صفحة الكاتب : د . ماجدة غضبان المشلب

ثقافة الجسد شرقا محاولة بصير لادراك النور
د . ماجدة غضبان المشلب

بمجرد مغادرة الرحم، يوضع الجسد البشري تحت عناية القيم الاجتماعية و الاقتصادية التي تحاكمه، و تحكمه، و تتحكم فيه، فهو المجسم الوحيد الماثل بصريا امام العين، و المعبر عن الوجود المادي للانسان..
و بسبب هذه الابعاد المرئية التي تسبق الادراك الذهني لمعنى الوجود نفسه بالنسبة للفرد، يتم التعامل معه كأول اناء للتفاعل بين حضوره الواضح و بين ما سبق من معطيات تأريخية، و ثقافة موروثة، و قيم اقتصادية تحدد ماهية وجوده على أرض الواقع.
قيم استقبال الجسد الأولى هي قيم اقتصادية صرف، فالقاء الجسد بظلاله على ما حوله استجابة للنور الاول، هي اللحظة التي تشرع فيها القيم الاقتصادية بالقاء أكبالها عليه.
فهو اما مغضوب عليه حيث لا مبررات اقتصادية لوجوده اصلا، و اما محاط بعناية التكنولوجيا مع الاذعان لشروطها كاملة...
و مع الاختلاف الحضاري هنا و هناك، فان الجسد لا يكاد يغادر موضعه كميدان للصراع الأزلي بين السليقة، و الرضوخ للقيم التي ستطلق مجموعة منظمة من الرسائل و الاشارات لتطويع الجسد وفق الإرث الثقافي المتراكم و المتغير باستمرار كممثل للنموذج المقبول اجتماعيا و زمكانيا.
و لا يمكن للقبول الاجتماعي الا ان يكون مرتبطا بضرورات اقتصادية تحدد اخلاقية التفاعل حتى يصبح الاذعان لها او الخروج عنها هو الحد الفاصل بين بقاء الجسد و فنائه.
لذلك أصبح تشتت الجسد كقيم فيزيائية و كيميائية و بايولوجية و فسيولوجية محض تحت ثقل قوانين اقتصادية متباينة حتمية يستحيل على الفرد أن يفر منها، فهي تبدأ قبل تشكل الوعي الذاتي بتعامل المجتمع مع الجسد دون استيفاء إرادة العقل لحضورها، لتختصر عصارة وجودها في حجر اساس لا مهرب منه قبل بلوغ الذهن مرفأ خيار آخر.
هذا يعني اننا لا نعرف عن اجسادنا شيئا كطين نقي لم يحفر عليه اي مسمار كتابته، لأن الطين ذاته قد نقش عليه أثر ما حوله و هو لم يزل بضعة خلايا في رحم ما.
فالجسد يحمل موروثاته الجينية دون رغبة منه، و يولد عليها، سوى ما سيحفر على مستقبلاته الحسية أوان ولادته لتصبح البصمات التي تحتضنه الختم الممثل لطغيان ثقافة ستصهره و تعيد تكوينه بما يناسب ديمومتها.
اننا نجهل اجسادنا بقدر ما تملي علينا المنظومة الاقتصادية اخلاقها، و نحن اذ نتبعها نهدم سليقته المتفردة وفق منحنى بياني متصاعد لتحل محلها ارادة الوجود الجمعي، ما يرتضيه لها و ما يرفضه.
تتراجع السليقة حتى تركن و تهمل في العقل الباطن، و قد تستفيق احيانا في احلامنا او ممارساتنا المموهة و السرية لتعود على هيئة تأنيب ضمير يجلد الجسد و يؤنبه على ما ارتكب من جرم في حق المنظومة الاقتصادية_الاخلاقية.
كل ما حولنا وجد قبل ان نعي ماهية الجسد، و نكتشف رغباته، و قد نصل حد العجز في الفصل بين ما تريده السليقة و ما يريده من دحرها ، و لا فرصة هنا للاحتفاظ ببعض ما كانت عليه.
هكذا فقدنا صلتنا بالجسد البشري منذ أمد بعيد، و غيبناه تحت اطنان من الموروثات الثقافية و الجينية لالاف من السنين، و اذ نتحدث اليوم عنه انما نستنطق الغياب الذي نجهله حتما.
ثقافة الجسد هي محاولة عمياء للوصول للمنابع النقية، و مع الضخ الالكتروني المرئي و السمعي حول ما يشكله الجسد من تواجد استهلاكي عبر تقنيات معقدة أصبحنا في أبعد نقطة عن استكشاف حقيقته.
في الغرب لم تعد هنالك الكثير من الفواصل بين الممنوع و المرغوب، غير ان مجسات الجسد ذاته قد ذابت مع ما ينبغي لها ان تكون حتى تلاشت ابعادها، و أصبحت في سباق مع مقتضيات السوق لنيل غفرانه ان خالف عصرنتها.
شرقا، المشاكل أكثر تعقيدا، مع تغييب الوعي الجمعي أصبح الجسد خاضعا بشكل تام لأيقونات غربية تتناقض كل معطياتها مع الإرث الديني و الاجتماعي مستمدة سطوتها من سطوة الدائرة الاقتصادية المحكومة بالتبعية لسياسة البترودولار.
واقعا نحن نعيش حالة عدمية جسدية و ذهنية تحت ضغط آلية التمزق اليومي بين تواصلنا تقنيا مع نظام اخلاقي يناسب مباديء الاتجار بكل ما هو محرم لدينا، و بين خضوعنا ظاهريا لثقافة تكاد تنقرض في ضمائر الاجيال الناشئة.
قد يعتمد المبصر على حواس أخرى تمكنه من ادراك ما حوله، لكننا فقدنا حرية الاحتفاظ بحواسنا البدائية ، فقدنا حرية رفض ما لا يتفق و موروثاتنا الثقافية مع اصرارنا على عدم انشاء ثقافة جسد خاصة بنا تحمي خصال هويتنا من تبديد معولم، و من ثم خياراتنا العصرية فيما يعني معضلات الجسد و تواصلنا مع الحضارات الأخرى من خلالها.

 


قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat


د . ماجدة غضبان المشلب
 (للدخول لصفحة الكاتب إضغط هنا)

    طباعة   ||   أخبر صديقك عن الموضوع   ||   إضافة تعليق   ||   التاريخ : 2015/08/17



كتابة تعليق لموضوع : ثقافة الجسد شرقا محاولة بصير لادراك النور
الإسم * :
بريدك الالكتروني :
نص التعليق * :
 



حمل تطبيق (كتابات في الميزان) من Google Play



اعلان هام من قبل موقع كتابات في الميزان

البحث :





الكتّاب :

الملفات :

مقالات مهمة :



 إنسانية الإمام السيستاني

 بعد إحراجهم بكشف عصيانها وخيانتهم للشعب: المرجعية الدينية العليا تـُحرج الحكومة بمخالفة كلام المعصومين.. والعاصفة تقترب!!!

 كلام موجه الى العقلاء من ابناء شعبي ( 1 )

 حقيقة الادعياء .. متمرجعون وسفراء

 قراءة في خطبة المرجعية : هل اقترب أَجلُ الحكومةِ الحالية؟!

 خطر البترية على بعض اتباع المرجعية قراءة في تاثيرات الادعياء على اتباع العلماء

 إلى دعاة المرجعية العربية العراقية ..مع كل الاحترام

 مهزلة بيان الصرخي حول سوريا

 قراءة في خطبة الجمعة ( 4 / رمضان/ 1437هـ الموافق 10/6/2016 )

 المؤسسة الدينية بين الواقع والافتراء : سلسلة مقالات للشيخ محمد مهدي الاصفي ردا على حسن الكشميري وكتابيه (جولة في دهاليز مظلمة) و(محنة الهروب من الواقع)

 الى الحميداوي ( لانتوقع منكم غير الفتنة )

 السيستاني .. رسالة مهدوية عاجلة

 من عطاء المرجعية العليا

 قراءة في فتوى الدفاع المقدس وتحصين فكر الأمة

 فتوى السيد السيستاني بالجهاد الكفائي وصداها في الصحافة العالمية

 ما هو رأي أستاذ فقهاء النجف وقم المشرّفتَين السيد الخوئي بمن غصب الخلافة ؟

 مواقف شديدة الحساسية/٢ "بانوراما" الحشد..

أحدث مقالات الكتّاب :


مقالات متنوعة :





 لنشر مقالاتكم يمكنكم مراسلتنا على info@kitabat.info

تم تأسيس الموقع بتاريخ 1/4/2010 © محمد البغدادي 

 لا تتحمل الإدارة مسؤولية ما ينشر في الموقع من الناحيتين القانونية والأخلاقية.

  Designed , Hosted & Programmed By : King 4 Host . Net