صفحة الكاتب : بوقفة رؤوف

الكهف المقدس (فلسفة الرفض )
بوقفة رؤوف

المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الموقع، وإنما تعبر عن رأي الكاتب.
المجتمع النائم أو المنوم , لا يهم هل استسلم للنوم بإرادته أم هناك قوى معادية نومته , لكن من المعلوم أنه اذا كان النوم طبيعة بشرية فانه ليس سنة اجتماعية , فالمجتمعات الحية لا تنام و اذا نامت ماتت , نعم قد تصيبها سِنة أو غفوة تسترجع من خلالها عافيتها وقوتها ونشاطها بعد الجهد الذي بذلته للتقدم والرقي 
أما المجتمع النائم فانه مجتمع ألِف النوم وأصبح يرى حريته ونشاطه وحياته ومتعته في النوم ويرى في كل محاولة جادة لإيقاظه خطر يهدد كيانه ويزعزع وجوده لذلك يجب عليه القضاء على هذا العنصر المهدد 
ان اعتياد الأمور هو المرض الذي يصيب البشرية في مقتل , اعتياد الأمور يعني أن توقف النظر والتفكير وإعمال العقل والتأمل والتدبر , الألفة هي ارتباط المجتمع بالنوم ونشوء روابط متينة من الراحة النفسية والسعادة والارتياح , البشرية تخاف الغد تخشى المستقبل , تخشى المضي الى الامام 
البشرية حالها حال رجل الكهف الذي فتح عينيه في الكهف وجد أبويه في الكهف فأحب والديه وأحب الكهف , أصبحت علاقته مع الكهف ليس علاقة مكان بل علاقة وجدانية علاقة مشاعرية ,اصبح الكهف بالنسبة له هو الحياة , لا يتخيل ولا يتصور حياة خارج الكهف , لا يتصور أمن خارج الكهف ولا طعام خارج الكهف 
خارج الكهف تكمن الأخطار غير المحددة لكنها تتربص بنا , تتحين فرص خروجنا من الكهف لتنقض علينا , وبالتالي اذا فكرنا في لحظة شرود أو غفلة وطرح التساؤل : ماذا يوجد خارج الكهف ؟ ماذا يحدث لو تركنا الكهف ؟ ماذا يحدث لو استسلمنا واتبعنا الصوت الذي يحاول ايقاظنا من النوم 
ان العقل الجمعي يصنع أسلوب دفاعي يتأقلم معه ويجعل مصيره مرتبط به كوسيلة من وسائل تأقلمه وتكيفه مثل الخفاش الذي اعتاد العيش في الكهوف المظلمة فتأقلم بصره مع الرؤيا في الظلام ,فان ضعف بصره فقد تطورت لديه القدرة على الاستشعار عن طريق الموجات الصوتية 
أغلب الذين يكتبون على موضوع التغيير , يركزون على الأشخاص الرساليين , قادة التغيير وكيف أن رؤيتهم تتميز بالوضوح والتناسق ويمضون لهدفهم بكل ثقة وصبر وعزيمة وما يلقونه من مقاومة من طرف أقوامهم الرافضة للتغيير , لكن لا يقفون مليا عند فلسفة الرفض ,فهم يركزون على فلسفة التغيير فقط , والواجب أن نقف مليا عند فلسفة رفض التغيير قبل الحديث عن فلسفة مقاومة التغيير وفلسفة مقاومة مقاومة التغيير 
فلسفة الرفض يقدم لها أصحابها تقديم منطقي , فتجد شعاراتها المرفوعة مثلا : الوفاء لمسيرة الآباء والأجداد , الخير فيما اختاره الأوائل , الخلف امتداد للسلف وبالتالي كل صوت تغيير , صوت مخالف للصوت الجمعي هو صوت ناشز شاذ , صوت محدث , صوت مبتدع , صوت خارج عن الجماعة , صوت مفارق للأمة , صوت محدث للفرقة , صوت مسبب للفتنة النائمة وهو ملعون بإيقاظه لها 
هذه المقدمات المنطقية التي تشترك فيها جميعا القبائل ساكنة الكهوف والمجتمعات النائمة بغض النظر عن الدين الذي تتبعه والاعتقاد الذي تعتقده هي في حقيقة الأمر المقدمات زائفة مبنية على وهم جميل لأن فلسفة الرفض في حقيقة أمرها قائمة على المشاعر لا على العقل قائمة على الراحة النفسية قائمة على السكن و الألفة ,على الخوف من التغيير , على عدم ضمان عواقب المجازفة , على حب الماضي ,على اعتبار الذكريات جزء من الحياة , قائمة على الخوف من المجهول , الخوف من المستقبل , الخوف من التقدم العمري والهرم والعجز سواء للفرد أو المجتمع 
ان الأنبياء والرسل و الرساليين والربانيين والعلماء والمجددين كلهم يشتركون في نقطة واحدة أنهم يمثلون عنصر ازعاج بالنسبة لمجتمعاتهم لأنهم رافضين لوضعهم الذين هم عليه يريدون ويطلبون منهم التغيير لأجل غد أفضل لكنه مع ذلك يبقى تغيير والتغيير في حد ذاته أمانة ثقيلة رفضت حملها باقي المخلوقات وحملها الانسان في لحظة طموح ثم فقهت البشرية ثقل عملية التغيير فأرادت التنصل منه بمقدمات منطقية واهمة , ان البشرية مثل باقي المخلوقات لا تحب التغير ولا الانتقال من حالة الى حالة , لا نتحدث هنا عن التغيير الطبيعي الذي هو في جوهر الأمر لا يعتبر تغيير , فتبدل فصول السنة ليس بتغيير والتقدم في دورة الحياة من مرحلة الطفولة الى مرحلة الشباب الى مرحلة العجز ليس تغيير , هو تدرج سنني طبيعي عادي مثل ظاهرة الليل والنهار 
نحن هنا نتكلم عن التغيير النقيضي ,التغيير التدافعي ,التغيير التجادلي بين الخير والشر بين الحق والباطل بين الموت والحياة, بين الحضارة الرسالية والحضارة المادية , هذا هو التغيير الأمانة الذي اذا قامت به البشرية تحولت الى انسانية هذا هو محور الصراع بين الحضارتين , حضارة تريد من البشرية أن تبقى حبيسة الكهف سواء كان هذا الكهف معبد أو قصر أو ملهى أو مرعى أو ملعب وحضارة تريد من البشرية التحول نحو الانسانية بان تخرج من الكهف , أن لا يبقى قلب البشرية معلق بالكهف , أن لا تنحصر الحياة في كهف 
الرجل الكبير المثقف والذي قد يكون مهندس أو أستاذ جامعي أو أي مكانة تنم على علمه وثقافته , يعلم أن بابا نويل مجرد أكذوبة لكن مع هذا يؤمن به , تواجهه بالمنطق فيقول لك نعم هي أكذوبة لكن أكذوبة جميلة 
لماذا هذا الايمان بشخصية بابا نويل رغم أنها شخصية وهمية زائفة ؟
لأن شخصية بابا نويل مثلها مثل الكهف ومثل النوم بالنسبة لمجتمعنا ليس وليد العقل ولا المنطق بل هو صناعة شعورية نتيجة السكنى والألفة والمحبة وبالتالي يصعب مقاومتها أو تخيل عدم وجودها أو الحياة دونها 
حتى المجتمعات الملحدة التي لا تؤمن بالله ولا بالسيد المسيح سواء بصفته ابن الله أو رسول من الله تجدها تحتفل بأعياد الميلاد وتبجل شخصية بابا نويل , قد يعترض أحدهم ويقول لأن هذه الاحتفالات ليست ذات مدلول ديني بل باعتبارها فلكلور أو مناسبة اجتماعية تدرس من الناحية الانثربولوجية لا دراسة لاهوتية ولا علاقة لها بالإيمان لا من قريب ولا من بعيد 
وهذا صحيح , فالاحتفال بأعياد الميلاد يجعلك تحصل على الرضا ,على الطمأنينة على الراحة النفسية ,على مخدر الشعوب وأفيونها , يجعلك تتلذذ بالبقاء في الكهف مخافة الرعد والبرق والحيوانات الضارية 
هذا ما نجده في أمثلتنا الشعبية التي تحذر من المغامرة وتشجع على بقاء الوضع على ما هو عليه نحو : " الذي خاف نجى " و " الرئيس أو الحاكم او المدير الذي تعرفه خير من الذي لا تعرفه " و " اليوم الذي يمضي خير من اليوم الذي يأتي " و " ليس بالإمكان ابداع أحسن مما كان " 
فالأكثرية لسان حالها يجسده قوله تعالى  :
﴿ وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنزَلَ اللّهُ قَالُواْ بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلاَ يَهْتَدُونَ وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُواْ كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لاَ يَسْمَعُ إِلاَّ دُعَاء وَنِدَاء صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ ﴾ البقرة: 170- 171
 ﴿ وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ إِلَى مَا أَنزَلَ اللّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قَالُواْ حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءنَا ﴾ المائدة 104
﴿ قَالُواْ أَجِئْتَنَا لِتَلْفِتَنَا عَمَّا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءنَا وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِيَاء فِي الأَرْضِ وَمَا نَحْنُ لَكُمَا بِمُؤْمِنِينَ ﴾  يونس: 78
﴿  إِذْ قَالَ لأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ قَالُوا وَجَدْنَا آبَاءنَا لَهَا عَابِدِينَ  ﴾  الأنبياء: 52-53
 لكن الحقيقة هي أننا أمام مجتمعات مدمنة , أدمنة عاداتها , والمدمن رغم انه يعلم كل العلم أن الادمان شر محض يدمر جسده ويخرب خلاياه وأعصابه ويشتت اسرته إلا أنه يواصل ادمانه , فهل المدمن طريقة علاجه من الادمان بمحاورته ومجادلته وأنت تعلم مثلما يعلم هو تماما أن دفاعه عن الادمان مجرد هراء وأن الادمان بداية اختيار لكن في الأخير انهيار , لا يستطيع التخلص منه ولا التحرر من أسره هو يريد من ينقذه لكنه ليس لديه الشجاعة بأن يعترف يمكن أن نقول عنها أنها العزة بالإثم أو المكابرة 
فمهما مدح لك الكهف ومهما أنشد فيه الغزل ومهما نظم فيه المعلقات والإلياذة  وأشاد به وبمنعته وحصانته وجماله وبهائه وسحره وجاذبيته , فليس تلك الحقيقة , الحقيقة انه ادمن الكهف ولا يصبر على الحياة خارج الكهف وحتى ولو أخرجته بالقوة من الكهف فانه لا يطيق بضع خطوات ويهرع الى الكهف يعود مسرعا ناكصا على عقبيه , القضية قضية ادمان أولا وأخيرا هناك من يقول : " خير عادة ان لا يكون للمرء عادة " لكن المرء لا يستطيع ان يعيش دون عادة , وبالتالي فالمدمن يجب عليه ان يتخلص من ادمان بإدمان أي أن يستبدل ادمانه , وبالتالي فمدمن الظلام يستبدل ادمان الظلام بأن يصبح مدمن نور ومدمن الموت يصبح مدمن حياة ومدمن النوم يصبح مدمن يقظة ومدمن الكهف يصبح مدمن خارج الكهف ,فالمشكلة ليس في الطريق الذي نمضي فيه المشكلة في الاتجاه الذي نسلكه فالطريق واحد والاتجاهات مختلفة 
ان المدمن هو رجل الكهف هو الشخص المستسلم للنوم لا يريد من ينهاه عن ادمانه بمنطق فقط , لا يريد من يكلمه نظريا عن اضرار ومخاطر الادمان , المدمن لا يبحث عن جلاد ولا عن قاضي ولا عن مقيم الحدود ليطبق عليه الحد , هو يبحث عن من يأخذ بيده بحب وعطف , هو يبحث عن من يفهمه ويشعر بشعوره ويساعده 
ان التدافع الحضاري القائم هو تدافع امان وإدمان , ادمان يميت وإدمان يحي , هناك من يدمن الكراهية وهناك من يدمن الحب وكلاهما ادمان , وبالتالي فالطريق واحدة وهي الادمان لكن الاتجاهات مختلفة ان لم نقل متناقضة فهناك اتجاه ادمان الكره وهناك اتجاه ادمان الحب , هناك اتجاه ادمان الموت وهناك اتجاه ادمان الحياة و هناك اتجاه ادمان الفساد وهناك اتجاه ادمان الاصلاح 
والإنسان المتكامل , الشخص الرسالي , العالم الرباني , المجدد , المخلص هم من يغير ادمان الشعوب من ادمان هدم الى ادمان بناء من ادمان الحضارة المادية الى ادمان الحضارة الرسالية 
من ألِف الكهف لن يخرج منه إلا إن أدمن الحياة , ومن ألِف النوم لن يستيقظ منه إلا إن ادمن النهوض , والبشرية تملك الاستعداد للإدمان والقابلية للانتقال من ادمان الى ادمان
لكن هناك شفرة التحويل بين الادمان , فالرسالي هو الوحيد الذي يملك شفرة التحكم في مستويات الادمان وتحويله من ادمان مدمر الى ادمان بنّاء فالرسالي هو الذي ينجح في اخراج الناس من ظلمة الكهف الى نور الحياة , من غياهب الحضارة المادية الى أنوار الحضارة الرسالية . 

قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat


بوقفة رؤوف
 (للدخول لصفحة الكاتب إضغط هنا)

    طباعة   ||   أخبر صديقك عن الموضوع   ||   إضافة تعليق   ||   التاريخ : 2015/07/14



كتابة تعليق لموضوع : الكهف المقدس (فلسفة الرفض )
الإسم * :
بريدك الالكتروني :
نص التعليق * :
 



حمل تطبيق (كتابات في الميزان) من Google Play



اعلان هام من قبل موقع كتابات في الميزان

البحث :





الكتّاب :

الملفات :

مقالات مهمة :



 إنسانية الإمام السيستاني

 بعد إحراجهم بكشف عصيانها وخيانتهم للشعب: المرجعية الدينية العليا تـُحرج الحكومة بمخالفة كلام المعصومين.. والعاصفة تقترب!!!

 كلام موجه الى العقلاء من ابناء شعبي ( 1 )

 حقيقة الادعياء .. متمرجعون وسفراء

 قراءة في خطبة المرجعية : هل اقترب أَجلُ الحكومةِ الحالية؟!

 خطر البترية على بعض اتباع المرجعية قراءة في تاثيرات الادعياء على اتباع العلماء

 إلى دعاة المرجعية العربية العراقية ..مع كل الاحترام

 مهزلة بيان الصرخي حول سوريا

 قراءة في خطبة الجمعة ( 4 / رمضان/ 1437هـ الموافق 10/6/2016 )

 المؤسسة الدينية بين الواقع والافتراء : سلسلة مقالات للشيخ محمد مهدي الاصفي ردا على حسن الكشميري وكتابيه (جولة في دهاليز مظلمة) و(محنة الهروب من الواقع)

 الى الحميداوي ( لانتوقع منكم غير الفتنة )

 السيستاني .. رسالة مهدوية عاجلة

 من عطاء المرجعية العليا

 قراءة في فتوى الدفاع المقدس وتحصين فكر الأمة

 فتوى السيد السيستاني بالجهاد الكفائي وصداها في الصحافة العالمية

 ما هو رأي أستاذ فقهاء النجف وقم المشرّفتَين السيد الخوئي بمن غصب الخلافة ؟

 مواقف شديدة الحساسية/٢ "بانوراما" الحشد..

أحدث مقالات الكتّاب :


مقالات متنوعة :





 لنشر مقالاتكم يمكنكم مراسلتنا على info@kitabat.info

تم تأسيس الموقع بتاريخ 1/4/2010 © محمد البغدادي 

 لا تتحمل الإدارة مسؤولية ما ينشر في الموقع من الناحيتين القانونية والأخلاقية.

  Designed , Hosted & Programmed By : King 4 Host . Net