صفحة الكاتب : صبحي غندور

هؤلاء.. لن يدعموا "الحوار"!
صبحي غندور

المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الموقع، وإنما تعبر عن رأي الكاتب.

   بدأت تجربة "الحوار" في ربيع العام 1989 بالعاصمة الأميركية كمطبوعة شهرية باللغتين العربية والإنجليزية. ثمّ بعد خمس سنوات، أي في العام 1994، تطوّرت التجربة إلى منتدى فكري ثقافي عربي فريد من نوعه من حيث طبيعة وأسلوب الندوات، ومن حيث نوعية حضورها ومواضيعها، ودوريتها الأسبوعية حيث بلغ عدد ندوات "مركز الحوار العربي" حتى الآن أكثر من 940 ندوة شملت قضايا فكرية وثقافية وسياسية واقتصادية ترتبط بالشأن العربي عموماً وبالعلاقات العربية-الأميركية وبدور الجالية العربية في المجتمع الأميركي.

        وقد دعت تجربة "الحوار" منذ بدايتها كمجلة قبل 25 عاماً، وقبل 20 عاماً كمركز للحوار، إلى التمييز المهم بين ضرورة الحفاظ على وحدة "الهوية العربية" ووحدة الثقافة العربية، وبين التعدّد والتنوّع المطلوب في الأفكار والانتماءات والآراء. فكانت تجربة" الحوار"، وما زالت، تُشجّع على التمسّك بالهوية العربية للعرب أينما كان، لكن في إطار من التفاعل الخلاق والحوار الجاد والمثمر بين الآراء والأفكار المختلفة.

        لقد حملت "الحوار" منذ تأسيسها دعوة عربية توحيدية تدعو للتكامل بين العرب بدلاً من التفرّق، وإلى صون التراث الحضاري والاعتزاز بالانتماء العربي المشترك بدلاً من الشرنقة الفئوية أو الفراغ والضياع الثقافي والروحي.. وهذه الدعوة أحدثت على مرّ السنوات الماضية تأثيراً ايجابياً واضحاً في أكثر من مجال ومع أكثر من شخص ومؤسسة..

        .. ويكفي تجربة "الحوار" أنها أوجدت مناخاً حوارياً عربياً في واشنطن يخاطب العقل لا الغرائز، ويحثّ العرب في كل مكان على نبذ العنف وعلى اعتماد أسلوب الحوار لحسم خلافاتهم، وإلى تفهّم الرأي الآخر (وليس بالضرورة التفاهم معه) عوضاً عن تخوينه وإدانته لمجرّد أنّه رأي آخر!

        فما كان يحصل من حوار نظري على صفحات مجلة "الحوار".. أصبح لاحقاً حواراً عملياً دورياً مثمراً داخل ندوات "مركز الحوار العربي" وأنشطته.

        وعلى مدار عقدين من الزمن استمرّت تجربة "مركز الحوار" رغم عدم توفر الإمكانات المالية، ورغم صعوبة العمل الثقافي العربي في العاصمة الأميركية.

وقد حصلت في هذه السنوات الماضية حروب عربية/عربية، وحروب أجنبية على بلاد العرب، وتبشير إسرائيلي بانتهاء عصر "الهوية العربية" ودعوة للهوية "الشرق أوسطية"، ونمو متصاعد للتيارات الدينية العُنفية وللإنقسامات الطائفية والمذهبية.. ففي هذه المناخات والظروف كان "مركز الحوار"، ومازال، يدعو إلى لقاءاتٍ عربية/عربية يشارك فيها مثقفون عرب من بلدانٍ عربية متعدّدة، وينتمون فكرياً ودينياً إلى أكثر من عقيدة، لكنهم تجاوبوا بداية مع دعوة "الحوار" في العام 1994 والتي كان عنوانها: "الأمّة التي لا يفكّر لها أبناؤها تنقاد لِما يفكّر لها الغرباء".

ولأنّ "الحوار" تدرك أهمّية الهدف من تأسيسها، فإنّ اسمها حمل المراد المتعلّق ب"الأسلوب" وليس بالهدف فقط. فكم من شعارٍ جميل سقط لأنّ "أساليب" تحقيقه كانت مناقضة للهدف أو للشعار نفسه!!.

إنّ حال العرب أينما كان (في داخل البلاد العربية أو في بلاد المهجر) هو حالٌ واحد: معاناة من غياب العلاقات السليمة بين أبناء الوطن الواحد، وأيضاً بين أبناء الأمّة الواحدة القائمة على عدّة أوطان، ممّا أدّى أحياناً كثيرة إلى الصراع بين أبناء هذه الأوطان.

صحيحٌ أنّ على العرب في بلاد الغرب مسؤولية "إصلاح الصورة" المشوّهة عنهم وعن أوطانهم في المجتمعات الغربية التي يعيشون فيها الآن، لكنّ ذلك لا يهمّش ضرورة "إصلاح الأصل أولاً"، والعمل على بناء الذات العربية بشكلٍ سليم، ف"فاقد الشيء لا يعطيه"، وأبناء الأمّة العربية في أيّ مكان لديهم الكثير ليعطوه لأنفسهم ولأمَّتهم وللإنسانية جمعاء – كما هي أصول الثقافة العربية ومضمونها الحضاري – لكن العطاء يحتاج إلى أساليب سليمة وآلياتٍ صحيحة وإلى معرفة واسعة بالقضايا وإلى وضوح في الانتماء والهوية.

تجربة "الحوار" هنا في واشنطن هويّتها عروبية، ودورها هو الدعوة للهوية العربية ولتعزيز الثقافة العربية ومضمونها الحضاري..

تجربة "الحوار" هنا في واشنطن هي منبر ثقافي وإعلامي عربي لخدمة القضايا العربية ولعرض هذه القضايا بصورة جيدة من خلال الندوات والمطبوعات باللغتين العربية والأنجليزية، ومن خلال "موقع الحوار" على الإنترنت الذي يصل للعديد من الأوساط الأميركية الرسمية والأكاديمية والإعلامية.

تجربة "الحوار" هنا في واشنطن تنمو على أرضٍ أميركية، لكنّها على هذه الأرض أشبه أيضاً بزرع نبتةٍ جديدة تحتاجها المنطقة العربية والعرب أينما كانوا، وهي نبتة أهمية أسلوب الحوار بين العرب وضرورة التسليم بحقّ "الرأي الآخر" بالوجود وبالتعبير عن نفسه، وليكون ذلك مساهماً في بناء مجتمعاتٍ عربية ديمقراطية سليمة.

ورغم أنّ "مركز الحوار العربي" ليس بجمعية حركية سياسية، بل تأسّس كمنتدى فكري وثقافي عربي في منطقة واشنطن، رغم ذلك، فإنّه كان دائماً في مقدّمة المؤسسات والجمعيات العربية الأميركية التي تعمل وتنشط دفاعاً عن قضايا عربية هامّة داخل المجتمع الأميركي. ف"مركز الحوار العربي"، منذ تأسيسه، كان مثالاً في مقدّمة من يعملون من أجل توعية الأميركيين عموماً بحقوق الشعب الفلسطيني وبعدالة المسألة الفلسطينية. كما خصّص المركز على موقعه على الإنترنت صفحة هامة جداً باللغة الانجليزية عن حقوق الشعب الفلسطيني وعن مخاطر استمرار الدعم الأميركي المفتوح لإسرائيل.

أمّا في الجانب الفكري والثقافي فقد كان تاريخ 25 سنة من تجربة "الحوار" (تأسست مجلة "الحوار" في ربيع العام 1989) سجلاً ناصعاً من العرض السليم للثقافة العربية ولمضامين الحضارة الإسلامية، وفي الردّ على الحملات العنصرية داخل المجتمع الأميركي ضدّ العرب والمسلمين، خصوصاً بعد أحداث 11 سبتمبر من العام 2001. وقامت "الحوار" أيضا بتخصيص قسمٍ من موقعها على شبكة الإنترنت لموضوعات مهمة باللغة الإنجليزية عن الإسلام والعرب غايتها تصحيح الكثير من المعلومات والمفاهيم الخاطئة لدى الأميركيين والغربيين عن الأمور الثقافية والتاريخية والسياسية الخاصّة بالعرب والمسلمين.

فكيف يمكن للعرب أن يخرجوا ممّا هم فيه من انقسامات وأن يواجهوا ما أمامهم من تحدّيات إذا كانت هويّتهم الثقافية المشتركة موضع شكٍّ أصلاً، يصل إلى حدِّ الرفض لها أحياناً والاستعاضة عنها بهويّات ضيّقة تسمح للقوى الأجنبية بالتدخّل في شؤونها وباستباحة أوطانها؟!

وكيف يمكن مخاطبة الآخر غير العربي ومحاورته بالقضايا العربية العادلة إذا كان الإنسان العربي نفسه لا يملك المعرفة الصحيحة عن هذه القضايا ولا يجد لديه أي التزام تجاهها؟!

وهل يمكن بناء جالية عربية واحدة في أي مجتمع غربي إذا كان أفراد هذه الجالية رافضين لهويّتهم العربية؟!

  إنّ تجربة "الحوار" تعتمد في ميزانيتها منذ تأسيسها قبل 25 سنة على الاشتراكات المالية السنوية، وهذه الاشتراكات هي غالباً محدودة العدد وقليلة القيمة المادية، ولا تتناسب مع حجم التأثير الإيجابي الذي تحدثه هذه التجربة على مرّ السنين، كما لا توفّر المدخول اللازم لتغطية الحدّ الأدنى من المصاريف المتوجّبة.

لكن هؤلاء لن يدعموا "الحوار" ..

تجربة "الحوار"، ككل عمل فكري وثقافي، له من يرفضه ويتضرر منه، كما له من يؤيده ويستفيد منه..

فمن يريد بقاء الجالية العربية في حال تشرذم وانقسام لن يدعم تجربة "الحوار".

ومن هو، عن قناعة أو جهل، مع الانتماءات الفئوية الضيقة لن يدعم "الحوار".

ومن يعتقد أنّه هو دائماً على حق ولا يرغب بسماع رأي مخالف، لن يدعم "الحوار".

ومن يعتبر نفسه خزان معرفة ممتلئ ولا يحتاج لأيّة إضافة فكرية أو ثقافية، لن يدعم "الحوار".

ومن لا يهمّه أصلاً إلاّ نفسه ولا يعير اهتماماً لأي شأن عام ويُفضّل العزلة على التفاعل الاجتماعي والفكري مع الآخرين، لن يدعم "الحوار".

ومن لا يثق بنتيجة أي عمل فكري وثقافي جاد ويكتفي بمساهمات حركية موسمية هنا أو هناك، أو بأنشطة وسهرات ترفيهية يعقتد أنها كافية لمعنى الخدمة العامة، لن يدعم "الحوار".

ومن كان معيارهم في سيرة حياتهم هو المنفعة الشخصية فقط ومقدار الكسب مجاناً من الآخرين، لن يدعم "الحوار".

ومن يضع مقياساً لعلاقته مع الآخرين، التوافق الكامل معه فكرياً وسياسياً ودينياً، لن يدعم "الحوار".

ومن يرغب أن تكون "الحوار" صوتاً أو منبراً له ولمعتقداته فقط، لن يدعم "الحوار".

ومن لا يقيم وزناً لمسألة "الهوية العربية" أو يراها في حال تناقض مع "هُوياته" الأخرى، لن يدعم "الحوار".

ومن لا يجد حرجاً في لقائه وتفاعله مع "الإسرائيليين" ويمتعض من لقاءات مع كفاءات عربية تختلف معه، لن يدعم "الحوار".

ومن يريد أن تكون "الحوار" ذات لون واحد، فكري أو سياسي أو طائفي، لن يدعم "الحوار".

ومن كان يستخفّ أصلاً بأي عمل عربي مشترك، مُفضّلاً التفاعل فقط مع غير العرب، لن يدعم "الحوار".

ومن كان يريد مقابل دعمه ل"الحوار" تغيير طبيعة وهدف وأسلوب "الحوار"، لن يتحقق له ما يريد، فلن يدعم "الحوار".

هؤلاء، لن يدعموا "الحوار"..

فنأمل منكم أنتم هذا الدعم


قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat


صبحي غندور
 (للدخول لصفحة الكاتب إضغط هنا)

    طباعة   ||   أخبر صديقك عن الموضوع   ||   إضافة تعليق   ||   التاريخ : 2014/10/21



كتابة تعليق لموضوع : هؤلاء.. لن يدعموا "الحوار"!
الإسم * :
بريدك الالكتروني :
نص التعليق * :
 



حمل تطبيق (كتابات في الميزان) من Google Play



اعلان هام من قبل موقع كتابات في الميزان

البحث :





الكتّاب :

الملفات :

مقالات مهمة :



 إنسانية الإمام السيستاني

 بعد إحراجهم بكشف عصيانها وخيانتهم للشعب: المرجعية الدينية العليا تـُحرج الحكومة بمخالفة كلام المعصومين.. والعاصفة تقترب!!!

 كلام موجه الى العقلاء من ابناء شعبي ( 1 )

 حقيقة الادعياء .. متمرجعون وسفراء

 قراءة في خطبة المرجعية : هل اقترب أَجلُ الحكومةِ الحالية؟!

 خطر البترية على بعض اتباع المرجعية قراءة في تاثيرات الادعياء على اتباع العلماء

 إلى دعاة المرجعية العربية العراقية ..مع كل الاحترام

 مهزلة بيان الصرخي حول سوريا

 قراءة في خطبة الجمعة ( 4 / رمضان/ 1437هـ الموافق 10/6/2016 )

 المؤسسة الدينية بين الواقع والافتراء : سلسلة مقالات للشيخ محمد مهدي الاصفي ردا على حسن الكشميري وكتابيه (جولة في دهاليز مظلمة) و(محنة الهروب من الواقع)

 الى الحميداوي ( لانتوقع منكم غير الفتنة )

 السيستاني .. رسالة مهدوية عاجلة

 من عطاء المرجعية العليا

 قراءة في فتوى الدفاع المقدس وتحصين فكر الأمة

 فتوى السيد السيستاني بالجهاد الكفائي وصداها في الصحافة العالمية

 ما هو رأي أستاذ فقهاء النجف وقم المشرّفتَين السيد الخوئي بمن غصب الخلافة ؟

 مواقف شديدة الحساسية/٢ "بانوراما" الحشد..

أحدث مقالات الكتّاب :


مقالات متنوعة :





 لنشر مقالاتكم يمكنكم مراسلتنا على info@kitabat.info

تم تأسيس الموقع بتاريخ 1/4/2010 © محمد البغدادي 

 لا تتحمل الإدارة مسؤولية ما ينشر في الموقع من الناحيتين القانونية والأخلاقية.

  Designed , Hosted & Programmed By : King 4 Host . Net