صفحة الكاتب : عادل علي عبيد

عبد الرزاق حسين : الخيال والتنوع والذاكرة
عادل علي عبيد

 لم تعد للكلمات
ريشة تعلو بها بين الشظايا
ما الذي يبقى من صورنا في الخراب
ما الذي يبقى من أصواتنا في الضجيج
ما الذي سيبقى من أوراقنا في الحرائق

***
السنوات التي أتعبتني
تحاورني
بوحشة
كل هذه المسافات
ماذا تبقى
أتسلى بصبري

اصدر الشاعر عبد الرزاق حسين اخيرا  ثلاثة كتب هي : نفق الاحلام (قصص) عام 2005 وعندما يتوقف الجريان (قصص قصيرة) والذي أصدرها في اوائل التسعينيات والطريق إلى فردوس الحلم ( خواطر في الشعر والتجربة الشعرية ) عام 2014 . وقد عرف عن الشاعر والكاتب والقاص والإعلامي عبد الرزاق حسين تنوعه في مجالات الابداع ومثابرته الدؤوبة في كشف غمامات الفكر والتحرش به ناهيك من عزلته التي لا يعرفها إلا بعض الأدباء المقربين الذين خبروا طريقة كتابته والتي دائما ما ترتهن بتجربته الشخصية الثرة وأتذكر انني حضرت لأستاذنا عبد الرزاق جلسة ادبية اقامها اتحاد الادباء
 والكتاب في ثمانينات القرن المنصرم فوجدته شاعرا وكاتبا متنوعا وإعلاميا حاذقا متأنيا يمتلك حسا مهنيا متأنيا يجيز له ان يتنوع ويتمحور في عالم الكتابة والادب لاسيما وثقافته وتراكمه الأدبي وخبرته المستفيضة وتجربته الواعية تشفع له لان يمتلك تلك الناصية الراهنة والتي لم نجدها اليوم في عالم الادب والثقافة مما يدل على مدى ما تتمتع به الروح الفكرية لهذا الكاتب الذي يعمل بصمت العرفاء وكياسة الأدباء  وحكمة الشعراء .
ويهمني في هذا المجال أن أعرج إلى  التنوع الذي يعتمده الكاتب وشاعرنا الفنان ... فانني اتوقف هنا لأعلن أن التنوع يكاد يكون مرفوضا (أحيانا) في المشهد الثقافي العراقي ومرد ذلك يعود إلى بعض التفسيرات والتبريرات التي لم ز الجمع بين صنفين او نوعين ابداعيين كان يكن القصة او الشعر فاما القصة او الشعر وهذا الرأي القلق نجده نجد لها مخرجا منطقيا فمنهم من يقول ان التنوع هو توزع يضعف أدوات الكاتب فلا يجو منحسرا في بقية المشاهد الثقافية الأخرى في الوطن العربي والعالم فلطالما نجد أن الأديب يعتمد اللوحة والتشكيل والمقالة والفلسفة مثلما وجدنا ذلك
 لدى جبران خليل جبران ويكتب قي الاقتصاد والإعلام والسياسة وليس ثمة تحديد او محددات على أنشطة وفعاليات الكاتب وفعلا ففي الواقع الثقافي العراقي العديد من هذه النماذج وكلنا يتذكر ان في احدى المواسم المربدية حضرنا معرضا فنيا لمبدعين من البصرة من امثال الراحل محمود عبد الوهاب والقاص الكبير محمد خضير والشاعر كاظم الحجاج وآخرين خرجوا من معطف وتقليدية الادب الى مضامير تتقارب بطبيعتها إلى أصناف أدبية أخرى قريبة من التوجه الأم او الأساس ونصل هنا إلى أن هذا التنوع والتشكل هو حصيلة الوعي الناجع والمتراكم الثقافي الكبير والمضموم
 الثقافي الذي تعززه أنماط القراءة والرصد والمشاهدة والتأمل وغيرها . ونستشهد هنا بقول ادونيس : (تعبر الأنساق الفكرية والأدبية من خلال الآثار التي تصدر عنهما عن طبيعة التفكير البشري والإنساني وتطرح من خلال هذه الآثار الكثير من الأسئلة الإنسانية التي تتعلق بمصير الإنسان وكينونته او القيم المنشودة التي يبغي أن تسود ولذلك تشترك الكثير من هذه الأنساق او الأجناس في طرائق التفكير وان اختلفت في المنهج ومن ذلك ما يطرح من خلال المنهج الفلسفي والأدبي فالفلسفة صحيح هي نشاط عقلي يبغي التحري عن أفضل طرائق التفكير وإيجاد قيم التنوير لدى
 الإنسان)  .
يقول عبد الرزاق حسين عن قصته ( قطرات من الحبر على ورقة بيضاء ) : هذه السطور كتبتها بداية لقصة وقبل ان القي بالقلم على الورقة شربت بقية من الماء القدح وحدقت من خلال النافذة في المعالم المشوهة من الدرب الريفي المقابل ببقايا واكوام الازبال .
نفثت انفاسا متتالية من سيكارتي ، تسللت سحابة بيضاء من الدخان من خلال النافذة . الصورة الخيالية التي بدأت بها القصة حاولت ان اجعلها اكثر وضوحا وثباتا ولكن كانت معالم من الصورتين تختلط متتالية في عدة نماذج مشوهة من الخيال والحقيقة .
تناولت القلم مرة اخرى بين اصابعي دون ان اكتب شيئا على الورقة واغمضت عيني لكي لا ارى حقيقة ما امامي ، اردت ان اضيف شيئا الى الصورة الخيالية لأستمر في كتابة القصة الا انني لم استطيع ...
(... دبت في الكوخ حركة تنبيء بوجود عائلة ، بدا اطفال يطلقون ضحكات وبعضا من بكاء وصوت امرأة تحاول ان تمنعهم من الخروج وراء الاب بينما تبعته هي ولم يلبث ثلاثة اطفال ان تسللوا من خلفها متفرقين باتجاه معاكس متوارين خلف الكوخ . بدأت انتبه لخوار يأتي من بعيد وتعاقب غير متوافق لأصوات ديكة .
الاب يحمل زنبيلا من الخوص الابيض ومنجلا كبيرا يعكس حده الهلالي بين لحظة واخرى ومضات من البريق الخاطف في ضوء الشمس الذي بدأ ينتشر ، ولم يلب ثان القى بالزنبيل والمنجل في عربة حديدية صغيرة ذات عجلة واحدة من الامام وجاس – خلال احد المماشين وقد اختلط صرير العجلة مع ما يصل من اصوات - بين خضرة البرسيم التي اخفت النصف الاسفل من جسمه المشدود باطراف دشداشته المرفوعة حول خصره ..
لحظات ووجدتني التقي بالفلاح في الممشى الضيق ، صرنا وجها لوجه هكذا فجأة ، ولمحت على وجه الفلاح الذي كان اقرب الى الكهولة امارات الدهشة وسمعته يقول مبادرا :
اهلا وسهلا
وجدت في هذا الترحيب معنى التساؤل ولكنه تساؤل مسالم ، قلت :
-    اليست هذه بستان عزيز ؟
اجاب معبرا عن اطمئنانه بابتسامة حقيقية :
-    نعم وصلت ، اتعرفني ؟
-    في الحقيقة لم التق بك الا هذه الساعة ولكن اسمك في ذاكرتي قبل ان نلتقي هنا ..
-    نعن .. نعم فهمت ..
قال ذلك مؤكدا بحركات من رأسه وواصل .. لا بد انك قبل ان تصل الى هنا التقيت بمن عرفك بي وارشدك الى البستان مع صعوبة الطريق .. ترع وقناطر وحدود غير واضحة بين الجار والجار هكذا هو الريف كما تعلم ..
لمحت في وجه الفلاح فرحا غريبا كأنه على موعد مع خبر سار ,
قال في الحقيقة انني اطلت معك الكلام هكذا وقوفا .. انت ضيفي اليوم
واجبت : - يجب ان تصدق انك وكل ما حولك في الحقيقة مجرد قطرات من الحبر على ورقة بيضاء ، انا الذي منحتك هذه البستان وجعلت لك زوجة واطفالا وكوخا ، بل انا الذي سميتك بهذا الاسم .. عزيز ..
وملأت وجه الفلاح ابتسامة عريضة وهو يجيب مازجا كلامه بقهقهة خفيفة :
_ الحقيقة انني لا اؤمن بالخرافات فانا رجل متعلم ..
_ ولكنني لم اجعلك متعلما .. فانت مجرد فلاح امي في هذه الارض ولحد هذه اللحظات لا ادري كيف سأجعل من وجودك قصة . انت لست اكثر من مشروع كتابة على ورقة امامي .
قال : كأنك تستغرق في حلم .. وقد مررت بمثل هذه التجربة اثناء الكتابة ..
_ ماذا تعني ؟
_ اعني ..
ابتسم ، حنى رأسه قليلا بمعنى التواضع ثم استأنف ..
.. تستطيع ان تقول انني مدمن قراءة ، وكنت اكتب كثيرا ، استطيع ان اعتبر نفسي كاتب قصة ، بدأت منذ كنت طالبا في معهد المعلمين ، انا الآن معلم متقاعد متفرغ لبستاني هذا ..
ضحكت ضحكة وقورة ومددت يدي اليه اشد على يده وعقبت كما لو انني صدقت ما قال ..
-    تكتب القصة ؟
.. كيف لم اتعرف عليك من قبل ؟ انشرت شيئا من قصصك ؟
-    كثيرا .. الم تقرأ مجموعتي القصصية (وجه الغائب) الم تقرأ لي ؟
ورحت انبش في ذاكرتي لعلي اجد (عزيزا) القصصي ولكن دون جدوى .
كانت حالة من الشك ساورتني فانا اتعرض الى شيء من المحو في ذاكرتي كذلك فان الخيال والواقع يختلطان احيانا ..
وسمعتني اقول بصوت عال .. مستحيل ..
فتحت عيني مع انصفاق باب النافذة الزجاجي ..
كانت الظلمة في الخارج تسدل ستارة سوداء تحجب كل شيء ، وفي المنفضة امامي لم يبق من كومة الرماد البارد سوى ذرات ملتصقة وثلاث اعقاب اما كوب الشاي الذي برد فلم يزل ممتلئا على الطاولة الصغيرة وما زالت بضعة اوراق بيضاء معدة امامي لمواصلة الكتابة .. في وقت آخر ..

في كتابه (الطريق الى فردوس الحلم ) وهو خواطر في الشعر والتجربة الشعرية  افصح الكاتب عبد الرزاق حسين عن العلاقة الكبرى بين خيال الكاتب وكتابته لذلك اعتمد مقولة لاحد سكان استراليا الاصليين كانت مستهلا للكتاب تقول : ( إذا قضينا على الخيال .. نكون قد قضينا على انفسنا ) . لذا يعزز الكاتب نظرته الى الخيال باحالة لاحد ممن هالهم العطاء المادي  الباهر للعلم – على حد قوله – والذي يقول : ان لا اهمية للشعر في الحياة الانسانية وان الشعر سينتهي ، ومع هذا استمر الشعراء في كل لغات العالم المادي يكتبون معبرين عن عالمهم ، عالم الرؤى والخيال حتى وسط
 هذا المد الهائل والمدهش من الانجاز العلمي اذا ما عرفنا ان الخيال يحظى بأهمية كبيرة في مجالات الدراسات الادبية فهو يعد بوابة للإيداع والابتكار وعدسة ترسم صورا حية لأفكار ومخترعات متفردة ,وتظهر توقعات مستقبلية مبنية على ملاحظة بعض ظواهر الحياة المختلفة وهذا ينطبق على الخيالين العلمي والادبي ناهيك مما اجتهد به المعنيون من تشخيص الخيال العلمي .
يقول رايان: كثيرا ما يأخذون العبقرية على أنها ثمرة من ثمار الخيال الصرف, مثل هذه الأعمال ينهض بها الكاتب التافه الذي استطاع أن يلم بالذوق الشائع بين الناس .
 ولكن الكاتب هنا يستكشف غربة الخيال ويجعله عصيا وغير مباشر ، فالمهم بالمتخيل أن يوصف الخيال ويستكشف غربته ويقف على ابعاده ويقتحم هلاميته لذا يقترن الخيال بالمتراكم المعرفي اكثر من كونة مستجلبا للحس وضيفا ثقيلا يقتحم وحدة الانسان وهو يستشهد بقول اوجزه مقدمو الفلسفة وهم يجمعون على ان كل انسان هو فيلسوف ما دام يمتلك القدرة على التأمل ، ولكن هل لنا ان نقول ان كل انسان شاعر مادام يمتلك القدرة على الخيال ؟ يحاول عبد الرزاق حسين في خواطره ان لا يجعل المعرفة مباشرة عادية من دون ان تمر بمخاض التجربة ومصهر الفكر وما يرادفها من مراحل
 التحليل والتأويل والمقارنة وكأني به يؤكد على ان المعلومة وان كانت مباشرة ولكنها لم تكن جاهزة وطيعة اذا لم تمر بالعالم العسير الذي يعتري الكاتب من خلال وجود عوامل كثيرة مثل الغربة والتغرب وهو يثقف وبطريقة يتفرد بها من ان الفن هو الذي يختارنا وحين نعي هذا الاختيار نستجيب له بقوة الامر الذي يجعلنا نتغلب على الكثير من المعوقات .
يعترف عبد الرزاق حسين بحياته المشروطة بالفضول (الفضول البناء) فلطالما راقب واختلس و(تسلل) وتلصلص ورصد ..الى غيرها من علامات الفضول التي تفضي الى بناء الشخصية المبدعة ، اما زاد عبد الرزاق حسين فضلا عن قراءاته الواسعة واستطلاعه الفكري الكبير فمعقود بتجربته التي استلها من ذاكرته الغضة . فهو يسجل كل حدث صغيرا كان ام كبيرا ، وهو يدون الحوادث بسمة شفاهية ووثائقية ، ويجعل من حوادثه زادا ومعينا لكتاباته . ولقد استثمر عبد الرزاق هذا الامر بطريقة واعية وعلمية تختلف عن بقية الاحالات في درج الذاكرة الانفعالية ضمن حياة الادباء والمبدعين .
( حين كنت في حوالي الثالثة من العمر اعتدت ان اتسلل بهدوء الى غرفة خالي اجلس ساكنا اسمع لما ينبعث من ذلك الجهاز ذي البوق الكبير من اصوات وموسيقى بينما يبقى نظري مشدودا الى القرص الاسود الدائر بمركزه الملون ، ولا انسحب من الغرفة الا بعد ان يجمع خالي ما حوله ويغلق الجهاز ليتحول الى صندوق ) .
اذن فروح الكاتب تنشد الى الموسيقى قبل حدث الخلوة ونحن ندرك ان الالحان التي تنبعث من ذلك الجهاز الصندوقي الاسود مابرحت ماثلة في ذاكرة الكاتب الامر الذي يجعلنا نؤكد ان الموسيقى سبقت اهتمام وعناية الطفل المبدع ، والأمر يعززه الكاتب بواحدة من ذاكرته . ( في عمر اكبر – احيانا- كنت اختلي في فسحة صغيرة في محل والدي بائع الكماليات لالهو .. لعبتان اختارهما لي ابي او خيرني بينهما ، لعبة (النقود المعدنية) جمعها في اكوام صغيرة حسب الفئة ، ولعبة (القلم والورقة ) . بما يلقي الي من اغلفة ملونة حيث اتخيل انني اكتب او ارسم وبدافع اجهله اخترت لعبة
 القلم والورقة .

الكمان المهجور
هل ينسى اليوم الذي تخرج فيه ؟ اليوم الذي حمل فيه الى البيت لأول مرة الكمان الجديد الثمين ، وهجر الى الابد ذلك الكمان المتواضع الذي به طيلة ايام الدراسة الاكاديمية ؟ انه ما زال حتى معلقا على الحائط في الغرفة مسربلا بغلالة من الغبار .
لم يعتد وهو يدخل او يخرج ان يرفع رأسه قليلا ليقع نظره على الكمان المهجور .
في ساعة متأخرة من الليل وكانت خواطر لحنية تلح عليه .. كان يغالب النعاس حين مد يده ليضع المفتاح في ثقب باب الغرفة ، وقبل ان يديره .. سمع عزفا على كمان يأتي من داخل الغرفة المغلقة ، سكن منصتا وبهدوء ادار المفتاح ، تسلل في الظلمة الى داخل الغرفة ، اضاء مصابيح الثريا الصغيرة ، رأى قوسا يعزف على الكمان المهجور .. انه قوس كمانه الجديد كما لو ان يدي عازف خفي تفعلان ذلك ..
ابتسم وهو يحس بمزيج قريب من الفرح والحزن ، سيطر عليه شعور جارح بالندم ، وقف متحجرا وشيئا فشيئا غمره الظلام ..
استيقظ جالسا في الفراش ، احس بحرارة تسري في جسده رغم جو الشتاء البارد . ادرك انه لم يطفيء ضوء الغرفة ..
اسند رأسه الى رأس السرير تاركا جزءا من الغطاء ملقى على رجليه الممددتين .
فرك عينيه ، انصت الى ذاكرته ، بدأ يستكمل اللحن الذي سمعه من حيث انتهى به الحلم .. كأنه يتابع تسجيلا للحن ..
كان مقطعا من (القصيد السمفوني) – رقصة المقابر – حيث ..
( عند انتصاف الليل ينشغل اله الموت بضبط اوتار قيثارته ثم يعزف لحنا شيطانيا تخرج على اثره الاشباح لتشترك في رقصة عقريتية مفعمة بحلاوة النشوة وعند صياح ديك الفجر .. تتراجع الهياكل الى مقابرها في حين يطوي اله الموت قيثارته ويرتد هو الآخر الى عالمه المجهول .. )
(( صورة (كامي) على الحائط بلحيته الكثة ومقدمة رأسه الاصلع والكتابة الناعمة تحت الصورة .. الكتابة لا يراها واضحة ولكنه حفظها ..
( الموسيقار كامي صان صونس 1835-1921 .. )
اغمظ عينيه .. كان اللحن الباكي مستمرا يعبر عن الاسى وخيبة الامل . المناسبة كانت سنة تخرج جيل جديد من الخريجين .
كمانه المهجور كان يستجيب بمنتهى الكمال لأداء المعزوفة الجديدة (اعتذار ) التي انهاها بتقبيل الكمان واحتضانه ..
واعاد حشد الحاضرين التصفيق للعازف المبدع ..
القصائد الاولى

.. منذ ايام وما زالت امي في بيت شقسقتي .
لم شيئا يمكن ان استعين به مع الرغيف المتبقي لفطوري في هذا الصباح .
.. وتذكرت (سيد ادريس ) الذي اعتدت ان اعطيه بعض ما يتجمع في صندوقي الخشبي من المجلات والجرائد القديمة والاروراق وربما الكتب التي لا احتاج اليها مقابل قطعة من الجبن .
مبكرا قبل ذهابي الى المدرسة كنت امام دكان (سيد ادريس ) .
وجه ابيض كقطعة جبن يتألق وسط كوفية زرقاء وشفاه ممتلئة ظاهرة الحمرة لا تكف عن الهمس بالدعاء .
لم يلبث (سيد ادريس) – دون اية مقدمات سوى ابتسامته المعتادة – ان اخذ مني رزمة المجلات والجرائد القديمة ورماها بعيدا دون اية عناية في فوضى دكانه العجيب فوق تل من الاوراق والاكياس والكتب العتيقة التي لا يرد احد يعرضها عليه مقابل قطع من الجبن .
لقد كان (سيد ادريس ) كريما معي كعادته .. قلت ذلك وانا اتناول فطوري .. وفيما كنت امضغ اللقمة ثانية تذكرت ..
كان من بين تلك الاوراق والجرائد القديمة كل قصائدي الاولى ..
لقد ذهبت في دكان (سيد ادريس ) الى المجهول ..

البيت الذي ولد فيه
توكأ على عصاه ملقيا عليها ثقل السنين السبعين بما صحبها من متاعب الحياة والمرض .
توقف طويلا عند بقايا البيت القديم .
لقد ولد في هذا البيت .. وها هي اصابعه المرتعشة تمتد الى ارضية الحمام الاسمنتية الصلبة التي احتفظت حتى هذه اللحظات بأثر قدم صغيرة هي قدمه .
الحمام الذي سيجيء دوره في التهديم ..
ليس بامكان الانسان ان يكون عاريا كما هو الآن بين هذه الجدران الاربعة في هذه المساحة الصغيرة حيث هو صدفة .
ترددت ان اتحدث اليه ولكنه انتبه لوجودي الى جانبه قال كأنه يتحدث الى نفسه ..
اية مصادفة تلك التي جاءت بي الى هذا المكان وفي هذا اليوم بالذات ..
بامكاني الآن ومن خلال فجوات هذا الباب بعد كل تلك السنين ان استمع الى اصوات امي وجدتي وكل الذين كانوا يعيشون في هذا البيت ، بل بامكاني ان استمع الى صوتي وانا في السابعة من العمر عندما دخلت هذا الحمام مصرا لأول مرة ان لا تدخل معي امي لأن اليوم التالي سيكون اول يوم لي في المدرسة .
ارضية الحمام الاسمنتية هذه .. ها هي لا تزال مطبوعة قدم صغيرة هي قدمي حين كنت في حوالي الثالثة .. لقد غافلت امي ووضعت قدمي اليمنى على الاسمنت .. كان لا يزال طريا بعد ..
لقد تحجر الاسمنت كما تحجرت صيحة امي وها هي كلقية يكشف عنها النبش في تراب الذاكرة المتراكم بمرور السنين ..
بعد ايام قليلة مضت رأيت المعاول تنشب انيابها الفولاذية الحادة فيه بنهم وضراوة الوحش في الجسد الحي ..
انتهى الكيان المادي للبيت وسيكون لدى كل الذين يمرون من هنا مجرد جزء من شارع  ورصيف  .. اما انا فما ازال ارى في هذا الجزء من الشارع الرصيف .. البيت الذي ولدت وعشت فيه قائما .. كما كان .. خيالا او حلما ..
ها انا اخطو اخيرا على هذا الجزء من الشارع والرصيف .. ولكني لا ارى في هذا المكان سوى ضريح وسط صمت الابدية حيث اوشك ان اصل ..

الليل
افترقا .. متخاصمين دون ان يعرف احد ..
في الغرفة الانيقة تركا صمتهما للفراغ الموحش ولصورة الزواج المؤطرة بجوار السرير البارد . اما المرآة المستديرة المعلقة في ركن البيت ، التي رانطبع فيؤ صفائها ذات يوم الوجهان المبتسمان فقد غطاها غبار الايام العشرة الماضية ..
كان صدى حديث العابرين في الشارع المجاور لا يهز السكون في هذه الغرفة المغلقة تناثر بعض ما اضافت النسمات الهابة من غبار على المرآة .
لا جديد يكسف عنه النهار . في اليوم الحادي عشر ..
في الليل كان الضوء الباهر في الغرفة يكشف عن الوان الستارة المسدلة من خلال النافذة المطلة على الطريق ..

النصف الثاني
الصمت في البيت الصغير اكثر ما يعبر عن سأم الزوجة وهي لوحدها وقد تجاوز الليل نصفه الاول .
في صحن من بلور ابيض ، تل صغير من الفاكهة الطازجة ، في قمته تفاحة نصفها اصفر بظلال خضراء شفافة والنصف الآخر بحمرة المغيب ..
مدت هي يدها قبضت على التفاحة باطراف اصابعها الخمسة ، ادارتها دورة كاملة .. ثم رفعتها ببطء شديد الى فمها .
كانت عيناها مصوبتين باتجاه الكرسي الثاني اتلفارغ الى جوار المائدة .
عمدت الى قضم التفاحة حتى آخر النصف الاصفر وكانت تلوك كل قضمة ببطء كأنها تتوقع ان تسمع وقع اقدام بين لحظة واخرى ، ولكن .. لا احد .. تركت النصف الثاني حيث كانت التفاحة .. فيالصباح كان الفساد قد بدا يدب فيه ..

غابة
تذكر وهو يستيقظ مبكرا انه يوم عطلة فبقى في فراشه ، مسح عينيه برفق ، تناول مجلة وبقى مستغرقا مع لوحتين تلقيان بظلال حوارهما على مساحة صمته .. سرت الاى جسده رعشة تحول بعينيه الى وجه ابيه المبتسم الى الابد من خلال شفافية الزجاجة المؤطرة بمستطيل من الخشب الساج اراد ان يفضي بما في نفسه من اسئلة الا ان الكلمات كانت تعلق بضباب الدموع الهائم في فضاء الزمن الممتد بين الابن وابيه ، بين الحقيقة التي بقيت منها صورة داخل اطار وبين الصورة التي ما زال جزء من حقيقتها حيا .. ترى ما الضرورة التي تجعل الانسان يبتسم الى هذا الحد من اللامبالاة وهو يلقي
 بجزء من جسده في غابة ليدمى .. ليتمزق تحت مخالب مخلوقات مثله ..
هذا السؤال جعله يحس اكثر بانتمائه الى الجسد الذي يرتديه في هذا الكرنفال الرهيب لم يحس انه وحيد كما هو الآن .. يدور حول نفسه كنجم في الفضاء اللانهائي يوشك على الانفجار ..

 


قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat


عادل علي عبيد
 (للدخول لصفحة الكاتب إضغط هنا)

    طباعة   ||   أخبر صديقك عن الموضوع   ||   إضافة تعليق   ||   التاريخ : 2015/04/21



كتابة تعليق لموضوع : عبد الرزاق حسين : الخيال والتنوع والذاكرة
الإسم * :
بريدك الالكتروني :
نص التعليق * :
 



حمل تطبيق (كتابات في الميزان) من Google Play



اعلان هام من قبل موقع كتابات في الميزان

البحث :





الكتّاب :

الملفات :

مقالات مهمة :



 إنسانية الإمام السيستاني

 بعد إحراجهم بكشف عصيانها وخيانتهم للشعب: المرجعية الدينية العليا تـُحرج الحكومة بمخالفة كلام المعصومين.. والعاصفة تقترب!!!

 كلام موجه الى العقلاء من ابناء شعبي ( 1 )

 حقيقة الادعياء .. متمرجعون وسفراء

 قراءة في خطبة المرجعية : هل اقترب أَجلُ الحكومةِ الحالية؟!

 خطر البترية على بعض اتباع المرجعية قراءة في تاثيرات الادعياء على اتباع العلماء

 إلى دعاة المرجعية العربية العراقية ..مع كل الاحترام

 مهزلة بيان الصرخي حول سوريا

 قراءة في خطبة الجمعة ( 4 / رمضان/ 1437هـ الموافق 10/6/2016 )

 المؤسسة الدينية بين الواقع والافتراء : سلسلة مقالات للشيخ محمد مهدي الاصفي ردا على حسن الكشميري وكتابيه (جولة في دهاليز مظلمة) و(محنة الهروب من الواقع)

 الى الحميداوي ( لانتوقع منكم غير الفتنة )

 السيستاني .. رسالة مهدوية عاجلة

 من عطاء المرجعية العليا

 قراءة في فتوى الدفاع المقدس وتحصين فكر الأمة

 فتوى السيد السيستاني بالجهاد الكفائي وصداها في الصحافة العالمية

 ما هو رأي أستاذ فقهاء النجف وقم المشرّفتَين السيد الخوئي بمن غصب الخلافة ؟

 مواقف شديدة الحساسية/٢ "بانوراما" الحشد..

أحدث مقالات الكتّاب :


مقالات متنوعة :





 لنشر مقالاتكم يمكنكم مراسلتنا على info@kitabat.info

تم تأسيس الموقع بتاريخ 1/4/2010 © محمد البغدادي 

 لا تتحمل الإدارة مسؤولية ما ينشر في الموقع من الناحيتين القانونية والأخلاقية.

  Designed , Hosted & Programmed By : King 4 Host . Net