صفحة الكاتب : سلمان عبد الاعلى

وأخيراً وصل المستقبل !!
سلمان عبد الاعلى

المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الموقع، وإنما تعبر عن رأي الكاتب.

       يعيش الإنسان في حياته وسط تذبذب في المشاعر والأحاسيس التي يشعر بها، ففي كل فترة زمنية تمر عليه نجد ألواناً متعددة من المشاعر المختلفة التي يشعر بها، فهو وبحكم فعالية قانون الزمن تتأثر مشاعره وتتباين، فمشاعره التي يشعر بها بالنسبة للزمن الماضي تختلف عادةً عن مشاعره وأحاسيسه بالنسبة للحاضر، وكذلك بالنسبة للمستقبل، فهو غالباً ما يشعر بالحزن على الماضي، وبالغضب من ما يعيشه في الحاضر، وبالخوف من ما يخبئه المستقبل.

          فهو كثيراً ما يحزن على الماضي، سواءً كان الماضي السلبي الذي يتألم منه ويحزن كلما تذكره أو مر بذاكرته، أو  أنه يحزن على الماضي السعيد الذي فارقه وافتقده وحن إليه، فذاكرته الصغيرة من ناحية الحجم تحمل في داخلها حجماً مهولاً من الذكريات المتراكمة، سواءً كانت الذكريات الحزينة بأساسها أم الذكريات السعيدة التي خالطها الحزن وأصبحت حزينة بسبب خسارتها ومرارة فقدها.

          هذا بالنسبة للماضي، أما بالنسبة للحاضر الذي يعيشه الإنسان، فهو عادة يغضب منه أو بسببه أو لأجله، وذلك لأنه يأتي على غير هواه وإرادته.. 

          أما المستقبل فإن شعور الخوف منه يكاد لا يفارق الإنسان، وذلك بسبب جهله به، والإنسان بطبعه يخاف من المجهول، فهو وإن كان بطبعه إنساناً متفائلاً وطموحاً وصاحب آمال، فإنه يدرك جلياً بأنه مهما كان مستوى تفاؤله وطموحه وأمله، بل ومهما بلغ مستوى تخطيطه وفعله فإن هذا لا يعني بأنه سيصل لما كان يهدف إليه ويتمناه، لأن هناك عقبات وتحديات تحول بينه وبين ما يصبوا إليه حتى وإن عمل ما عليه بأفضل وجه ممكن، فهو وإن اجتاز بعض هذه العقبات والتحديات؛ فإنه بالتأكيد لن يستطيع أن يجتازها بكاملها، ولهذا السبب هو دائم الخوف من المستقبل.
          ولكن ومع العلم بوجود العقبات والتحديات التي تعيق أحياناً عن الحركة والتقدم، لا ينبغي للإنسان أن يترك حياته ويستسلم ويهمل أمر مستقبله، فالمستقبل قادم لا محالة فلا نستطيع أن نوقفه أو نؤجله، ولهذا علينا أن نحسن استقباله وذلك ببذل قصارى جهودنا للاستعداد له قدر الإمكان لنتمكن من الحصول على أفضل النتائج الممكنة.

          مهما يكن، فإن الإنسان بسبب هذه المشاعر التي يشعر بها قلما نجده يرتاح في حياته، لأنه كما قلنا إما يعيش في الماضي بهمومه وآلامه، أو أنه يعيش في الحاضر وهو ساخط عليه وغاضب منه أو أنه يعيش الخوف والقلق من المستقبل، وهذا الأمر هو ما يسبب له الكثير من المتاعب في حياته. 
          وإذا لاحظ الإنسان سلوكه وتعاطيه مع ما يمر عليه في حياته يلاحظ بأن السلبية غالبة عليه، فهو يعيش القلق والخوف من المستقبل، وإذا جاء هذا المستقبل وأصبح حاضراً رأيناه يغضب منه ولا يرضى، حتى إذا انتهى هذا الحاضر وصار جزءاً من الماضي رأيناه يحزن عليه أو بسببه كلما عادت به الذاكرة، وهذا هو ما يصنعه مع مستقبل آخر وآخر وهلم جرا.

          فالإنسان لا يعيش في حياته الدنيوية لمستقبل واحد فقط، وإن تعلق قلبه بطموح معين لدرجة كبيرة، بل إنه يعيش وأمامه أكثر من مستقبل، فعنده مستقبل سياسي، وآخر اقتصادي، وآخر اجتماعي، وآخر علمي، وآخر ثقافي وصحي و... وفي وسط كل عنوان من العناوين السابقة، هناك أيضاً أكثر من مستقبل ومستقبل ينتظره، فعلى الإنسان أن يدرك ذلك ولا يتجاهله لكي يواصل التخطيط لكل مستقبل يهمه. 
          إن ما أود قوله هو: بأن المستقبل الذي يخافه الإنسان ويخشى لقاءه قد وصل سابقاً، وهو يصل الآن، وسيصل أيضاً في القريب والبعيد، فما الفترات التي عاصرناها سابقاً وهي الآن جزء من الماضي إلا جزءاً من المستقبل الذي كنا ننتظره في يوم من الأيام، وما الفترات الحالية التي نعيشها الآن إلا مستقبلاً وصل إلينا أو نحن وصلنا إليه !

          ولهذا لا بد أن نخطط للمستقبل، أي مستقبل، وإذا أتانا هذا المستقبل وأصبح حاضراً فعلينا أن نرضى به ونتكيف معه إذا لم نستطع أن نغير منه شيئاً، وإذا غادرنا وصار ماضياً علينا أن نستفيد منه للتخطيط بطموح لمستقبل جديد وهكذا، سواءً كان هذا بالنسبة لنا لأفراد أو كجماعات أو كمجتمعات. أن ييي
المستقبل الذي ينتظر الجميع:
          إن المستقبل يختلف أحياناً من شخص إلى شخص ومن مجتمع إلى مجتمع آخر، فعلى سبيل المثال إن المستقبل الذي سيكون لطالب يدرس في كلية الطب غير المستقبل الذي سيكون لطلاب الهندسة، أعني بالمستقبل هنا المستقبل المهني المرتبط بالوظيفة، ولكن وعلى الرغم من بعض الاختلافات بين المستقبل الذي سيكون لكل واحد منا، هناك مستقبل سوف يكون لنا جميعاً دون استثناء، فلا بد لنا أن نستعد له جيداً، ألا وهو الموت، فالموت هو مستقبل سوف يصل لكل واحد منا شاء أم أبى، فمستقبل الجميع سيكون هو الموت لا محالة، ولكن المستقبل بعد الموت هو الذي سيكون مستقبلاً مختلفاً نظراً لاختلاف الأعمال.
          لذا علينا أن نعمل لهذا المستقبل قبل أن نفاجئ بوصوله، كما تفاجئنا بوصول أكثر من مستقبل في الدار الدنيا، فالمستقبل في الآخرة يختلف اختلافا جذرياً، إذ لا يمكننا تداركه والعمل لغيره، ففي الدنيا مثلاً قد يخفق الإنسان في تخطيطه وعمله لشيء ما ويمكنه تدارك هذا الأمر وتعويضه نوعاً ما بالتخطيط لغيره. أما في الآخرة فالأمر مختلف تماماً، فمن فاته هذا المستقبل فقد خسر خسراناً مبيناً.

مستقبل الأعمال في الآخرة:
        إن لأعمالنا التي نقوم بها في هذه الدنيا مستقبل في الآخرة وهذا المستقبل (الجزاء) يختلف عن الجزاء لأعمالنا الدنيوية، ففي الأعمال الدنيوية يكون الجزاء على العمل غير العمل، فمن يبني بيتاً يجازى مثلاً بمقدار من المال، أما في الآخرة فجزاؤك على عملك هو نفس عملك ،لأن الأعمال تتجسم فيها.                                                
        ولقد تطرق الشيخ مرتضى مطهري في كتابه القيم العدل الإلهي لهذا الأمر، إذ قال: ((أن ما يعطى في الآخرة للمحسنين والمسيئين من ثواب وعقاب هو تجسم لأعمالهم ذاتها. قال الله تبارك وتعالى : ((يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُّحْضَراً وَمَا عَمِلَتْ مِن سُوَءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَداً بَعِيداً))[1]، ((وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِراً وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً))[2]، ((يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتًا لِيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ  فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ))[3]. 
          ويقول عز من قائل في آية ذكر بعض المفسرين أنها آخر أية نزلت من القرآن الكريم: ((وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ))[4].

          ويقول بشأن أكل مال اليتيم: ((إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا))[5]. وهذا يعني –والكلام للشيخ المطهري- أن أكل مال اليتيم هو أكل النار بعينه، لكن الذين يأكلونه لا يشعرون بذلك ما داموا في حجاب الدنيا، فإذا خرجوا منها وزال الحجاب احترقوا[6])).
          إذن –والكلام أيضاً للشيخ المطهري- فالجزاء الأخروي هو تجسم للأعمال ذاتها، وعندما تزول الحجب تتجسم الأعمال الصالحة نفسها وتتمثل بصور النعيم فيما تتجسم وتتمثل الأعمال السيئة بأشكال العذاب، فمثلاً تتمثل قراءة القرآن في عالم الآخرة بصورةٍ جميلة ترافق الإنسان، وتتمثل الغيبة وإيذاء الناس بصورة إدام كلاب جهنم[7])).

          فعلينا إذاً أن نعمل للمستقبل في الدار الآخرة، وذلك بالاستعداد له كما ينبغي، فالاستعداد للآخرة والعمل لها مضمون النتائج على عكس العمل للمستقبل في الحياة الدنيا، وذلك لأن نفس أعمالنا هي جزائنا في الآخرة، أما في الدنيا فمن الممكن أن يعمل الإنسان ويسعى بجد وإخلاص لأمر ما ولكنه لا يستطيع الوصول إليه، وهذا ما يختلف كلياً عن الآخرة، لأن أي عمل يعمله الإنسان يلقاه، ((فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ)).
          فالمعادلة إذن دقيقة جداً لأن الله لا يضيعُ عَمَلَ عامل مِن ذَكرٍ أَو أُنثَى. ولهذا فمن المفترض أن تكون حماستنا للعمل وللتخطيط للآخرة أضعاف مضاعفة للحماسة التي عندنا بالنسبة للدنيا، لأن النتائج هناك نتائج مضمونة ولا يضيع أي جهد نبذله لأن جزائنا على أعمالنا هي أعمالنا نفسها من خلال تجسم الأعمال.



[1] سورة آل عمران الآية 30.
[2] سورة الكهف آية 49.
[3] سورة الزلزلة آية 6-7.
[4] سورة البقرة آية 281.
[5] سورة النساء آية 10.
[6] راجع كتاب العدل الإلهي للشهيد الشيخ مرتضى المطهري ص328-329.
[7] راجع المصدر السابق  ص330.

 




                           


قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat


سلمان عبد الاعلى
 (للدخول لصفحة الكاتب إضغط هنا)

    طباعة   ||   أخبر صديقك عن الموضوع   ||   إضافة تعليق   ||   التاريخ : 2011/04/24



كتابة تعليق لموضوع : وأخيراً وصل المستقبل !!
الإسم * :
بريدك الالكتروني :
نص التعليق * :
 



حمل تطبيق (كتابات في الميزان) من Google Play



اعلان هام من قبل موقع كتابات في الميزان

البحث :





الكتّاب :

الملفات :

مقالات مهمة :



 إنسانية الإمام السيستاني

 بعد إحراجهم بكشف عصيانها وخيانتهم للشعب: المرجعية الدينية العليا تـُحرج الحكومة بمخالفة كلام المعصومين.. والعاصفة تقترب!!!

 كلام موجه الى العقلاء من ابناء شعبي ( 1 )

 حقيقة الادعياء .. متمرجعون وسفراء

 قراءة في خطبة المرجعية : هل اقترب أَجلُ الحكومةِ الحالية؟!

 خطر البترية على بعض اتباع المرجعية قراءة في تاثيرات الادعياء على اتباع العلماء

 إلى دعاة المرجعية العربية العراقية ..مع كل الاحترام

 مهزلة بيان الصرخي حول سوريا

 قراءة في خطبة الجمعة ( 4 / رمضان/ 1437هـ الموافق 10/6/2016 )

 المؤسسة الدينية بين الواقع والافتراء : سلسلة مقالات للشيخ محمد مهدي الاصفي ردا على حسن الكشميري وكتابيه (جولة في دهاليز مظلمة) و(محنة الهروب من الواقع)

 الى الحميداوي ( لانتوقع منكم غير الفتنة )

 السيستاني .. رسالة مهدوية عاجلة

 من عطاء المرجعية العليا

 قراءة في فتوى الدفاع المقدس وتحصين فكر الأمة

 فتوى السيد السيستاني بالجهاد الكفائي وصداها في الصحافة العالمية

 ما هو رأي أستاذ فقهاء النجف وقم المشرّفتَين السيد الخوئي بمن غصب الخلافة ؟

 مواقف شديدة الحساسية/٢ "بانوراما" الحشد..

أحدث مقالات الكتّاب :


مقالات متنوعة :





 لنشر مقالاتكم يمكنكم مراسلتنا على info@kitabat.info

تم تأسيس الموقع بتاريخ 1/4/2010 © محمد البغدادي 

 لا تتحمل الإدارة مسؤولية ما ينشر في الموقع من الناحيتين القانونية والأخلاقية.

  Designed , Hosted & Programmed By : King 4 Host . Net