تعالوا نتعلم القراءة إجباريا
صالح الطائي
المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الموقع، وإنما تعبر عن رأي الكاتب.
صالح الطائي
المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الموقع، وإنما تعبر عن رأي الكاتب.
[كتبت هذا الموضوع ونشرته عام 2009 ونظرا لأهميته، وسيرا على هدي الآية القرآنية المقدسة (فذكر إن نفعت الذكري) أعيد اليوم نشره عسى أن يجد أذنا صاغية وقلبا واع]
قد لا تكون فرصة اكتشاف الحرف في العراق القديم من بنات الصدف ولا عملا اعتباطيا بل نتيجة منطقية لما وصل إليه التحضر والتطور الإنساني في بلاد الرافدين في تلك الحقبة.. وقد يكون تعلق العراقيين بالقراءة وبشكل فاق مثيلاته في كل دول الجوار نتيجة منطقية لهذا السبق والتفرد،حتى قيل أن سوق الكتاب في العراق أكثر نشاطا من سوق الأغذية والأطعمة والملابس، ومرة قابلت صديقا وسألته عن سبب عدم تبديله لحذائه الممزق فقال أنه ذهب إلى السوق لشراء حذاء جديد ولم يكن قد تبقى في جيبه من مرتبه الشهري سوى ما يكفي لشراء الحذاء فمر كعادته على إحدى المكتبات ووجد رواية الجذور لـ "أليكس هيلي" مطروحة بين الكتب وثمنها يعادل ثمن الحذاء فقرر بعد صراع مع الذات أن يشتري الرواية، ويبقى منتعلا حذاءه الممزق إلى أن يستلم المرتب الجديد!
ثم بقدرة قادر وبفعل فاعل انقلبت الآية وأصبح العراقيون من أكثر الناس كرها للقراءة وابتعادا عنها ولاسيما خلال الأربعين سنة الماضية بعد أن وضع الجلادون عيونهم على الكتاب كواحد من المحاذير التي يجب تجنبها، فأجازوا ما يلائم خطهم، ومنعوا غيره وحينها أصبح امتلاك بعض الكتب جريمة يعاقب عليها القانون بالموت، رافق ذلك تحول غالبية الكتاب والمؤلفين إلى جوقة للتهريج للقائد تمتدح حتى سعاله، ولا علاقة تربطها بالثقافة . ثم أن النظام حمل المثقف أحمالا تنوء بحملها الجبال، فلم يعد قادرا على حمل معها كتاب صغير، وفضلا عن ذلك شغلوه بالهرب والتخفي في بيوت الأقرباء والأصدقاء توقيا من حملات الجيش الشعبي والمطاردات الأمنية المستمرة، وحددوا مرتبه الشهري بما لا يزيد عن ثمن شراء رغيفين من الخبز وليس كتابين، فأضطر تحت دافع الفاقة للبحث عن عمل ثان وثالث لكي يسد مطالب عائلته، فأنهك وأنهمك، ولم يعد قادرا على القراءة.
صحيح أن الانكماش الثقافي كان أمرا فاشيا وحالة عامة في كل منطقتنا العربية بعد سلسلة الهزائم المرة التي مني بها الفكر القومي والتحرري والوحدوي، الأمر الذي انعكس على البحث الفكري، إلا أن الأسباب لم تكن واحدة في كل البلدان، فنحن فضلا عن باقي العرب كانت لنا ظروفنا وأسبابنا المنطقية، ومع هذا سعى العرب أو قلة منهم لتعويض نقص القراءة بمشاريع فكرية حكومية ومجتمعية كانت محدودة التأثير والنتائج، إلا أننا كعرب وكمسلمين بعمومنا كنا ولا زلنا ـ حتى بعد تبدل الأوضاع نحو الأحسن ـ نعاني من مسألة القراءة كثيرا.
أما في العراق فبقينا بدون مشاريع لتنمية الرغبة بالقراءة لدى المواطن الذي بات إذا ما قرأ لا يدقق ولا يهتم ولا يكلف نفسه عناء الرد على ما يقرأ أو مجرد إبداء الرأي فيه. ولذا تعطلت مشاريعنا الثقافية والفكرية وأصبح طلب العلم بطرا، والقراءة ترفا لا يتماشى مع واقع الحال والقلق النفسي والشد العصبي الذي يشكو منه المواطن باستمرار.
ومن خلال بحثي في طرائق تعامل شعوب المنطقة مع هذا التقصير وجدت فضلا عما سبق تقصيرا كبيرا في أداء الوزارات المعنية بالثقافة والتعليم، يأتي من كونها لم تسهم في تعليم الطالب والقاريء أسس القراءة الصحية أو زرع حب القراءة في نفسه وحتى إجباره على ذلك كواحد من متطلبات الحصول على الشهادة التي تحولت إلى سلعة قابلة للمساومة والمقايضة.
كما وجدت بالمقابل أن (إسرائيل) بصفتها واحدة من دول شرقنا الأوسطي ـ سواء شئنا ذلك أم أبيناه ـ اتخذت نهجا إذعانيا قسريا لإجبار الطلبة على القراءة الخارجية، فقامت بتنظيم ما يعرف بـ(قائمة القراءة الإجبارية) وهي قائمة تضم مجموعة من الكتب التي تتحدث عن تاريخ الكيان الصهيوني و(الهولوكوست) وتناقش تاريخ اليهود ومنجزاتهم العلمية في كافة الاختصاصات، صار لزاما على المعنيين قراءتها واستيعابها والرد على ما يرد فيها من أسئلة. بل إن القراءة الإجبارية أصبحت من المواد المطلوبة حتى في دورات الإعداد للمشاركة في الوفود والمعسكرات والنشاطات الأخرى، ومنها نشاط متابعة مواقع ومعسكرات الاعتقال الألمانية التي يزعمون أن المحرقة وقعت فيها، حيث يتوجب على طالب الانضمام إلى الوفد ـ وهي طبعا وفود على نفقة الحكومة وتنظم عادة للراغبين بالانتماء إلى الجيش أيضا ـ أن يجتاز اختبارا في بعض الكتب التي تتحدث عن المحرقة مثل كتاب (بريمو ليفي).
المهم أن أكثر الدول الحريصة على بقائها وصمودها تدعو باستمرار إلى تطبيق مبدأ قائمة القراءة الإجبارية وتدعو إلى تغيير المناهج التعليمية والتدريسية بشكل دوري، لأن هناك أساليب أخرى لتعلم التاريخ والعلوم والآداب والثقافة والفكر غير تلك التي أوقفنا نشاطاتنا عندها منذ قرون.
أليس الأجدر بنا ونحن نسعى أو ندعي أننا نسعى إلى تطوير قدراتنا العامة أن نقلد الآخرين على أبسط الأحوال، فننظم قائمة للقراءة الإجبارية يكون لزاما على كل موظف يطالب بالترقية أن يجري اختبارا بها، وكل طالب يبغي التخرج أن يمتحن بمفرداتها ومحتوياتها وكل طالب وظيفة أن يمتحن في مفرداتها؟ أم أن تنفيذ ذلك بات ضمن أجندة طابور الصعوبات التي تواجه مشاريعنا، والتي بات حلها مستحيلا وتطبيقها أصعب، ولاسيما وأن هناك منها ما له علاقة بالحراك الطائفي الفاشي في البلد اليوم؟
قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat