صفحة الكاتب : مصطفى الهادي

كيف نفهم الصداقة؟
مصطفى الهادي

المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الموقع، وإنما تعبر عن رأي الكاتب.

أضحى التنائي بديلا من تدانينا ـــــــ وناب عن طيب لقيانا تجافينا

أن الزمان الذي ما زال يضحكنا ــــــــ أنسا بقربهم قد عاد يبكينا

المعالم تتغير عندما يطول غيابك عن الربوع التي عشت فيها ودرجت عليها وعندما تزورها بعد طول غياب تبقى عيناك تدوران في انحاء المدينة التي تعرفها ثم تتجه إلى ابرز المعالم فيها لكي تجعلها نقطة الانطلاق للبحث عما تبقى من الآثار القديمة للبيوت والشوارع التي الفتها في صغرك تبحث عن مكان البيت الذي ولدت فيه والشارع الذي قضيت احلى أيام العمر فيه مع شلة من الاصدقاء لا زالت صورهم ترتسم في المخيلة الجميلة ثم تبحث عن مكان دراستك الأولى حيث جيل الاصدقاء الأول ثم تزور ضفاف النهر التي كانت ضحكاتنا مع الاصدقاء يتردد صداها كلما اقتربت من الشاطئ الجميل وهكذا تتمدد احلامك الجميلة للجسور والطرقات والاسواق وكل ذرة تراب داعبت اقدامك واستمعت إلى وقع خطو انغامك . ولكن يبقى الاهم هو البحث عن تلك الوجود التي الفتها. كل تلك الاماكن وما تبقى من الآثار فهي إلى اندثار والاصدقاء هم الاثر الوحيد الباقي على الأرض او في واقع الذاكرة .

الله وحده يعلم مدى لهفة الغائب إلى اصدقاء الطفولة ومرابعها اصدقاء لم نكن نتصور يوما ان نفارقهم او نبتعد عنهم لقد كنّا نملأ كل الامكنة فلا تكاد تجد اثرا يخلو منّا .

إنما الانسان موجود بأهله ثم اصدقاءه ثم مدينته التي ضمتهم بين ذراعيها. ولكن تنكر الزمان وغدر ابناء الاوطان ولربما السعي وراء الرزق اوالدراسة كلها اسباب تنتزعك قهرا من واقعك الجميل لتجعلك في زاوية الذكريات تجتر منها ما يُبقيك حيا على قول الشاعر 

ثلاث يعز الصبر عند حلولها ـــ ويذهب عنها عقل كل لبيب

خروج اضطرار من بلاد تحبها ـــــ وفرقة خلانٍ وفقد حبيب.

فمهما عشت في دنيا جميلة ولكنها تخلو من الاصدقاء فأنت تعيش عيشة أهل القبور في وحشتهم مع انك في القبر تعيش وسط ناس يُحيطون بك لا يختلفون عنك في شيء إلا ان المسافة بينكم وبينهم بعيدة جدا ما اكثر الجيران وأبعد الاوطان كما قال الشاعر : 

يا جيرةَ الحي ما لي لا أنالُ بكم ـــ وصلا وانتمُ حولي كُثرُ

وهكذا كانت أفكاري تسبق خطواتي كلما زرت مدينتي فأبقى فيها ثلاث اشهر وفي كل مرة اقرر البقاء فيها ولكن تنكسر رغبتي بما أراه من الاصدقاء وكأننا لم نكن بالامس روح واحد في جسدين كنت ارسم لوحات جدا جميلة لنوع اللقاء الأول حيث كنت اتصورهم يستقبلوني بالاحضان ولربما بالورود وكنت أرى في أمنياتي عيونهم لا تفارق وجهي وعيوني لا تفارق وجوههم تُقيم في عناق ابدي يستدر الذكريات ولكني وجدت الطريق موحشا مقفرا مجدبا إلا من ابتسامات لم تستمر سوى دقائق تضطر بعدها للهروب لتنجو باحلامك هذا واقعٌ مرير مرٌ كأنه العلقم تسلل إلى إلى نفسي ليقطع عليها حلاوة الذكريات. 

على ضوء ذلك لم يبق لنا في بلدنا من اصدقاء تهفوا لهم قلوبنا ، إلا اصدقاء نقصدهم لنجلس في فناء بيوتهم فلا يطردونا ولا يملوا منا . أنهم آل بيت رسول الله واضرحتهم الطاهرة الطيبة حيث الجالس هناك لا يشعر بالوحشة ولا بالغربة هذا الذي تبقى لنا في العراق قبورٌ في كربلاء وكوفان وبغداد وسامراء.

كان لي صديق في كربلاء قضينا سنوات طويلة وكأننا اخوان ثم حصل ما حصل فافترقنا ، وعدت إليه بعد ثلاثين عاما من الفرقة وبحثت طويلا إلى أن عثرت عليه وهو في منصبٍ مرموق ووظيفة محترمة دخلت عليه وعانقني واراني صورتي التي لم تغادر مكتبه منذ ثلاثين سنة ولكني صُدمت فبعد طول غياب لم يدعوني إلا إلى استكان شاي شربناه على عجل ونحن وقوف، فقررت ان اصون المودة انا فكنت اذهب به في كل اسبوع مرتين إلى مطعم الملك وهو من ارقى المطاعم في كربلاء كل ذلك من اجل ان اجلس معه لأتحدث لأجتر الذكريات معه لأستعيد بعض الامل الذي بدأ يشيخ مع اطلالة الشيب في رأسي وهكذا بقيت ثلاث اشهر اتردد عليه لم يكرمني سوى بإستكان شاي وفي آخر يوم جئت له مودعا حاول سرقتي حيث طلب ان يرى خاتمي الفيروز وقلم الحبر الذي في جيبي ، ثم قال ضاحكا انهما سوف يُذكراني بك. فغضبت وانتزعتهما من يده وسط مكتبه وامام الموظفين وخرجت .

صديق آخر من الديوانية عشنا اكثر من خمسة وعشرين سنة اصدقاء كأننا روحٌ افترقت في جسدين جئته بعد طول غياب ومعي هدية تليق به فاحتظنني وعانقي وكان الوقت مساءا . فقال لي : تعال لكي نتعشى هناك بالقرب من (مسجد ال حاجم) في شارع المصورين حيث كان شخص يبيع (كبة سلك) فطلب عشاء واكلنا ثم طلب مرة أخرى فتعجبت هل هو جائع أو ان فرحة اللقاء فتحت شهيته. وعندما حان وقت التسديد انشغل او تشاغل فاضطررت إلى ان ادفع الحساب.

والله لا اريد شيئا من اصدقاء طفولتي سوى ساعة كل يوم مع صديق في مقهى نجلس لنتحدث هذا كل ما اريده ، ولا اكلفه شيئا لأني سأدفع كل شيء.

وتكررت هذه الحالات وبعضهم يشتكي لك جور الزمان وآخر يسرد لك قائمة من الامراض فشعرت أن ذلك الزمن الذي كنّا فيه قد ولى إلى غير رجعة زمنٌ لا أدري كيف بقينا نحافظ على تقاليده واصوله وعادته الجميلة التي زرعتها براءة تلك الايام الرائعة. سأبقى متمسكا بها ، حتى وان غادرني الجميع.


قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat


مصطفى الهادي
 (للدخول لصفحة الكاتب إضغط هنا)

    طباعة   ||   أخبر صديقك عن الموضوع   ||   إضافة تعليق   ||   التاريخ : 2015/04/24



كتابة تعليق لموضوع : كيف نفهم الصداقة؟
الإسم * :
بريدك الالكتروني :
نص التعليق * :
 



حمل تطبيق (كتابات في الميزان) من Google Play



اعلان هام من قبل موقع كتابات في الميزان

البحث :





الكتّاب :

الملفات :

مقالات مهمة :



 إنسانية الإمام السيستاني

 بعد إحراجهم بكشف عصيانها وخيانتهم للشعب: المرجعية الدينية العليا تـُحرج الحكومة بمخالفة كلام المعصومين.. والعاصفة تقترب!!!

 كلام موجه الى العقلاء من ابناء شعبي ( 1 )

 حقيقة الادعياء .. متمرجعون وسفراء

 قراءة في خطبة المرجعية : هل اقترب أَجلُ الحكومةِ الحالية؟!

 خطر البترية على بعض اتباع المرجعية قراءة في تاثيرات الادعياء على اتباع العلماء

 إلى دعاة المرجعية العربية العراقية ..مع كل الاحترام

 مهزلة بيان الصرخي حول سوريا

 قراءة في خطبة الجمعة ( 4 / رمضان/ 1437هـ الموافق 10/6/2016 )

 المؤسسة الدينية بين الواقع والافتراء : سلسلة مقالات للشيخ محمد مهدي الاصفي ردا على حسن الكشميري وكتابيه (جولة في دهاليز مظلمة) و(محنة الهروب من الواقع)

 الى الحميداوي ( لانتوقع منكم غير الفتنة )

 السيستاني .. رسالة مهدوية عاجلة

 من عطاء المرجعية العليا

 قراءة في فتوى الدفاع المقدس وتحصين فكر الأمة

 فتوى السيد السيستاني بالجهاد الكفائي وصداها في الصحافة العالمية

 ما هو رأي أستاذ فقهاء النجف وقم المشرّفتَين السيد الخوئي بمن غصب الخلافة ؟

 مواقف شديدة الحساسية/٢ "بانوراما" الحشد..

أحدث مقالات الكتّاب :


مقالات متنوعة :





 لنشر مقالاتكم يمكنكم مراسلتنا على info@kitabat.info

تم تأسيس الموقع بتاريخ 1/4/2010 © محمد البغدادي 

 لا تتحمل الإدارة مسؤولية ما ينشر في الموقع من الناحيتين القانونية والأخلاقية.

  Designed , Hosted & Programmed By : King 4 Host . Net