صفحة الكاتب : نبيل محمد حسن الكرخي

الرد على احمد القبانجي في محاضرته (نقد الاعجاز القرآني) - 4/10
نبيل محمد حسن الكرخي

المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الموقع، وإنما تعبر عن رأي الكاتب.

 بسم الله الرحمن الرحيم
بدأ هذا الجزء من المحاضرة بدعوى سخيفة بقوله: (التهافت البلاغي موجود في القرآن وغير موجود في نهج البلاغة) ، واحمد القبانجي يستند في دعواه هذه الى افتقاره لفهم النصوص القرآنية بالادعاء انها غير بليغة !! وسنرى في ردنا الرابع هذا انه يتهم آيات قرآنية معينة بعدم البلاغة نتيجة عدم فهمه الشخصي لها فالامر لا علاقة بالبلاغة العربية وفنونها. ولو اتعب احمد القبانجي نفسه قليلاً في دراسة البلاغة واستيعاب مطالبها ومراجعة تفاسير المسلمين المتضلعين بالبلاغة وعلوم اللغة العربية لما ركبه التوهم في آيات القرآن الكريم.
ان نهج البلاغة هو ثمرة من ثمرات الاسلام ، فلولا الاسلام والنبوة لم يكن نهج البلاغة ليظهر الى الوجود ، ولا يخفى ان تفضيل بلاغة نهج البلاغة على بلاغة القرآن الكريم هي قضية تتضمن جانبين الاول الجهل بالبلاغة العربية بمختلف فنونها والجانب الثاني ان هذا القول هو علامة للغلو والمغالين ويبدو ان احمد القبانجي بدأ بسلوك هذا المضمار حتى انتهى به المطاف الى انكار الاسلام كلياً !! فاما موضوع الجهل بالبلاغة العربية فهي سمة واضحة عند احمد القبانجي سنطلع عليها بصورة واضحة في هذه الحلقة الرابعة.
القرآن الكريم هو كتاب هداية للناس وفيه اسس الحكمة ، وكما في الحديث الشريف: (رأس الحكمة مخافة الله) ومخافة الله سبحانه هي التي نتعلمها من القرآن الكريم ، فنهج البلاغة هو ثمرة من ثمرات القرآن الكريم. وفي القرآن الكريم من الحكم والمواعظ ما لا توجد في كتاب آخر الا على سبيل الاقتباس منه والاستناد اليه.
فمن الحكم والمواعظ التي وردت في القرآن الكريم قوله تعالى: ((أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ)).
وقوله تعالى: ((وَعَسَى أَن تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تُحِبُّوا شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ)).
وقوله تعالى: ((وَلاَ تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ وَمَن يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ)).
وقوله تعالى: ((وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ)).
وقوله تعالى: ((إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ)).
وقوله تعالى: ((وَتَعَاوَنُوا عَلَى البِرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ)).
وقوله تعالى: ((وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى)).
وقوله تعالى: ((وَأَوْفُوا الكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ)).
وقوله تعالى: ((وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ)).
وقوله تعالى: ((إِنَّ اللَّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ)).
وقوله تعالى: ((وَأَنْ لَوِ اسْتَقامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لأَسْقَيْناهُمْ ماءً غَدَقاً)).
وقوله تعالى: ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ يَسْخَرْ قَوْمٌ مِّن قَوْمٍ عَسَى أَن يَكُونُوا خَيْراً مِّنْهُمْ وَلاَ نِسَاءٌ مِّن نِّسَاءٍ عَسَى أَن يَكُنَّ خَيْراً مِّنْهُنَّ وَلاَ تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَلاَ تَنَابَزُوا بِالأَلْقَابِ بِئْسَ الاسْمُ الفُسُوقُ بَعْدَ الإِيمَانِ وَمَن لَّمْ يَتُبْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ)).
وقوله تعالى: ((لاَ يُحِبُّ اللَّهُ الجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ القَوْلِ إِلاَّ مَن ظُلِمَ وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعاً عَلِيماً)).
فهذه نماذج من الحكم والمواعظ والسنن التاريخية التي اشتمل عليها القرآن الكريم والتي تبني المجتمعات الانسانية وتقدم الانسانية خطوات عظيمة لو عملت بها. ومن الواضح ان السنن التاريخية الموجودة في القرآن الكريم هي من الحكم العالية والفريدة التي امتاز بها القرآن الكريم والتي لم تصدر عن مصدر حكيم آخر.
انظر لقول نهج البلاغة الذي جعله احمد القبانجي دليلاً على البلاغة وهو: (ولا تقل ما لا تعلم وان قل ما تعلم) ، وقارنه مع قوله تعالى: ((وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُوْلَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً)) ، ستجد البلاغة والمعاني القرآنية العميقة التي لا ترقى اليها بلاغة ومعاني نهج البلاغة.
وانظر الى المفردات القرآنية التي وردت في كلام الامام عليه السلام في نهج البلاغة مثل (الحميم والجحيم والسعير والزفير) ومثالها قوله في الخطبة المعروفة بالغراء: (واعظم ما هنالك بلية نزول الحميم وتصلية الجحيم وفورات السعير وسورات الزفير). فنهج البلاغة استعار من القرآن العديد من مفرداته.
ومن نماذج مواكبة نهج البلاغة لما ورد في القرآن الكريم قول الامام عليه السلام: (واعلموا عباد الله انه لم يخلقكم عبثاً) وهو ماخوذ من قوله تعالى: ((أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لاَ تُرْجَعُونَ)) ومن الواضح ان البلاغة القرآنية اعلى واتم.
وقوله عليه السلام في نهج البلاغة: ((اوصيكم عباد الله بتقوى الله فإنها الزمام والقوام) وهي من قوله تعالى: ((وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ)).
 ثم يوجه احمد القبانجي سهامه للقرآن الكريم ولسورة الايلاف مرتكزاً على جهله ببلاغة هذه السورة الكريمة ودلالاتها العميقة ، فيتهم السورة بالافتقار الى البلاغة وهو لا يفقه معانيها ودلالاتها ولا يفقه كيف انها بكلمات قليلة اختصرت تاريخ اكثر من 200 سنة تقريباً واختصرت بكلماتها القليلة اسلوباً دعوياً مختصاً بقريش هذه القبيلة التي كانت الركن الاساسي في مقاومة الاسلام في بدايته وحاربته ورصدت ضده الاموال والطاقات للقضاء عليه دون جدوى.
سورة الايلاف تتحدث عن السلالة الهاشمية ودورها في استقرار قريش في مكة ، مكة هذا الوادي في عمق الصحراء العربية وادٍ غير ذي زرع ليس فيه من مغريات الحياة شيء فلا هو سوق تجاري ولا هو مثل يثرب او الطائف بساتين وعيون ، ولا مناخها في الصيف مثل بلاد الشام المعتدلة في حرارتها ولا في الشتاء مثل اليمن المعتدل في برودته ، مكة التي تفتقر الى الكثير من مقومات السكن والمدنية التي ترغب اليها الانفس ، هذه المدينة المباركة كل مقوماتها انها تحتوي على الكعبة المشرفة التي بناها آدم عليه السلام ورفع قواعدها ابراهيم الخليل عليه السلام ، فهي الكعبة المقدسة التي يحج اليها العرب الاحناف والمشركون. وكانت قريش في الجاهلية بطون متوزعة بين القبائل العربية او تعيش في جبال مكة وضواحيها حينما كانت قبيلة خزاعة تعيش في مكة وبيدها سدانة الكعبة. ثم ظهر قصي بن كلاب (400-480)م واستطاع ان يطرد خزاعة من مكة لتحل محلها قبيلته قريش وتصبح سدانه الكعبة بيده وبيد اولاده من بعده. واصبحت قريش تعيش في مكة وتعاني من ضيق العيش نتيجة انعدام الزراعة والتجارة فيها حتى ظهر هاشم بن عبد عبد مناف بن قصي بن كلاب فأسس لقريش نظاماً تجارياً وعقد معاهدات تجارية مع الامبراطوريات المجاورة وهي الرومانية والحبشية ، وأسس لقريش رحلتين تجارية لقوافلها الاولى في الصيف الى بلاد الشام والثانية في الشتاء الى بلاد اليمن. وهاتان الرحلتان كان لهما اثر كبير في رفع المستوى المعاشي العام لقريش وظهرت فيها طبقة غنية وتطور المستوى المعاشي العام لأفرادها بعدما كانت تعانيه سابقاً من جوع ونقص في الثمرات وشحة في السلع الغذائية. فكان تحقق الامن الغذائي لقريش بجهود هاشم بن عبد مناف.
ثم ظهر عبد المطلب بن هاشم والذي تمكن بتوفيق الهي من اعادة حفر بئر زمزم والذي يشكل مورداً مائياً مهماً لقريش ، وارتفعت مكانة عبد المطلب بن هاشم بين قريش خاصة والعرب عامة بما عرف عنه من كياسة وحنكة وبركة.
وفي سنة 570م ايام عبد المطلب بن هاشم تقدم ابرهة الحبشي بجيشه لهدم الكعبة وهذا يعني تهديد امن قريش بالاعتداء على اقدس مقدساتها أي الكعبة المشرفة التي تعطي لقريش مكانتها المتميزة بين العرب والتي من خلال سدانتها لها ولشعائرها تبرز بين العرب الذين يحجون اليها ويشترون من البضاعة التي تجلبها قريش لهم برحلتي الايلاف في الشتاء والصيف من بلاد اليمن وبلاد الشام. فكان النصر الالهي بالطير الابابيل على جيش ابرهة الحبشي وتعززت مكانة قريش وزاد شعورها بالامن في زمن عبد المطلب ، كيف لا والاله الذي بعبدونه قد انقذ كعبتهم من يد اعدائها.
فالعائلة الهاشمية كان لها دور كبير ومهم في تاريخ قبيلة قريش ، وقريش كلها تشعر بالامتنان والخضوع لها في الجاهلية وعلى اقل تقدير تشعر بدورها المهم وعزها الذي لا يمكن ان تناله في المدى المنظور. ومن عمق هذا التاريخ المشرف للعائلة الهاشمية ظهر رسول الله محمد (صلى الله عليه وآله) ودعا قريش للايمان بالله سبحانه وعبادته وحده ونبذ عبادة الاصنام فجائهم بالشريعة الصافية السمحة التي لا تمتلكها امة اخرى في العالم كله في ذلك اليوم ، ورغم ان قريش تعرف انه لم يصدر من هذه العائلة الهاشمية الا الخير والبركة لقريش الا انها عموماً بدأت تعارض الدعوة الجديدة وتسعى في خذلانها ودحرها ، فأنزل الله سبحانه سورة الايلاف بكلماتها القليلة وبلاغتها العظيمة التي تذكر قريش بهذه الحقائق فذكرهم بالايلاف وهي رحلتي الشتاء والصيف التي حققت لهم الامن الغذائي ، وذكرهم كيف تصدى لجيش ابرهة وحقق لهم الامن السياسي وابعد عنهم الخوف من ضياع مكانتهم المتميزة بين القبائل العربية وما تحقق كل ذلك الا في ظل العائلة الهاشمية التي ظهر منها النبي محمد (صلى الله عليه وآله) والذي دعاهم الى التوحيد الخالص والاسلام لله عزَّ وجل. فما جاء لقريش من العائلة الهاشمية الا الخير والبركة ، والسورة الكريمة تذكر قريش بالبركة التي حلت عليهم من الله سبحانه من خلال هذه العائلة الهاشمية والنبي الصادق الامين الذي ظهر فيها والذي يدعوهم لعبادة الله سبحانه.
فهل هناك بلاغة اعظم من بلاغة سورة الايلاف التي اختصرت كل هذه الافكار والمعاني والابعاد الدعوية بكلماتها قليلة.
ثم ينتقل احمد القبانجي ليتهم سورة الرحمن بالافتقار الى البلاغة مع انها كسابقتيها سورتي الهمزة والايلاف في بلاغتها العظيمة وكلماتها القليلة المعبرة عن الافكار الكبيرة.
يبدأ احمد القبانجي اعتراضه وطعنه في بلاغتها بسبب تسرعه وعدم تدقيقه في معانيها وعدم تدبره لمقاصدها فيقول: "لماذا ابتدأت السورة بذكر (علم القرآن) قبل (خلق الانسان) والمفروض ان يذكر خلق الانسان قبل تعليم القرآن لأن القرآن لمن علمه؟ هل علمه للجن اليس علمه للانسان فكان يتوجب ان يذكر خلق الانسان قبل تعليم القرآن" ! واعتراضه هذا قد يصح لو ان الآية الكريمة تتحدث عن مراحل وتسلسل الخلق للكون ولكنها لا تتحدث عن هذه الناحية ليكون التسلسل مطلوباً بل ان سورة الرحمن تتحدث بشكل اساسي عن نعم الله سبحانه على خلقه ووجوب عبادتهم له عزَّ وجل ، ولذلك ابتدأت بأسم (الرحمن) والذي هو من الاسماء الحسنى المختصة بالله سبحانه فلا يقال لأحد او يوصف احد بأنه رحمان سوى الله عزَّ وجل بخلاف كلمة (الرحيم) التي يمكن ان يوصف بها بعض الاشخاص ، وذلك لأن اسم (الرحمن) كما يقول السيد الطباطبائي في تفسير الميزان هي (صيغة مبالغة تدل على كثرة الرحمة ببذل النعم ولذلك ناسب ان يعم ما يناله المؤمن والكافر من نعم الدنيا وما يناله المؤمن من نعم الآخرة ، ولعمومه ناسب ان يصدر به الكلام لاشتمال الكلام في السورة على انواع النعم الدنيوية والاخروية التي ينتظم بها عالم الثقلين الانس والجن). فابتدات السورة المباركة بأسم (الرحمن) ثم ذكر الله سبحانه النعم الالهية التي انعم بها على الانسان فابتدأها بذكر تعليمه للقرآن الكريم والسبب في ذلك كما يقول الزمخشري (عدد الله عز وعلا آلاءه فأراد ان يقدم اول شيء ما هو أسبق قدما من ضروب آلاءه واصناف نعمائه وهي نعمة الدين فقدم من نعمة الدين ما هو في اعلى مراتبها واقصى مراقيها وهو إنعامه بالقرآن وتنزيله وتعليمه لأنه اعظم وحي الله رتبة واعلاه منزلة واحسنه في ابواب الدين اثراً وهو سنام الكتب السماوية ومصداقها والعيار عليها ، واخر ذكر خلق الانسان عن ذكره ثم اتبعه اياه ليعلم أنه انما خلقه للدين وليحيط علماً بوحيه وكتبه وما خلق الانسان من اجله ، وكأن الغرض في انشائه كان مقدماً عليه وسابقاً له)) ، ومصداق قول الزمخشري هذا هو قوله تعالى في سورة الذاريات: ((وَمَا خَلَقْتُ الجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ ، مَا أُرِيدُ مِنْهُم مِّن رِّزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَن يُطْعِمُونِ ، إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو القُوَّةِ المَتِينُ)) ، فانظر الى هذه الآيات المباركة التي تنص على ان خلق الانس والجن لغرض العبادة فكان تقديم ذكر تعليم القرآن الكريم على خلق الانسان في سورة الرحمن هو لهذا الغرض. وانظر الى قوله تعالى في سورة الذاريات ((إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو القُوَّةِ المَتِينُ)) ، فربط فيها بين عبادة الله سبحانه وبين رزقه لعباده كما في سورة الرحمن حيث ربط بين عبادة الله سبحانه وبين نعمه سبحانه التي رزقها لعباده. وانظر الى هذه الآية المباركة كيف اشارت الى الانس والجن في موضوع العبادة وموضوع نعم الله سبحانه وما يرزقه لعباده وقارنه مع سورة الرحمن التي ذكرت نفس العناصر اي خطابها للانس والجن وتاكيدها على اهمية العبادة ووتذكيرها بنعم الله سبحانه عليهم. انها البلاغة القرآنية العظيمة في سورة الرحمن وسورة الذاريات وكل سور القرآن الكريم والتي تتناول نفس الافكار والاسس والاهداف بأساليب بلاغية متنوعة واعجازية في نفس الوقت ، ولكن احمد القبانجي وامثاله من الذين وصفهم الله سبحانه بمرضى القلوب ... ((وَإِذْ يَقُولُ المُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ مَّا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلاَّ غُرُوراً)) ، هؤلاء لا يمكن ان يعرفوا هذه النقاط البلاغية العظيمة في القرآن الكريم وهذا الترابط بين آياته وصدق الله العليّ العظيم القائل ((أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ القُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً)).
واعتراض آخر يعترضه احمد القبانجي وهو ايضاً اعتراض عن قلة تدبر وعدم معرفة حيث قال: "لماذا ذكر الله ((والنجم والشجر)) والنجم هو النبات الصغير فلماذا ذكر النبات الصغير والشجر بينما الكون كله يسجد لله سبحانه" ! ويظن احمد القبانجي ان سجود النباتات هو كسجود بقية مخلوقات الكون متناسياً ان النبات هو كائن حي يولد وينمو ويموت وليس كبقية الجوامد التي تسجد ايضاً لله سبحانه ولكن بطريقة مختلفة ، فمعنى السجود المذكور كما قال الزمخشري في الكشاف: (وسجودهما : انقيادهما للّه فيما خلقا له ، وأنهما لا يمتنعان ، تشبيها بالساجد من المكلفين في انقياده) ،  وسبب اختصاص هذه السورة المباركة بذكر النباتات هو ان النباتات تشكل الاساس لغذاء الانسان بصورة مباشرة او غير مباشرة ، فالانسان يتغذى عليها كما يتغذى على الحيوانات التي تتغذى عليها ايضاً. ونحن نعلم ان ازمة الغذاء العالمية اليوم لا ترتبط بنقص اللحوم الحمراء او البيضاء بل ترتبط بنقص الحبوب المختلفة كالحنطة والشعير والرز ، ولذلك فإن اهمية ذكر النباتات كغذاء للانسان وتركيز القرآن الكريم عليه يؤكد ان هذا الكلام هو صادر عن الله سبحانه العليم بكل شيء ، والا فإن مكة ليست بلداً زراعياً لكي يركز النبي صلى الله عليه وآله على الزراعة بطبيعة الحال بل هي بلد تجاري في عمق الصحراء العربية. فناسب ذكر النباتات ضمن النعم الالهية اكثر من غيرها في هذه السورة المباركة التي تركز على ذكر النعم الالهية على الانسان. وحيث ذكر الله سبحانه ان الشمس والقمر بحسبان فناسب بعدها ان يذكر سجود النباتات والمزروعات وسجودها هو هو انقيادها لله سبحانه بالنمو والاثمار ولا يحدث ذلك الا في مواسم محددة لكل نوع من الزروع والنباتات ، انه التناغم في السجود لله سبحانه وطاعته ، فالشمس والقمر في طاعة الله سبحانه بدورانها في افلاكها فلا يمكنها ان تخالفه منتجة حسبان الشهور والمواسم التي تقوم بها النباتات بالسجود لله عزَّ وجل وطاعته من خلال نموها واثمارها. فهل هناك بلاغة اعظم من هذه ، بكلمات قليلة يصف القرآن الكريم اعاظم نعم الله سبحانه على البشر ((الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ ، وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدَانِ)) انه الارتباط وتنظيم الكون وتنظيم الحياة ، فالشمس والقمر تحسبان المواسم والنباتات تنمو وتثمر فكل له دوره وحركته التي تصب كلها في مصلحة الانسان. ولكن الانسان ماذا يفعل ازاء هذه النعم العظيمة ؟ انه يطغى في الميزان فجاء النهي ((أَلاَّ تَطْغَوْا فِي المِيزَانِ)) ، يطغى في الميزان بإفساده في الارض ، رغم ان الله سبحانه خلق الكون بنظام موزون فقال تعالى: ((وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ المِيزَانَ)) ، ووضع الميزان يعني ان السماء والكون كله مخلوق بنظام دقيق ويدل عليه قوله تعالى في سورة الحجر: ((وَالأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِن كُلِّ شَيْءٍ مَّوْزُونٍ)) وقوله تعالى في نفس الموضع: ((وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ عِندَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلاَّ بِقَدَرٍ مَّعْلُومٍ)) ، ومع ذلك يعترض احمد القبانجي على تعبير رفع السماء وينكره دون سبب وجيه !!! فلا هو عنده علم يستند اليه في رفضه لخلق السماء ورفعها ولا هو سكت عما يجهله ليقي نفسه السقوط في التهلكة.
عموماً فسورة الرحمن تبين لنا بكلام بليغ نعم الله سبحانه والنظام الكوني الذي وضعه للانسان وفي خدمة الانسان ثم تذكر السورة المباركة بعد نهيها الانسان عن الطغيان في الميزان تذكر وجوب اقامة الوزن بالقسط فقال تعالى: ((وَأَقِيمُوا الوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلاَ تُخْسِرُوا المِيزَانَ)) ، يقول الشيخ ناصر مكارم الشيرازي في تفسيره (الامثل) : (ويؤكّد مرّة اُخرى على مسألة العدالة والوزن حيث يقول سبحانه: (وأقيموا الوزن بالقسط ولا تخسروا الميزان) ). ويضيف: (والنقطة الجديرة بالذكر هنا أنّ كلمة «الميزان» ذكرت ثلاث مرّات في هذه الآيات، وكان بالإمكان الإستفادة من الضمير في المرحلة الثانية والثالثة، وهذا ما يدلّل على أنّ كلمة (الميزان) هنا قد جاءت بمعان متعدّدة في الآيات الثلاث السابقة، لذا فإنّ الإستفادة من الضمير لا تفي بالغرض المطلوب، وضرورة التناسب للآيات يوجب تكرار كلمة «الميزان» ثلاث مرّات، لأنّ الحديث في المرحلة الاُولى، كان عن الموازين والمعايير والقوانين التي وضعها الله تعالى لكلّ عالم الوجود. وفي المرحلة الثانية يتحدّث سبحانه عن ضرورة عدم طغيان البشر في كلّ موازين الحياة، سواء كانت الفردية أو الإجتماعية. وفي المرحلة الثالثة يؤكّد على مسألة الوزن بمعناها الخاصّ، ويأمر البشر أن يدقّقوا في قياس ووزن الأشياء في التعامل، وهذه أضيق الدوائر. وبهذا الترتيب نلاحظ الروعة العظيمة للإنسجام في الآيات المباركة، حيث تسلسل المراتب وحسب الأهمية في مسألة الميزان والمقياس، والإنتقال بها من الدائرة الأوسع إلى الأقل فالأقل. إنّ أهميّة الميزان في أي معنى كان عظيمة في حياة الإنسان بحيث إنّنا إذا حذفنا حتّى مصداق الميزان المحدود والصغير والذي يعني (المقياس) فإنّ الفوضى والإرتباك سوف تسود المجتمع البشري، فكيف بنا إذا ألغينا المفهوم الأوسع لهذه الكلمة، حيث ممّا لا شكّ فيه أنّ الإضطراب والفوضى ستكون بصورة أوسع وأشمل). وبذلك لا يبقى لاعتراض احمد القبانجي معنى حينما اعترض على سبب ذكر النهي عن الطغيان في الميزان وبعدها الامر باقامة الوزن بالقسط.
ويعترض احمد القبانجي على قوله تعالى: ((مَرَجَ البَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ ، بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لاَّ يَبْغِيَانِ)) ، فيقول القبانجي: " وبينهما برزخ لا يبغيان لحد الان محد يعرف وين والعلم تطور والاقمار الصناعية ولحد الان مشافوا بحر مالح وبحر عذب واذا اكو فعلا فاين هي النعمة بالموضوع ولحد الان محد يعرف اين صايرة " !! بهذا الكلام الساذج يتحدى البلاغة القرآنية العظيمة !!؟ الامر يا احمد القبانجي لا يحتاج لأقمار صناعية لكي تعثر على البرزخ بين البحرين احدهما عذب والاخر مالح ، فالامر منتشر في العديد من دول العالم ويكمن في مصبات الانهار في البحار فماء النهر يكون اكثر عذوبة واقل ملوحة من ماء البحر الاكثر ملوحة والاقل عذوبة ، ومنطقة مصب النهر في البحر هي احد مصاديق الآية الكريمة ، فلا ماء البحر يطغى على ماء النهر ولا ماء النهر يطغى على ماء البحر ، واما تساؤله عن النعمة من ذلك فهو تنوع الكائنات الحية التي تعيش في البحار والكائنات الحية التي تعيش في الانهار ، الا تنظر الى وجود اسماك نهرية لا تخرج الى البحار ولا تتمكن من العيش فيها كما ان هناك اسماك بحرية لا تنتقل من البحر الى النهر بل تبقى كل الكائنات الحية في محيطها الذي نشأت فيه. فالتنوع في الكائنات البحرية بين المياه المالحة والمياه العذبة هو نعمة اخرى من نعم الله سبحانه. وهذه نعمة لم تكن ملحوظة من قبل شخص يعيش في اعماق صحراء الجزيرة العربية وهذه المعارف هي من الدلائل الواضحة على صدق النبوة.
واعترض احمد القبانجي على استعمال مفردتي الصلصال والفخار في قوله تعالى: ((خَلَقَ الإِنسَانَ مِن صَلْصَالٍ كَالْفَخَّارِ)) فقال: "ان الصلصال هو نفس الفخار" !! وهذا من جهله بلغة العرب ، فـالصالصال هو (الطين اليابس الذي يتردد منه الصوت إذا وطئ ، والفخار الخزف). وشتان بين الطين اليابس والخزف ، ام ترى احمد القبانجي لا يميز بينهما !!
ويعترض احمد القبانجي على ورود تعبير ((رب المشرقين ورب المغربين)) ويقول لماذا هنا رب المشرقين وفي مورد آخر استخدم رب المشارق ! وسؤاله هذا يدل جزماً بعدم معرفته بفنون البلاغة العربية التي تقتضي التفنن في التعبير تبعاً للمعنى والغاية.
يقول السيد الخوئي في كتابه البيان في تفسير القرآن: (ومن الاسرار التي كشف عنها القرآن قبل أربعة عشر قرنا : وجود قارة اخرى . فقد قال سبحانه وتعالى : " رب المشرقين ورب المغربين 55 : 17 " . وهذه الاية الكريمة قد شغلت أذهان المفسرين قرونا عديدة ، وذهبوا في تفسيرها مذاهب شتى . فقال بعضهم : المراد مشرق الشمس ومشرق القمر ومغرباهما ، وحمله بعضهم على مشرقي الصيف والشتاء ومغربيهما . ولكن الظاهر أن المراد بها الاشارة إلى وجود قارة اخرى تكون على السطح الاخر للارض يلازم شروق الشمس عليها غروبها عنا . وذلك بدليل قوله تعالى : " يا ليت بيني وبينك بعد المشرقين فبئس القرين 43 : 38 " . فإن الظاهر من هذه الاية أن البعد بين المشرقين هو أطول مسافة محسوسة فلا يمكن حملها على مشرقي الشمس والقمر ولا على مشرقي الصيف والشتاء ، لان المسافة بين ذلك ليست أطول مسافة محسوسة فلا بد من أن يراد بها المسافة التي ما بين المشرق والمغرب . ومعنى ذلك أن يكون المغرب مشرقا لجزء آخر من الكرة الارضية ليصح هذا التعبير ، فالاية تدل على وجود هذا الجزء الذي لم يكتشف إلا بعد مئات من السنين من نزول القرآن . فالايات التي ذكرت المشرق والمغرب بلفظ المفرد يراد منها النوع كقوله تعالى : " ولله المشرق والمغرب فأينما تولوا فثم وجه الله 2 : 115 " . والايات التي ذكرت ذلك بلفظ التثنية يراد منها الاشارة إلى القارة الموجودة على السطح الاخر من الارض . والايات التي ذكرت ذلك بلفط الجمع يراد منها المشارق والمغارب باعتبار أجزاء الكرة الارضية كما نشير إليه . ومن الاسرار التي أشار إليها القرآن الكريم كروية الارض فقال تعالى : " وأورثنا القوم الذين كانوا يستضعفون مشارق الارض ومغاربها 7 : 137 . رب السماوات والارض وما بينهما ورب المشارق 37 : 5 . فلا أقسم برب المشارق والمغارب إنا لقادرون 70 : 40 " . ففي هذه الايات الكريمة دلالة على تعدد مطالع الشمس ومغاربها ، وفيها إشارة إلى كروية الارض ، فإن طلوع الشمس على أي جزء من أجزاء الكرة الارضية يلازم غروبها عن جزء آخر ، فيكون تعدد المشارق والمغارب واضحا لا تكلف فيه ولا تعسف . وقد حمل القرطبي وغيره المشارق والمغارب على مطالع الشمس ومغاربها باختلاف أيام السنة ، لكنه تكلف لا ينبغي أن يصار إليه ، لان الشمس لم تكن لها مطالع معينة ليقع الحلف بها ، بل تختلف تلك باختلاف الاراضي . فلا بد من أن يراد بها المشارق والمغارب التي تتجدد شيئا فشيئا باعتبار كروية الارض وحركتها).
فما اشد بلاغة القرآن الكريم وما اشد بلاغة سورة الرحمن.
فالقاريء الكريم يرى بوضوح ان اعتراضات احمد القبانجي على بلاغة القرآن الكريم ناتجة جميعها من جهله بالبلاغة العربية وفنونها ! وليته حينما جهل سكت بدلاً من الخوض بمواضيع لا يحسن علمها او تعلمها !!


قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat


نبيل محمد حسن الكرخي
 (للدخول لصفحة الكاتب إضغط هنا)

    طباعة   ||   أخبر صديقك عن الموضوع   ||   إضافة تعليق   ||   التاريخ : 2011/05/25



كتابة تعليق لموضوع : الرد على احمد القبانجي في محاضرته (نقد الاعجاز القرآني) - 4/10
الإسم * :
بريدك الالكتروني :
نص التعليق * :
 



حمل تطبيق (كتابات في الميزان) من Google Play



اعلان هام من قبل موقع كتابات في الميزان

البحث :





الكتّاب :

الملفات :

مقالات مهمة :



 إنسانية الإمام السيستاني

 بعد إحراجهم بكشف عصيانها وخيانتهم للشعب: المرجعية الدينية العليا تـُحرج الحكومة بمخالفة كلام المعصومين.. والعاصفة تقترب!!!

 كلام موجه الى العقلاء من ابناء شعبي ( 1 )

 حقيقة الادعياء .. متمرجعون وسفراء

 قراءة في خطبة المرجعية : هل اقترب أَجلُ الحكومةِ الحالية؟!

 خطر البترية على بعض اتباع المرجعية قراءة في تاثيرات الادعياء على اتباع العلماء

 إلى دعاة المرجعية العربية العراقية ..مع كل الاحترام

 مهزلة بيان الصرخي حول سوريا

 قراءة في خطبة الجمعة ( 4 / رمضان/ 1437هـ الموافق 10/6/2016 )

 المؤسسة الدينية بين الواقع والافتراء : سلسلة مقالات للشيخ محمد مهدي الاصفي ردا على حسن الكشميري وكتابيه (جولة في دهاليز مظلمة) و(محنة الهروب من الواقع)

 الى الحميداوي ( لانتوقع منكم غير الفتنة )

 السيستاني .. رسالة مهدوية عاجلة

 من عطاء المرجعية العليا

 قراءة في فتوى الدفاع المقدس وتحصين فكر الأمة

 فتوى السيد السيستاني بالجهاد الكفائي وصداها في الصحافة العالمية

 ما هو رأي أستاذ فقهاء النجف وقم المشرّفتَين السيد الخوئي بمن غصب الخلافة ؟

 مواقف شديدة الحساسية/٢ "بانوراما" الحشد..

أحدث مقالات الكتّاب :


مقالات متنوعة :





 لنشر مقالاتكم يمكنكم مراسلتنا على info@kitabat.info

تم تأسيس الموقع بتاريخ 1/4/2010 © محمد البغدادي 

 لا تتحمل الإدارة مسؤولية ما ينشر في الموقع من الناحيتين القانونية والأخلاقية.

  Designed , Hosted & Programmed By : King 4 Host . Net