صفحة الكاتب : الشيخ عدنان الحساني

تجلي الشهود الحسيني بين مشارق الفلسفة ومغارب العرفان
الشيخ عدنان الحساني

المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الموقع، وإنما تعبر عن رأي الكاتب.
بسم الله الرحمن الرحيم
تجلي الشهود الحسيني بين مشارق الفلسفة ومغارب العرفان* [1]
                    
حينما يشعر الانسان بالانفتاح على معنى من معاني الحياة فلا ريب بان هذا المعنى يحمل بعدا انسانيا مهما وقيمة من جملة القيم النبيلة على اعتبار ان الانسان (مجردا عن كل ايدلوجيا)انما خلق مكرسا لكل ماهو خير ومهيئا لتلقي كل القيم النبيلة والتي من شأنها تقويم البعد الوجودي وتحصينه من التلف .
من هنا نفهم ان المعاني كلما تضخمت واتخذت بعدا اطلاقيا شموليا في حجم القيم التي تعبر عنها هذه المعاني كلما هيمنت بشكل راسخ وقوي لا على مستوى الشعور فحسب اذ ان هذا المستوى من الممكن ان تتجاذبه الاهواء والميول على الرغم من ان مساحة الشعور الانساني تخضع قهرا امام شموخ القيم الحقة وهو قهر تكويني منبسط مع حقيقة العقل الاول  وجوهر وجوده قلنا لا على هذا المستوى فحسب بل انها -اي هذه المعاني الضخمة والمطلقة- تخضع مساحات ما وراء الشعور على مستوى اللاشعور وما يدور في فلكه من مستويات غائبة او بعيدة عن الفاتات عالم الشعور تخضعها للايمان بها ايمانا واعيا ينطلق من مبدأ الخضوع امام هيبة وشموخ تلك المعاني خصوصا اذا كانت تلك المعاني قد تخطت قالب التنظير وانطلقت في رحاب الواقع فهي ليست ثاوية في مطاوي الأنساق المثالية بالقوة المنتظرة لفعل الفاعل بل انها متجلية اقتنصتها جملة من المصاديق والتي تشكل ذلك النموذج الامثل القادر على سلب الانسان كل مبرراته في السير خلف اوهام الطبيعة والعرف البشري السلبي فينساق لا شعوريا مع هذا النموذج لأنه يمثل بالنسبة اليه عشقا فطريا وهذا العشق يعود في الحقيقة الى تلك التجليات النورانية التي يتمتع بها العقل الجمعي على مستوى او ما يسمى بالعقل الاول على مستوى اشمل .
وعليه فان قضية الامام الحسين عليه السلام هي من هذا النوع من حيث التعاطي الكوني ومن باب اولى من حيث التعاطي الاسلامي وبشكل اشد خصوصية من حيث التعاطي الشيعي.
 
خصائص النهضة الحسينية واثرها في البعد الوجداني
بعد الاستطراد الذي اسلفناه  فلايخفى من ان أي فكر انساني سواء كان مصدره سماويا او ارضيا لاتتوقف عناصر القوة والحركية فيه عند حدود التنظير والتثقيف والدعوة وانما لابد ان تتجاوزها الى العمل ولاتتوقف عند حدود العمل الرتيب والروتيني بل لابد ان تتجاوزه الى الجد والاجتهاد في ذلك العمل والتفاني في سبيل الحصول على نتائج طيبة تؤكد اصالة هذا الفكر وسلامته ولاتتوقف عند هذا الحد بل لابد ان يصل هذا التفاني الى حدود التضحية وبذل الغالي والنفيس للوصول الى الاهداف المتوخاة في السمو والتكامل المبدأي .
لذلك نجد ان الافكار المستوحاة من السماء دائما وابدا تنظوي فيها تجليات تضحوية ولهذا السبب كانت هذه الافكار تضرب في اعماق الوجدان الانساني وتحاكي صميم هذا الوجدان ,والمشاريع  التضحوية كانت ولازالت هي تلك الطاقة التي تحافظ على ديمومة المشروع الاكبر والمبدأ الاول ولعلها فلسفة تكوينية قبل ان تكون فلسفة كونية وليس بالضرورة ان تنسجم الخفايا التكوينية مع الظواهر الكونية الخاضعة لتفسير الانسان فكثير من الفلسفات الوضعية تؤمن بفلسفة التضحية والثورة لا اقل في سبيل الوصول الى اهدافها الضيقة وهي ظاهرة كونية تعارفت عليها الاقوام بغض النظر عن الايدلوجيا التي تؤمن بها الا ان هذه الاهداف الضيقة عند هولاء  لاتنسجم  مع تلك الحكمة التكوينية التي اودعها الله عز وجل في ذات الانسان وهي شوقه الى التكامل والكمال المعقود على ارادة الله ولو على حساب الذات والتضحية بها .
وهكذا هي المبادئ الدينية خصوصا تلك السماوية منها فقلما نجد فكرا دينيا لم يتبنى مشروعا تضحويا ولو من حيث الرمزية حتى وان كان هذا المشروع مبنيا على مجرد الاوهام والخيالات كما هو عند النصارى فنجد ان شدة تمسك الناس العاديين من ابناء النصارى بالدين المسيحي هذا التمسك يستوحي عناصره من تلك الحادثة التضحوية الموهومة الا وهي حادثة صلب المسيح –ع- حتى تحول الصليب الى هوية انتماء تميز الفرد المسيحي عن غيره .
من هذا المنطلق كانت مقولة (ان الاسلام محمدي الوجود حسيني البقاء )متجهة بل منسجمة مع الواقع ونفس الامر بأعلى مستويات المطابقة الدالة على المعنى الموضوع له حقيقة ولاوجه للمجاز في البين ابدا واطلاقا وذلك للانسجام بين تلك الحكمة التكوينية وبين الفلسفة الكونية القائمة على ضرورة قيام مشروع تضحوي للحفاظ على مكتسبات المبدأ وقيمه الوجودية ولولا هذا المشروع لما كان لهذه القيم من وجود وبالتالي ينتفي الغرض بانتفاء القيم وتسيخ الارض باهلها لذلك جاء في الحديث عن الامام الصادق-ع- انه قال:(لو بقيت الارض بغير امام لساخت) [2].
وكذلك ماجاء عن الامام الباقر –ع- انه قال:(لو ان الامام رفع من الارض ساعة لماجت باهلها كما يموج البحر باهله ) [3].
فلولا تضحيات الامام وجهوده وجهاده وبركات وجوده المقدس لولا ذلك لما كان لقيم الوجود المبتنية على الفكر السليم من واقعية فاذا ماتجرد الواقع عن تلك القيم كان العدم اولى له من الوجود وهو مايطلق عليه بالولاية التكوينية للخلائف الالهية  .
وعليه فان الاسلام في جوهره وروحه قائم ببركة تلك الدماء الطاهرة للسبط الشهيد ليس على مستوى كبرياته وخطوطه العريضة فحسب وانما على مستوى قيمه وافكاره التفصيلية المنسجمة مع الواقع ونفس الامر .
ونستوحي من ذلك كله ان النهضة الحسينية كانت نهضة كونية عالمية بامتياز لانها ترتبط بايجاد التوازن الكوني بين سننه وممارسات الانسان لذلك كانت هذه النهضة المقدسة تستولي على مشاعر الانسان بكل اتجاهاته ودياناته حتى اضحت هذه النهضة مرجعا لكل ادبيات الاديان والتوجهات السماوية والارضية فهاهو الزعيم البوذي (غاندي) يستوحي عناصر ثورته من اشعاعات كربلاء وهاهم مفكروا العالم المسيحي يتذوقون ادبيات كربلاء في كتبهم وافكارهم .
من هنا كان الفكر الشيعي وهو الفكر الذي امن بهذا المشروع التضحوي بكل تفاصيله وتبنى التنظير له والتثقيف اليه كان هذا الفكر امتدادا لثمرات هذا المشروع وانجازا خلاقا دفع بالمشروع الاسلامي ككل نحو موقع الصدارة من حيث الفكر والقيم والاخلاق بل ومن حيث الشمولية في رؤيته الكونية ككل .                                                     
ويمكن لنا ان نعدد جملة من خصائص النهضة الحسينية وهي الخصائص التي انفردت بها تلك النهضة بل انها تابى ان تتعنون باي وجه من وجوه الاشتراك ولو لفظيا مع أي صيرورة او سيرورة تاريخية أخرى لانها اختزلت ذاكرة التاريخ في كل قيمه التكاملية من جهة معسكر الحق والتسافلية من جهة معسكر الباطل لذا كانت تلك النهضة عنوانا منفردا ومفاهيم استثنائية لا تخضع لاساليب القراءة التقليدية ومن جملة هذه الخصائص:
1-         ان طبيعة النهضة الحسينية ذات مداليل انيّة تقع ناتجا مسلكيا لحركة تاريخية سننية اسهمت مقدماتها في وضع منجز قيمي كوني من خلال مواجهة كل اشكال الانحرافات المسلكية بدءا بالنفاق والضلال الديني ومرورا بالمطامع والشهوات الدنيوية وانتهاءا بالطغيان السلطوي.
2-      تأسيسا على الخصيصة السالفة هيمنت النهضة الحسينية على مجريات اللاشعور البشري ككل مما اعطى الثقافة الشيعية متسعا من الحركة الوجدانية خصوصا في مجال الخطابة والادب والشعر لانها اقرب الصناعات الى الوجدان البشري العام على خلاف الصناعات العقلية البرهانية والتي تختص بمخاطبة النخبة فقط وفي مساحات اضيق لذا نجد ان منابر الخطباء والمداحين اكثر حضورا في جدلية التاريخ والواقع وهو الحضور الذي نجده اقل حظا على مستوى العلماء والمفكرين والمنظرين.
3-       ان طبيعة النهضة الحسينية بما تمتلكه من عناصر استثنائية كعنصر الشخصية السماوية التي يمثلها الامام الحسين عليه السلام بما يمتاز به من سلطة وجدانية بناء على وصوله الى اوج السمو السلوكي الذي يمكن للانسان الكامل ان يصل اليه على قاعدة التخلق بتجليات الاسم الألهي الأعظم فان هذه النهضة بهذا الامتلاك قادرة على توريث هذه السلطة للاجيال المؤمنة بعناصرها الخلاقة مما يخلق فيها القدرة على التأثير الوجداني من جهة والقدرة على امتصاص الصدمات التي قد يتعرض اليها العمق الشيعي بسبب بعض التيارات السياسية والاجتماعية والفكرية الناقمة على هذا الخط الأصيل من جهة اخرى .
4-       ان طبيعة النهضة الحسينية قائمة على تخطيط محكم فهي ليست انثيالا عفويا او فعلا اتفاقيا بل هي ضاربة في عمق الاسرار الألهية بناء على مقتضيات حكمته تعالى في التخطيط والتدبير في شؤون هذه الدنيا وهو مايشير اليه في قوله ع(شاء الله ان يراني قتيلا وان يراهن سبايا).
5-       ان المشهد الملحمي الذي تميزت به هذه النهضة والذي اختزل عموم قيم الصراع بين الحق والباطل في حركة التاريخ ككل هذا المشهد استوعب جميع اطراف المعادلة الكونية وقدمها كتجربة كبروية ترتقي بالوجدان والعقل والفطرة والحس نحو التكامل من دون الحاجة الى الاستعانة بتجارب اخرى لانها ستكون مبتورة وناقصة وهو السر الذي جعل من الشيعة مذهبا مستغنيا بذاته ومعتدا بما يملك من ارث حسيني عميق.
 
 
 
تساؤل وجواب
 
قد يسأل سائل ان المقامات العالية التي انيطت بالوجود الحسيني الشريف تعرضت لها الروايات بشكل مستفيض وواضح فما هو الداعي لترتيب اثار تعتمد على اصطلاحات اهل الذوق العرفاني وهي اصطلاحات الاعم الاغلب منها لم يرد في رواية او اثر افلا يعد ذلك بلاغا لذي مبالغة وتحصيلا لذي حاصل ولعل في المشارب ما ليس بشارب اما توهينا او استهجانا بهذا المشرب الذي وقعت فيه الاشكالات ورفضه من رفض وتلقاه بالقبول من قبل؟:
وللجواب على هذا الاستفهام نقدم عدة اشارات:
1-   ان الشارع حينما القى خطابه كان مراعيا للذوق العرفي وبالتالي فان الظهور العرفي هو المناط في ايصال التفهيم وهذا الظهور بما يكتنفه من اجمال او اهمال او تشابه بناء على ثراء اللغة بالمدلولات المتعددة فانه يسمح بان تلج في اعماقه اذواق وافهام لاتقف عند سطحه العرفي وذلك بملاك الاستعداد والسعة اتكاء على قولهم(امرنا ان نكلم الناس على قدر عقولهم) ومن المعلوم ان العقول مستويات متعددة ياخذ كل بقدره يقول تعالى: {أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا ....}.
2-       لعل من اسس لهذا الذوق واصل له اصوله الشرعية هو المعصوم بعينه حيث نجد اشارات كثيرة في كلام اهل البيت عليهم السلام استفاد منها اصحاب المشرب والذوق العرفاني لتاسيس مصطلحاتهم العرفانية قال الحسين بن علي صلوات الله عليهما: "كتاب الله عزوجل على أربعة أشياء على العبارة، والاشارة، واللطائف، والحقائق، فالعبارة للعوام، والاشارة للخواص واللطائف للاولياء، والحقائق للانبياء " [4] وفي هذا النص خير كفاية وشاهد على ما اسلفناه من التاسيس في النقطة الاولى من الاشارة الى مستويات العقول في فهم النص الديني كما ان هذا النص يعد تاسيسا واضحا لفهم الحقائق العميقة الامر الذي استفاد منه اصحاب الذوق العرفاني في وضع المحددات الاولية للمعارف الكشفية والذوقية.
3-       وهو بمثابة النقض على صاحب التساؤل وهو ان العلوم والمعارف لاتقبل الانتقائية في تحديد ملاكات القبول والرفض فيها فما ذكرته من مبرر في رفض اصطلاحات اهل العرفان ياتي في علم الاصول والكلام وحتى الفقه فان اغلب مصطلحات هذه العلوم لم ترد في نص او اثر وهي جميعها تمارس التأسيس لفهم النص الديني فلاوجه للقبول بالمفارقة ان سلمنا بقبول القياس.
 
مراتب التجلي الحسيني بين الوجود والشهود
 
جاء عن الامام الصادق ع انه قال: (إنّ الإيمان عشر درجات بمنزلة السلّم يصعد منه مرقاة بعد مرقاة، فلا يقولن صاحب الاثنين لصاحب الواحد لست على شى‏ءٍ، حتّى ينتهى إلى العاشر، فلا تُسلط من هو دونك فيُسقطك من هو فوقك، وإذا رأيت من هو أسفل منك بدرجة فارفعه إليك برفق ولا تحملنّ عليه ما لا يطيق فتكسره، فإن من كسر مؤمناً فعليه جبره) [5].
هذا الحديث يبين ان مراتب الايمان تختلف طوليا من شخص الى اخر بحسب الفيوضات والتجليات الرحمانية ولا يخفى ان الحسين عليه السلام هو مظهر من مظاهر الاسم الرحمن وهذا المظهر بذاته هو دوائر متعددة ومقامات مختلفة تغترف من معينه القلوب المؤمنة كل بحسب سعته وهذا قبس من تجلياته عليه السلام:
التجلي الأول: التضحية والإماتة
{وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيَارِكُمْ مَا فَعَلُوهُ إِلَّا قَلِيلٌ مِنْهُمْ وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا} [النساء : 66]
.جاء في الحديث القدسي   ((... من أحببته قتلته ، ومن قتلته  فعلي ديته ، ومن علي ديته فانا ديته )) [6].
نعم لقد كتب الله تعالى على الحسين عليه السلام ان يخرج من داره بعياله وبكل ما يملك من اجل وصال الحبيب هذا الوصال الاستثنائي الفريد والحسين صلوات الله تعالى عليه افنى نفسه وذاته من اجل رضى الحبيب نعم من اجل ان يعبد حق عبادته من اجل رفع الظلم عن عياله وخلقه وكل ذلك يستلزم رضاه فكان الله تعالى دية الحسين وكان الحسين ثأر الله ولا يخفى ما عليه اعراف الناس من ان الذي يأخذ الدية يستقبح عليه طلب الثار لكن الله شاء وليس لمشيئته راد ولا دافع ولا مستقبح فشاء ان يرى الحسين قتيلا وشاء ان يرى مهدي اخر الزمان  طالبا بالثأر السرمدي وشاء ان تكون دية الحسين ذلك الحضور الملكوتي عند ذلك المقام الصمدي (وإن لك في الجنان لدرجات لن تنالها إلا بالشهادة) .
انه الثأر الكوني والذي لايدركه الا خليفة الله الكوني يقول تعالى: ( وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنا لِوَلِيِّه ِ سُلْطاناً فَلا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّه ُ كانَ مَنْصُوراً ) روى في الكافي عن الصّادق عليه السّلام (أنّها نزلت في الحسين عليه السّلام لو قتل أهل الأرض به ما كان مسرفا) [7].
واضاف الثأر اليه تعالى تشريفا اعتباريا تكوينيا هذا وان لاصحاب الذوق العرفاني توجيها اخر سوف ياتي .
 
الثاني: تجلي المعرفة: قال رسول الله صلى الله عليه واله وسلم: (...ان للحسين في بواطن المؤمنين معرفة مكتومة....) [8].
لاجل ذلك فان اصرار محبيه وشيعته على مواصلة اللقاء والزيارة ناتجة عن مستوى هذه المعرفة يقول الفيلسوف الشيعي ابن سينا عن حقيقة الزيارة المعرفية في رسالته الى ابي الخير: (ان النفوس الزائرة المتصلة بالبدن الغير المفارقة تستمد من تلك النفوس المزورة جلب خير او دفع ضر واذى فينخرط كلها في سلك الاستعداد والاستمداد لتلك الصورة المطلوبة فلابد ان النفوس المزورة لمشابهتها العقول ومجاورتها لها تؤثر تاثيرا عظيما وتمد امدادا تاما بحسب اختلاف الاحوال وهي اما جسمانية او نفسانية اما الجسمانية فمثل مزاج البدن فاذا كان على حالة معتدلة في الطبيعة والفطرة فانه يحدث فيه الروح الذي يؤثر في تجاويف الدماغ وهو الة النفس الناطقة فحينئذ يكون الاستعداد والاستمداد على احسن ما يمكن ان يكون لا سيما اذا اضيف اليها قوة النفس وشرفها وايضا مثل المواضع التي تجتمع فيها ابدان الزوار والمزورين فان فيها تكون الاذهان اكثر صفاء والخواطر اشد جمعا والنفوس احسن استعدادا ) [9].
ينطلق الشيخ الرئيس في تفسيره لحقيقة العلاقة بين الزائر والمزور من بعده الفلسفي الحكمي وعلى الرغم من ابن سينا على مشرب المشاء الا تفسيره هذا قمة في التنور المتوائم مع النسق الإشراقي خصوصا وانه يعبر عن النفوس العالية للمزور بالعقول والعقل عند الحكماء تعبير عن العوالم المتعالية المتصلة بالكليات الشريفة المنتشرة في حقائق الأشياء على نحو السعية والواسطة الفيضية ولان الزيارة تعبير اتم عن الوصال والوصال ملاك العشق فان للحسين تجليات اخرى تتفرع على هذا الملاك وهي:
الثالث: تجلي العشق: يقول الله تعالى في الحديث القدسي(من طلبني وجدني ومن وجدني أحبني ومن أحبني عشقني ومن عشقني عشقته ومن عشقته قتلته ومن قتلته فعلي ديته وأنا ديته).
الركيزة الأساسية للعشق الإلهي هي الشوق والشوق يولد الطلب والطلب يتبع الارادة ويولد الوجد والوجدان يقول الإمام الصادق عليه السلام:( المشتاق لا يشتهى طعاما ولا يلتذ شرابا ولا يستطيب وقادا ولا يأنس حميما و لا يأوي دارا ولا يسكن عمرانا ولا يلبس ثيابا ولا يقر قرارا ويعبد الله ليلا ونهارا راجيا بان يصل إلى ما يشتاق إليه ويناجيه بلسان الشوق معبرا عما في سريرته).
وهذا التجلي تنزل بكل معانيه وشئوناته الملكية والملكوتية في يوم عاشوراء على صفحة الوجود وهو يطأ متن الحقائق لينعكس في مرآة التاريخ عطاء لمحبيه وعاشقيه فكان العاشق الحق معشوقا حقيا تنتمي اليه كل مرادات العاشقين فكأن الالهام تقطعت به السبل وتاه عن كل مصادره الا سبيل الحسين ومصدره فهو لوحده الذي حق له وله الحق ان يكون المنهل الفرد لكل طبائع العاشقين لانه وحده ضمن لهم الكمال والجلال والجمال وهي عناصر العشق التي ينوء اليها وبها يلوذ.
يقول ابن سينا في رسالة العشق(كل شيء اذا تحقق ان شيئا من الموجودات يفيد التشبه به والتقرب والاختصاص به زيادة فضيلة ومزية فانه يعشقه بطباعه عشق العامل لوليه ثم النفوس الالهية من البشرية والملكية لا يستحق اطلاق التأله عليها مالم تكن فائزة بمعرفة الخير المطلق اذ من البين ان هذه النفوس لن توصف بالكمال الا بعد الاحاطة بالمعقولات المعلولة ولا طريق الى تصور المعقولات المعلولة مالم يتقدم عليها معرفة العلل الحقيقية وخاصة العلة الاولى .....الى آخر الرسالة التي يفسر بها حقيقة العشق الالهي عند النفوس المتألهة) [10].
 
الرابع: تجلي النور. يقول اية الله جعفر التستري في كتابه الخصائص الحسينية(قد تحقق إن الحق هو إن أول المخلوقات هو نور النبي (ص) أو نوره وأنوارهم، فعلى كلا التقديرين (نقول) إن أول المخلوقات هو نور الحسين (ع) لان النبي (ص) قال: (حسين مني وأنا من حسين) وفي رواية أخرى (أنا من حسين وحسين مني) فهو أول مخلوق وأول ما صدر عن الأول) [11] .
يقول ابن عربي العارف المشهور في صلاته على الامام الحسين ع (النور المتوحد بالهمة العلياء المتوسد بالشهود والرضا مركز عالم الوجود سر الواجد والموجود شخص العرفان وعين العيان نور الله وسره الأتم المتحقق بالكمال الأعظم ونقطة دائرة الأزل والأبد المتشخص بألف الأحد فاتحة مصحف الشهادة والي ولاية السيادة الأحدية الجمع الوجودي والحقيقة الكلية الشهودي كهف الإمامة وصاحب العلامة كفيل الدين الوارث بخصوصيات سيد المرسلين والخارج عن محيط الأين وللوجود انسان العين ومضمون الابداع مذوق الأذواق ومشوق الأشواق مطلب المحبين ومقصد العشاق المقدس عن الشين أبي عبد الله الحسين عليه السلام) [12] .
 
ولو حللنا هذا النص نجد في معانيه جملة من عناصر الغيب والشهود والتي هي من مقتضيات شؤون المثل المتعالي وهذه جملة منها:
1-    "مركز عالم الوجود" بناء على نظرية وحدة الوجود التي تؤمن بها المدرسة العرفانية [13] وكذلك مدرسة الحكمة المتعالية [14]التي تؤمن بها على شروط تأسيسية خاصة بها فان حقيقة الامام الحسين ع بناء على هذا الفهم تمثل قيمة عرفانية قائمة على نمط التعريف بالصوادر الاولى المتعالية والمتوحدة بازاء عالم العقل الاول او ما يسمى بمقام الانسان الكامل والحقيقة المحمدية.
2-    سر الواجد والموجود
السر عند العرفاء ماغيبه الحق ولم يشرف عليه الخلق فسر الخلق ما اشرف عليه الحق بلا واسطة وسر الحق مايطلع عليه الا الحق وسر السر مالا يحس به السر فان احس به فلا يقال له سر والسر ايضا هو المعنى الخفي عن ادراك المشاعر وحقيقته في هذا القسم سر الولاية الذاتية عند الفناء عن رسوم الصفات البشرية فصاحبه يستر حاله عن الخلق غيرة ويتأدب بادب الشرع صونا ويتهذب في الاخلاق والمعاملات ظرفا....وسرائر الاثار هي الاسماء الالهية التي هي بواطن الاكوان  [15].
فيكون مقام الحسين ع في هذه الشؤون مقام تجلي صفات الواجد واسماءه التي هي محض اسراره خصوصا تجلي الاسم الاعظم في مراتب الموجود واسراره التي هي اثار تلك الصفات والاسماء لذلك نسب الله ثأر الحسين ع اليه وهي ليست اضافة تشريفية كما يحلو للبعض تفسيرها وانما اضافة اشراقية سرية حقيقية لان قتل الامام الحسين انما كان تجاسرا وتجرؤا على مقام صفات الله واسماءه والتي تجلت حقيقة في وجود الحسين الطاهر. 
3-    عين العيان
العيان: الحقيقة كما هي في الحضرة العلمية وعين العيان تعبير عن الانسان الكامل المتحقق بحقيقة البرزخية الكبرى لان الله ينظر بنظره الى العالم فيرحمه بالوجود كما قال: لولاك لما خلقت الافلاك [16].
4-    نقطة دائرة الازل والابد
النقطة التي في وسط الدائرة هي معنى الحقيقة ومعنى الحقيقة شيء لا تغيب عنه الظواهر والبواطن ولا تقبل الاشكال منه نعلم ان الحسين عليه السلام كان بنهضته قد اوجد سر الحقيقة الرابط بين الازل والابد لذلك فعاشوراء مزايل للزمان غير داخل فيه دخولا حقيقيا لان صيرورته لا تنفك عن الازل ولا ينفك عنها الأبد لانها حقيقة مقام فناء الشهود في الوجود ومحق عالم الشهادة بعالم الغيب .
5-    المتشخص بألف الاحد
الالف: اشارة يشار به الى الذات الاحدية اي الحق من حيث هو اول الاشياء في ازل الازال [17] " والتشخص هو الخروج من حدود الشأنية الى حدود الفعلية المجعولة في مكنون الاشياء فيريد ابن العربي ان يقول بان مقام الاحدية المتنزل عن مقام غيب الغيب والذي هو مقام الحقيقة المحمدية انما تشخص بحقيقة الحسين عليه السلام في مقام (انا من حسين).
6-    فاتحة مصحف الشهادة
من المعلوم ان مصطلح الشهادة بمعناه الفقهي الذي هو القتل في سبيل الله مستمدة من الروايات عن اهل البيت ع وذلك لانهم اوجدوا مناسبة بين هذا المعنى ومعنى الشهادة الاسمائية الوجودية المعروف بعالم الشهادة او مقام الشهود وهذين المعنيين الحقيقي والاشتقاقي ولا اقول المجازي لان بين المجاز والحقيقة مباينة مصداقية بينما بين الشهود الاسمائي والشهادة في سبيل الله تمام الموافقة فعلا وذاتا وهو مايسميه العرفاء بالشهادتين الصغرى والكبرى والحسين ع جمع بين المقامين فهو ذو الشهادتين "اما الصغرى فاعلى مقاماتها هو القتل في سبيل الله تعالى والشهادة الكبرى قسمان اعلى وادنى فالاعلى شهود الحق تعالى بعين اليقين في سائر مخلوقاته فاذا رأى مثلا شيئا من المخلوقات فانه يشهد الحق تعالى في ذلك الشيء من غير حلول ولا انفصال فاذا صح للعبد هذا المشهد فهو مشاهد لله تعالى وهذا اعلى مناظر الشهادة وما بعدها الا اول مراتب الصديقية وهو الوجود فيفنى عن نفسه بوجود ربه وحينئذ يدخل في دائرة الصديقية واما القسم الادنى من الشهادة الكبرى فهو انعقاد المحبة لله تعالى من غير علة فتكون محبته لله تعالى لصفاته وكونه اهلا ان يحب" [18]  والحسين عليه السلام له مقام الفاتحة لان فيه حقيقة الشهادتين فكما ان سر القرآن مكنون في الفاتحة فكذلك سر الشهادتين فهو مكنون في الحسين عليه السلام.
7-    والي ولاية السيادة الاحدية الجمع الوجودي.
الولاية: اسم للوجه الخاص الذي بين العبد وبين ربه ونبوة الولاية اسم للوجه المشترك بين الخلق والحق في الولي ونبوة التشريع اسم لوجه الاستقلال في متعبداته بنفسه من غير احتياج الى احد والرسالة اسم للوجه الذي بين العبد وبين سائر الخلق فعلم من هذا الولاية النبي افضل من نبوته مطلقا ونبوة ولايته افضل من نبوة تشريعه ونبوة تشريعه افضل من رسالته لان نبوة التشريع مختصة به والرسالة عامة بغيره وما اختص به من التعبدات كان افضل مما تعلق بغيره.
والولاية ايضا هي ان يتولى الله الواصل الى حضرة قدسه بكثير مما تولى به النبي من حفظ وتوفيق وتمكين واستخلاف وتصريف فالولي يساوي النبي في امور منها العلم من غير الطريق العلم الكسبي والفعل بمجرد الهمة فيما لم تجريه العادة ان يفعل لا بالجوارح والجسوم مما لاقدرة عليه لعالم الجسوم [19].
احدية الجمع: اعتبارها من حيث هي بلا اسقاطها وبلا اثباتها بحيث يندرج فيها النسب, فان تلك الحيثية كما تطلق على الذات بهذا الاعتبار تطلق ايضا باعتبار اسقاط النسب وانما سميت بها لجمعها الاحدية والواحدية [20].
والجمع الوجودي هو تلاشي عين الاتصال في عين الوجود محقا.
اذن فهذا المقام الحسيني المتعالي هو حقيقة مقام جده المصطفى ص لأنه منه وهو منه وهذه المنية لا يمكن التعبير عنها الا بالدائرة التي مركزها محمد وحقيقتها علي ونقطة التلاقي فيها الحسين عليه السلام وهي الولاية في مقام الجمع وهو المقام الذي محق فيه الحسين عليه السلام وجوده الملكي ليكون عينا حقانية في مرتبة الاتصال الوجودي.

قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat


الشيخ عدنان الحساني
 (للدخول لصفحة الكاتب إضغط هنا)

    طباعة   ||   أخبر صديقك عن الموضوع   ||   إضافة تعليق   ||   التاريخ : 2015/03/23



كتابة تعليق لموضوع : تجلي الشهود الحسيني بين مشارق الفلسفة ومغارب العرفان
الإسم * :
بريدك الالكتروني :
نص التعليق * :
 



حمل تطبيق (كتابات في الميزان) من Google Play



اعلان هام من قبل موقع كتابات في الميزان

البحث :





الكتّاب :

الملفات :

مقالات مهمة :



 إنسانية الإمام السيستاني

 بعد إحراجهم بكشف عصيانها وخيانتهم للشعب: المرجعية الدينية العليا تـُحرج الحكومة بمخالفة كلام المعصومين.. والعاصفة تقترب!!!

 كلام موجه الى العقلاء من ابناء شعبي ( 1 )

 حقيقة الادعياء .. متمرجعون وسفراء

 قراءة في خطبة المرجعية : هل اقترب أَجلُ الحكومةِ الحالية؟!

 خطر البترية على بعض اتباع المرجعية قراءة في تاثيرات الادعياء على اتباع العلماء

 إلى دعاة المرجعية العربية العراقية ..مع كل الاحترام

 مهزلة بيان الصرخي حول سوريا

 قراءة في خطبة الجمعة ( 4 / رمضان/ 1437هـ الموافق 10/6/2016 )

 المؤسسة الدينية بين الواقع والافتراء : سلسلة مقالات للشيخ محمد مهدي الاصفي ردا على حسن الكشميري وكتابيه (جولة في دهاليز مظلمة) و(محنة الهروب من الواقع)

 الى الحميداوي ( لانتوقع منكم غير الفتنة )

 السيستاني .. رسالة مهدوية عاجلة

 من عطاء المرجعية العليا

 قراءة في فتوى الدفاع المقدس وتحصين فكر الأمة

 فتوى السيد السيستاني بالجهاد الكفائي وصداها في الصحافة العالمية

 ما هو رأي أستاذ فقهاء النجف وقم المشرّفتَين السيد الخوئي بمن غصب الخلافة ؟

 مواقف شديدة الحساسية/٢ "بانوراما" الحشد..

أحدث مقالات الكتّاب :


مقالات متنوعة :





 لنشر مقالاتكم يمكنكم مراسلتنا على info@kitabat.info

تم تأسيس الموقع بتاريخ 1/4/2010 © محمد البغدادي 

 لا تتحمل الإدارة مسؤولية ما ينشر في الموقع من الناحيتين القانونية والأخلاقية.

  Designed , Hosted & Programmed By : King 4 Host . Net