صفحة الكاتب : ادريس هاني

الحسين في ديوان العرب (3)
ادريس هاني
والشعر هو أروع فنون القول وأسمى صنائع الأدب..فإن كان متكلّفا خارج آلة ضبط المحتوى فلا يشفع له مظاهر التموسق الخارجي وانتظام القوافي..يمنح الحسين لقصيدة الرثاء لونا خاصّا..ومهما بلغت صناعة الشعر فهي لا تفعل أكثر من أن تحوم حول سطح من المأساة بينما يتفلت قسم واسع من أبعادها من قريحة الشاعر..ذلك لأن مأساة الحسين تمتلك جانبا آخر خارج عنف المشهد وغضبيته..إنّها لوحة جمالية ترتقي بالتضحية إلى بعدها الجمالي الذي يستحضر معاني الشوق والعشق والأنسنة التي كانت تصدر من إمام يحتضر وهو يبكي خصومه وقد سقطوا بفعلتهم هذه في الحضيض..لكن يظل الجانب المؤلم من هذه التجربة هو الألم الذي يملؤ قلوب محبّيه وهم يستحضرون صور المقتل..جمالية المشهد التي تتجلّى في تضحية معسكر الحسين كلّه..أبو الفضل العبّاس الكفيل ساقي الأطفال..تتقطع يداه ويوصل الماء ماسكا القربة بأسنانه..عناد في الفضل والفضيلة والوفاء..فروسية في الحرب والأنسنة..صنع الحسين من مجموعته حالة فريدة في التضحية غير مسبوقة في تاريخ العالم..لم يكونوا جماعة هاربة بل كانوا جماعة مبارزة..لقد انتصروا على قلّتهم بالبعد اللانهائي ليقينهم..ذابوا جميعا في الحسين وهو ذاب في الملكوت.. يرثي الشافعي الإمام الحسين وهو شاعر وفقيه..اضطهد فيمن اضطهد من الأعلام لإعلانهم عن ميلهم لأهل البيت..يرثي الشافعي الإمام الحسين ويتأوّه حزنا وألما..الحزن الذي يجلب الكآبة والأرق:
تـأوه قلـبي والفـؤاد كئيب +++ وأرق نومي فالسهاد عجيب
يستجدي صاحب كتاب الرسالة من يبلغ عنه رسالة للحسين..رسالة قد تكرهها نفوس البعض:
فمن مبلغ عني الحسين رسالـة +++ وإن كرهتهـا أنفس وقلوب
محتوى هذه الرسالة وصف جريئ لظلامة الحسين..وصور تعكس وحشية المقتل..شهادة من شاعر فقيه خبر مقالات المتكلمين وآراء الملليين..ولعلّه لهذا الوصف الجريئ وصفوه ذات مرة بالرافضي..فأجابهم من دون تردّد:
إن كان رفضاً حبُّ آل محمّد * * * فليشهد الثقلان اني رافضي
في نظر الشافعي كان الحسين مظلوما..ذبيحا قضى من دون جرم.. وهو منتهى الخطيئة..
ذبيح بلا جـرم كأن قميصـه +++ صبيغ بماء الأرجوان خضيب
فللسيف إعوال وللرمح رنـة +++ وللخيل من بعد الصهيل نحيب
يعطي الشاعر بعدا كونيا لحزنه..ويشرك فيه نظام الفلك..فآل محمد قاوموا التضليل والخداع والاستغلال..فكيف لا تتجاوب الطبيعة مع مصابهم الجلل..في كل قصائد القوم استحضار سلس للكون وهو تعظيم واستعظام للحدث..
تزلزلت الـدنيا لآل محمـد +++ وكادت لهم صم الجبـال تذوب
وغارت نجـوم واقشـعرت كواكب +++وهتك أستار وشق جيوب
يتساءل الإمام الشافعي في رثائه هذا حول مفارقة الصلاة والغزو لآل محمد..كيف نصلّي على محمد ونغزو الآل..أما هو فقد حسم الأمر فقهيا حين قال: من لم يصلّ عليكم لا صلاة له..ذلك لأنّ الشافعي يعتبر عدم الإتيان بالصلاة الإبراهيمية مبطل للصلاة..هذه المفارقة تنقلنا إلى أمور أخرى..علينا أن نتذكّر أنّ الصلاة على محمد وحده هو بخل وبتر..ولولا وجودها بالصيغة الإبراهيمية في الصلاة لكانوا فرّقوا بينها ..والصلاة على الآل هي مسؤولية وراءها تكليف..أل البيت معناه آل دار أو بيت الإسلام..فمن أراد أن يدخل الدار عليه أن يصلي ويستأذن أهل الدار..واستئذانهم هو استئمامهم ليدلّوك إلى مداخل ومخارج البيت..فهم سفن النجاة..وباب حطّة من دخلها كان آمنا..والراسخون في العلم والأئمة الذين تتحقق بهم المعذّرية والمنجزية..فالزهراء خاطبتهم بأنّ إمامتنا أهل البيت أمان من الفرقة ونظام للملّة..وقولة النبي ص: (انا مدينة العلم وعلي بابها)..فمن دخل الدار من غير الباب ضلّ..وما أكثر من دخلوا بيت الدين من نوافذ متفرقة ولم يستأذنوا أهل الدار..أهل المدينة ،،أهل البيت..فشرقوا وغرّبوا..شيء من الفهم يحمل نكهة اللّصوصية في اختراق البيوت من دون استئذان أهلها..لقد تحوّل الوضع إلى فوضى عارمة..ولبست عباءة الدين مقلوبة..واضملت الحجّة بعد فقد الحجة..وبتنا أمام أفهام للدين تنتمي إلى التهريب الديني حين نقتحم بيت الدين دون استئذان أهل البيت..يتساءل الشافعي:
يصلى على المبعـوث من آل +++ هاشم ويغزى بنوه إن ذا لعجيب
لكن الحزن على آل محمد والتعبير عنه بات جرما في دنيا من دخلوا البيت من نوافذه وليس من بابه..باب مدينة علم محمد..وهنا تختبر شكيمة المحبّ العاشق..فالحب مراتب في التشكك لا نهاية لها حدّ الكمال..فمن محبّ مقتصد ومن محبّ ملتبس ومن محبّ مجنون ومن محبّ شرد وانخطف...ومن الحب ما قتل..فما ذنب من أحب آل محمد:
لئن كان ذنبي حب آل محـمد +++ فــذلك ذنب لست عنه أتوب
هم شفعائي يوم حشري وموقفي +++ إذا ما بـدت للناظرين خطوب
سوف ترافقك شأنيتهم..وستجد لهم سلطانا في دنياك وآخرتك..فكل يأتي يوم القيامة بإمام مبين..شاهدا عليه وشهيد..وليس بعد مقتل الحسين من مشهد يستحق أن يفرض إحساسا خاصا في النفوس..لا مأساة أعنف وأبلغ في الجرم من تلك المأساة..فمن لم تثر تلك المأساة حزنا في نفسه فهو أعمى وأصمّ وفاقد للحس الإنساني..فالذي بكى القوم لأنهم سيدخلون النار بسببه ألا يستحق أن تذرف عليه من كل الدموع؟..وإن لم نبك حسينا فمن يا ترى سنبكي؟ ومن لم يستعظم مشهد الطّف كيف سيكون إنسانا؟ من هنا تبدأ حكاية الأنسنة وليس من غيرها..من مشهد يجب أن لا ننساه حتى نتذكّر أنّ وحوشنا القديمة لم تمت بل هي نفسها الوحوش التي تطورت في إدارة توحّشها..إنّ رثاء الشافعي للإمام الحسين طعنة في خاصرة الحرّاني النّاصبي الذي اعتبر خروج الحسين عديم المصلحة في الدنيا والدين..ولهذا منحوه وسام شيخ الإسلام..لأنّه كرّس بدعة الدخول إلى مدينة العلم من غير بابها..فضلّ وأضلّ.. لن يفلح من كان خصيما عنيفا أو ناعما لعلي وبنيه....
 23/10/2015

قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat


ادريس هاني
 (للدخول لصفحة الكاتب إضغط هنا)

    طباعة   ||   أخبر صديقك عن الموضوع   ||   إضافة تعليق   ||   التاريخ : 2015/10/26



كتابة تعليق لموضوع : الحسين في ديوان العرب (3)
الإسم * :
بريدك الالكتروني :
نص التعليق * :
 



حمل تطبيق (كتابات في الميزان) من Google Play



اعلان هام من قبل موقع كتابات في الميزان

البحث :





الكتّاب :

الملفات :

مقالات مهمة :



 إنسانية الإمام السيستاني

 بعد إحراجهم بكشف عصيانها وخيانتهم للشعب: المرجعية الدينية العليا تـُحرج الحكومة بمخالفة كلام المعصومين.. والعاصفة تقترب!!!

 كلام موجه الى العقلاء من ابناء شعبي ( 1 )

 حقيقة الادعياء .. متمرجعون وسفراء

 قراءة في خطبة المرجعية : هل اقترب أَجلُ الحكومةِ الحالية؟!

 خطر البترية على بعض اتباع المرجعية قراءة في تاثيرات الادعياء على اتباع العلماء

 إلى دعاة المرجعية العربية العراقية ..مع كل الاحترام

 مهزلة بيان الصرخي حول سوريا

 قراءة في خطبة الجمعة ( 4 / رمضان/ 1437هـ الموافق 10/6/2016 )

 المؤسسة الدينية بين الواقع والافتراء : سلسلة مقالات للشيخ محمد مهدي الاصفي ردا على حسن الكشميري وكتابيه (جولة في دهاليز مظلمة) و(محنة الهروب من الواقع)

 الى الحميداوي ( لانتوقع منكم غير الفتنة )

 السيستاني .. رسالة مهدوية عاجلة

 من عطاء المرجعية العليا

 قراءة في فتوى الدفاع المقدس وتحصين فكر الأمة

 فتوى السيد السيستاني بالجهاد الكفائي وصداها في الصحافة العالمية

 ما هو رأي أستاذ فقهاء النجف وقم المشرّفتَين السيد الخوئي بمن غصب الخلافة ؟

 مواقف شديدة الحساسية/٢ "بانوراما" الحشد..

أحدث مقالات الكتّاب :


مقالات متنوعة :





 لنشر مقالاتكم يمكنكم مراسلتنا على info@kitabat.info

تم تأسيس الموقع بتاريخ 1/4/2010 © محمد البغدادي 

 لا تتحمل الإدارة مسؤولية ما ينشر في الموقع من الناحيتين القانونية والأخلاقية.

  Designed , Hosted & Programmed By : King 4 Host . Net