هل جميع أفعال النبي محمد (ص) وحي ؟
مكتب سماحة آية الله الشيخ محمد السند (دام ظله)

المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الموقع، وإنما تعبر عن رأي الكاتب.

 السؤال: شبهةٌ طرحها أحدُ الباحثين …. يقول: الشيعه تقول بمقتضى الآية الشريفة (( وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى )) سورة النجم ، اي فعل يصدر من النبي (ص) وحي، مثل: لبس الثوب، وشرب الماء، ودخول الحمام، والنوم، والجماع، وعد الأموال، ثم يقول: لا يمكن أن نقبل هذه العصمه المطلقه لعدت أسباب نحو آية التحريم اذا كان فعله وحي لماذا يعاتبه الوحي … ….

وكيف الرد بتفصيل، ونعلم أن الآية مطلقه، ولكن كيف تكون أفعالُهُ وحي نحو الجماع وشرب الماء وغيرها ..؟

 

راجين منكم الإجابة، ولكم منا جزيل الشكر والتقرير والإحترام ..

 

جمع من طلبة العلم في الحوزة العلمية في النجف الأشرف

*…*…*…*…*…*…*

 

بسمه تعالى

 

الجواب : يتضح من نقاط :

 

1_ إن الشريعة والدين له توجيهٌ وهداية في كل الأفعال حتى الدخول إلى دورة المياه لقضاء الحاجة، فجعل لكل شيء أدبا بارعا ناشئ من خلق كريم، فبالتدقيق ليس من فعلٍ إلا ولله تعالى فيه حكم وتوجيه وأدب .

ومن ثم شملت الأحكام الفقهية كل الأفعال صغيرها وكبيرها حقيرها وعظيمها .

 

2_ بل ليس الأمر والشأن يختص بالأحكام الفقهية بل المعارف كذلك فإنها شاملة لكل الأفعال، صغيرها وكبيرها، حقيرها وعظيمها، فإن لكل فعل تأويل معرفي حق يدركه أولى الألباب،

كما ورد بيان أميرالمؤمنين (عليه السلام) لتأويل مد رقبة الراكع في الصلاة، وتأويل وضع إحدى رجليه اليمنى على اليسرى في جلسة التورك في الصلاة .

كما ورد عن أهل البيت (عليهم السلام) تأويل اعتياد البشر النظر إلى مايخرج منهم من الغائط. وغير ذلك من الموارد .

 

3_ من ذلك يتضح عموم الهداية الإلهية والنبوية لكل أفعال الإنسان، سواء مما يرتبط بشؤونه الخاصة أو بعلاقته بالآخرين من كل المخلوقات حتى الملائكة والجن والحيوان والنبات والمجتمع والأمم والمعادن والجمادات .

 

4_ وقد ورد في الآيات والروايات آثار لكثير من الأعمال دنيوياً واخروياً.

 

5_ ومن ذلك يظهر عموم قوله تعالى:(( لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ )) الأحزاب 21، للتأسي به (ص) في كل صغيرة وكبيرة، فإن لكل ذلك أدب ورسم إلهي ليوصل الإنسان إلى الكمال درجة درجة ومنزلا منزلا.

وكذلك يظهر عموم قوله تعالى: (( وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ )) القلم 4، حتى للأفعال التي عاتبه الله فيها كما في سورة التحريم وغيرها من العديد من الموارد وكذلك عموم للتأسي لتلك الموارد أيضاً من دون منافاته مع العتاب الإلهي كما سيتضح من النقاط الآتية .

 

6_ إن الأفعال ذات مراتبٍ لا متناهيةٍ في الكمالِ والكمالاتِ وكذلك الفضائل والمناقب قال تعالى: (( نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَّن نَّشَاءُ ۗ وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ )) يوسف 76،

وقال تعالى: (( وَقُل رَّبِّ زِدْنِي عِلْمًا )) طه 114،

أي فوق كل ذي قدرة قدير وفوق كل حياة حي، وفوق كل ذي هيمنة مهيمن ووو.

وأيضاً وقل رب زدني ظهرا وزدني قدرة وزدني حياة ووو.

فهناك تفاوت كبير كبير لاينتهي في درجات الكمال والكمالات والفضيلة والفضائل ولايقل عند حد.

ولايخفى هذا التفاوت والتصاعد في الكمالات لا ينطبق على التشكيك عند السفسطيين القدماء ولا الجدد وهم الحداثوية لأنه تفاوت في مراتب الحقيقة والحقائق لا الدوران بين الحقيقة والباطل .

ومن هذا القبيل قوله تعالى: (( وَدَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ • فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ ۚ وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا ۚ )) الأنبياء 78 – 79.

 

7_ مما مر يعلم أن حكم داود حق لكن حكم سليمان أحق وهذا من تفاوت مراتب الحق والحقيقة والكمال فليس حكم داود باطلا ولاينحصر الحق بحكم سليمان بل حكم سليمان أحق ومن ذلك الحكم المنسوخ فإن نسخه ليس بمعنى تبدله إلى الباطل بل بمعنى أن هناك حكم أكثر صلاحا وأكثر هدياً.

 

8_ فما نجده من عتاب لسيد الأنبياء (ص) أو لبقية الأنبياء ليس ذلك يعني أن ما أتوا به معصية ومخالفة حرمة تكليفية حاشاهم بل المراد عتاب على تركهم ما هو أولى أن يختاروه مما هو أعظم كمالاً.

نظير عتاب مدير المدرسة أو المعلم تلميذه النبيه الأول في مجموعة صفه على عدم مجيئه بالدرجة والعلامة الكاملة وإن كان ما أتى به تفوق كبير على أقرانه ممن هم في عصره ومدرسته بل لا قياس بينه وبينهم .

ومن ثم قيل حسنات الأبرار سيئات المقربين

أي ما يعد حسنٌ عند الأبرار يعد سيئ عند المقربين فهم مطالبون بالأعظم كمالا.

 

9_ لا يخفى أن الأولويات التي تطلب من سيد الأنبياء (ص) لا يتمكن منها بقية أولي العزم فضلاً عن سائر الأنبياء فالأولويات على الأنبياء تتفاوت شدة بحسب مقام ذلك النبي

ومن ثم مايعاتب عليه سيد الانبياء (ص) لايقدر عليه أحد من المخلوقات.

 

10_ لا بُد من الإنتباه أن العصمة متفاوتة بين الأنبياء بحسب مقاماتهم وإن كان الحد الأدنى أو المشترك بينها هو الإعتصام من الذنوب والخطايا لا من جهة الموضوعات ولا من جهة الأحكام

ثم هذا التفاوت يبلغ ذروته في الفرق بين عصمة الله تعالى وتنزه عن الخطأ والخطايا والجهل والجهالات والظلم والظلامات، وبين عصمة سيد الأنبياء (ص).

فإن عصمة الله لاتناهي ولاحد لها في الكمال أبداً سرمداً وأزلاً بالذات قائما بذاته .

بينما عصمة النبي (ص) هي بالقياس إلى الخالق محدودة محتاجة إلى دوام فيض الله تعالى، (( وَقُل رَّبِّ زِدْنِي عِلْمًا )) وكمالاً ووو ..

فكلما اقترب النبي (ص) كمالاً من الباري تعالى لازال المسير لامتناهي إليه تعالى ولايبلغ نهايته ولا أمده شيء.

نعم ليس هناك من هو أقرب إلى الله تعالى وفيضه المستمر من النبي (ص).

فمن ثم تسديده (ص) بالوحي لا بمن دونه من الأنبياء فضلاً عن غيرهم من باقي الناس .

 

11_ مما تقدم يظهر أن مافعله النبي (ص) مما قد عوتب عليه وحي فطر عليه لكنه مطالب بإتباع وحي أعلى

ألا ترى أن القرآن ينهى عن اِتباع بعض آيات المصحف وهي المتشابه في قبال الآيات المحكمة التي أم القرآن. مع أن كلا القسمين وحي إلهي ولكن الوحي طبقات .

ألا ترى أن القرآن ينهى عن اِتباع المنسوخ من الآيات ويأمر بإِتباع الناسخ مع أن كليهما وحي.

ألا ترى القرآن ينهى عن البقاء على شريعة موسى وعيسى والأنبياء السابقين (على نبينا وآله وعليهم أفضل الصلاة والسلام) ويأمر باتباع شريعة محمد (صلى الله عليه وآله) مع أن كلها وحي إلهي .

ألا ترى أن القرآن ذم النصارى على اِتباعهم الحس البصري في القول بقتل وصلب عيسى في قوله تعالى قال الله تعالى: ﴿ وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا(157)بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا(158)﴾ (النساء:157-158).

فسمى الحس ظنا وليس بيقين وذلك في قبال ما هو أعلى درجة في اليقين وهو كلام النبي عيسى (ع) نفسه لهم أنه لن يموت ولن يقتل بل سيبقى إلى ظهور الوصي الثاني عشر لخاتم الانبياء (ص ).

ألم تسمع الحديث النبوي الذي مضمونه أن موسى وعيسى لو كانا في عهده حضورا واتبعا ما أوحى إليهما ولم يتبعا ما يوحى لسيد الانبياء ص لما وسعهما ذلك.

 

12_ وغيرها من الأمثلة الدالة على أن الوحي طبقات متصاعدة وكل وحي أعلى يهيمن على الأنزل النازل .

ألا ترى أن ألقرآن يصف نفسه مهيمنا على كل الكتب السماوية مع أنها كلها وحي .

ألاترى قوله تعالى: (( لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ )) [ البقرة 136].

في حين يقول تعالى: (( تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ )) البقرة 253.

فمع كونهم كلهم على مسير وحياني واحد إلا أنهم متفاوتون وحيانيا.

فلماذا يؤكد على التفاوت والفرق؟

لأجل أن نعي ضرورة هيمنة الأعلى على الأنزل والأدنى في المنظومة الإلهية، مع أنها منظومة واحدة لكن ليست في عرض بعضها البعض.

ألا ترى أن القرآن يحث على الآيات المحكمات كأم للكتاب إلا أنه يؤكد أن الرجوع إلى المحكم منها بدون تعليم الراسخون في العلم الذين يعلمون تأويله لا يتم

‏(( وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ )) آل عمران 7.

 

والحمدلله رب العالمين ..

 

مكتب سماحة آية الله المحقق الشيخ محمد السند (دام ظله الشريف) – النجف الأشرف

الموضوع السابق أقتلوا النفط ينصركم الله!!!

قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat