صفحة الكاتب : حميد آل جويبر

بين الأمس واليوم
حميد آل جويبر

المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الموقع، وإنما تعبر عن رأي الكاتب.
كنا عشرة افواه وبطون ، تسعة منها استهلاكية . نضحك بانشراح ونقهقه بصدق لنكتة تافهة جدا بمقاييس اليوم ، ونبكي لوفاة صديق مصلّح "عربانة" جارنا العتال ، فاذا جن الليل دسسنا في البطن ما تيسر في المطبخ من دون أدنى قلق على ما سيأتي او لا يأتي في الغد . لا تسلني عن السيولة النقدية المتوفرة ، فهي غير متوفرة لانها تتبخر فورا في جيب "الطلابة" الصبورين من بقال وحلاق و الوراق "ابو صادق – رحمهما الله" . البرّاد لو أثرى ففي جوفه باقة نعناع عضوي تجاور احيانا قطعة جبن قد تمهلنا يوما اخر قبل ان تتعفن . الحديث عن قناني المياه المعدنية كان اشبه بالحديث عن تويتر آنذاك . نمرض ونصاب بجروح وكسور ولدينا قناعة فطرية كاملة برعاية الله ، ان هي الا مسالة وقت ، ونعود لركل كرة القدم المتهرئة من جديد . التلفاز الملوّث "غير الملوّن" الذي دخل البيت متأخرا وبتعثر ، كان كثير الغنج و يفرض علينا تشغيله قبل بدء اي برنامج او مباراة بنصف ساعة هي للاحماء وتوجيه ما تيسر من الركلات ليستيقظ من سباته العميق . الوصول الى المدرسة يتطلب مشيا على الاقدام نصف ساعة على الاقل حتى وان كانت السماء تبصق حُمما او زمهريرا . والحديث عن سيارة او تكسي كان ترفا وبطرا ليس في محله . بطلا الساحة المتوفران الخبز والتمر بانواعه قبل ان يصنف الاخير ضمن قائمة الاحجار الكريمة ، بعد ان احتقرنا قيمته الى حد اننا كنا نتراشق به في اعقاب فشل الحوار، وهي مرحلة تسبق القنادر والجلاليق ومن ثم البوكسات التي بها نكرم او نهان ، وغالبا ما كنا نهان . منزلنا كان يسع العشرة المطشرين برحابة صدر وهو بمفهوم اليوم شقة صغيرة بالكاد تعد مفروشة . احيانا افكر في معاقبة اولادي – حتى من دون ذنب – من خلال فرض تلك الحياة عليهم ولو بالخيال . الهاتف التقليدي السلكي لم يدخل البيت الى ان غادرته . رغم كل ذاك كانت الحياة مليئة المعنى ولها مفهوم . اليوم خمسة هواتف في البيت ونحن اربعة فقط ... البراد والمجمدة تئنان من ثقل الأوزار "النوّاب" . المخزن فيه من المواد الغذائية الاساسية ما يسد افواه سابع جار . فالتسوق يومي او شبه يومي . أحذية الاولاد تزيد "قيمة وعددا" على مجموع ما اشتريته انا واخوتي من الاحذية والنعلان وقباقيب الحمام طوال حياتنا . ملابسهم نفس الشيء . البوفية فيها من الاكسسوارات والشراء الكاذب ما يخجلك امام علي بن ابي طالب "ع". كل واحد منا اختص بغرفة تحمي خصوصيته ومختصاته . اربعة مجمعات تجارية ملطوشة باناقة بالقرب منا . سيارتان تفصلهما عن باب البيت خمسة امتار او اقل . خدمة الانترنت مثل الطلقة ، فاذا تعثرت قليلا خرج عليك الاولاد بتظاهرة احتجاجية – احيانا غير سلمية - تدعو الى تطبيق حزمة اصلاحات وعزل الفاسدين " طبعا المعني هو أنا ولا احد غيري" . البريد التقليدي ياتيك للباب يوميا مشفوعا بابتسامة بريئة تكون قادمة من الجنس اللطيف احيانا . اكثر من مئتي قناة فضائية تصل اليك عبر شاشة تلفاز ذكي يضم حاسوبا متطورا تتحكم به من مقعدك المترهل !!! الفيسبوك ، يجمعك باصدقاء كانوا حقيقيين لم تكن تحلم بالارتباط بهم مجددا ، وكانوا يظنون انك من بقايا عظام وخوَذ "صور من المعركة" التي بدأت في الثمانين ولم تنته حتى اليوم ، ولا يبدو انها ستنتهي . لستُ من المتمسكين بمسقط الراس أوالوطن ، اذ اعتبر كل بقعة من ارض الله احط فيها هي سكني ، لكنني احسد الوطنيين المتمسكين بالارض لان لهم هدفا نهائيا يشدهم اكثر الى الحياة ، فيشعرون بسعادة غامرة افتقد الاحساس بها ، فاتمنى ان احسب عليهم ذات يوم . امس بكل مراراته وشحه وحرمانه كان نابضا بالحياة . اليوم بكل سخائه وآيفوناته الانيقة لامعنى و لا طعم له لكن فيه رائحة ، ليتها لم تكن . في اقصى حالات العافية بتنا نخاف من المرض . في اكتظاظ البراد بالمواد نشعر بقلق من جوع الغد . مع توفر سيارتين وعشرات الباصات والقطارات يلح علينا خوف عدم الوصول . ترى أهو تراجع الايمان ؟ أم ضريبة التقادم في العمر ؟ لست أدري ولا المنجم يدري . لكنني اخشى ان ينتقل هذا الاحساس بالاحباط الى اولادنا عندما يكبرون فيحنون ، وهم ينفثون دخان سجائرهم ، لايام الحرمان التي عاشوا فيها مرارة اختراعات ستيف جوبز وبيل غيتس وزوكربرغ .

قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat


حميد آل جويبر
 (للدخول لصفحة الكاتب إضغط هنا)

    طباعة   ||   أخبر صديقك عن الموضوع   ||   إضافة تعليق   ||   التاريخ : 2015/09/11



كتابة تعليق لموضوع : بين الأمس واليوم
الإسم * :
بريدك الالكتروني :
نص التعليق * :
 



حمل تطبيق (كتابات في الميزان) من Google Play



اعلان هام من قبل موقع كتابات في الميزان

البحث :





الكتّاب :

الملفات :

مقالات مهمة :



 إنسانية الإمام السيستاني

 بعد إحراجهم بكشف عصيانها وخيانتهم للشعب: المرجعية الدينية العليا تـُحرج الحكومة بمخالفة كلام المعصومين.. والعاصفة تقترب!!!

 كلام موجه الى العقلاء من ابناء شعبي ( 1 )

 حقيقة الادعياء .. متمرجعون وسفراء

 قراءة في خطبة المرجعية : هل اقترب أَجلُ الحكومةِ الحالية؟!

 خطر البترية على بعض اتباع المرجعية قراءة في تاثيرات الادعياء على اتباع العلماء

 إلى دعاة المرجعية العربية العراقية ..مع كل الاحترام

 مهزلة بيان الصرخي حول سوريا

 قراءة في خطبة الجمعة ( 4 / رمضان/ 1437هـ الموافق 10/6/2016 )

 المؤسسة الدينية بين الواقع والافتراء : سلسلة مقالات للشيخ محمد مهدي الاصفي ردا على حسن الكشميري وكتابيه (جولة في دهاليز مظلمة) و(محنة الهروب من الواقع)

 الى الحميداوي ( لانتوقع منكم غير الفتنة )

 السيستاني .. رسالة مهدوية عاجلة

 من عطاء المرجعية العليا

 قراءة في فتوى الدفاع المقدس وتحصين فكر الأمة

 فتوى السيد السيستاني بالجهاد الكفائي وصداها في الصحافة العالمية

 ما هو رأي أستاذ فقهاء النجف وقم المشرّفتَين السيد الخوئي بمن غصب الخلافة ؟

 مواقف شديدة الحساسية/٢ "بانوراما" الحشد..

أحدث مقالات الكتّاب :


مقالات متنوعة :





 لنشر مقالاتكم يمكنكم مراسلتنا على info@kitabat.info

تم تأسيس الموقع بتاريخ 1/4/2010 © محمد البغدادي 

 لا تتحمل الإدارة مسؤولية ما ينشر في الموقع من الناحيتين القانونية والأخلاقية.

  Designed , Hosted & Programmed By : King 4 Host . Net