صفحة الكاتب : حمزة علي البدري

أضواء على المسرح العراقي
حمزة علي البدري

المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الموقع، وإنما تعبر عن رأي الكاتب.

كان المسرح وما يزال سمة من سمات العصر الذي يعيش فيه . وانه واحد من الأدوات الفاعلة التي تجعل الرأي العام أغنى ثقافة وأكثر فهما للحياة , وان خلوده يتأتى من خلود القضايا التي يطرحها ويعالجها بعمق و وعي باعتباره وسيلة للإضافة وللتجديد وللتغير وأداة بناءة ومبدعة لأنه يواجه الحقيقية من أمامها لا من خلفها , ويتحدث عن هموم الناس وتطلعاتهم , ويواكب الروح العصرية والتطور الحضاري . وهنا يكون المسرح تصويرا إيحائيا لتجارب المجتمع وكشوف جديدة للحياة , وممرا جيدا لفهم المستقبل برؤيا إنسانية شاملة , وبروح إبداعية أصيلة , لذا فرسالة المسرح يجب أن تكون باستفزاز المشاعر للعمل الايجابي , وخلق الانفعال المحرك لتغير الواقع المتخلف , وبذا يؤدي دوره كنشاط اجتماعي كفاحي , ويلهب مشاعرنا بلهب الإقدام على الخواء واللامبالاة والسلبية , ويعطي لنا الأجوبة الواعية والحقيقية عن مسببات مأساة الإنسان وصراعاته ضد الإرهاب والعدمية , وضد أعداء التاريخ البشري وضد أعداء الإنسان والإنسانية وضد أعداء النهوض والعنفوان , وان المسرح يعطي الجواب الصائب عن السؤال الكبير : كيف يكون الإنسان أفضل وأسمى مما هو عليه ألان .. ؟ من هذا يتضح لنا بان المسرح الهادف هو البوصلة الفكرية التي تهدينا إلى مرا فيء التطور والإبداع , إذ أن الزمن كله يظل ضائعا أذا لم يكن مصحوبا بالخلق ونشدان الأفضل , فالتاريخ لا يقف لينتظر الخاملين والمتسكعين على رصيف الضياع , كما لا يعترف بعناد الأغبياء والحمقى , فالوصول إلى وجدان الجماهير يكون بإثارة وعيها , وتفجير طاقاتها المكبوتة , وتعميق إحساسها بالمسؤولية , وان المسرح جدير بهذه المهنة لكونه قوة نقدية مؤهلة لان تلعب دورا فعالا لتطوير المجتمع وهندسة بنائه الفكري بما يقدم من أفكار ناضجة وقيم سامية فمعرفة أحسن الأفكار والأقوال توسع ينابيع الروح الإنسانية وتلطفها كما يقول ( ماثيو ارنولد ) .
إن المسرح الهادف يمتلك إضافة إلى معيار الصدق الفني والتاريخي والأخلاقي , وعيا حضاريا وأيديولوجيا يجعله قادرا على استيعاب متطلبات العصر والجماهير , بعمق وأصالة وموضوعية موغلة بفهم قوانين الضرورة التاريخية والفنية , فان كل ذلك سيجعل المسرح قادرا على أعطاء صورة صادقة وأمينة للمجتمع بدأبه على ممارسة سلوك نقدي إزاء الواقع والتعبير عن طموحاتنا وتطلعاتنا , فالمسرح أمام مفترق لا خيار فيه إما أن يكون مع المتعبين المقهورين أو مع الأعداء , فانه يمتلك التأثير الفعال ويترك بصماته على الواقع فقد برزت للمسرح شخصية نافذة ذات تأثيرات تبسط ظلالها على الوجود عبر التطورات المتلاحقة التي اجتازها بتفاعله مع المحيط الفكري واهتمامه الدائب بمجريات الأمور واعتماده على البحث والتحليل والاستنتاج وتفسير الإنسان المعاصر ومعانقة التطلع الإنساني ومحاربة الأفكار التحريفية البائسة . فالمسرح الحقيقي ينأى عن التزيف الفكري والمواقف أللا علمية ويحارب الموروثات المتخلفة التي تقف ضد حركة التاريخ , ويواجه مسؤلياته الضخمة أمام الجماهير كمنبر فاعلا ومتفاعل , وراية انتصار لقيم العدل والخير والجمال , ويتسلح بعملية ( الهدم والبناء ) هدم كل ماهو مخالف ومتخلف عن ركب الحضارة , وبناء صروح التقدم والرقي والازدهار والانبهار والسمو والتسامي . فالمسرح الهادف يرفض أول ما يرفض السكون والجمود لان ذلك يؤدي إلى شله وبالتالي إلى فنائه , عندما يقف لاهثا مشلولا حبيس النظرة القاصرة والمواقف الارتجالية المفتعلة والتي تفرز رؤى مشوهة , بلا ظلال ولا أبعاد , وتنفينا إلى دهاليز الضياع وعواصم الشلل والخواء المريع في حين أن المسرح الخلاق يطرح الرؤيا الشمولية الواعية للإنسان المبدع الذي يتحمل مسؤولية بناء الوطن والعصر والمستقبل بواقعية تمتلك ضفاف راسخة تؤمن بالجماهير اشد الإيمان .إن غاية المسرح هو الكشف عن أوجه الحركة والصراع في المجتمع وتعميق الحس الإنساني وقيمته تتأتى من قيمة ما يتمسرح على خشبته من مسرحيات ملتزمة بالأرض والإنسان والنماء والتنمية وسيظل يؤكد على قدراته الهائلة على التعبير والإيصال كمدرسة إنتاجية أخلاقية تمد الجماهير بمصل القيم الحضارية والأخلاق الإسلامية والحياة الجديدة وتهشيم كل المرايا المشوهة ونسف كل المخلفات الثقيلة التي نرزح تحت عبئها الضاغط . فالمسرح المتجدد لا يقف جامدا بل هو باستمرار يتسلق سلم الإبداع لأنه لصيق الصدق والعمق والنقاء لذا فانه قادر على إحداث تغيرات ايجابية في بنية المجتمع الفكرية والنفسية والأخلاقية والسياسية . إن واقعنا المسرحي في هذه المرحلة يبعث على التفاؤل ويستحق التشجيع والرعايا , فقد برزت في ربوع وطننا الناهض مسارح كثيرة وفرق عديدة وأسماء لامعة , وقد ظهر عندنا جمهور يهتم بالمسرح ويسعى جاهدا للتحلي بتقاليد مسرحية , وهذا دليل على حيوية ونهضة تدفعنا إلى الأمام والوقوف على مشاكل المسرح ومعالجتها بجدية حتى نصل بمسرحنا إلى المنزلة اللائقة والمنشودة , لذا فإننا جميعا بحكم الواقع والضرورة غير معفويين من المسؤولية والتحرك من اجل مسرح أكثر فاعلية وعطاء , مسرح بناء وطليعي يساعد على إعداد جيل ناهض يتلمس مسار تاريخه بوعي وأصالة تفجر حس الحياة والإرادة والاقتحام وان كل مثقف مطالب بالمساهمة الخلاقة بطرح مسرحنا الحالي على مائدة المحك النقدي , ونقف إزاءه وقفة موضوعية , نسلط الأضواء الكاشفة بصورة مكثفة فوق المناطق المعتمة حتى يمكننا أن نمتلك مسرحا هادفا يرتكز على مرتكزات صلبة وحتى يكون خليقا بالتعبير عن عراقنا الجديد .. وان الأمر الملفت للنظر بإلحاح أن البعض يتصور المسرح وسيلة للترفيه الأجوف , والتخدير التافه , وينظر له نظرته إلى الكماليات , فالمسرح ليس سلعة في سوق البيع والشراء إنما هو وسيلة متطورة لنشر الوعي المسؤول والثقافة المتطورة , وغايته ان يثير الناس ,ويستفزهم للتفكير والعمل المبدع . باعتماده على نقاوة الرؤيا الفكرية وشمول النظرة وموضوعية العرض وأسلوب المعالجة للمشاكل السايكلوجية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية التي تلاحق إنساننا المعاصر . فالمسرح الهادف يحتاج إلى جهود متواصلة ومساهمات فاعلة كي يؤدي رسالته الرائدة . وتحضرني هنا ملاحظات وأراء أود طرحها لعل فيها ومضات تضيء مسار مسارحنا لا سيما ونحن نطالب بنهضة مسرحية متطورة :
أولا : إن جمهورنا لم يمتلك بعد الوعي المسرحي وأبعاده بصورة مرضية , ومازال البعض ينظر للمسرح باعتباره ترفا وبائعا     للتسليات , ووسيلة من وسائل قتل الوقت في أللهو والمتعة      الرخيصة , ويفهم المسرح فهما سطحيا عند مظاهره الخارجية وهذا يعطي مردودا سلبيا عند رجال المسرح فيدفعهم إلى تقديم مسرحيات ضحلة , مفتعلة وخالية من أي عمق , وتثير الضحك لاستجداء عواطف الجمهور بتحريك انفعالاته العابرة ومحاولة جذبه من جوانبه الضعيفة باثارة الغرائز السهلة فيه .. لذا فيجب أن نغير مفهوم المسرح في أذهان من يشرفون عليه , ثم تغيره تبعا لذلك لدى من يشاهدونه ,      لان الهدف الأساسي من المسرح ثقافي وليس ترفيهي وتأثيره ملموس لأنه يخاطب حواس المشاهد      بصورة مباشرة طارحا أمامه الشخوص والأحداث والأمزجة والواقع بما يسخر به , وان ابتعاد المسرح عن رسالته الحقيقية يترك أثارا سيئة على مستوى التأليف والإخراج وعلى أسلوب التمثيل .   
ثانيا : من المشاكل التي يتعرض لها المسرح , قلة التأليف المسرحي في بلادنا وهبوط مستواه في الغالب , وبروز عناصر مقحمة على الحركة المسرحية ودخيلة عليها , لأنها تفتقر إلى المواهب والى الثقافة , لذا يجب تشذيب حقول المسرح من العناصر الخاملة والمتقاعسة , لان وجود مثل هذه العناصر بعثرة للجهود , ومضيعة للمال .. كما يجب استقطاب العناصر ذات المواهب الشابة واغناء المسرح بكل ما يبعث فيه الجدية والنماء والامتلاء , علما بان تشجيع العناصر الكفؤة والأخذ بأيديها إلى مصاف التطور أمر ملح وضروري , وان رعاية الموهبة الجيدة تعني تطويع هذه القابلية الناشئة وإخضاعها إلى مؤشرات ايجابية تغنيها وتدفعها في طريق النمو والسمو وتحولها إلى عامل فعال يؤدي بالتالي إلى خلق الإنسان النموذج .

ثالثا :  أرى من اللازم تأليف لجان كفؤة ومختصة لقراءة المسرحيات وإقرار الهادف منها , فان الاختيار الجيد للمسرحيات التي تعرض سواء أكانت محلية أو عربية أو عالمية يجعل الجمهور مشدودا للعرض المسرحي وأكثر استفادة وتفاعلا مع المسرحيات الهادفة التي تتخذ من الإنسان نموذج الخصب والخير والعطاء .
رابعا : يجب العناية اللازمة والكافية والمستمرة بعناصر العمل المسرحي ( الديكور , الإضاءة , الموسيقى , الملابس , الميكياج ) لأنها تظهر المسرحية بمظهر لائق وأخاذ ويبعث على الإقبال لمشاهدة مايعرض بشغف متزايد . كما يجب الاهتمام التام ببناء المسارح , وإسعاف طلبات الكتاب والمخرجين , والمسؤولين عن الحركة المسرحية , ومصممي الديكورات , والموسيقيين , وعمال المسرح الفنيين , والممثلين والممثلات , والمهتمين بشؤون المسرح , لان في ذلك تغذية صحية للمسرح , وإرساء دعائمه على أرضية صلبة من الاستقراء حيث أن المسرح يتطلب الاستقرار المستمر كي يعبر عن مرحلتنا الجديدة وتغييرنا الاجتماعي بوضوح فكري .

خامسا : كي لا يتسم مسرحنا بطابع التخبط والارتجال ارى من الضروري وضع منهاج سنوي تبرمج فيه وبشكل مسبق ومحدد النشاطات ونوعيتها ,وتحديد الشخوص الملقاة على عاتقهم تلك النشاطات في الأزمنة والأمكنة المحددة لها . كما أن من اللازم تكوين لجان فعالة ومسؤولة لمتابعة النشاطات المسرحية في البلد , لان ترك الحبل على الغارب يقود إلى الانكفاء والتهرب من المسؤولية , ويجعل المسرح يراوح في مكانه خاويا .
سادسا : إن من البواعث التي تنشط الحركة المسرحية هي إقامة ندوات يشترك فيها عدد من المثقفين والمهتمين بقضايا المسرح , لإيجاد أفضل الصيغ الكفيلة بتحقيق الوجه السليم لمسرحنا , كما أن تشجيع وتبادل الزيارات والخبرات بين الفرق المسرحية يعطي نتائج ايجابية تنهض بالمسرح الى مستوى لائق ومرموق .
سابعا : إن احتضان فرق الهواة من الشباب وتشجيعها ورفدها بأسباب النهوض والنماء وتقديم المعونات المالية للفرق العاملة ومكافأة الفرق الفاعلة والمبدعة يساعد على ازدهار الحركة المسرحية الصاعدة .
ثامنا : إن نشر الوعي المسرحي على الأصعدة كافة فيه فوائد جمة لذا يجب العناية بفن المسرح في المناهج التعليم الابتدائي والثانوي , لصقل وجدان النشيء الصاعد وتدريبهم على التذوق والمتابعة .

تاسعا : إن إيجاد مسرح جوال يبث الوعي المسرحي ويعبر عن تطلعات وطموحات الناس خطوة مهمة تعطي نتائجها المثمرة , فالمسرح الجوال يلعب دورا تأثيرا مباشرا في وعي المشاهدين ويدفعهم إلى الالتزام في معالجة قضاياهم ومستقبلهم .
عاشرا : كي لا نفقد رؤيتنا الواعية للمسرح , ولكي لا يسير مسرحنا في خط النزول ينبغي تشجيع النقد المسرحي , لان غلق النوافذ أمام النقد البناء يترك المسرح يعيش في شرنقة او يتحجر في قالب كلسي , كما أن غياب النقد المسرحي يخنق الإبداع والتطور . لذا فنحن بحاجة إلى أصوات حقيقية تضخ في كيان المسرح دماء جديدة وحياة جديدة تدفعه إلى الأمام . ويا حبذا لو تصدر مجلة للمسرح متخصصة وفاعلة حيث ان إسهاماتها ومعطياتها تعتبر تغذية صحية وضرورية .
إحدى عشر : إن المرتكزات الضرورية في تطوير المسرح الاهتمام المتواصل بالزمالات الدراسية إلى الخارج وتوزيعها على العناصر الجيدة والمبدعة  والقادرة على الاستيعاب والتطور والإبداع .

اثنتا عشر : إن إقامة مهرجان سنوي لكل المحافظات , لأجل الوقوف على المواهب الشابة والطاقات الخلاقة , يرفد المسرح بقوة جديدة وبعناصر مؤثرة ومنتجة .
إنني في الوقت الذي أسلط فيه هذه الومضات لعل فيها ضوءا يضيء الطريق أمام مسيرة المسرح الطويلة , أحس بشعاع من التفاؤل والثقة بمسرحنا المنطلق من حيز الاختناق إلى رحاب التفتح والنور والنضج وسيظل مفتوح الرئتين للنهضة والتجديد والإبداع .


قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat


حمزة علي البدري
 (للدخول لصفحة الكاتب إضغط هنا)

    طباعة   ||   أخبر صديقك عن الموضوع   ||   إضافة تعليق   ||   التاريخ : 2011/04/02



كتابة تعليق لموضوع : أضواء على المسرح العراقي
الإسم * :
بريدك الالكتروني :
نص التعليق * :
 



حمل تطبيق (كتابات في الميزان) من Google Play



اعلان هام من قبل موقع كتابات في الميزان

البحث :





الكتّاب :

الملفات :

مقالات مهمة :



 إنسانية الإمام السيستاني

 بعد إحراجهم بكشف عصيانها وخيانتهم للشعب: المرجعية الدينية العليا تـُحرج الحكومة بمخالفة كلام المعصومين.. والعاصفة تقترب!!!

 كلام موجه الى العقلاء من ابناء شعبي ( 1 )

 حقيقة الادعياء .. متمرجعون وسفراء

 قراءة في خطبة المرجعية : هل اقترب أَجلُ الحكومةِ الحالية؟!

 خطر البترية على بعض اتباع المرجعية قراءة في تاثيرات الادعياء على اتباع العلماء

 إلى دعاة المرجعية العربية العراقية ..مع كل الاحترام

 مهزلة بيان الصرخي حول سوريا

 قراءة في خطبة الجمعة ( 4 / رمضان/ 1437هـ الموافق 10/6/2016 )

 المؤسسة الدينية بين الواقع والافتراء : سلسلة مقالات للشيخ محمد مهدي الاصفي ردا على حسن الكشميري وكتابيه (جولة في دهاليز مظلمة) و(محنة الهروب من الواقع)

 الى الحميداوي ( لانتوقع منكم غير الفتنة )

 السيستاني .. رسالة مهدوية عاجلة

 من عطاء المرجعية العليا

 قراءة في فتوى الدفاع المقدس وتحصين فكر الأمة

 فتوى السيد السيستاني بالجهاد الكفائي وصداها في الصحافة العالمية

 ما هو رأي أستاذ فقهاء النجف وقم المشرّفتَين السيد الخوئي بمن غصب الخلافة ؟

 مواقف شديدة الحساسية/٢ "بانوراما" الحشد..

أحدث مقالات الكتّاب :


مقالات متنوعة :





 لنشر مقالاتكم يمكنكم مراسلتنا على info@kitabat.info

تم تأسيس الموقع بتاريخ 1/4/2010 © محمد البغدادي 

 لا تتحمل الإدارة مسؤولية ما ينشر في الموقع من الناحيتين القانونية والأخلاقية.

  Designed , Hosted & Programmed By : King 4 Host . Net