صفحة الكاتب : د . مصطفى يوسف اللداوي

رحى الحرب وطاحونة الموت
د . مصطفى يوسف اللداوي

المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الموقع، وإنما تعبر عن رأي الكاتب.

رمادُ النار كثير، وحطامُ الحرب كبير، وهشيم المعارك في كل مكان، ورائحة الموت كامنةٌ، طاغيةٌ باقية، لا تزول ولا ينساها الناس، ولا تغيب عن الذاكرة ولا تطويها الأيام، تستعيدها الأحلام، وتستنهضها بقساوةٍ الهواجسُ والكوابيسُ، ويعيش هولها الكبار قبل الصغار، والشيوخ أكثر من الأطفال.

أحياءٌ جميلة قد خمدت أنفاسها، وسكنت حركاتها فلا حياة فيها، وقد كانت على بساطتها هي الحياة، وهي الوطن على امتداده، وإن كانت ضيقةً صغيرة، أو متجاورةً متلاصقة، أو متراكبةً بعضها فوق بعض، أو تتحد في مداخلها، وتشترك في أفنيتها وسطوحها، ولكنها كانت تجمع وتستر، وتحمي وتقي، وكانت فيها السلوى والمتعة، ومنها كانت تنبعث المسرة بجمعها، وتثير المحبة بمن ضمته في جنباتها. 

بيوتٌ كانت تجمع الأحباب، وتضم بين جدرانها أحب الناس وأصدقهم، الكبار بذكرياتهم، والآباء بحنانهم، والأخوة والأخوات بصداقاتهم، والأطفال أكثرهم براءةً وطهراً، وأصدقهم لساناً، وأبينهم للحقيقة حالاً، كانوا فيها يتزاحمون، وفي داخلها يتراكضون ويتنافسون، هم فيها كثرةٌ تضيق بهم الأفنية التي كانت لهم أسرةً ومهداً، ولكنهم إليها يحنون، وهم لها محبون وإليها ينجذبون، وفوقها للنوم كانوا يخلدون.

بيوتٌ وأحياءٌ فقدت روحها التي كانت، ونزعت الحرب منها بريقها الذي كان، وحرمتها من حيزها في الحياة، وهي التي كانت بمجموعها المجتمع، وبمن فيها الأهل والشعب، وكانت تصنع الحياة، وتخلق الأمل، وتوزع الفرحة، وتنثر بين سكانها السعادة، فلا يضنيها أسى، ولا تبكي عيونها الأحداث، ولا تكسر ظهرها النوائب، ولا تفت في عضدها شدة المصائب وعظم المحن.

وحجارةٌ متناثرة، تملأ المكان، وتتجمع وكأنها التلال، وتحكي قصصاً عن نفسها كأنها الخيال، وتروي ذكرياتها لكل الأجيال، في كل مكانٍ منها حكاية، وعند كل زاويةٍ فيها رواية، ولادةٌ وموتٌ، واستقبالٌ ووداع، وقدومٌ ورحيل، وزواجٌ وأفراح، وهنا صورة، وهناك قصةٌ وحكاية، يرويها أطفالٌ، ويصغي السمع لها الكبار، فذاكرة الأطفال أصفى وأنقى، وكلماتهم أكثر تعبيراً، وأصدق وصفاً.

ركامٌ فوق ركام، وحجارةٌ تختلط فيها كل الأشياء الجميلة التي كانت، قد باتت تلالاً، ألوانها تلافيق، ومكوناتها عديدة، فيها من الثياب والأسلاك والسلال والحبال كثير، وفيها أوراقٌ وأخشابٌ وعلبٌ من حديد، وبقايا كتبٍ وأقلامٌ مكسورة، وصفحاتٌ من دفاتر مدرسية، وممحاةٌ وقلم رصاصٍ صغير، وأخرى كراسُ رسمٍ، ودفترُ ذكرياتٍ لبنت صغيرة، ما زالت جدائلها تتراقص، وحمرة الحياء على وجهها تنضى جمالاً.

وأسياخُ حديدٍ صدئةٍ تخرج من بقايا البيوت، تربط بعض أجزائها ببعض، وتجمع إلى بعضها أشلاءها الممزعة الممزقة، لكن لا حياة فيها من جديد، ولا روح تبعث فيها لتعيش، فقد ذوت وتناثر الكثير من ترابها المتماسك، فطار كغبار، أو سقط كحصى، فلم يعد يمسكه شئ، ولا يثبته ببعضه اسمنت، حتى غدا ركاماً وأتربة، لا تصلح للبناء، ولا تنفع لغير الردم، ولكن إرادة الحياة، وروح الأمل، تخلق من العدم قدرة، ومن الفراغ فرصة، فيستخلصُ الحديدُ، وتهرسُ الكتلُ الإسمنتية، ليعاد بهما البناء من جديد.

وبناءٌ منهارٌ، وآخرٌ للسقوط آيلٌ، وجدرانٌ تداخلت أعمدتها، وتبعثرت سقوفٌ كانت ترفعها، فلا أعمدةٌ بقيت، ولا بنيانٌ يقوم، ولاسُقُفَاً باتت تظلل الرؤوس، فتهات بسقوطها الشوارع، وضاعت بانهيارها المعالم، وتداخلت الطرق، واستوت من كثرة الركام الأرض، فلا بيتاً يعرفه صاحبه، ولا شجرةً بقيت كانت تميز المنزل، وتعلم الدار، وتشير إلى أنه كان في هذا المكان دورٌ وأحياء.

بقرت الحربُ بطون البيوت والمساكن، وأخرجت ما في جوفها، وما كانت تخفيه في أستارها، فلا خزائن بقيت تحتفظ بالملابس والثياب، ولا أدراج صانت جواهرها ولا مدخرات الأيام، ولا شيء مما كان في الجيوب أو تحت الثياب، ولا طعاماً كانت ربات البيوت تحفظه مونةً لقادم الأيام، وقسوة الزمان، فقد تكسرت الجرار، وتحطمت الخزائن، وتمزقت الأكياس، وتبعثرت البذور والأغلال، وانسكب الزيت وضاع الخل، وما بقي من المونة ما يئد ولا ما ينفع، وانقلبت قدورٌ كانت على النار راسياتٌ، وانطفأت مواقد ومشاعل كانت تعد طعاماً بسيطاً لا يقوم أوداً، ولا يكفي لتمام صحة.

بؤسٌ على الوجوه، وزوغانٌ في العيون، ونحافةٌ تطغى على الأبدان، وقوى ضعيفةٌ خائرة، وخطى بطيئةٌ حائرة، لا تعرف أين تسير، وتيهٌ يبحث عن الرشاد، وجوعى يبحثون عن لقمة عيش وكسرة خبز، وآخرون لا مكان لهم ولا بيت، ولا شئ في جيبهم، ولا وعد صادق ينتظرهم، ولا أمل كسنا برقٍ يضيء أمام عيونهم، ولا غيوم في السماء تبشر بفرجٍ قريبٍ، ويسرٍ قادم، ولا سعاةً صادقين، ولا مسؤولين مهمومين، ولا أمناء مخلصين، ولا مفاوضين مستعجلين، ولا جرحى مكلومين، ولا مصابين محزونين.

بل تجارٌ يحسبون، ومقاولون يتربصون، ومتعهدون ينفذون، كلٌ يحسب غلته، ويزيد في حصته، ويجرف الماء إلى حقله، ويزيح النار إلى قرصه، ويسلط الأضواء على نفسه، والشعب وحده المقروص الجائع، الفقير القانع، المعنى الصابر، المهلهل المستور، فهل من ينظر بصدقٍ إلى حاله، ويرى رحى الحرب وطاحونة المعركة ماذا عملت به، وإلى أين مضت بمستقبله، أم نتركه لحربٍ ضروسٍ وأشد بؤساً، تقتلهم بناب الجوع، أو تغرقهم في عمق البحار، أو تسلمهم إلى يأسٍ يقتل فيهم الروح، ويقضي على الانتماء، وينهي الحب والولاء.


قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat


د . مصطفى يوسف اللداوي
 (للدخول لصفحة الكاتب إضغط هنا)

    طباعة   ||   أخبر صديقك عن الموضوع   ||   إضافة تعليق   ||   التاريخ : 2014/09/27



كتابة تعليق لموضوع : رحى الحرب وطاحونة الموت
الإسم * :
بريدك الالكتروني :
نص التعليق * :
 



حمل تطبيق (كتابات في الميزان) من Google Play



اعلان هام من قبل موقع كتابات في الميزان

البحث :





الكتّاب :

الملفات :

مقالات مهمة :



 إنسانية الإمام السيستاني

 بعد إحراجهم بكشف عصيانها وخيانتهم للشعب: المرجعية الدينية العليا تـُحرج الحكومة بمخالفة كلام المعصومين.. والعاصفة تقترب!!!

 كلام موجه الى العقلاء من ابناء شعبي ( 1 )

 حقيقة الادعياء .. متمرجعون وسفراء

 قراءة في خطبة المرجعية : هل اقترب أَجلُ الحكومةِ الحالية؟!

 خطر البترية على بعض اتباع المرجعية قراءة في تاثيرات الادعياء على اتباع العلماء

 إلى دعاة المرجعية العربية العراقية ..مع كل الاحترام

 مهزلة بيان الصرخي حول سوريا

 قراءة في خطبة الجمعة ( 4 / رمضان/ 1437هـ الموافق 10/6/2016 )

 المؤسسة الدينية بين الواقع والافتراء : سلسلة مقالات للشيخ محمد مهدي الاصفي ردا على حسن الكشميري وكتابيه (جولة في دهاليز مظلمة) و(محنة الهروب من الواقع)

 الى الحميداوي ( لانتوقع منكم غير الفتنة )

 السيستاني .. رسالة مهدوية عاجلة

 من عطاء المرجعية العليا

 قراءة في فتوى الدفاع المقدس وتحصين فكر الأمة

 فتوى السيد السيستاني بالجهاد الكفائي وصداها في الصحافة العالمية

 ما هو رأي أستاذ فقهاء النجف وقم المشرّفتَين السيد الخوئي بمن غصب الخلافة ؟

 مواقف شديدة الحساسية/٢ "بانوراما" الحشد..

أحدث مقالات الكتّاب :


مقالات متنوعة :





 لنشر مقالاتكم يمكنكم مراسلتنا على info@kitabat.info

تم تأسيس الموقع بتاريخ 1/4/2010 © محمد البغدادي 

 لا تتحمل الإدارة مسؤولية ما ينشر في الموقع من الناحيتين القانونية والأخلاقية.

  Designed , Hosted & Programmed By : King 4 Host . Net