صفحة الكاتب : صالح الطائي

إليها فقط
صالح الطائي
المقدمة التي كتبتها للمجموعة الشعرية المعنونة "إليها فقط" للشاعر العراقي الدكتور محمد تقي جون، والتي صدرت مؤخرا عن دار المرتضى البيروتية
 
كان الشعر منذ أن عُرفَ؛ إما بابا للتنفيس عن الكبت، أو كوة للبوح عما يختلج في الصدور، أو دكة للارتزاق والكسب، أو صرخة للتشجيع إذا حلت المنازلة، أو آهة للتشييع إذا افترقت الأجساد، أو نفثة للدعاء إذا غُلّقت الأبواب، أو وسيلة للرجاء إذا ضاقت السبل، فحول الكلام من ممارسة يومية من أجل التفاهم إلى أسلوب لمناغاة الروح ومناجاة النفس، وفرشاةً ترسم خفايا الضمير بريشةٍ مدادها الدمع والإحساس، لترفعها أمام أعين الناس وقلوبهم ومشاعرهم، فتدهشهم، أو تكسب ودهم، أو تأمن شرهم، أو تفيد منهم، أو تضمهم إلى جانبها ليشاطروها بعض همومها.
وليس كل ما قيل على وزن وقافية كان شعرا، فبعضه سما إلى علياء الفن نجوما تضيء في الظلمات، وتبعث الدفء في برودة الحياة، نبضا من العرفان يواشج بين الروح والروح، وبعضه الآخر سَفُلَ إلى مواطن الهمهمة، فتحول لسانا أعجميا لا تدركه الحواس، ولا تفقهه الأجناس. ولكل من هاتين المنزلتين آلياتها وصنعتها التي تتميز بها ومواطن السحر التي تعتريها.
القصيدة المعبرة لا تبنى عادة بجمل غافلت الوعي ونفرت لوحدها تتحدى المنطق، وإنما هو تفاعل بين الروح والإحساس والعقل والألم، تجتمع كلها سوية لتلد قطعة فنية مكتنزة العبارات، ممشوقة القوام، مرهفة الإحساس، مليئة بالتفاصيل المحفزة، تنبعث منها سخونة القلب وآهة الوجع، تسمع من بين أبياتها هدهدة الروح للقلب الجريح وكأنها مناغاة أم لطفلها الرضيع، أو بوح عاشق أضناه الجوى وأمرضه الهوى. وكل تباين في هذه المقايسة خلق نوعا تفرد عن غيره جنسيا، فكانت القصيدة الأمةٌ، وكانت القصيدة السيدة.
القصيدة السيدة؛ هي التي تُحدث عصفا ذهنيا يَسْترِّقُ السامع، فيجبره لأن يصيخ إلى مفرداتها وكأنه في محراب تعبد يرتدي إحرام الحج إلى الكلمة.
ويبقى التحفيز عاملا مهما في صهر المشاعر مع بعضها إذ من المستحيل استرجاع نتف الجزئيات البالغة الدقة والضمور إلا من خلال محفز قوي يثيرها كما تثير الضربة القوية ذرات الغبار من على وجه سجادة يبدو للوهلة الأولى نظيفا لامعا نقيا لا تشوبه شائبة. فالقصيدة لا تعبر عن واقع حال الشاعر بقدر ما تعبر عن واقع حال الإنسان، فالشاعر والمتلقي لو لم يكونا مشتركان بهم واحد لما هفت روحاهما إلى مصدر واحد سواء كان غزلا أم نعيا أم مدحا أم رثاءً.
التحفيز في القصيدة عمل نحتي من نوع آخر، يرقى بالذائقة لتتفاعل مع صور الجمال التي ترسمها الكلمات، فترسم لنفسها صورا تواءم رؤاها وكأنها الأزميل الذي يستخدمه النحات ليحول جلمود الصخر الأصم إلى عمل فني ساحر، بمعنى أنها تعطي معنى جديدا للذكرى مهما صغرت جزئياتها، وهذا التفاعل الحسي يخلق هوية مشتركة بين الشاعر والقارئ، فكلاهما يشعر أنه المستهدف بمعنى القول، فالبشر تجمعهم مشاعر مشتركة مهما حددتها الخصوصيات.
وكلما تحدثت القصيدة عن تاريخ أقدم تجد ميلا وهوى ممن عاش تلك التجربة، فمحا النسيان بعض ملامحها في مخياله، وحولها إلى صورة غير مكتملة الوضوح، تصلح للتشبيه أكثر منها للتشخيص، وبالتالي يشعر وكأنها المعنية بالقول دون سواها حتى ولو كان الشاعر يتحدث عن امرأة بعينها، بل حتى لو أورد اسمها في النص، فضبابية التذكر تعطي الصور شكلا قريبا من بعضه، وربما لهذا السبب سحر الشعر الناس فعشقوه.!
وسنجد في هذه المجموعة رؤى مما تحدثنا عنه، اترك الحديث عنها إلى نباهة القارئ الذي سيدهش من كم المشاعر الذي تنضوي عليه قصائد تنبض بالحياة رغم توشحها بتواريخ قديمة.!

قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat


صالح الطائي
 (للدخول لصفحة الكاتب إضغط هنا)

    طباعة   ||   أخبر صديقك عن الموضوع   ||   إضافة تعليق   ||   التاريخ : 2015/06/23



كتابة تعليق لموضوع : إليها فقط
الإسم * :
بريدك الالكتروني :
نص التعليق * :
 



حمل تطبيق (كتابات في الميزان) من Google Play



اعلان هام من قبل موقع كتابات في الميزان

البحث :





الكتّاب :

الملفات :

مقالات مهمة :



 إنسانية الإمام السيستاني

 بعد إحراجهم بكشف عصيانها وخيانتهم للشعب: المرجعية الدينية العليا تـُحرج الحكومة بمخالفة كلام المعصومين.. والعاصفة تقترب!!!

 كلام موجه الى العقلاء من ابناء شعبي ( 1 )

 حقيقة الادعياء .. متمرجعون وسفراء

 قراءة في خطبة المرجعية : هل اقترب أَجلُ الحكومةِ الحالية؟!

 خطر البترية على بعض اتباع المرجعية قراءة في تاثيرات الادعياء على اتباع العلماء

 إلى دعاة المرجعية العربية العراقية ..مع كل الاحترام

 مهزلة بيان الصرخي حول سوريا

 قراءة في خطبة الجمعة ( 4 / رمضان/ 1437هـ الموافق 10/6/2016 )

 المؤسسة الدينية بين الواقع والافتراء : سلسلة مقالات للشيخ محمد مهدي الاصفي ردا على حسن الكشميري وكتابيه (جولة في دهاليز مظلمة) و(محنة الهروب من الواقع)

 الى الحميداوي ( لانتوقع منكم غير الفتنة )

 السيستاني .. رسالة مهدوية عاجلة

 من عطاء المرجعية العليا

 قراءة في فتوى الدفاع المقدس وتحصين فكر الأمة

 فتوى السيد السيستاني بالجهاد الكفائي وصداها في الصحافة العالمية

 ما هو رأي أستاذ فقهاء النجف وقم المشرّفتَين السيد الخوئي بمن غصب الخلافة ؟

 مواقف شديدة الحساسية/٢ "بانوراما" الحشد..

أحدث مقالات الكتّاب :


مقالات متنوعة :





 لنشر مقالاتكم يمكنكم مراسلتنا على info@kitabat.info

تم تأسيس الموقع بتاريخ 1/4/2010 © محمد البغدادي 

 لا تتحمل الإدارة مسؤولية ما ينشر في الموقع من الناحيتين القانونية والأخلاقية.

  Designed , Hosted & Programmed By : King 4 Host . Net