صفحة الكاتب : د . حامد العطية

من عام الرمادة إلى غرق الألاف في البحر المتوسط والفشل مستمر
د . حامد العطية

المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الموقع، وإنما تعبر عن رأي الكاتب.

    في العامين السابع عشر والثامن عشر للهجرة حدثت مجاعة في بلاد الحجاز، كان الخليفة يومها عمر بن الخطاب، ودامت تسعة أشهر، انقطع المطر فيها وجفت الأبار والينابيع، وشح الطعام وهلكت المواشي، حتى اضطر بعض المسلمين لأكل الحشرات، وعرف بعام الرمادة لأن لون الأرض أصبح مسوداً كالرماد نتيجة انحباس المطر، حتى لون جلود البشر بما فيهم خليفة المسلمين أسود، وروي بأنه كان يردد: اللهم لا تجعل هلاك أمة محمد على يدي، وقال أيضاً: يا ليت أم عمر لم تلد عمر، يا ليتني ما عرفت الحياة، آه يا عمر كم قتلت من أطفال المسلمين.

   اضطر عمر بن الخطاب للاستغاثة بولاته في العراق وفارس والشام ومصر فأرسلوا له قوافل إغاثة، واستسقى بعم النبي العباس بن عبد المطلب فنزل المطر وانتهت الأزمة.

  انحباس المطر ظاهرة طبيعية ولا سلطة لحاكم عليها، ولكن هل كان بالإمكان تلافي حدوث مجاعة شديدة بسبب الجفاف في عام الرمادة؟ هنالك عاملان جوهريان يستوجبان عدم حدوث تلك الأزمة الخطيرة، أولهما تاريخي والثاني قرآني، العامل التاريخي هو أن الخلافة الإسلامية في عام الرمادة كانت على الأغلب الأكثر ثراءً في العالم إن لم تكن الأغنى بالمطلق، إذ لم يمضي سوى عام واحد على استكمال الاستيلاء على العراق وفارس والشام وحسب ادعاء بعض رواة التاريخ مصر أيضاً، أمدت الخلافة بكميات هائلة من الغنائم وأموال طائلة من ريع الجزية والأراضي المفتوحة، وكان لأهل الحجاز نصيبهم الوفير منها، ويذكر حبيب بن صهبان، قال: دخلنا المدائن فأتينا على قباب تركية مملوءة سلالاً مختمة بالرصاص، فما حسبناها إلا طعاماً، فإذا هي آنية الذهب والفضة، وكان عدد الدراهم الموجودة في قصر كسرى ثلاثة آلاف مليون درهم، أي ثلاثة بلايين درهم جمعها كسرى ومن سبقه، وتعذر عليه وعلى جيشه أن يحملوا كل هذه الأموال.

فأين ذهبت هذه الأموال الحمراء ولماذا لم تستخدم لشراء الأغذية لسكان البلاد الجائعين ومواشيهم؟

   أما العامل الثاني الذي كان ينبغي أن يمنع حدوث هذه المجاعة فهو العلم الرباني المبين في القرآن الكريم، وبالتحديد سورة يوسف ونصيحته إلى الحاكم الفرعوني بخزن محاصيل سنوات الوفر لاستعمالها في سنوات الجدب، أو ما يعرف اليوم بالخزين الغذائي للطوارئ، وهي تدبير رباني ألهمه للنبي يوسف عليه السلام ارتقى به من بؤس المسترقين وغياهب السجن إلى ملك مصر، فلماذا أهمل المسلمون الأوائل هذه العظة العظيمة والواضحة وضوح الشمس وبلادهم أكثر عرضة للجفاف ونتائجه الكارثية من بلاد نهر النيل؟ والأعجب من ذلك أن يدرك حاكم مصر الكافر هذه الحكمة وتعمى على المسلمين الأوائل.

   كما أن دوام المجاعة تسعة أشهر غير مبرر، فلو طلبت المساعدة من عمال الخلافة في وقت مبكر لأمكن تقليص مدة الأزمة إلى النصف على الأكثر لأن رحلة القافلة بين أي من الأقطار المفتوحة والحجاز لا تستغرق أكثر من شهرين.

  يبين القرآن الكريم في الآية التالية نتائج ظهور الفساد:

(ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) [الروم:41].

وفي التفاسير المعتمدة لدى أهل السنة يؤدي ظهور المعاصي في البر أو البحر إلى انحباس الغيث عنهما.

  ما بين عام الرمادة واليوم نشأت حكومات إسلامية في المنطقة، يسجل لها نجاحات وإخفاقات، واخفاقاتها في تقديري أكثر وأشد وأمرّ بكثير من نجاحاتها، إذ لم تنجح في تأسيس نظم سياسية واقتصادية مستقرة، وتعسف الحكام في معاملة الرعية، وظهرت فجوات طبقية واسعة بين الأثرياء والفقراء، وتقاتل المسلمون على الخلافة والموارد وبسبب الخلافات العرقية والمذهبية والعصبيات القبلية، وأضعف الاعتماد على العبيد قيمة العمل، وهضمت حقوق المرأة لتمسك العرب بأعرافهم وعاداتهم القبلية المتخلفة، وتشوهت العلاقات الزوجية بسبب الجواري، وكانت فترة ازدهار الفكر الفلسفي والدراسات العلمية (غير الدينية) قصيرة وسرعان ما وضع المتطرفون نهاية لها، وبسبب هذه الإخفاقات التاريخية فقد اضطر المسلمون عد حصولهم على الاستقلال من المستعمرين الأوروبيين في القرن العشرين إلى استيراد نظمهم السياسية والاقتصادية والقانونية من الدول الاستعمارية غير المسلمة، وهم اليوم يستوردون كل شيء تقريباً من هذه الدول وغيرها وقد فاتهم قطار التنمية الأسيوية لكنهم سقطوا في هوة الحروب الطائفية والإرهابية والحدودية، ولولا نعمة النفط لكان غالبيتهم أفقر من الصومال.

  في الأشهر المنصرمة غرق ألاف المهاجرين غير الشرعيين في البحر الأبيض المتوسط، وأكثرهم مسلمون هاربون من الحروب والإرهاب والبطالة والاستبداد والتمييز الطائفي والعرقي، ولم تثني حوادث الغرق الجماعية ألاف أخرى من محاولة عبور البحر، وهم مدركون بأن ما ينتظرهم ليس جنة بالتأكيد، وقلة منهم سيجد فرصة عمل تحفظ كرامته وتغنيه عن مد يده ليحصل على معونة حكومية أو وجبة طعام ساخنة من محسنين غير مسلمين، وقد ضاق الأوربيون بهم ذرعاً وازداد عدد العنصريين المطالبين بترحيلهم إلى بلادهم، وكثرت حوادث الاعتداء عليهم، لكنهم يفضلون المخاطرة بالغرق وحياة الغربة بين كارهين لهم على حياة الجحيم في بلاد المسلمين. 

   عام الرمادة دليل واضح على قصور استيعاب وفهم المسلمين للرسالة الربانية، ومنذ ذلك الزمن وهم يعيشون حياة مليئة بالعنف والخوف والقلق والتصارع السلطوي والتباغض العنصري والتفرق المذهبي والتحاسد الطبقي والصراع القبلي والتخلف العلمي والتقني، وعليهم العودة إلى القرآن الكريم لا تركه مهجوراً لكي يتعلموا منه أغراض الخلق العظمى وهي الإحياء والإصلاح والوسيلة الكبرى لبلوغهما وهي التعلم، والله أعلم.


قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat


د . حامد العطية
 (للدخول لصفحة الكاتب إضغط هنا)

    طباعة   ||   أخبر صديقك عن الموضوع   ||   إضافة تعليق   ||   التاريخ : 2015/05/05



كتابة تعليق لموضوع : من عام الرمادة إلى غرق الألاف في البحر المتوسط والفشل مستمر
الإسم * :
بريدك الالكتروني :
نص التعليق * :
 



حمل تطبيق (كتابات في الميزان) من Google Play



اعلان هام من قبل موقع كتابات في الميزان

البحث :





الكتّاب :

الملفات :

مقالات مهمة :



 إنسانية الإمام السيستاني

 بعد إحراجهم بكشف عصيانها وخيانتهم للشعب: المرجعية الدينية العليا تـُحرج الحكومة بمخالفة كلام المعصومين.. والعاصفة تقترب!!!

 كلام موجه الى العقلاء من ابناء شعبي ( 1 )

 حقيقة الادعياء .. متمرجعون وسفراء

 قراءة في خطبة المرجعية : هل اقترب أَجلُ الحكومةِ الحالية؟!

 خطر البترية على بعض اتباع المرجعية قراءة في تاثيرات الادعياء على اتباع العلماء

 إلى دعاة المرجعية العربية العراقية ..مع كل الاحترام

 مهزلة بيان الصرخي حول سوريا

 قراءة في خطبة الجمعة ( 4 / رمضان/ 1437هـ الموافق 10/6/2016 )

 المؤسسة الدينية بين الواقع والافتراء : سلسلة مقالات للشيخ محمد مهدي الاصفي ردا على حسن الكشميري وكتابيه (جولة في دهاليز مظلمة) و(محنة الهروب من الواقع)

 الى الحميداوي ( لانتوقع منكم غير الفتنة )

 السيستاني .. رسالة مهدوية عاجلة

 من عطاء المرجعية العليا

 قراءة في فتوى الدفاع المقدس وتحصين فكر الأمة

 فتوى السيد السيستاني بالجهاد الكفائي وصداها في الصحافة العالمية

 ما هو رأي أستاذ فقهاء النجف وقم المشرّفتَين السيد الخوئي بمن غصب الخلافة ؟

 مواقف شديدة الحساسية/٢ "بانوراما" الحشد..

أحدث مقالات الكتّاب :


مقالات متنوعة :





 لنشر مقالاتكم يمكنكم مراسلتنا على info@kitabat.info

تم تأسيس الموقع بتاريخ 1/4/2010 © محمد البغدادي 

 لا تتحمل الإدارة مسؤولية ما ينشر في الموقع من الناحيتين القانونية والأخلاقية.

  Designed , Hosted & Programmed By : King 4 Host . Net