صفحة الكاتب : زوزان صالح اليوسفي

سبايكر وموت الضمير
زوزان صالح اليوسفي

   
ما حسبت أن ليلة 11 من حزيران سيكون العشاء الأخير لنا معاً نحن الأصدقاء الخمسة الذين أنضممنا سوية وعن قناعة إلى التطوع نحو خدمة الدفاع عن الوطن مع خيرة شباب الوطن، وكم كانت فرحتنا عظيمة حين حصلنا جميعنا على القبول، لن أنسى ذلك اليوم السعيد ونحن نقرأ أسمائنا أسماً تلو الآخر على لائحة قبولنا للتطوع في القاعدة الجوية سبايكر، وعدنا إلى منازلنا لنبث فرحتنا لأهلنا ونحن نُردد بشغف ونصفر طول الطريق نشيد موطني، ذلك النشيد الوطني الذي طالما كان له مفعوله السحري علينا حينما كنا ننشده كل خميس في يوم رفع العلم منذ مرحلة الأبتدائية، هذا النشيد الذي زرع في قلوبنا حب الوطن منذ صغرنا ولحد آخر يوم عشناه في هذا الوطن الجريح.  
كانت فرحة لا تضاهيها فرحة ولن أنسى ذلك اليوم الذي بادرنا بها سوية على وليمة المسكوف الرائع على ضفاف دجلة قبيل إلتحاقنا بيوم، أحلام رائعة كانت تراود خيالنا النامي المغامر المليء بعنفوان الشباب والتحدي والقوة، فنحن أصدقاء منذ المرحلة الأبتدائية ثم الثانوية ثم قررنا أخيراً الإنخراط في خدمة الوطن، فنحن من حي واحد، وأولاد حارة واحدة، أنا وحيدر وعلي وحسن وكاوه من محافظات متنوعة تربطنا صداقة قوية وصحبة جار قديمة، ورغم أننا جميعاً من مذهب واحد لكننا لم نكن يوما نفكر بأننا مختلفين عن أصدقائنا الآخريين من المذاهب الأخرى، فأثنين من مجموعتنا أمهاتهما من السنة وكاوه كردي فيلي، وكان لنا دوماً أصدقاء من كل الأطياف التي تعيش في العراق فمدارسنا كانت دوماً تعج بالسنة والشيعة والأكراد والتركمان والمسيح والصابئة وغيرهم، لم أتذكر يوماً بأننا أختلفنا أو تشاجرنا أو حقدنا على بعضنا البعض، بل تعلمنا من أهالينا دوماً بأننا شعب نعيش بوئام وسلام وتجمعنا نشيد موطني.
حين ألتحقنا بالواجب الوطني أنضممنا إلى فرقة الإستطلاع مع ثلاثة آلف جندي من عدة محافظات ومكثنا هناك شهراً كاملاً، وفي اليوم الثامن من حزيران تم تحريك وحدتنا بجميع جنوده ضمن قاطع عمليات صلاح الدين، في حدود الساعة العاشرة من ليلة الحادي عشر من حزيران تحركت وحدتنا إلى قاعدة سبايكر بأمر من قائدها، فدخلنا إلى القاعدة بسيارات وملابس عسكرية، كانت فيها قوات من الفرقة الذهبية وسوات ووحدات عسكرية أخرى، عملها تصدي لأي هجوم مسلح على القاعدة، كنا مطمئنين بعدم قدرة أحد من الوصول إلى تلك القاعدة المحصنة، ولم نكن نعلم حينها أن محافظات الموصل وصلاح الدين والمناطق المحيطة بهما أصبحت تحت سلطة المسلحين خلال أيام بل ساعات معدودة؟!!، ولم نجهز بأي من قطع السلاح؟!!، الصمت الموحش يسود الأجواء؟!!
في موقعنا ليلاً وقبل الحادث المأساوي البغيض، همد الهواء وحر حزيران اللاهب الذي كان يتسلل إلى جلدنا كالأفعى، في هذه الليلة سكن فيه كل شيء وغاب الأصدقاء في غفوة، ورغم أن النعاس لم يكن يبرح جفوني إلا أن في داخلي كان شيئاً محيراً ومقلقاً لم أفهم مغزاه، وقد أمتلئ الجو بجحافل البعوض ماصصي الدماء، مدتت يدي لأهرش قدمي فبعوضة حاقدة أخذت حقها من دمائي لتشبع جوعها الوحشي ثم أفرغت ما في جوفها من السموم ومن حقدها على بني البشر، تمنيت أن لا تتهنا بدمائي تلك الحشرة الوحشية الحقودة.
أخذت أفتش في حقيبتي لعلي أعثر على شيء أشغل به نفسي حتى يستلمني النوم، أخيراً وجدت ضالتي كتاب أودعني بها والدي من أرشيفه القديم، كان شديد الشغف بالكتب التاريخية، تذكرت كلماته وهو يدس الكتاب في حقيبتي ويردد بحزن قائلا: خذ هذا الكتاب يا ولدي لعلك تتسلى بها في أوقات فراغك إنها حكاية عن الحرب العالمية الثانية.
أجبته بأبتسامة قائلاً: نحن في القرن الحادي والعشرين يا أبي، وقد مرت سنون على الحرب العالمية الثانية، على العموم من أجلك سوف أقرأ كتابك إذا سنحت لي الظروف.
أخذت الكتاب وأنا أتذكر وجه والدي الحبيب الحزين على فراقي، وبدأت أقرأ الكتاب بنهم وقد سكن كل شيء حولي سوى سمفونيات شخير بعض الزملاء لي في القاعدة من شدة التعب والأعياء بعد أنتقالنا إلى هذه القاعدة، أخذت أحسدهم على هذا النوم العميق، فرغم النعاس الذي لم يفارق عيني إلى أنني لم أزل متيقظاً كامل اليقضة وما زال شيئاً خفياً يدغدغ حاستي السادسة، أجهل سره؟!!، ولكن الكتاب ساعدني على التغلغل فيه وقد شرعت في قرأته ومرت ساعة وساعتان، كان الكتاب عبارة عن وقائع ونتف هنا وهناك، حكايات مؤلمة، مريرة عن الأيام الأخيرة للحرب العالمية الثانية في ( برلين )، قوات التحرير تتقدم نحو المدينة، حيث بدأت على بعد 61 كم وأنتهت إلى رفع راية التحرير فوق قمة متهدمة من ( رايخشتاخ ) الذي جعل من تعذيب الإنسان ومن إبادة الجنسي البشري وتجويع البشر شعاراً وشريعة، حتى ذهب منفذوها إلى جهنم هروباً وأنتحاراً أو ألتف الحبال حول رقابهم ( في شباندو )، القصة كلها حكاية خراب ودمار وموت الضمير!! أجل موت الضمير ذلك هو مشكلة الإنسان، الدور والأبنية تتهدم، على الرؤوس، تطمر أجساد بشرية تحت الأنقاض، تتلون الشوارع والأرصفة والأزقة بلون الدم الأحمر القاني، بقايا أدمغة بشرية هنا وهناك، القذائف والطلقات النارية والقنابل تمزق كل شيء حتى البشر وتحوله إلى أشلاء، الدخان الأسود يملاء السماء وقصبات الأطفال والنساء والعجزة، البرد يقتل والجوع يقتل، نساء أستوردن للسخرة وإمتاع الماردين، كل لحظة كانت تحمل موتاً للضمير، والعيون تظل ترنو في الظلام إلى نور يهدي بصيص أمل، وتلك هي موت الضمير.
أنتهيت من كتابي على صياح الديك ليؤذن إعلان الفجر، وحتى بات صوته يرن في إذني وكأنه يصيح موت الضمير.. موت الضمير .
هرب النعاس من جفني وأزداد قلقي وتوتري نهضت لأصلي ركعتي الفجر وانا أدعو من الله القدير بأن يُحي الضمائر ويجمع أمتنا على الألفة والمحبة، ثم تمنيت أن أعود إلى أهلي سالماً أنا وأصدقائي.
مرت ساعات الصباح من يوم الخميس 12 حزيران كالدهر، الأجواء متوترة، الوضع محمومٌ ومربكٌ تتخلله بعض اللحظات الهستيريا، أوامر غريبة، ضجيج دون سبب ومعرفة، وجوه بعض قادتنا تحمل ألف علامات الإستفهام؟!!، رائحة الغدر والخيانة باتت تفوح شيئاً فشيء، كل شيء حولنا يدل على مؤامرة سرية مجهولة، وما أن أقتربت الساعة من التاسعة صباحاً حتى نادوا للتجمع، ودون مقدمات أخبرونا قائلين: أن الأوضاع آمنة وليس هناك ما يقلق وسوف تحصلون على إجازات لمدة أسبوعين ثم تلتحقون بعدها، عليكم النزول بملابسكم المدنية وعليكم أن تتركوا هوياتكم ووثائقكم وأجهزات جوالكم هنا تحسباً لوجود المسلحين على طريق بغداد.
أزداد شكِ وبدأ مفعول حاستي السادسة تزداد، وأيقنت أن هناك شيئاً ما سوف يحدث، رغم أن زملائي كانوا طبيعين ولم تبدو عليهم أي علامات القلق أو الأستغراب، ولم يدركوا أن الخيانة تسلك طريقها إلينا كسرعة البرق، هكذا حتى بدأت حكاية موت الضمير، وبدأ المسلحين يقومون بتفتيشنا بحثاً عن الأسماء والهويات والهواتف، أستمر هذا المشهد التراجيدي أكثر من ساعة، ثم هجم علينا المسلحين وقيدونا وعصبوا أعيننا وأركبونا في سيارات حكومية، وبعد مسافة توقفت السيارات وطلبوا منا الترجل منها، أخذوا يضربوننا بأعقاب البنادق يقودونا في غرفة منفردين للتحقيق معنا والتأكد من أنتمائتنا كنت من بين المنتظرين لدورهم وأنا في غضم الذهول، قادونا في طابور يتقدمنا ماردين ملثمين بالسواد فتحوا علينا العصي والهراوات، جراح تنزف منا، رايات سوداء ترفع، كل شيء أسود حتى شمس الضحى بدا لي كأنه موشح بالسواد، طلقات نارية أنهالت كزخات المطر، أختنقت الأصوات وأحتضرت الأرواح وأبيدت الضمائر، كل شيء حولي بلا ضمير، وأنا بين الحلم والحقيقة أعيش، شعرت بأن الموت قادم نحوي أيضاً لا محالة، أخذت أتشهد وأتلو الآيات واحدة تلو الأخرى، ومرت سلسلة حياتي أمامي كشريط سينمائي سريع العرض رأيت من خلالها أمي وأبي الغاليين إخوتي وأصدقائي، طفولتي صبايا حارتي، جارتي وحبيبتي ياسمين.
وفي لحظات رميت بدفعة فولاذية تحت أقدام الماردين تذوقت طعم الطين المعجون بدماء قانية شممت رائحة التراب ومن حولي دمار وفناء، أختلطت أنينا وآهاتنا بأنين الأرض، أنفاس متقطعة محتضرة تلهث بحثاً عن الفناء.. الموت.. الضياع..، في وطنٍ مات فيه الضمير، لا جدوى من المقاومة لا جدوى من الصياح لا جدوى من أي شيء حينما تجابه من هم أموات الضمائر، هنا تذكرت والدي الحبيب وكتابه والحرب العالمية الثانية ورايخشتاخ، وخجلت من نفسي حينما أخبرته أننا في القرن الحادي والعشرين، نظرت إلى السماء الزرقاء الصافية، تمنيت لو أن السماء تتلبد بالغيوم وتمطر حجراً من النار لتفقئ بها عيون الغادرين، كما حدث في معجزة الكعبة وعلى جيش إبرهة، ولكني أدركت بأنني لسنا في عصر المعجزات حيث تموت الضمائر، وأخذت أردد بصمت نشيد موطني الذي أبى ترك شفتي وأنا في غضم الأحتضار أمام موت الضمير.


قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat


زوزان صالح اليوسفي
 (للدخول لصفحة الكاتب إضغط هنا)

    طباعة   ||   أخبر صديقك عن الموضوع   ||   إضافة تعليق   ||   التاريخ : 2015/03/05



كتابة تعليق لموضوع : سبايكر وموت الضمير
الإسم * :
بريدك الالكتروني :
نص التعليق * :
 



حمل تطبيق (كتابات في الميزان) من Google Play



اعلان هام من قبل موقع كتابات في الميزان

البحث :





الكتّاب :

الملفات :

مقالات مهمة :



 إنسانية الإمام السيستاني

 بعد إحراجهم بكشف عصيانها وخيانتهم للشعب: المرجعية الدينية العليا تـُحرج الحكومة بمخالفة كلام المعصومين.. والعاصفة تقترب!!!

 كلام موجه الى العقلاء من ابناء شعبي ( 1 )

 حقيقة الادعياء .. متمرجعون وسفراء

 قراءة في خطبة المرجعية : هل اقترب أَجلُ الحكومةِ الحالية؟!

 خطر البترية على بعض اتباع المرجعية قراءة في تاثيرات الادعياء على اتباع العلماء

 إلى دعاة المرجعية العربية العراقية ..مع كل الاحترام

 مهزلة بيان الصرخي حول سوريا

 قراءة في خطبة الجمعة ( 4 / رمضان/ 1437هـ الموافق 10/6/2016 )

 المؤسسة الدينية بين الواقع والافتراء : سلسلة مقالات للشيخ محمد مهدي الاصفي ردا على حسن الكشميري وكتابيه (جولة في دهاليز مظلمة) و(محنة الهروب من الواقع)

 الى الحميداوي ( لانتوقع منكم غير الفتنة )

 السيستاني .. رسالة مهدوية عاجلة

 من عطاء المرجعية العليا

 قراءة في فتوى الدفاع المقدس وتحصين فكر الأمة

 فتوى السيد السيستاني بالجهاد الكفائي وصداها في الصحافة العالمية

 ما هو رأي أستاذ فقهاء النجف وقم المشرّفتَين السيد الخوئي بمن غصب الخلافة ؟

 مواقف شديدة الحساسية/٢ "بانوراما" الحشد..

أحدث مقالات الكتّاب :


مقالات متنوعة :





 لنشر مقالاتكم يمكنكم مراسلتنا على info@kitabat.info

تم تأسيس الموقع بتاريخ 1/4/2010 © محمد البغدادي 

 لا تتحمل الإدارة مسؤولية ما ينشر في الموقع من الناحيتين القانونية والأخلاقية.

  Designed , Hosted & Programmed By : King 4 Host . Net