صفحة الكاتب : د . حسين ابو سعود

لم يبق له في كربلاء شيء
د . حسين ابو سعود

المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الموقع، وإنما تعبر عن رأي الكاتب.

إهداء : إلى عباس الهندي الذي غادر كربلاء إلى الأبد.
لم يعد أحد يرى عباس الهندي الذي أعتاد على حضور صلاة الجماعة يوميا وكان يحرص أن يكون  في الصف الأول دائما, سألوا عنه فقيل : انه أجبر على مغادرة البلاد بتهمة الإقامة الغير المشروعة منذ ثمانين عاما , لقد كان وديعا مسالما مثل باقي الغرباء .
                  (1)
نصف قرن من الاضطراب , من مدينة إلى مدينة من لون إلى لون ، كتب عباس الهندي عن الفراشات والنار والأنهار والأشجار وأنواع الثمار, وإناث العصافير والجوع, كتب عن الدروب والغروب والسماء والماء وعن البيوت والشهوات والنهايات والأسرار التي تتلظى خلف الأبواب وأحاديث الخفاء , وعن الذعر والخوف من المعلوم والمجهول , وكتب عن المقتول المسحول بلا خطيئة , كتب عن كل شيء ولم يبق سوى أن يكتب الفصل الأخير ويرتاح , ويضع لنفسه بيديه نهاية من حلوى قبل أن يقذفه الجلاوزة خارج الحدود لعبارة كتبت بالخط الأحمر : ( حامله مشكوك في تشيعه ومخالف لقانون الإقامة الجديد ).
             (2)
ماذا بعد ؟ وقد أنكرتك المدينة , وأنكرتك الشوارع المدججة بالمسلحين , لقد رأتك القباب الذهبية وأنت تستجدي الأزقة نظرة حب قديمة , وتستجدي مديرية الجنسية معاملة فيها شيء من الحنان.
ماذا بعد ؟ في مدينة يلفّها الغبار عنوة فتنعدم الرؤية حتى لا تبصر الأم أولادها , ماذا بعد ولم يبق من الماضي سطر واحد.
حتى رائحة الماضين تقاسمتها قواطع الاسمنت .
عندما أتذكر أبعد من الطفولة , وأرى الباعة المتجولين عند باب العباس يبيعون المباهج على الزوار , أذكر أمي التي ماتت دون أن ترى الذل على جبيني في هذا العهد الجديد , حسنا فعلت إن ماتت في المنفى , فتزاحم القبور في وادي السلام يجلب الأسى.
لم يبق في ليل كربلاء , سوى البعوض , والخوف من عودة التتار.
أيها الواقف بانتظار القافلة, أجمع أشلاءك , أجمع أشياءك جيدا وارحل صوب مدن تنام مبكرا بلا منائر, فالنورس في بحيرة (الفلنتاين) فتحت نوافذها جيدا بانتظار الفتات المعهود ولباب البرتقال , ومقعدك هناك بين الجليد اشتاق لمواويل عراقية.
ارحل وخذ معك العراق, أغسله على ضفة البحيرة بوجع مشوب بالأشواق.
أيها الواقف بأنتظار القافلة بلا أوراق , أرحل قبل هجمة التتار وقبل الاختناق وسط حصار الغبار فللدنيا سماء واحدة , وقمر واحد والنجوم تتشابه جدا.
ماذا افعل هنا ؟ غريبا في كومة من الشجن ,
 في رقعة تسمى مجازا وطن ،
والى متى ابحث عن أمي بين العباءات المهرولة بين الحرمين  ، بين العباس والحسين , فلا أمرآة تشبه أمي , ولا شيء تبقى لي في هذه المدينة سوى حقيبة أدس فيها أسمي ورسمي وجسمي ،وروحا تتطلع إلى صمت المنافي بأنين موجع .
ماذا أفعل في مدينة مضايفها لا تجير الدخيل ؟ ماذا أفعل لوحدي مع الدمع السخين , وغربتي الجديدة؟.
ماذا أفعل ولا أسم لي في سجلات النفوس , والأقدام العمياء تدوس وجعي المغروس في حلمي , وقبل أن يعثر على مكمن الغريب , ويُجر بجراحاته الى قصر الإمارة ويُقتل ثانية في لفح الظهيرة , علي أن أرحل .
سأرحل غدا قبل طلوع الشمس ,
 سأرحل غدا والناس نيام.
             (3)

غاية الأمر, طائر جاء يبحث عن أمان, يبحث عن مكان, لم يجد له عشا وسط الأعاصير, فعاد مره أخرى إلى المجاهل فلا أحد شعر بالمجيء
ولا أحد شعر بالرواح , وهكذا جراح الغرباء
مدينة تسكن وسط الغبار، ليس لي فيها دار ولا جار, ولا زوج من الحمام الأبيض، لم يبق لي فيها شيء.
غاية الأمر أن قلقا جديدا يضاف على قلقي
 وليال أخرى تضاف إلى أرقي .
كربلاء في نيسان 2011.
تصحيح:وصلت الأخبار المؤكدة بان عباس  لم يغادر كربلاء وقد توفي   في اليوم الأخير من شهر مايو 2011 عن عمر يناهز الثمانين ،حيث فاضت روحه مع الفجر إلى بارئها  في مكان غير بعيد عن حرم الإمام الحسين، وهكذا شاء الله أن يوارى جسده الثرى في مسقط رأسه ومدينته التي أحبها وانتظر 35 عاما كي يعود إليها.
رحمه الله واسكنه فسيح الجنات
aabbcde@msn.com


قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat


د . حسين ابو سعود
 (للدخول لصفحة الكاتب إضغط هنا)

    طباعة   ||   أخبر صديقك عن الموضوع   ||   إضافة تعليق   ||   التاريخ : 2011/06/04



كتابة تعليق لموضوع : لم يبق له في كربلاء شيء
الإسم * :
بريدك الالكتروني :
نص التعليق * :
 



حمل تطبيق (كتابات في الميزان) من Google Play



اعلان هام من قبل موقع كتابات في الميزان

البحث :





الكتّاب :

الملفات :

مقالات مهمة :



 إنسانية الإمام السيستاني

 بعد إحراجهم بكشف عصيانها وخيانتهم للشعب: المرجعية الدينية العليا تـُحرج الحكومة بمخالفة كلام المعصومين.. والعاصفة تقترب!!!

 كلام موجه الى العقلاء من ابناء شعبي ( 1 )

 حقيقة الادعياء .. متمرجعون وسفراء

 قراءة في خطبة المرجعية : هل اقترب أَجلُ الحكومةِ الحالية؟!

 خطر البترية على بعض اتباع المرجعية قراءة في تاثيرات الادعياء على اتباع العلماء

 إلى دعاة المرجعية العربية العراقية ..مع كل الاحترام

 مهزلة بيان الصرخي حول سوريا

 قراءة في خطبة الجمعة ( 4 / رمضان/ 1437هـ الموافق 10/6/2016 )

 المؤسسة الدينية بين الواقع والافتراء : سلسلة مقالات للشيخ محمد مهدي الاصفي ردا على حسن الكشميري وكتابيه (جولة في دهاليز مظلمة) و(محنة الهروب من الواقع)

 الى الحميداوي ( لانتوقع منكم غير الفتنة )

 السيستاني .. رسالة مهدوية عاجلة

 من عطاء المرجعية العليا

 قراءة في فتوى الدفاع المقدس وتحصين فكر الأمة

 فتوى السيد السيستاني بالجهاد الكفائي وصداها في الصحافة العالمية

 ما هو رأي أستاذ فقهاء النجف وقم المشرّفتَين السيد الخوئي بمن غصب الخلافة ؟

 مواقف شديدة الحساسية/٢ "بانوراما" الحشد..

أحدث مقالات الكتّاب :


مقالات متنوعة :





 لنشر مقالاتكم يمكنكم مراسلتنا على info@kitabat.info

تم تأسيس الموقع بتاريخ 1/4/2010 © محمد البغدادي 

 لا تتحمل الإدارة مسؤولية ما ينشر في الموقع من الناحيتين القانونية والأخلاقية.

  Designed , Hosted & Programmed By : King 4 Host . Net