إلى نبيه  أن الأرضة (دودة الأرض) قد أكلت الصحيفة، ولم تترك فيها إلا ما كان من اسم الله . وبنبأ الأرضة أخبر رسول الله  عمه أبا طالب، فما كان منه (أبي طالب) إلا أن أسرع إلى نادي قريش، وهناك رأى الحوار الذي دار بين الرجال الخمسة وبين أبي جهل، ولما انتهوا من حوارهم تدخل أبو طالب في الحديث وقال: إن ابن أخي قال كيت وكيت، فإن كان كاذبًا خلينا بينكم وبينه، وإن كان صادقًا رجعتم عن قطيعتنا وظلمنا.
قال زعماء قريش في المسجد الحرام: قد أنصفت يا أبا طالب. وذهبوا إلى الصحيفة في جوف الكعبة، فإذا هي تمامًا كما ذكر رسول الله ، أُكلت بكاملها إلا ما كان فيها من اسم الله : "باسمك اللهم"، ظلت آية واضحة. هنا لم يعدْ أمام زعماء مكة أي خيار، لم يجدوا بدًّا من نقض الصحيفة وإنهاء المقاطعة بعد ثلاث سنوات كاملة كانت قد مرت من الحصار والتجويع.
إسلام هشام بن عمرو:... من دأب هشام بن عمرو مع كونه كافرًا، فإن المرء ليتعجب، فلم يضع الله مجهوده سدى، ولم يُذهب عمله هباء، فقد فك الحصار، وأزيلت الصحيفة، وخرج بنو هاشم وبنو المطلب من شعب أبي طالب تغمرهم الفرحة، وما ضاع حق وراءه مطالب. وقد أسلم بعد ذلك هشام بن عمرو، أسلم بعد فتح مكة، بعد أكثر من عشر سنين من هذا الحدث، وأسلم أيضًا زهير بن أبي أمية، أما بقية الخمسة فقد ماتوا على الكفر.
ولحكمة كان يعلمها فإن الله  شاء أن يتأخر هذا الإنقاذ إلى مدة ثلاث سنوات، ولو شاء سبحانه لحدث مثل هذا الاجتماع من الرجال الخمسة أو من غيرهم بعد شهر واحد أو شهرين من بداية الحصار، لكن لا؛ فقد كان هذا التأخير مقصودًا، لقد خرج المؤمنون من هذا الحصار أشد شكيمة وأعمق إيمانًا وأقوى تمسكًا بدينهم وعقيدتهم، لقد وقع الابتلاء والامتحان، ونجح المؤمنون فيه، فإنه لا بد أن يثبت الصادقون صدقهم بالتعرض للبلاء والثبات على الحق، فقد قال الله تعالى: فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا *  إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا"  لا بد أن يُصهر المؤمنون في نار الابتلاء للتنقية وللتربية وللتزكية؛ للتنقية من الكاذبين والمنافقين، وللتربية على الثبات والتضحية في سبيل الله، وللتزكية لتطهير النفوس من الذنوب والخطايا.
ومن هنا كان هناك الحصار، ومن قبله كانت الهجرة إلى الحبشة، ومن قبله كان الإيذاء والتعذيب، وكل هذه مراحل تربوية غاية في الأهمية، حيث صنعت جيلاً من الصحابة يستطيع أن يواجه الأهوال دون أن تلين له قناة، أو تخور له عزيمة، أو يهتز له قلب أو عقل أو جارحة.. 
 وقد بلغ الإيذاء بأصحابه مَبلغه حتى اضطرهم ذلك إلى مُغادرة الأوطان والهِجرة منها، وترك التجارة والأموال والآهلين، وانتهى الأمر به{ص} إلى الهِجرة وهو صابرٌ محتسبٌ صامدٌ كالطَّودِ الأشمّ، تميد الجبال الشم تحت قدميه وهو ثابتٌ لا ينحني، ولم يقبل أن يُساوم على دعوته، أو يقبل بما يدعونه من الحلول الوسط، بأن يَكتم بعض ما أَنزل كي يَمتنع الكافرون عن مُعاداته أو مُحاربته، أو أن يَلين في الحقّ مُقابل أن يَلينوا معه في مواقفهم، بل رفض كل ذلك وظلَّ صامداً . 
وقد سجّل القرآن الكريم هذا الموقف بقوله تعالى: {وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ} ، وقال لهم في قوة وصلابة في الحقّ كما أمره ربه: {قُلْ يَا أَيُّهَا الكَافِرُونَ . لاَ أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ . وَلاَ أَنتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ . وَلاَ أَنَا عَابِدٌ مَّا عَبَدتُّمْ . وَلاَ أَنتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ . لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ}، وعَرضوا عليه الأموال والنساء والمُلك، فيأبى كلَّ ذلك ولسانُ حاله يقول: «واللهِ لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في يساري على أن أترك هذا الأمر ما تركته حتى يظهره الله تعالى أو أهلك دونه» .بقي شعاره ثابتا حتى مماته ..
ــــــــــــــــــــــــــــ    التوازن السلوكي في شخصية الرسول {ص} 
كان التوازن السلوكي في شخصية رسول الله  صلى الله عليه وسلم أحد دلائل نبوته فلقد جعل هذا التوازن من رسول الله  صلى الله عليه وسلم القدوة العليا التي تمثلت فيها كل جوانب الحياة فهو الأب والزوج ورئيس الدولة والقائد للجيش والمحارب الشجاع كما كان المستشار والقاضي والمربى والمعلم والعابد والزاهد … إلى آخر صفاته  صلى الله عليه وسلم التي كانت من الخصب بحيث استوعبت كل جوانب حياة البشر الأمر الذي جعل من رسول الله  صلى الله عليه وسلم المثل الأعلى للناس كافة على اختلاف طبقاتهم ومشاربهم حتى تقوم الحجة على الناس مرتين مرة بالبيان النظري ومرة بالبيان العملي وإليك بعض مظاهر هذا التوازن السلوكي:-
 
التوازن النبوي بين القول والفعل.( حالة لا بد ان تكون في كل قائد )
(شهدت البشرية في تاريخها الطويل انفصالا بين المثل والواقع، بين المقال والفعال، بين الدعوى والحقيقة وكان دائما المثال والمقال والدعوى أكبر من الواقع والفعال والحقيقة وهذا شيء يعرفه من له أدنى معرفة بالتاريخ والحياة غير أن هذه الظاهرة تكاد تكون مفقودة في واقع الرسل وأتباعهم فهم وحدهم الذين دعوا الإنسانية إلى أعظم قمم السمو ومثلوا بسلوكهم العملي هذه الذروة بشكل رائع مدهش)(2).
وظهور هذا التوازن في حياة رسول الله  صلى الله عليه وسلم العملية كان على أعلى ما يخطر بقلب بشر فهو العابد والزاهد والمجاهد والزوج والوالد المثابر .... كان لا  كان يأمر بخير إلا كان أول آخذ به ولا ينهى عن شر إلا كان أو تارك له.
فعن عبادته كان {ص} يقوم من الليل حتى تتفطر قدماه .. فقيل له  لم تصنع هذا يا رسول الله وقد غفر لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر قال (أفلا أكون عبدا شكورا) عن انس  قال (كان رسول الله{ص}  يفطر من الشهر حتى نظن أن لا يصوم منه شيئا ويصوم حتى نظن أن لا يفطر منه شيئا وكان لا تشاء أن تراه من الليل مصليا إلا رأيته ولا نائما إلا رأيته) .
وعن زهده يروى الإمام أحمد عن عائشة رضي الله عنه قالت: دخلت علىّ امرأة من الأنصار فرأت فراش النبي  صلى الله عليه وسلم عباءة مثنية فرجعت إلى منزلها فبعثت إلىّ بفراش حشوه الصوف فدخل علىّ رسول الله  صلى الله عليه وسلم فقال (ما هذا ؟) فقلت فلانة الأنصارية دخلت علىّ فرأت فراشك فبعثت إلىّ بهذا فقال (رديه) قالت فلم أرده وأعجبني أن يكون في بيتي حتى قال ذلك ثلاث مرات ثم قال (يا عائشة رديه فوالله لو شئت لأجرى الله معي جبال الذهب والفضة) قالت: فرددته. وهو إمام الزاهدين الذي ما أكل على خوان قط وما رأى شاة سميطا قط وما رأى منخلا منذ أن بعثه الله إلى يوم قبض ما أخذ من الدنيا شيئا ولا أخذت منه شيئا وصدق  صلى الله عليه وسلم إذ يقول (مالي وللدنيا إنما أنا كراكب استظل بظل شجرة ثم راح وتركها) . الشجاعة في حياة الرسول
 إنّ حياة رسول الله   القوليَّة والعمليَّة كانت نموذجًا عاليًا في الشجاعة، فعند التأمُّل في سيرة رسول الله   نجد رسول الله   يتعامل مع كل المواقف والمصاعب بقلب ثابت، وإيمان راسخ، وشجاعة نادرة؛ لذلك خاطبه الله I قائلاً: {فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لاَ تُكَلَّفُ إِلاَّ نَفْسَكَ وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ}[النساء: 84].
 وقد كانت هذه الشجاعة خُلقًا فطريًّا مزروعًا في قلب رسول الله   منذ نشأته الأولى  ؛ فها هو ذا يشارك أعمامه في (حرب الْفِجَار) وهو لم يبلغ الخامسة عشرة من عمره. كما أنه  غار حراء وسط الصحراء؛ لذلك لم يكن غريبًا أن تظهر الشجاعة في كل ملمح من لمحات حياة رسول الله   بعد بعثته. ولم يكن هذا كلامًا نظريًّا دون تطبيق، بل مارس الرسول   الشجاعة دون تردُّد أو جبن أو خور؛ فنجد رسول الله   في أوَّل أيام دعوته يُواجه المشركين بأمر تُنكره عقولهم، ولا تدركه في أوَّل الأمر تصوُّراتهم، ولم يمنعه من الجهر بالدعوة الخوفُ من مواجهتهم، فضرب بذلك   لأُمَّته أروع الأمثلة في الجهر بالحقِّ أمام أهل الباطل، وإن تحزَّبوا ضدَّ الحقِّ، وجنَّدوا لحربه كل ما في وسعهم. كان يعتكف وحده في مواجهتهم ..
 
مواقف من شجاعة رسول الله
 وتتجلَّى شجاعة رسول الله   في مواقف عديدة من أهمها اعتراضه على الظلم، ووقوفه في وجه الظالم دون تردُّد أو خوف، فها هو .. يروي ابن هشام أن رجلاً تاجرا  قدم مكة بإبل  فابتاعها منه أبو جهل فمطله بأثمانها، فأقبل  الرجل وقف على نادٍ من قريشٍ، ورسول الله في ناحية المسجد جالسٌ، فقال: يا معشر قريشٍ، من رجلٌ يؤيدني على أبي الحكم بن هشام؛ فإني رجل غريب ، وقد غلبني على حقِّي؟
فقال له أهل المجلس: أترى ذلك الرجل الجالس -لرسول الله   وهم يهزءون به  لما يعلمون بينه وبين أبي جهلٍ من العداوة- اذهب إليه فإنه يؤيدك عليه. فأقبل الرجل حتى وقف على رسول الله   فقال: يا عبد الله، إن أبا الحكم بن هشامٍ قد غلبني على حقٍّ لي عنده ، وأنا رجل غريب ابن سبيل، وقد سألتُ هؤلاء القوم عن رجلٍ يأخذ لي حقِّي منه، فأشاروا إليك، فخذ لي حقِّي منه يرحمك الله.
انْطَلِقْ إلَيْهِ". قام معه رسول الله   فلمَّا رأوه قام معه، قالوا لرجل ممَّن معهم: اتبعه فانظر ماذا يصنع. قال: جاءه فضرب عليه بابه، فقال: من هذا؟ قال: "مُحَمَّدٌ، فَاخْرُجْ إِلَيَّ". فخرج إليه وما في وجهه من رائحةٍ قد انتُقِع لونه، فقال: "أَعْطِ هَذَا الرَّجُلَ حَقّهُ". قال: نعم، لا تبرح حتى أعطيه الذي له. قال: فدخل فخرج إليه بحقِّه فدفعه إليه. قال: ثم انصرف رسول الله  ، وقال للرجل "الْحَقْ بِشَأْنِكَ". فأقبل الرجل حتى وقف على ذلك المجلس فقال: جزاه الله خيرًا، فقد -والله- أخذ لي حقِّي. قال: وجاء الرجل الذي بعثوا معه، فقالوا: ويحك ماذا رأيتَ؟ قال: عجبًا من العجب، والله ما هو إلاَّ أن ضرب عليه بابه، فخرج إليه وما معه رُوحه، فقال له: "أَعْطِ هَذَا حَقَّهُ". فقال: نعم، لا تبرح حتى أُخْرِج إليه حقَّه. فدخل فخرج إليه بحقِّه، فأعطاه إيَّاه. قال: ثم لم يلبث أبو جهل أن جاء، فقالوا له: ويلك ما بك؟ ما رأينا مثل ما صنعتَ  قال: ويحكم والله ما أن ضرب عَلَيَّ بابي، وسمعتُ صوته ملئت رعبًا، ثم خرجتُ إليه وإنَّ فوق رأسه لفحلاً من الابل , والله لو أَبَيْتُ لأَكَلَنِي************.
شجاعته في ميدان القتال
 ويضرب رسول الله   المثل والقدوة في ميدان القتال فكانت شجاعته يُروى عن  علي بن أبي طالب   أنه قال: "كُنَّا إِذَا احْمَرَّ الْبَأْسُ، وَلَقِيَ الْقَوْمُ الْقَوْمَ، اتَّقَيْنَا بِرَسُولِ اللهِ   فَمَا يَكُونُ مِنَّا أَحَدٌ أَدْنَى مِنَ الْقَوْمِ مِنْهُ".
 موقفه وشجاعته في غزوة أحد :...  وفي أحلك لحظات المسلمين شدَّة وانهزامهم أمام عدوِّهم في غزوة أُحُد نراه   متماسكًا شجاعًا، مقاتلاً لزعماء الشرك، فقد أدركه أُبَيُّ بن خلف وهو يقول: أي محمد، لا نجوتُ إن نجوتَ. فقال القوم: يا رسول الله، أيعطف عليه رجل منَّا؟ فقال رسول الله: "دَعُوهُ". فلمَّا دنا، تناول رسول الله  الحربة من الحارث بن الصِّمَّة، فلمَّا أخذها رسول الله   منه انتفض بها انتفاضة تطايرنا عنه تطاير الشَعْر عن ظهر البعير إذا انتفض بها، ثم استقبله فطعنه في عنقه طعنة تدأدأ منها عن فرسه مرارًا، فمات وهُمْ راجعون به إلى مكة.
ولذلك يقول المقداد بن عمرو   عن ثبات رسول الله   وشجاعته في غزوة أُحُد، قوله: "لا والذي بعثه بالحقِّ إن زال رسول الله   شبرًا واحدًا، إنه لفي وجه العدوِّ، وتثوب إليه طائفة من أصحابه مرَّة، وتُصرف عنه مرَّة، فربما رأيته قائمًا يرمي على قوسيه، ......
شجاعته يوم حنين :...  أمَّا يوم حنين فقد ضرب  أروع مَثَلٍ عرفته البشريَّة في الشجاعة ؛ وذلك حينما فرَّ الجيش من ساحة القتال، فنزل عن  بغلته ودعا واستنصر، وهو يُرَدِّد: "أَنَا النَّبِيُّ لاَ كَذِب... أَنَا ابْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِب، اللَّهُمَّ نَزِّلْ نَصْرَكَ" فما رُئِي أَحد يومئذ كان أثبت منه، ولا أقرب للعدوِّ، فقد وقف في وجههم أجمعين متحدِّيًا لهم، وأخذ كفًّا من حصًى وضرب وجوههم، وقال  : "شَاهَتِ الْوُجُوهُ". فما استطاع أحد أن يمسَّه بسوء... .
شجاعة مضبوطة بالرحمة ..  وهذه الشجاعة أيضًا كانت مضبوطة بالرحمة؛ فلذلك لم يستعملها إلاَّ في مواطن الجهاد؛ لإعلاء كلمة الله خفَّاقة، ومن ثَمَّ لم ينتقم رسول الله   لنفسه، ولم يضرب بيده إلاَّ في سبيل الله، فقالت عائشة -رضي الله عنها-: "مَا ضَرَبَ رَسُولُ اللهِ   شَيْئًا قَطُّ بِيَدِهِ، وَلاَ امْرَأَةً، وَلاَ خَادِمًا، إِلاَّ أَنْ يُجَاهِدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَمَا نِيلَ مِنْهُ شَيْءٌ قَطُّ فَيَنْتَقِمَ مِنْ صَاحِبِهِ إِلاَّ أَنْ يُنْتَهَكَ شَيْءٌ مِنْ مَحَارِمِ اللَّهِ فَيَنْتَقِمَ لِلَّهِ  "هكذا كانت شجاعة النبي   شجاعة قائمة على يقين وثبات وأخلاق ومبادئ؛ لذلك كانت مضرب الأمثال للأجيال على مرِّ العصور.. فما أروعها من شجاعة!.. لذلك كان فقده يعني فقد جميع المعاني الطيبة والانسانية .. { تذكر مصيبة وفاته } 
 
تكله يبو الحسنين يا حلو الجهمة ......... غمض عيونه وشيل عن راسه العمامة
غمّض عيونـه وشيل لوساده يبوحسين ... بطّل ونينه المصطفى خــير النّبـيّـين
غرّبت عينه يَبن عمّي دسبل أيديه............ شوفه يدير العين ليـنـا و ماـدّ رجليه
جواب النبي :....
بطلي البواجي انشعب قلبي ياحزينـه......... لازم يـبـنتي الـيـوم عـزّج تفقـديـنـه
قلهـا يَفـاطـم لو اجرَعِت كـاس المنـيّـه ...... جيـبـج يـزهرا لا تـشـقّـينـه عـلــيّــه
وصد للحسن ومدامعه بْخدّه جريَّـه..... وشـاف الحـزن نحّل عظامه وقرّح العـين
قلّه يـعقلي ذوّبت قلـبي من بـجاك ..........ونادى يبو الحسنين بالله سـكّت ابنـاك
ودّعتك الله ياعلي و الملـتقى هـنــاك .......وشبكت الزّهرا على رسول الله باليدين
 
الحمد لله رب العالمين 
14-12-2015
 waleedalthal@gmail.com

قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat


الشيخ عبد الحافظ البغدادي
 (للدخول لصفحة الكاتب إضغط هنا)

    طباعة   ||   أخبر صديقك عن الموضوع   ||   إضافة تعليق   ||   التاريخ : 2015/12/14



كتابة تعليق لموضوع : مجلس حسيني- تحليل لشخصية الرسول{ص} وقيادته الفريدة
الإسم * :
بريدك الالكتروني :
نص التعليق * :
 



حمل تطبيق (كتابات في الميزان) من Google Play



اعلان هام من قبل موقع كتابات في الميزان

البحث :





الكتّاب :

الملفات :

مقالات مهمة :



 إنسانية الإمام السيستاني

 بعد إحراجهم بكشف عصيانها وخيانتهم للشعب: المرجعية الدينية العليا تـُحرج الحكومة بمخالفة كلام المعصومين.. والعاصفة تقترب!!!

 كلام موجه الى العقلاء من ابناء شعبي ( 1 )

 حقيقة الادعياء .. متمرجعون وسفراء

 قراءة في خطبة المرجعية : هل اقترب أَجلُ الحكومةِ الحالية؟!

 خطر البترية على بعض اتباع المرجعية قراءة في تاثيرات الادعياء على اتباع العلماء

 إلى دعاة المرجعية العربية العراقية ..مع كل الاحترام

 مهزلة بيان الصرخي حول سوريا

 قراءة في خطبة الجمعة ( 4 / رمضان/ 1437هـ الموافق 10/6/2016 )

 المؤسسة الدينية بين الواقع والافتراء : سلسلة مقالات للشيخ محمد مهدي الاصفي ردا على حسن الكشميري وكتابيه (جولة في دهاليز مظلمة) و(محنة الهروب من الواقع)

 الى الحميداوي ( لانتوقع منكم غير الفتنة )

 السيستاني .. رسالة مهدوية عاجلة

 من عطاء المرجعية العليا

 قراءة في فتوى الدفاع المقدس وتحصين فكر الأمة

 فتوى السيد السيستاني بالجهاد الكفائي وصداها في الصحافة العالمية

 ما هو رأي أستاذ فقهاء النجف وقم المشرّفتَين السيد الخوئي بمن غصب الخلافة ؟

 مواقف شديدة الحساسية/٢ "بانوراما" الحشد..

أحدث مقالات الكتّاب :


مقالات متنوعة :





 لنشر مقالاتكم يمكنكم مراسلتنا على info@kitabat.info

تم تأسيس الموقع بتاريخ 1/4/2010 © محمد البغدادي 

 لا تتحمل الإدارة مسؤولية ما ينشر في الموقع من الناحيتين القانونية والأخلاقية.

  Designed , Hosted & Programmed By : King 4 Host . Net