صفحة الكاتب : فلاح السعدي

أضواء على سورة الناس....وقرآنية المعوذتين
فلاح السعدي

المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الموقع، وإنما تعبر عن رأي الكاتب.

 تمهيـــد

قال تعالى في محكم كتابه العزيز: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ * مَلِكِ النَّاسِ * إِلَهِ النَّاسِ * مِنْ شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ * الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ * مِنَ الجِنَّةِوالنَّاسِ} 
سورة الناس سورة مباركة في كتاب الله الحكيم ولها ـ كبقية سور القرآن ـ من المنزلة الرفيعة ومن المنافع الجمة وهي السورة التي رقمها في المصحف الشريف(114) حيث خُتم بها الكتاب الكريم، وقد ركزت السورة على أمر مهم وذي تأثير على الفرد والمجتمع ، ألا وهو: {شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ}, فقد أكد الباري (سبحانه وتعالى) على الاستعاذة منه في محل آخر من كتابه الكريم حيث قال تعالى : {وَإِمَّا يَنزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ * إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَواْ إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِّنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُواْ فَإِذَا هُم مُّبْصِرُونَ}(1).
سبب النزول
عن بكر بن محمد عن أبي عبدالله× قال: >كان سبب نزول المعوذتين أنه وعك رسول الله’, فنزل جبرائيل بهاتين السورتين فعوذه بهما< . وعن ابن عباس في قوله: {مِن شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ}: (يريد الشيطان لعنهُ الله على قلب ابن آدم، له خرطوم مثل خرطوم الخنزير يوسوس لابن آدم إذا أقبل على الدنيا ومالا يحب الله فإذا ذكر الله عزوجل انخنس يريد رجع، قال الله: {الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ}. ثم أخبر أنه من الجن والإنس فقال (عز وجل): {مِنَ الجِنَّةِوالنَّاسِ} يريد من الجن والإنس)(2).
عدد آياتها ومحل نزولها
يمكن أن نجمل القول بعدّة أقوال هي:
الأول: إنها (مكية، وهي خمس آيات)(3) .
الثاني: ذكر العلامة المحقق السيد جعفر مرتضى العاملي في كتابه تفسير سورة الناس أنها مكية أيضا.
الثالث: إنها مدنية عدد آياتها ست(4). 
الرابع: إنها مكّية وعددُ آياتِها سِتّ آيات(5).
الخامس: يقول عليّ بن موسى بن طاووس: (ومن عجيب هذه المقالة عن ابن عباس رضوان الله عليه أنّهم قد علموا أنه ما كان بالغاً ولعلّ ما كان موجوداً بمكّة عند نزول السور المكّية، وإنّما رواها عن غيره مّمن حضرها).
فهلاّ ذكروا القرابة والصحابة الّذين رواها ابن عباس عنهم، وحملوا ذكرهم بهذا المقدار، وكان زيادة في قوّة النقل والآثار؟(6).
موضوع السورة
الكلام في سورة الناس هو في موضوع الضلال والهدى. وقد ذكر الله تعالى الاستعاذة فيها ثلاث مرات أعطى فيها لكل حالة مضموناً يختلف عن مضمون الحالة الأخرى فقال: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ * مَلِكِ النَّاسِ * إِلَهِ النَّاسِ * مِن شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ}، ولا يشير هذا إلا إلى أهمية الأمر الذي يرتبط بحالة الضلال والهدى، والإيمان وعدم الإيمان، فإن ما ينشأ عنه الإخلال بحالة التوازن الإيماني والإنساني والعقلي والفكري والنفسي والروحي يبقى هو الأمر الأهم والأخطر في حياة هذا الإنسان، وفي كل وجوده، فكان لا بد من الاستنفار الشامل لمواجهة هذا الخطر؛ فكان أن تكررت الاستعاذة وتعددت، واختلفت أوصاف المستعاذ به :(بالرب، بالملك، بالإله)؛ لأن الأمر بالغ الأهمية والحساسية، مادام أنه قد يؤدي إلى خسران الدنيا والآخرة(7). 
المعنى
« قل » يا محمد، « أعوذ برب الناس » أي: خالقهم ومدبرهم و منشئهم(8).
وهذا أمر من الله تعالى لنبيه’ ويدخل فيه المكلفون، يأمرهم أن يستعيذوا {بِرَبِّ النَّاسِ} وخالقهم الذي هو {مَلِكِ النَّاسِ}ومدبرهم وإلههم {مِن شَرِّ الْوَسْوَاسِ}، وأن يقولوا هذا القول الذي هو: {أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ} إلى آخرها، و{رَبِّ النَّاسِ} هو الذي خلقهم ودبّرهم على حسب ما اقتضته الحكمة وقوله: {مَلِكِ النَّاسِ}إنما خص بأنه ملك الناس مع أنه ملك الخلق أجمعين لبيان أن مدبر جميع الناس قادر على أن يعيذهم من شر ما استعاذوا منه مع أنه أحق بالتعظيم من ملوك الناس(9).
الفرق بين {مَلِكِ} و{مَالِكِ}:
والفرق بين ذكر كلمة {مَلِكِ} وكلمة {مَالِكِ} إن صفة {مَلِكِ} تدل على تدبير مَن يشعر بالتدبير- أي الذي له شعور بالتدبير-، وليس هذا المعنى له وجود في {مَالِك}؛ لأنه يجوز أن يقال: مالك الثوب، ولا يجوز ملك الثوب، ويجوز أن يقال: ملك الروم، ولا يجوز مالك الروم، فجرت - في فاتحة الكتاب - على معنى الملك في يوم الجزاء، ومالك الجزاء، وجرت في سورة الناس على {مَلِكِ} تدبير من يعقل التدبير، فكأن هذا أحسن وأولى(10).
والمذكور في سورة الناس بعد ذكر الرب، هو الملك لا المالك، ولأن للملك زيادة عموم ليست للمالك؛ لأن ما تحت حياطة الملك، من حيث إنه ملك أكثر مما تحت حياطة المالك، فإن الشخص يوصف بالمالكية نظرا إلى أقل قليل، ولا يوصف بالملكية إلا بالنظر إلى أكثر كثير...)(11).
معنى الوسوسة 
الوسوسة: كالهمهمة ومنه قولهم: فلان موسوس إذا غلبت عليه الوسوسة؛ لما يعتريه من المرة. وسوس يوسوس وسواسا ووسوسة وتوسوس توسوسا(12).
والوسواس: حديث النفس بما هو,كالصوت الخفي وأصله الصوت الخفي من قول الأعشى: تسمع للحلي وسواسا إذا انصرفت(13).
في معنى قوله {مِن شَرِّ الْوَسْوَاسِ}:
هناك ثلاثة أقوال في معناها:
احدها: من شر الوسوسة التي تكون من الجِنة والناس، فأمر بالتعوذ من شر الجِن والإنس.
الثاني : من شر ذي الوسواس وهو الشيطان، كما جاء في الأثر أنه يوسوس، فإذا ذكر العبد ربه خنس، فيكون قوله: {مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ} بيان أنه منهم، كما قال: {إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ}، فأما {وَالنَّاسِ} فعطف عليه كأنه قيل: من الشيطان الذي هذه صفته والناس الذين هذه صفتهم.
الثالث : من شر ذي الوسواس الخناس على العموم، ثم يفسر بقوله (عز وجل) من {مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ} كما يقال: نعوذ بالله من كل مارد: من الجن والإنس(14).
ذكر الأسماء الثلاثة في السورة (رب, وملك, وإله).
أجاب السيد الشهيد محمد الصدر في كتابه منة المنان في الدفاع عن القرآن على هذا السؤال وبما يلي:
أنه تعالى ذكر ذلك من عدة جهات ومنها:
أولاً: ما أشرنا إليّه من زيادة الرحمة في البشر المستعيذين من الشر، من حيث إن دفع الشر وإن كان يحدث في واحد من الأسماء, إلا أن دفعه ثلاث مرات أو بثلاث أسماء أوكد وأشد وأسرع.
ثانياً: زيادة التركيز لذات الله سبحانه. فهو اله ورب وملك, وقد يجمع هذه الصفات كلَّها لنفسه, وكان من الحكمة التنبيه على ذلك, قال تعالى: {ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ}.
ثالثاً: وهو ما ندفعه كأُطروحة لدفع الاستدلال المقابل:
إنَّ هذه الأسماء قد تكون مفردة, كما هو مشهور المفسرين, وقد تكون مركبة. فإله أسمٌ مفرد. ولكن {إِلَهِ النَّاسِ} أسم آخر وكذلك {مَلِكِ النَّاسِ} و{رَبِّ النَّاسِ}.
إذن, يوجد في السورة ثلاث أسماء مركبة.
وهنا, لابدَّ من ضم فكرة أُخرى كأُطروحةٍ أيضاً, وهي:
إنَّ الأثر لا يؤثر ولا يحصل إلاَّ بضم هذه الأسماء الثلاثة كلِّها. فلا بد من الاستعاذة بهذا المجموع كمجموع؛ لكي يندفع الشيطان الرجيم. في مقابل ما رجحه صاحب الميزان, وأشرنا إليه قبلاً من استقلاليَّة هذه الأسماء, وتأثير كل واحد منها بإنفراده.
فضلها
ورد في فضل سورة الناس (ستة عشر) حديثا كما ذكر الحويزي(15).
فعن الفضل بن يسار قال: سمعت أبا جعفر× يقول:>إن رسول الله’ اشتكى شكوى شديدة ووجع وجعا شديدا فأتاه جبرائيل وميكائيل‘ فقعد جبرائيل× عند رأسه و ميكائيل عند رجليه فعوذه جبرائيل بقل أعوذ برب الفلق و عوذه ميكائيل بـ{قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ}<(16).
وعن أبي خديجة عن أبي عبد الله × قال: >جاء جبرائيل إلى النبي’ وهو شاك فرقاه بالمعوذتين وقل هو الله أحد وقال: باسم الله أرقيك و الله يشفيك من كل داء يؤذيك خذها فلتهنيك ...<(17).
وروي عن الإِمام الباقر× قال:>من أوتر بالمعوذتين وقل هو الله أحد قيل له: يا عبد الله، أبشر فقد قبل الله وترك<(18).
الفرق بين الربّ والإله
الربّ هو المدبّر، والإله هو المعبود. والله سبحانه هو العالم العاصم، والرب يطلق في اللغة على المالك ، والسيد ، والمدبر ، والمربي ، والقيم ، والمنعم ، قال : ولا يطلق غير مضاف إلا على الله ، عز وجل ، وإذا أطلق على غيره أضيف ، فقيل : رب كذا . قال : وقد جاء في الشعر مطلقا على غير الله تعالى، وليس بالكثير ، ولم يذكر في غير الشعر.
إذاً فالرب: هو الله عز وجل، هو رب كل شيء مالكه، وله الربوبية على جميع الخلق، لا شريك له، وهو رب الأرباب، ومالك الملوك والأملاك. ولا يقال الرب في غير الله، إلا بالإضافة، قال: ويقال الرب، بالألف واللام، لغير الله، وقد قالوه في الجاهلية للملك(19). 
منافع سُورَةُ النَّاس
1- مَنْ قرأها في كلّ ليلةٍ في منزله، أمِنَ من الوَسْوَاس والجِنّ.
2- ومَنْ كتبها وعلّقها على الأطفال والصغار، حُفِظوا من كلّ جانٍّ وهوامٍّ بإذن الله تعالى.
3- مَنْ قرأها في كلّ ساعةٍ، تُغْفَرُ [له] جميع الذنوب.
4- وهي لكلّ مرضٍ تُقرأُ عليه، يَبْرَأُ بإذن الله تعالى(20).
5- (... ومن قرأ سورة الناس، فله شفاء من كيد الشيطان، ورحمة بالثبات على الإلهام)(21). 
6- وفي حديث عن النبي المصطفى ’ لجماعة دخلوا عليه حيث قال: >... وسورة الناس {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ* مَلِكِ النَّاسِ}إلى آخرها, وأنا إلى اليوم أتعوذ بها كل غداة، فما أصبت بولد و لا أصيب لي مال، ولامرضت ولا افتقرت، وقد انتهى بي السن إلى ما ترون، فحافظوا عليها واستكثروا من التعوذ بها<، فسمعنا ذلك منه وانصرفنا من عنده(22).
7- من قرأها فإن الله تعالى ينجيه من آفة كل عين ناظرة ومن شر الأشرار وكيد الفجار.
8- وروي عن الإمام جعفر الصادق×:>إن الله ينجيه من شر إبليس اللعين<(23).
9- قال الكرماني: أنه يأمن من شر الخلق والخلق من شره وقيل: يأمن من شر وسوسة الشيطان.
الاختلاف في قرآنية السورة
اختلف في قرآنية المعوذتين من حيث إنهما من الكتاب الكريم أم لا؟ وكذا في اختلاف العلماء في من أنكر المعوذتين، حيث إن بعض الصحابة قد أنكر كونهما سورتين من القرآن ... وكلام بعض علماء الحنفية الذين ذهبوا إلى عدم تكفير من أنكر قرآنية المعوذتين لإنكار ابن مسعود لها، وكذا ما ذكره البيهقي في سننه الكبرى، وما ذكره العلامة ابن نجيم المصري زين بن إبراهيم في البحر الرائق عن اختلاف العلماء في كفر من أنكر المعوذتين21. 
وكذلك اعترف العلامة شهاب الدين القسطلاني في شرحه على البخاري بإنكار ابن مسعود للمعوذتين، قال: ( قال: سألت أبي بن كعب عن المعوّذتين ) بكسر الواو المشددة، وعند ابن حبان وأحمد من طريق حماد بن سلمة عن عاصم قلت لأبي بن كعب: إن ابن مسعود لا يكتب المعوذتين في مصحفه- إلى قوله- وعند الحافظ أبي يعلى عن علقمة قال: كان عبد الله يحك المعوذتين من المصحف ويقول: إنما أمر رسول الله ’ أن يتعوذ بهما ولم يكن عبد الله يقرأ بهما(24).
ورواه عبد الله ابن الإمام أحمد عن عبد الرحمن بن يزيد وزاد: (ويقول: إنهما ليستا من كتاب الله). وهذا مشهور عند كثير من القراء والفقهاء أن ابن مسعود كان لا يكتبهما في مصحفه.
واعترف به أيضا في تفسير سورة الناس: (إن أخاك) في الدين (ابن مسعود) عبد الله (يقول: كذا وكذا) يعني أن المعوذتين ليستا من القرآن كما مر التصريح به.
واعترف الحافظ الإمام أبو بكر البزار في مسنده البحر الزخار بإنكار ابن مسعود للمعوذتين بقوله: (لم يتابع ابن مسعود أحد من الصحابة وقد صح عن النبي’ أنه قرأ بهما في الصلاة وأثبتتا في المصحف).
وهذا اعتراف من فقيه الحنابلة الإمام ابن الجوزي بإنكار بعض سلفهم الصالح قرآنية بعض كلمات القرآن: ومن أشهر ما نُسِبَ إلى ابن مسعود، وقد استفاضتْ به الأحاديث، قوله: بأنّ_ المعوّذتيْن _ ليستا من القرآن، وأنّه كان يحكّهما من مصحفه، ويقول: إنّهما ليستا من كتاب الله، إنّما أمرَ النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم أنْ يتعوّذ بهما(25).
وفي الأكمل عن سفيان بن سختان، قال: من قال إن المعوذتين ليستا من القرآن لم يكفر لتأويل ابن مسعود رضي الله عنه كما في المغرب للمطرزي.
وقال في هدية المهديين: وفي إنكار قرآنية المعوذتين اختلاف المشايخ والصحيح أنه كفر، انتهى.
وفي قبال هذا ما يذكرونه عن عبد الله بن مسعود من أنه قال: إن المعوذتين ليستا من القرآن ؛ لأن الرسول’ كان يعوذ بهما الحسن والحسين، فظن أنهما دعاء وليستا من القرآن.
وأما السيوطي فقد ذكر عن عدد السور في القرآن أنه قال: (وفي مصحف ابن مسعود مائة واثنتا عشرة ؛ لأنهلم يكتب المعوذتين! وفي مصحف أبيست عشرة (مائة وستة عشر)؛ لأنه كتب فقط آخره ( سورتي ) الحفد والخلع.وأورد في (ص270) دفاع الفخر الرازي والقاضي أبي بكر والنووي وابن حزم عنابن مسعود، ولكنه رجّح كلام ابن حجرفي شرح البخاري بأنه قد صح ذلك عن ابن مسعود، فلا يمكن إنكاره(26).
النتيجة:
طبقا لما ألزموا به أنفسهم، فإن أمامهم خيارين لا ثالث لهما:
الأول: أن يقولوا أن المعوذتين ليستا من القرآن، وأنهما مجرد عوذتين عوّذ بهما رسول الله’ الحسن والحسين‘.
الثاني: أنهما من القرآن وابن مسعود أنكر سورتين من القرآن فهو كافر مرتد.
ومقتضى أدلتهم الصحيحة المبينة لقدر ومنزلة ابن مسعود وعلمه بالعرضة الأخيرة للقرآن التي لا علم للصحابة بها يلزمهم الأخذ بالشق الأول، فيكون المسلمون كلهم من السلف إلى الخلف يتعبّدون بقرآن محرّف لأنهم أدخلوا فيه عُوذتين.
وهناك أمرين آخرين:
1. أما أن ابن مسعود قال بتحريف القرآن، لأنه أسقط منه سورتين؛ فهو كافر.
2. وأما أن ابن مسعود مصيب لاختصاصه بالعرضة الأخيرة، فالقرآن محرّف بزيادة عوذتين.
إلا أنه قد ذهب بعض الباحثين إلى تكذيبنسبة هذا الرأي إلى ابن مسعودمثل: الفخر الرازي والباقلاني وابن حزم.
وقال الطبرسي: (أما زيادة في القرآن، فمجمع على بطلانها، وأما النقصان فهو أشد استحالة، وإن العلم بصحة نقل القرآن، كالعلم بالبلدان، والحوادث الكبار، والوقائع العظام، والكتب المشهورة، وأشعار العرب المسطورة، فإن العناية اشتدت والدواعي توفرت على نقله، وحراسته، وبلغت إلى حد لم يبلغه شيء فيما ذكرناه؛ لأن القرآن مفخرة النبوة، ومأخذ العلوم الشرعية، والأحكام الدينية، وعلماء المسلمين قد بلغوا في حفظه، وحمايته الغاية، حتى عرفوا كل شيء اختلف فيه من إعرابه، وقراءته، وحروفه، وآياته، فكيف يجوز أن يكون مغيراً، أو منقوصاً مع العناية الصادقة، والضبط الشديد؟)(27).
وقد ذكر أحد الباحثين في ذلك هذا الكلام حيث قال: (يتضح من روايات سورتيالمعوذتين في مصادر إخواننا السنة أنه كانت توجد مؤامرة لحذفهما من القرآن، ولكنها فشلتوالحمد للهوحفظ الله المعوذتين الجزءمن القرآن عند كل المسلمين،! وهو سبحانه القائل: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ}.
لكن ما قاله ذلك الباحث يحتاج إلى دليل، كما يقال: التثبيت ثم المناقشة، من حيث ما هو الدليل على المؤامرة؟ وما هو المراد منها؟ ومن هو صاحب المؤامرة؟ وما هو السبب في أخصية هاتين السورتين بالمؤامرة؟ وفي التشكيك بهما وفي قرآنيتهما؟ 
فهل كان ذلك بسبب ارتباطهاتين السورتينبالحسنوالحسين‘؟حيث كان النبي’ يعوذهما دائماً بدعاء، على مرأى ومسمع من الناس ويقول: >إيتوني بولدي أعوذهما كما كان إبراهيم يعوذ إسحاق ويعقوب ^<، فلما نزلت المعوذتين كان يعوذهما بهما.
وروى نحوه ابن ماجة في سننهولكن لم يذكر الحسن والحسين، حيث قال عن أبي سعيد، قال:كان رسول الله’يتعوذ من عين الجان، ثم أعين الأنس، فلما نزلت المعوذتان أخذهما وترك ماسوى ذلك(28).
من هذه الروايات نعرف أنالنبي’كان يهتم اهتماماً خاصاً بولديه الحسن والحسين‘ وتعويذهما بكلمات الله تعالى لدفع الحسد والشر عنهما وأنه بعد نزولالمعوذتين كان يعوذهما دائماً بهما، وبهذا ارتبطت السورتان في ذهن الأمة بالحسنين وسرى إليهما الحسد منهماأو الحب.
وحين البحث في الروايات نلاحظ أنها تحاول تصويرعبدالله بن مسعود بأنه حامل راية العداء للمعوذتين وتنقل إصراره على حذفهما منالقرآن!
ولكن توجد أمور توجب الشك في ذلك...
منها: إن ابن مسعود لم يكن معروفاً ببغض علي والحسن والحسين^...
ومنها: إنه يستبعد أن لايكون ابن مسعود اطلع على تأكيدات النبي’ التي نقلها الصحابة وأهل البيت^على أن المعوذتين سورتان منزلتان!
ومنها: ما كان عند الناس الذين يعيبون على من يقرأ السورتين في الصلاة، كما روي من أن حنظلة السدوسي قال قلت لعكرمة: إني أقرأ فيصلاة المغرب {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ } و{قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ } وإن ناساً يعيبون ذلك عليَّ ؟! فقال وما بأس بذلك, إقرأهما فإنهما منالقرآن(29).
وينبغي أن نتذكر هنا أن عكرمة هو عبد لابن عباسالهاشمي، ومنه أخذ ثقافتهالقرآنية ، وإن صار فيما بعد من الخوارج .
ومنها : أنه رويت عن ابن مسعود رواية أو أكثر فيفضل سورتي المعوذتين، فهي تناقض رواية أنه أنكرهما.
مثل رواية: > استكثروا منالسورتين يبلغكم الله بهما فيالآخرة، المعوذتين ينوران القبر ويطردان الشيطان ويزيدان في الحسنات والدرجاتويثقلان الميزان ويدلان صاحبهما إلى الجنة<(30).
هذه الأمور وغيرها .. تدفع الباحث إلى القول بأن جوا سياسيا معينا كان يستنكر على الناس ويعيب عليهم قراءة المعوذتين في الصلاة، وهو المسؤول عن نسبة هذه الروايات إلى ابن مسعود.
البخاري وموقف التشكيك العجيب
أمام هذه التشكيكات في المعوذتين في مصادر إخوانناالسنة، يبقى عندهم عدد من الروايات التي تثبت جزئيتهما من القرآن الكريم ، وعمدتها ما رووه عنعقبة بن عامر الجهني: (عن عقبة بن عامر قال: قال رسول الله ’: >ألم تر آياتأنزلت الليلة لم ير مثلهن قط، { قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ} و{قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ} ......<)(31).
ورواها الترمذي, فقال: هذا حديث حسن صحيح مروى عن عقبة ( أمرني رسول الله’ أن أقرأ بالمعوذتينفي دبر كل صلاة). وقال هذا حديثحسن غريب ). ثم كرر رواية ابن كعب(32).
وقال الشافعي: ( أخبرنا وكيع، عن سفيان الثوري، عن أبي إسحاق، عن عبد الرحمن بن يزيد قال: رأيت عبد الله يحك المعوذتين منالمصحف ويقول لا تخلطوا به ماليس منه ـ ثم قال عبد الرحمن ـ وهم يروون عن النبي’ أنه قرأ بهما في صلاةالصبح وهما مكتوبتان في المصحف الذي جمع على عهد أبي بكر ثم كان عند عمر ثم عند حفصة ثم جمع عثمان عليهالناس، وهما من كتاب الله (عزّ وجلّ)، وأنا أحب أن أقرأ بهما في صلاتي)(33).
وروى الهيثمي عدةروايات في إثبات أنالمعوذتين من القرآن(34).
أما البخاري فقد اختار أن يقف في صف المشككين فيالمعوذتين!فقد روى رواية عقبة في (تاريخهالكبير 3: 353)، ثم تراجع عن روايتها في صحيحه، فلم يرو إلا روايات أُبي ابن كعب المتزلزلةالمشككة. مع أنه عقدفي صحيحه عنوانين للمعوذتين لكناكتفى بروايات التشكيك دون غيرها، وقد ألّف تاريخه قبل صحيحة، كما في(تذكرةالحفاظ2: 555).
قال فيصحيحه: (حدثنا عاصم عن زر قال: سألت أبيَّ بن كعب قلت: أبا المنذر إن أخاك ابن مسعود يقول: كذا وكذا. فقال أُبيّ : سألترسول الله’ فقال: لي قيل لي فقلت، قال: فنحن نقول كما قال رسول الله’ انتهى)(35).
فيكون البخاري متوقفاً في أنهما من القرآن؛ لعدم ثبوتدليل على ذلك عنده!!
ومن طريف ما تقرأ في إرشاد الساري في شرح البخاري, قول القسطلاني: ( وقع الخلاف في قرآنيتهما ثم ارتفع الخلاف ووقع الإجماع عليه ، فلو أنكر أحدقرآنيتهما كفر،انتهى)(36).
وقد تضمن كلامه فتوى بتبرئة الذين خالفوا إجماعالصحابة من الماضين، وتكفير من خالف إجماعهم ممن بعدهم.
ولا نظن إخواننا السنة يلتزمونبذلك.
وتضمن فتوى أخرى بكفر منكر قرآنية المعوذتين من بعدالصحابة وكأن ذلك مما أجمع عليهالفقهاء .. ولم يذكر حكم من شك فيهما كالبخاري الذي اقتصر على نقلروايات التشكيك، وتجاهل رواياتجزئيتهما من القرآن ولم يعتمدها في صحيحه.
موقف أهل بيت النبي^وشيعتهم منالمعوذتين
لا يوجد في مصادرنا الشيعية أدنى شك على أن المعوذتين جزء من القرآن، بل كان موقف الأئمة من أهل بيت النبي’التأكيد على قرآنيتهما ... روى الشيخ الطوسي عن سيف بن عميرة عن منصور بن حازم قال: أمرني أبو عبدالله×أن أقرأ المعوذتين فيالمكتوبة(37).
وروى الحر العاملي عن أبي عبد الله× أنه سئل عن المعوذتين أهما من القرآن؟ فقال×: >هما من القرآن< . فقال الرجل:إنهما ليستا من القرآن في قراءة ابن مسعود ولا في مصحفه.فقال أبو عبد الله×: >أخطأ ابن مسعود، أو قال: كذب ابن مسعود، وهما منالقرآن. فقال الرجل: فأقرأبهما في المكتوبة؟ فقال نعم، انتهى)(38).
وقال المحقق البحراني: أجمع علماؤنا وأكثر العامة على أن المعوذتين من القرآن العزيزوأنه يجوز القراءة بهما فيالصلاة المفروضة، وروى منصور بن حازم قال: أمرني أبو عبد الله× أن أقرأ المعوذتين في المكتوبة.وعن صفوان الجمال في الصحيح...قال في الذكرى: ونقل عنابن مسعود أنهما ليستا من القرآن وإنما أنزلتا لتعويذ الحسن والحسين‘ وخلافه انقرض،واستقر الإجماع الآن من العامة والخاصة على ذلك(39).
ولعل من هنا، ومن كل هذا الذي سبق، أن نرى أن السيد الشهيد محمد محمد صادق الصدر+ كان قد أحتاط في هاتين السورتين حيثإنه سئل: أن المعوذتين ليسّا من القرآن؟
فأجابه: ليس كذلك، بل هي نزلت وحيا أكيدا كالقرآن ولكن سياق التعويذ بها يجعلها منشأ للشك في انطباق عنوان القرآنية عليها، ولذا قلنا الأحوط وجوبا عدم قراءتها في الصلاة.
ولكن يرد هذا ما ورد من كثرة الأحاديث في استحباب قراءتها في كثير من الصلوات، وأيضا الإجماع على قرآنيتيهما، ولعل ما نظر إليه السيد الشهيد محمد الصدر+ هو الاحتياط باعتباره طريق النجاة. ومن الله السداد.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
الهوامش
++++++
(1) سورة الأعراف:200 ـــــ 201.
(2) علي بن إبراهيم, تفسير القمي 2: 450.
(3) الفيض الكاشاني, تفسير الأصفى 4: 240.
(4) محمد علي السحيني البقاعي، دروس في تفسير القرآن 1: 3.
(5) مكارم الشيرازي, تفسير الأمثل20: 576.
(6) ابن طاووس, سعد السعود للنفوس 47: 1.
(7) جعفر مرتضى العاملي, تفسير سورة الناس 1: 37-38.
(8) الطبرسي, مجمع البيان 10: 443.
(9) الطوسي، التبيان 10: 415.
(10) نفس المصدر 10: 416.
(11) الميرزا محمد المشهدي, كنز الدقائق 1: 51.
(12) التبيان10:416.
(13) مجمع البيان 10: 443.
(14) التبيان 10: 443.
(15) الحويزي, تفسير نور الثقلين 10: 290.
(16) مجمع البيان 10: 442.
(17) نفس المصدر.
(18) تفسير الأمثل 20: 578.
(19) لسان العرب 1: 399 ــــــــ 400.
(20) منافع القرآن العظيم المنسوب للإمام الصادق× 1: 28.
(21) حسين النوري, مستدرك الوسائل 14: 278.
(22) نفس المصدر 4: 295.
(23) خليل بن ابراهيم الظاهري، الإشارات في علم العبارات 1: 27.
(24) ابن الجوزي, إعلام الخلَف بمن قال بتحريف القرآن من أعلام السلف: 726.
(25) نفس المصدر 204.
(26) السيوطي, الإتقان في علوم القرآن1: 227.
(27) مجمع البيان 1: 42.
(28) سنن ابن ماجه 2: 1161.
(29) مسند أحمد 1: 282.
(30) المتقي الهندي, كنز العمال 1: 601.
(31) صحيح مسلم 2: 200.
(32) سنن الترمذي 5: 122 و4: 244.
(33) الشافعي, كتاب الأم 7: 199.
(34) الهيثمي, مجمع الزوائد: 7 : 148.
(35) صحيح البخاري 6: 96.
(36) السيوطي، إرشاد الساري في شرح البخاري7 : 442.
(37) الشيخ الطوسي, تهذيب الأحكام 2: 96.
(38) الحر العاملي, وسائل الشيعة 4: 786.
(39) المحقق البحراني, الحدائق الناضرة 8:230.

قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat


فلاح السعدي
 (للدخول لصفحة الكاتب إضغط هنا)

    طباعة   ||   أخبر صديقك عن الموضوع   ||   إضافة تعليق   ||   التاريخ : 2011/03/22



كتابة تعليق لموضوع : أضواء على سورة الناس....وقرآنية المعوذتين
الإسم * :
بريدك الالكتروني :
نص التعليق * :
 



حمل تطبيق (كتابات في الميزان) من Google Play



اعلان هام من قبل موقع كتابات في الميزان

البحث :





الكتّاب :

الملفات :

مقالات مهمة :



 إنسانية الإمام السيستاني

 بعد إحراجهم بكشف عصيانها وخيانتهم للشعب: المرجعية الدينية العليا تـُحرج الحكومة بمخالفة كلام المعصومين.. والعاصفة تقترب!!!

 كلام موجه الى العقلاء من ابناء شعبي ( 1 )

 حقيقة الادعياء .. متمرجعون وسفراء

 قراءة في خطبة المرجعية : هل اقترب أَجلُ الحكومةِ الحالية؟!

 خطر البترية على بعض اتباع المرجعية قراءة في تاثيرات الادعياء على اتباع العلماء

 إلى دعاة المرجعية العربية العراقية ..مع كل الاحترام

 مهزلة بيان الصرخي حول سوريا

 قراءة في خطبة الجمعة ( 4 / رمضان/ 1437هـ الموافق 10/6/2016 )

 المؤسسة الدينية بين الواقع والافتراء : سلسلة مقالات للشيخ محمد مهدي الاصفي ردا على حسن الكشميري وكتابيه (جولة في دهاليز مظلمة) و(محنة الهروب من الواقع)

 الى الحميداوي ( لانتوقع منكم غير الفتنة )

 السيستاني .. رسالة مهدوية عاجلة

 من عطاء المرجعية العليا

 قراءة في فتوى الدفاع المقدس وتحصين فكر الأمة

 فتوى السيد السيستاني بالجهاد الكفائي وصداها في الصحافة العالمية

 ما هو رأي أستاذ فقهاء النجف وقم المشرّفتَين السيد الخوئي بمن غصب الخلافة ؟

 مواقف شديدة الحساسية/٢ "بانوراما" الحشد..

أحدث مقالات الكتّاب :


مقالات متنوعة :





 لنشر مقالاتكم يمكنكم مراسلتنا على info@kitabat.info

تم تأسيس الموقع بتاريخ 1/4/2010 © محمد البغدادي 

 لا تتحمل الإدارة مسؤولية ما ينشر في الموقع من الناحيتين القانونية والأخلاقية.

  Designed , Hosted & Programmed By : King 4 Host . Net