صفحة الكاتب : عباس البغدادي

أقلام ضد "داعش" ومعها أيضا.. كيف؟
عباس البغدادي
تجتمع آراء أغلب المحللين والخبراء والكتّاب المهتمين بالشأن السياسي والإستراتيجي في حمأة الحرب على تنظيم "داعش" وباقي التنظيمات التكفيرية المتطرفة، على ان التنظيم ومشتقاته قد ارتكزوا بشدة على عوامل الشحن الطائفي كإحدى مخرجات المنهج التكفيري السلفي، التي أنتجت حروباً وكوارث وأزمات في المنطقة والعالم الاسلامي، زادت من وهن الأمة وتراجعها وانكفائها، وجعلوا تلك العوامل محركاً وراء حربيهما في العراق وسوريا -على الأقل-! وهذا يمكن إثباته من البيانات و(الأدبيات) التي تنشرها داعش وباقي الجماعات "السلفية الجهادية" قبيل وطيلة فترة خوضهم للحرب الدائرة، التي جعلت المنطقة كبرميل بارود لا يُؤمن انفجاره في أية لحظة.
ومهما خاض البعض باحثاً عن أسباب وعوامل أخرى (أو مرادفة) فلن يصل سوى الى ذات النتيجة التي مؤداها؛ ان الدوافع الطائفية هي التي عبّأت التكفيريين في العراق وسوريا بترسانة متخمة بالأحقاد والكراهية وإلغاء الآخر؛ بل إبادته، وقد تكرست في هذه الحرب التي نشهد فصولها الكارثية..
لا مناص من الإقرار بتشعّب التعقيدات السياسية والمجتمعية والثقافية في المنطقة، والتي يتداخل بعضها بالعوامل التاريخية، في جعل (وحش الطائفية) متأهباً للاستدعاء من قبل جماعات تكفيرية تنشد مصالح فئوية وشيطانية، لا تتردد في سبيل تحقيقها باقتراف أبشع الجرائم، متلفعة بعباءات دينية ومدججة بفتاوى تكفيرية متطرفة، لتلقم ذخيرتها بـ(المقدس) الذي يُوطّئ لها في المجتمع الاسلامي زوراً وعدواناً.. ولكن هذا الإقرار لا يبرر للكتّاب وأصحاب الأقلام والرأي بأن يقفزوا على الحقائق والمسلّمات، والنظر الى المشهد من زوايا ضيقة وحادة شوهاء، لأن ذلك -ببساطة- لا ينتج سوى تعمية وضبابية تسهم في تعقيد الواقع -المعقد أصلاً- ولا تفضي الى حلول أو معالجات ناجعة؛ بل وربما تصب في قناة الارهاب ومن يقف ورائه! وما يمارسه غالبية الكتّاب وأصحاب الرأي في المشهد الإعلامي والثقافي العربيين يغذّي تلك التعمية والضبابية -للأسف- حينما يتناولون العدوان التكفيري السلفي القائم ضد الأمة بأجمعها من جهة، وفي العراق وسوريا تحديداً، ويقرّون بفداحة الكارثة وما جلبه ذلك النهج التكفيري من مآسٍ وويلات ومآزق لا يمكن تجاوزها بسهولة، بينما لا يتطرقون عن جهل أحياناً، وعن إصرار في الغالب، الى الأبعاد الخطيرة للمنطلقات الطائفية لهذا العدوان الإرهابي، وما يؤسسه بحوامله من كوارث كامنة أخرى، يأتي دورها بعد دحر العدوان القائم!
العراق هو الميدان الأكثر وضوحاً في تجلي الدوافع الطائفية في العدوان التكفيري، بيد انها -الدوافع- لا تبرز بسهولة في الملف السوري، سوى باستهداف الطبقة الحاكمة على انها تجسد مصالح طائفة بعينها -من وجهة نظر الفكر التكفيري ومن يتبناه من مناوئي السلطة-، في حين ان ذروة تلك الدوافع الطائفية قد تجسدت عملياً في استهداف المراقد المقدسة في سوريا، والتي لها وضع خاص لدى الشيعة، مثلما تخص عموم المسلمين. أما العامل الذي يفرض نفسه في تناول الأقلام العربية للشأن العراقي، وبشق الحرب الارهابية الدائرة في البلد، هو تولي الأغلبية الشيعية زمام السلطة منذ سقوط نظام صدام في 2003، ومشاركة السنّة وباقي المكونات في الحكم، وفق آليات العملية الديمقراطية التي تضبط العملية السياسية القائمة، وهذا التحول بعد 2003 وتغيير المعادلات التعسفية التي كانت تدار بها السلطة (لا ترتقي الى مفهوم العملية السياسية) طيلة عقود طويلة، لم ترُق لكثيرين من المتضررين العرب من سقوط الديكتاتورية، وممن لا تناسبهم طبعاً (تعديل الموازين) تلك، أي أن تأخذ الأغلبية الشيعية دورها الحقيقي في العملية الديمقراطية التي دفعوا أثمانها باهضة طيلة تلك العقود لتحقيقها.. وهذا أفضى الى قطع أرزاق عملاء وأبواق النظام السابق من (الأشقاء العرب) من حملة الأقلام والإعلاميين، أو ممن يرتبطون بالمؤسسات الإعلامية الممولة بالبترودولار الخليجي، مثلما يشاركهم الوجهة أولئك المرتبطون بدوائر استخبارية تتربص بالعراق، وتعمل على تشويه تجربته الديمقراطية، وهؤلاء جميعاً لا يُعتد بما ينتجونه سابقاً وحالياً، لأنه أساساً متهافت ومغرض ومفضوح! بينما ينصب اللوم على تلك الأقلام والنُخب الفكرية والثقافية التي عُرفت بموضوعيتها ووقوفها بوجه المشاريع الاستكبارية في المنطقة، ومناهضتها لكل أشكال التطرف، بالرأي أو بالممارسة، وفضحها لفكر التطرف والانحراف المدعوم بالبترودولار، والأسماء أكثر من أن تحصى، ولكنها اليوم، ولضعف متابعتها لتفاصيل المؤامرة التي استهدفت العراق والأمة بعد سقوط الدكتاتورية في العراق، ولاستسهال القراءات السطحية لظواهر التغيرات التي أعقبت السقوط، وعدم مواكبتها فصول المؤامرة الشاملة التي قادها محور الارهاب في المنطقة (السعودية، قطر، تركيا، الأردن وإسرائيل)، وقعت في فخ تبنّي ذات مقولات الطائفيين والمرتبطين بمشروع محور الارهاب، الذين يرددون في كل مناسبة الاسطوانة المشروخة التي مطلعها؛ "إقصاء السنّة وتهميشهم" لتسوّق للمشروع الطائفي المندك في منهج المؤسسة التكفيرية التي أفرزت "السلفية الجهادية" وحروبه الكارثية، وتصب دائماً في صالح داعش ومشتقاتها، وباقي فصائل الارهاب البعثي وتوائمه، وتتلاقى مع طروحات زعماء الشحن الطائفي كعبد المملك السعدي، الذي يصرح في كل مناسبة يتم فيها ذكر إرهاب داعش قائلاً: "إرهاب داعش سببه الظلم والاعتداء والإقصاء والتهميش"! وبذلك وفق هذه الصياغة يكون الدواعش والتكفيريون (مظلومون بفعل الإقصاء والتهميش) من قِبل شيعة الحكم، والمفارقة المضحكة المبكية، ان هذا العنوان يشمل الدواعش من الشيشان والبوسنة وأفغانستان وبريطانيا أو السعودية وباقي الجنسيات!
وهذا التبني من تلك النخب لم يكن يمر -حتى مرور الكرام- على (فلتر) الحقائق التي كانت تفضح تلك المزاعم بمئات الإثباتات والتطبيقات العملية، ولم يكلف أولئك النخبويون أنفسهم حتى بقراءة سريعة للمشهد السياسي ليكتشفوا ان السنّة قد نالوا في مواقع السلطة والقرار أكثر بكثير من نسبهم الديموغرافية، وإنهم يشاركون في كل القرارات ورسم السياسات وإدارة الثروات، ولهم كامل الحرية في انتخاب من يمثلهم، ويتشاركون مع الجميع في الحقوق والفرص، ويعبّرون عن آرائهم بكل حرية في المجلس النيابي وعبر وسائل الإعلام وباقي القنوات المتاحة للجميع.
الغريب حقاً، ان أغلب من يتناولون الشأن العراقي من النخب الآنف ذكرها، وخصوصاً في راهن الحرب الارهابية المستعرة، يفتقرون الى أدنى المعلومات (المفتاحية) لتناول مثل هذا الوضع الشائك والحسّاس، فبعضهم لا يعرف شيئاً عن تعداد العراقيين ولا عن توزيعهم الديموغرافي، ولا عدد محافظات العراق، وأين تقع، ويخلط كثيراً بين أسماء الوزراء ووزاراتهم، وتلتبس عليه الكثير من الكتل النيابية وأسمائها وأحجامها، ولا يمتلك أدنى معرفة عن اقتصاد العراق وثرواته، ولا عن حواضره الدينية ومكانتها بين المسلمين، وغير ذلك كثير! كل ذلك يحدث في الوقت الذي تعصف العالم ثورة المعلومات ومشاعية معظمها وسهولة تناولها، فلم يكلف أولئك أنفسهم عناء التقصي وهم يخوضون في موضوعات خطيرة تستدعي توخي الدقة والمهنية حتى تحظى بالمصداقية المطلوبة، والأمثلة أكثر من أن تُضرب.. ولذلك يقع هؤلاء فريسة سهلة لأكاذيب وافتراءات وتحريفات المناوئين للعملية السياسية في العراق وأعداء البلد، والإعلام المعادي الموّجه، وما تتقيأه مؤسسات إعلامية مشبوهة تدار من مطابخ المخابرات الغربية أو الخليجية، عُرفت في مناصبتها العداء للعملية السياسية في العراق منذ اليوم الأول بعد سقوط الدكتاتورية في 2003..
وفق هذا المنحى، تستسهل تلك النخب، من أصحاب الأقلام والرأي، التصويب بضراوة صوب العملية السياسية في العراق، ومعها الغالبية الشيعية، حتى لو كان الأمر يتعلق بإدانة أو فضح الارهاب التكفيري وصوره المتعددة، بينما هذه النخب بلعت بطريقة سحرية وصفها الارهابيين -بادئ الأمر- بـ(الثوار) ثم تحولوا الى إرهابيين بعد أن هدّد إرهابهم الكرة الأرضية، مما يوضح السطحية والاستسهال في تناول أخطر المواضيع وأشدها حساسية..! ومثل ذلك ما تستسهله تلك الأقلام في صناعة (متلازمة) قسرية، أعني بها (التبرك) باستهداف الغالبية الشيعية حين يتم تناول موضوع الارهاب التكفيري السلفي وهمجيته التي يفتخر بها! في حين ان تلك الغالبية الشيعية المستهدفة تقارع هذا الارهاب بتضحوية نادرة نيابة عن الجميع، بما فيهم أصحاب الأقلام والرأي الذين (يُدينون ويفضحون) ذلك الارهاب الظلامي! وأما جزاء أولئك التضحويين، فهو وصمهم بأنهم (ميليشيات) شيعية تستهدف السنّة، ويمكن اعتبار ذلك في أحد وجوهه تجنياً بحق أهل السنّة حينما يتم اختزالهم بجماعات إرهابية تتمسح زوراً وبهتاناً بأهل السنّة، بغية تنفيذ مآربها الإجرامية.
* * *
ان تردّي الوضع العام مردّه هذه الازدواجية والضبابية المنجزة بأقلام النخب العربية التي غذّت أهداف أنظمة محور الارهاب -سبق ذكره- وتعمل على (تطبيع) مقولات الحواضن التكفيرية التي تنفخ في نار الطائفية التي لا تبقي ولا تذر! كما تُهيئ (المبررات) التي يجهد الإرهابيون في تسويقها، وبالتالي تطيل في عمر الارهاب، الذي لا يجد من يُبطل قنبلته الطائفية؛ بل على العكس، اذ يُلمس ان هناك الكثيرين من تلك النخب الإعلامية والثقافية والفكرية العربية قد تطوعوا ليحققوا له ذلك -عن قصور ودون قصد، بواقع اننا نحسن الظن به-! وللمرء أن يتصور خطورة هذا المآل، وفداحة الأثمان التي تُدفع، أرواحاً تُزهق، وأوطاناً تحترق، ومستقبلاً مظلماً يطال مصائر الجميع بلا استثناء..!
في المقابل، على تلك النخب المعنية، أن تتلقى بروح رياضية و(شفافية) السؤال المؤجل؛ أين كانت أصواتكم وأقلامكم ومنصاتكم حينما كانت الأغلبية الشيعية مقهورة ومسلوبة الحقوق ومنكّل بها، وتتجرع الإقصاء والتهميش بأبشع صوره، وتُحرم وتُمنع من ممارسة شعائرها الدينية، ثم تكافأ بالمقابر الجماعية في حقبة الدكتاتورية؟! وما يماثل ذلك ما يمر به الشيعة في الكثير من البلدان كالبحرين والمنطقة الشرقية في بلاد الحرمين! ولماذا لا نسمع عبارات إدانة لما يكابده أتباع أهل البيت (عليهم السلام) في مصر، وكان على رأس تلك المكابدات مجزرة مقتل "الشيخ حسن شحاتة" وصحبه في 2013 بدوافع طائفية مقيتة، بينما كان الراحل يمارس نشاطه بطريقة سلمية بحتة؟!
على الكتّاب وأصحاب الأقلام العرب الذين يهمهم استهداف الإرهاب الظلامي، ان يختاروا بين الإنجرار خلف مقولات التكفيريين -وإنْ جهلاً- بما يصب في تغذية إرهابهم الذي يطال الجميع (ولن يوّفروا إجرامهم على تلك النخب أيضا)، وبين أن ينحازوا الى الضمائر الحية والتضحويين وعموم الأمة، والتخلي عن (العُقدة الطائفية) في تناولهم للأوضاع، ولن يشفع لهذا أو ذاك (رصيده) المهني وباعه الطويلة في ميدان الإعلام أو الساحة الفكرية أو الثقافية، حيث المرحلة حاسمة، فاصلة وواضحة، فإما مع الإرهاب (فكراً وممارسة وأسلوباً ومتبنيات)، أو مع من يقف في الجانب الآخر، الصامد بوجه الإرهاب حتى يهزمه ويدحره وتطوى صفحته السوداء؟ أما من يحاول أن يتوسط الطريقين بذرائعية مستهلكة أو بواقع (الوقوف على التل أسلم)، فهو الى الإرهاب أقرب، كما أثبت تجاربنا في المنطقة.

قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat


عباس البغدادي
 (للدخول لصفحة الكاتب إضغط هنا)

    طباعة   ||   أخبر صديقك عن الموضوع   ||   إضافة تعليق   ||   التاريخ : 2014/11/13



كتابة تعليق لموضوع : أقلام ضد "داعش" ومعها أيضا.. كيف؟
الإسم * :
بريدك الالكتروني :
نص التعليق * :
 



حمل تطبيق (كتابات في الميزان) من Google Play



اعلان هام من قبل موقع كتابات في الميزان

البحث :





الكتّاب :

الملفات :

مقالات مهمة :



 إنسانية الإمام السيستاني

 بعد إحراجهم بكشف عصيانها وخيانتهم للشعب: المرجعية الدينية العليا تـُحرج الحكومة بمخالفة كلام المعصومين.. والعاصفة تقترب!!!

 كلام موجه الى العقلاء من ابناء شعبي ( 1 )

 حقيقة الادعياء .. متمرجعون وسفراء

 قراءة في خطبة المرجعية : هل اقترب أَجلُ الحكومةِ الحالية؟!

 خطر البترية على بعض اتباع المرجعية قراءة في تاثيرات الادعياء على اتباع العلماء

 إلى دعاة المرجعية العربية العراقية ..مع كل الاحترام

 مهزلة بيان الصرخي حول سوريا

 قراءة في خطبة الجمعة ( 4 / رمضان/ 1437هـ الموافق 10/6/2016 )

 المؤسسة الدينية بين الواقع والافتراء : سلسلة مقالات للشيخ محمد مهدي الاصفي ردا على حسن الكشميري وكتابيه (جولة في دهاليز مظلمة) و(محنة الهروب من الواقع)

 الى الحميداوي ( لانتوقع منكم غير الفتنة )

 السيستاني .. رسالة مهدوية عاجلة

 من عطاء المرجعية العليا

 قراءة في فتوى الدفاع المقدس وتحصين فكر الأمة

 فتوى السيد السيستاني بالجهاد الكفائي وصداها في الصحافة العالمية

 ما هو رأي أستاذ فقهاء النجف وقم المشرّفتَين السيد الخوئي بمن غصب الخلافة ؟

 مواقف شديدة الحساسية/٢ "بانوراما" الحشد..

أحدث مقالات الكتّاب :


مقالات متنوعة :





 لنشر مقالاتكم يمكنكم مراسلتنا على info@kitabat.info

تم تأسيس الموقع بتاريخ 1/4/2010 © محمد البغدادي 

 لا تتحمل الإدارة مسؤولية ما ينشر في الموقع من الناحيتين القانونية والأخلاقية.

  Designed , Hosted & Programmed By : King 4 Host . Net