صفحة الكاتب : ادريس هاني

الحسين في ديوان العرب (5)
ادريس هاني

أسال الحسين دموع العاشقين ومداد العلماء وقريحة الشعراء..وكان الشاعر يكبر بقدر تعبيره عن هذا العشق.. ترقّ المشاعر وتفور وينتفض الوجدان ويمور..وعلى الشاعر أن يدرك بأنّ وادي الحسين مقدّس وغني وموحي بالصور والعبر..فعند الحسين اخلع نعليك فأنت بالواد المقدّس..واعلم أنّ بلوغ سرّ الإنسان الكامل في الحسين أظهر، فلقد بلغ منتهى الجمال حيث كان كالقمر المنير..وبلغ أوج الجلال حين هزّ التّاريخ بصولة الكرام..كربلاء تكامل بين جمال مشهد العشق والتضحية وجلال فارس لا مثيل له في البلاء...وأؤكد: اخلع نعليك..واقرأ الحسين في لوحة الكمال البشري لا في مزاج الضعفاء..الحسين لم يكن ضحية يحتاج للشفقة بل نحن من يحتاج للشفقة لأنّ تضحية الحسين هي حرج تاريخي لكل من جاؤوا بعده.. وكما التوابون وجدوا في رثائه والثأر من قتلته طريقا للخروج من هذا الحرج التاريخي، بات ناموسا في الكون الشعري العربي، أن من لم يرث حسينا لم يفعل شيئا..وفي اعتقادي إن ثلمة كبرى في شعر وموقف الفرزدق أنّه رغم ميله للحسين لم ينصره بسيف ولا بشعر..لكن نقابل هذه الصورة هناك صورة مشرقة..لشاعر أدرك الفقه والكلام..نقيب الطالبيين الشريف الرضي..من بيت علوي كبير..ابن أبي أحمد الذي كان ذا حظوة في دولة بني العباس وبني بويه ونقيب الطالبيين.. ضيق عليه وحمل إلى إحدى القلاع لم يخرج منها إلا بعد موت عضد الدولة..وكان ممن رثاه ولديه الشريفين(الرضى والمرتضى)، كما رثاه أبو العلاء المعري في سقط الزند..يكفي الشريف الرضي أن جمع مصنفا نفيسا ضمنه خطب بعضا من خطب عليّ بن أبي طالب وحكمه القصار، وهو من أنفس ما لدينا من التراث..شعر الرضي ليس كشعر نظائره من أهل المراثي..تتجلى ميزته في أنه لا يسموا على واقعه..وليس تعويضا عن ضعف..بل هو تجميل لواقع معاش..يأتي شعره مثل واقعه.. فليس هناك مبالغة تنقل الكلام بعيدا عن الموقف بل مواقفه أقوى من الكلمات..فالرضي هو من بيت بكى الحسين فيه الكبير والصغير..فهو سليل السيدين وحيدر.. ويكفيه جرأة قوله أمام القادر بالله الخليفة العباسي :
عطفا أمير المؤمنين فإننا +++ في دوحة العلياء لا نتفرق
ما بيننا يوم الفخار تفاوت +++ أبداً كلانا في المعالي مُعرق
إلا الخلافة ميزتك فإنني +++ انا عاطل منها وأنت مطوق
قضية كربلاء هي من الشأنية ما يصعب مقاربتها بعيدا عن لغة الدموع..فالدموع مداخل رئيسية لحضيرة الحزن الحسينية..من دون هذه الدموع لا يمنح المرء صكّ الدخول..فالحسين يمنح المحاجر فرصة لرياضة من الدموع والأحزان أكثر جدذية من كل الأحوال..وكل دمع عن الحسين ليس مهدورا لأنّه يجري على ما هو حقيق به حزن الإنسان..يقول الشريف الرضي:
هذي المنازل بالغميم فنادها +++ واسكب سخيّ العين بعد جمادها
إن كان دين للمعالم فاقضه +++ أو مهجة عند الطلول ففادها
ولقد حبست على الديار عصابة +++ مضمونة الايدي الى أكبادها
حسرى تجاوب بالبكاء عيونها +++ وتعط للزفرات في أبرادها
وقفوا بها حتى كأن مطيهم +++ كانت قوائمهن من أوتادها
ثم انثنت والدمع ماء مزادها +++ ولواعج الأشجان من أزوادها
هل تطلبون من النواظر بعدكم +++ شيئاً سوى عبراتها وسهادها
لم يبق ذخر للمدامع عنكم +++ كلا ولا عين جرى لرقادها
في رثائه للحسين يقترب الشريف الرضي من دعبل الخزاعي، فيستحضر دموع الزهراء وحزنها..وكأنّ أبلغ حزن هنا هو حزن الزهراء..حزن لا يضاهى..العودة بالحسين إلى بيت الأحزان..يقول الشريف الرضي:
شَغَلَ الدُموعَ عَنِ الدِيارِ بُكاؤُنا +++ لِبُكاءِ فاطِمَةٍ عَلى iiأَولادِها
لَم يَخلُفوها في الشَهيدِ وَقَد رَأى +++ دُفَعَ الفُراتِ يذادُ عن أَورادِها
أَتُرى دَرَت أَنَّ الحُسَينَ طَريدَةٌ +++ لَقَنا بَني الطَرداءِ عِندَ وِلادِها
كانت مآسي الهاشميين عيدا لبني أمية..وأورثوا عوائده للعالم..فانظر كيف أنّ الأفراح والأهازيج في ذكرى عاشوراء تستبعد مأساة الحسين..عادة أمية فيها ما هو ظاهر وما هو خفي أودع ثنايا ثقافة وعوائد النّاس بقوة التحريف والتمميع..كانت الحقائق متناقضة..فما كان يبكي آل محمد يفرح أمية..تناقض في المشاعر والسياسة والدين..
كانَت مَآتِمُ بِالعِراقِ يعُدُّها +++ أُمَويَّةٌ بِالشامِ مِن أَعيادها
داست أمية على تراث محمد..وكما قال علي: "فصبرت وفي العين قذى وفي الحلق شجى أرى تراثي نهباً"..لقد خرموا كل ناموس وهتكوا كل مقدّس.. وما راعوا حرمة أمر قطّ..فأمية لم ترعى محمدا في بنيه:
ما راقَبَت غَضَبَ النَبِيِّ وَقَد غَدا +++ زَرعُ النَبِيِّ مَظَنَّةً iiلِحَصادِها
باعَت بَصائِرَ دينِها بِضَلالِها +++ وَشَرَت مَعاطِبَ غَيِّها بِرَشادِها
بارزت الرسول بجرائمها..وجعلت منه خصما وبذلك فقدت رصيدها من كل دين مهما تمسّكت به عرضا لتحريف مقاصده..فأمية التي نزت على منبر الرسول ودنّست الفهم الديني بثقافة الرّق والاستعباد وقطع الرؤوس والاستهتار بالإنسان والحيوان والبيئة، إنما كانت مثالا للاستغلال المتعسف للدين.. فهل يظنّ يا ترى أنّ من عادى آل محمد لن يكون له محمد خصما؟ بلى..سيحمل أمية دم الحسين على رقابهم..وسينالون عقابا في أخاهم كما نالوها في دنياهم..انقرضت الأموية وظلت بعض أحاسيسها موروثة في بعض النفوس، وامتزجت مع الثقافة الإسلامية وأنتجت أجيالا هجينة تفكر كما فكّر بني أمية وتحس كما كانوا يحسون وتستهتر كما كانوا يستهترون بالدين والإنسان..
جَعَلَت رَسولَ اللَهِ مِن خُصَمائِها +++ فَلَبِئسَ ما ذَخَرَت لِيَومِ مَعادِها
نَسلُ النَبِيِّ عَلى صِعابِ iiمَطِيِّها +++ وَدَمُ النَبِيِّ عَلى رُؤوسِ صِعادِها
سلك بنو العباس سيرة أمية في النقمة على آل محمد..ضاق المجرمون درعا بهم..ورأوا فيهم آثار الحسين وثاراته..فلقد كانت لمأساة الحسين صورة لا تمحى ودمعة لا تنضب وحرارة لن تبرد أبدا..فخصومه أكثر فهما وإدراكا بأنّ الإسلام بات حسين البقاء..والحسرة لا تفتر أبدا في كل العصور..هي الحسرة على المقتل وعلى مفارقات ما حصل بعده:
والَهفَتاهُ لِعُصبَةٍ عَلَوِيَّةٍ +++ تَبِعَت أُمَيَّةَ بَعدَ عِزِّ قِيادِها
لم يبخل الشريف الرضي في رثاء الحسين بل أكثر..ففي الحائر الحسين قال:
كربلا لا زلت كرباً وبلا +++ ما لقي عندك آل المصطفى
كم على تربك لما صُرّعوا +++ من دم سال ومن دمع جرى
كم حصان الذيل يروى دمعها +++ خدها عند قتيل بالظما
تمسح الترب على أعجالها +++ عن طلا نحرٍ زميل بالدما
وضيوف لفلاة قفرة +++ نزلوا فيها على غير قرى
لم يذوقوا الماء حتى اجتمعوا +++ بحدي السيف على ورد الردى
تكسف الشمس شموساً منهم +++ا تدانيها ضياء وعلا
وتنوش الوحش من أجسادهم +++ أرجل السبق وأيمان الندى
ووجوه كالمصابيح فمن +++ قمر غاب ومن نجم هوى
غيرتهن الليالي وغدا +++ جائر الحكم عليهن البلا
ويشهد الرسول على مقتل أولاده..ويستحضر هذه المرة حزن محمد..ماذا لو عاين ما حصل..والحق انه عاينه ولكن مقتضى المجاز أنّ المشهد سيكون حتما عظيما..
يا رسول الله لو عاينتهم +++ وهم ما بين قتل وسبا
من رميضٍ يمنع الظل ومن +++ عاطش يُسقى أنابيب القنا
ومسوق عاثر يسعى به +++ خلف محمول على غير وطا
متعب يشكو أذى السير على +++ نقَب المنسم مهزول المطا
لرأت عيناك منهم منظراً +++ للحشا شجواً وللعين قذى
ليس هذا لرسول الله يا +++ امّة الطغيان والغي جزى
غارس لم يأل في الغرس لهم +++ فأذاقوا اهله مرّ الجنا
جزروا جزر الاضاحي نسله +++ ثم ساقوا أهله سوق الأما
معجلات لا يوارين ضحى +++ سَنن الأوجه أو أبيض الطلا
هاتفات برسول الله في +++ بُهر السير وعثرات الخطا
بقتل الحسين انكسرت عرى الإسلام ودخل في دورات من التحريفية والصراع..وانقلبت المعايير التي بها يتم الفصل بين الصحيح والسقيم من آيات الفهم والهدى..
يا قتيلا قوّض الدهر به +++ عمد الدين وأعلام الهدى
ولم يكن القوم معذورين بعد ان علموا أنهم يقتلون عضوا في مجموعة الكساء..وهي علامة على أن من اقترب هنا من دون حق أو دليل احترق..
قتلوه بعد علم منهم +++ أنه خامس أصحاب العبا
في تصوير موحي..يستجدي الدمع بعد الدمع وتفيض له المشاهر جيّاشة يقول الشريف الرضي:
مرهقاً يدعو ولا غوث له +++ بأبٍ برٍ وجدٍّ مصطفى
وبأمٍ رفع الله لها +++ لماً ما بين نسوان الورى
ايّ جدٍ وأبٍ يدعوهما +++ دّ يا جدّ أغثني يا أبا
يا رسول الله يا فاطمة +++ يا امير المؤمنين المرتضى
كيف لم يستعجل الله لهم +++بانقلاب الأرض أو رجم السما
فماذا على من إذا نادى وا أبتاه كان ذاك هو عليّ..وماذا على من إذا قال واأماه كانت تلك هي الزهراء..وماذا على من إذا نادى وأ جدّاه كان ذاك هو محمد..ومع ذلك أعملوا السيوف والقنا وفتكوا كوحوش ضارية..
لو بسبطي قيصر أو هرقل +++ فعلوا فعل يزيد ما عدا
كم رقاب لبني فاطمة +++ عَرقت بينهم عرق المدى
وتستمر المفارقة..أن يلعنوا من المنابر من لو لم يصلوا عليهم لا صلاة لهم..ويحملون رأس الحسين الذي قبّله محمد بشوق عامر وأكثر القبل..
حملوا رأساً يصلّون على +++ جده الأكرم طوعاً وإبا
يتهادى بينهم لم ينقضوا +++ مم الهام ولا حلوا الحبا
ميتٌ تبكي له فاطمة +++ وأبوها وعليٌ ذو العلا
لو رسول الله يحيى بعده +++ قعد اليوم عليه للعزى
وكيف يرضى الرضي والحزن غار في فؤاد سليل الحسين وحيدره..وهو يعكس حالة كل حسيني استبدت به الذكرى وألهمته أن يمخر عباب منعطف آخر..كيف يعيش الحسيني من دون وجادة وكيف يرضى ولو كان هو الرّضي:
يريدون أن نرضى وقد منعوا الرضى +++ لسير بني أعمامنا غير قاصد
كذبتك إن نازعتني الحق ظالماً +++ إذا قلت يوماً أنني غير واجد
يبكي الرضي جدّه..ويكثر رثاء..وتكاد نفسه تفيض ألما..وهو يذكّر مو حوله بالقول الصريح:
صبغ القلب حبكم صبغة الشيب +++ وشيبي لولا الردى لا يحول
انا مولاكم وان كنت منكم +++ والدي حيدر وأمي البتول
ادريس هاني : 25/10/2015

 


قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat


ادريس هاني
 (للدخول لصفحة الكاتب إضغط هنا)

    طباعة   ||   أخبر صديقك عن الموضوع   ||   إضافة تعليق   ||   التاريخ : 2015/10/30



كتابة تعليق لموضوع : الحسين في ديوان العرب (5)
الإسم * :
بريدك الالكتروني :
نص التعليق * :
 



حمل تطبيق (كتابات في الميزان) من Google Play



اعلان هام من قبل موقع كتابات في الميزان

البحث :





الكتّاب :

الملفات :

مقالات مهمة :



 إنسانية الإمام السيستاني

 بعد إحراجهم بكشف عصيانها وخيانتهم للشعب: المرجعية الدينية العليا تـُحرج الحكومة بمخالفة كلام المعصومين.. والعاصفة تقترب!!!

 كلام موجه الى العقلاء من ابناء شعبي ( 1 )

 حقيقة الادعياء .. متمرجعون وسفراء

 قراءة في خطبة المرجعية : هل اقترب أَجلُ الحكومةِ الحالية؟!

 خطر البترية على بعض اتباع المرجعية قراءة في تاثيرات الادعياء على اتباع العلماء

 إلى دعاة المرجعية العربية العراقية ..مع كل الاحترام

 مهزلة بيان الصرخي حول سوريا

 قراءة في خطبة الجمعة ( 4 / رمضان/ 1437هـ الموافق 10/6/2016 )

 المؤسسة الدينية بين الواقع والافتراء : سلسلة مقالات للشيخ محمد مهدي الاصفي ردا على حسن الكشميري وكتابيه (جولة في دهاليز مظلمة) و(محنة الهروب من الواقع)

 الى الحميداوي ( لانتوقع منكم غير الفتنة )

 السيستاني .. رسالة مهدوية عاجلة

 من عطاء المرجعية العليا

 قراءة في فتوى الدفاع المقدس وتحصين فكر الأمة

 فتوى السيد السيستاني بالجهاد الكفائي وصداها في الصحافة العالمية

 ما هو رأي أستاذ فقهاء النجف وقم المشرّفتَين السيد الخوئي بمن غصب الخلافة ؟

 مواقف شديدة الحساسية/٢ "بانوراما" الحشد..

أحدث مقالات الكتّاب :


مقالات متنوعة :





 لنشر مقالاتكم يمكنكم مراسلتنا على info@kitabat.info

تم تأسيس الموقع بتاريخ 1/4/2010 © محمد البغدادي 

 لا تتحمل الإدارة مسؤولية ما ينشر في الموقع من الناحيتين القانونية والأخلاقية.

  Designed , Hosted & Programmed By : King 4 Host . Net