صفحة الكاتب : علي جابر الفتلاوي

سياحة فكرية ثقافية (6) الايمان والتوكل
علي جابر الفتلاوي
 التوكل اظهار العجز والاعتماد على غيرك والاسم التكلان كما ورد في الصحاح وكّل اليه الأمر سلمه اياه وفوضه اليه ، وتوكل على الله أعتمد عليه ووثق به. قال تعالى (( وعلى ربهم يتوكلون )) ((ومن يتوكل على الله فهو حسبه )) وهناك آيات اخرى تتحدث عن التوكل على الله تعالى منها الآية 2 من سورة الانفال (( انما المؤمنون الذين اذا ذكر الله وجلت قلوبهم واذا تليت عليم آياته زادتهم ايمانا وعلى ربهم يتوكلون)).
تذكر الآية الكريمة السابقة ثلاث صفات للمؤمنين ، اذا ذكر الله وجلت قلوبهم ، وان ايمانهم قابل للزيادة عندما يسمعون آيات الله تتلى عليهم ، وهذا دليل على ان الايمان قابل للزيادة والنقصان ، فهناك اسباب موضوعية تزيد الايمان واخرى تنقصه ، فهو يزداد في قلوب المؤمنين عندما يسمعون آيات الله تتلى عليهم وهذه هي الصفة الثانية التي تذكرها الآية الكريمة السابقة ، اما الصفة الثالثة للمؤمنين التي تذكرها الآية هي 
((وعلى ربهم يتوكلون )) فالتوكل اذن من صفات الايمان ، ومن مستلزمات التوكل ان يعيش المتوكل الحب والخضوع والخشوع والارادة الى المتوكل عليه ، لانك لا يمكن ان تتوكل وتعتمد على أحد ان لم تكن تحبه وتشعر له بالخضوع والاستسلام ، كما لا يمكن ان تتوكل وتعتمد على من تكرهه حتى وان كنت تؤمن بوجوده . فالشيطان مثلا هو موجود ومتيقنين من وجوده طبقا لتعاليمنا الدينية ،فالايمان بوجود الشيطان شئ والتوكل عليه شئ آخر ، فنحن نؤمن بوجود الشيطان ، وهذا من مستلزمات الايمان لان ديننا اخبرنا ان الشيطان موجود ، لكن ديننا اخبرنا ايضا ان نكون على حذر من الشيطان ونتجنبه ، لهذا فنحن لا نحب الشيطان ولا نشعر تجاهه بالخضوع والخشوع والاستسلام ، بل نتوخاه ونحاول ان نبتعد عنه رغم اننا مؤمنون بوجوده لاننا لا نحبه ، اذن من مستلزمات التوكل ان تحب من تتوكل عليه وتشعر انه يحبك ايضا ويفعل لك الخير وتشعر ايضا بقدرته على فعل الخير ، فانت لا تتوكل على من لا تحب ، وعلى من لا يستطيع ولا يقدر ان يجلب ويفعل لك الخير،فالمتوكل عليه يجب ان يتصف بالقدرة على فعل الخيرات ، وان يتصف بكل صفات الكمال ، وان يكون قادرا على كل شئ ، فالحب والجمال وفعل الخير من صفاته ، فعندما تؤمن بوجود الله لا يكفي ان لم يصاحب هذا الايمان الحب والشوق والارادة للوصول الى المحبوب ،فحالة الحب لله تعالى والشعور بقدرته وبجماليته وحبه لمخلوقاته ، يجعلنافي حالة انشداد اكثر نحوه بالتوكل عليه في كل امورنا ، حيث نشعر ان لا خير يأتينا الاّ بالتوكل عليه ، فهو مانح الخير ، ولا شرّ يدفع عنا الا بالتوكل عليه لانه هو القادر على كل شئ ، فالتوكل ان نتوجه بعقولنا وعواطفنا وحواسنا نحو الله تعالى في طلب حاجاتنا ، وان نشعر ان الله يحبنا كما نحبه ، وانه يجلب الخير والجمال لنا لانه جميل ويحب الجمال ، ويحب الخير وخالق ومانح له لعباده المتوكلين والمحبين له . 
((ولو تحركنا على مستوى مفهوم الايمان وتحليله فسوف نجد مفهوم التوكل في قلبه ، والتوكل بدوره عمل واع ، وفعل يستلزم ان يكون الشخص المؤمن والمتوكل يتحرك في حياته من موقع العزم والارادة والوعي ، فنحن لا نعتمد او نتوكل على الشخص الذي لا نحبه ونشعر تجاهه بالكراهية ، حتى لو كنا على يقين من وجوده ، فالاعتماد او التوكل يمثل احد المعطيات المنطقية والضرورية لايمان الانسان بشئ معين او بشخص معين والتوكل على مراتب ودرجات كما ان الايمان على درجات )) عبد الكريم سروش
اذن هناك رابطة قوية وطردية بين الايمان والتوكل ، فكلما ارتقت حالة الايمان ازدادت درجة التوكل عند الانسان ، فالعلاقة قلبية لا اعتقادية فحسب ، فأحيانا تعتقد بوجود شئ لكن هذا الاعتقاد بوجود ذلك الشئ لا يصاحبه الايمان بذلك الشئ ، فالاعتقاد بالوجود شئ والايمان به شئ آخر ، وانعدام حالة الايمان او ضعفها يعني انعدام لوازم الايمان من حب وارادة وخشوع واستسلام وتوكل ، فالعلاقة بين الايمان والتوكل علاقة ديناميكية حركية لا شكلية ، ومن يعيش حالة التوكل يعيش الامل في الحياة ، لانك عندما تعتقد وتؤمن بالله تعالى انه القادر الذي يعطيك الخير ولا احد غيره قادر على ذلك لانه هو الخالق والمعطي ، فأنك ستعيش الامل بالحياة وتقوى عندك الارادة للتوجه نحو الله القادر ، وتشعر انك كلما اتجهت نحو الله اكثر كلما ازداد خيرك وسعادتك ،وعندما تعيش هذه الحالة الشعورية تتخلص من كثير من العوارض النفسية السلبية التي تسبب الكآبة والعزلة والانطواء والتعقيد في الحياة .
فعندما تعيش الامل والاعتماد والتوكل على الله فأنك تشعر بخيرية وجمال وحب الله وحبه اليك هذا الشعور الايماني يجعلك تشعر بالراحة والاطمئنان ، وتتخلص من كثير من العقد النفسية ومنها الكآبة التي اصبحت مرضا شائعا في عصرنا خاصة في صفوف الناس البعيدين عن الله تعالى والذين لا يعيشون الحياة معه،اما من يعيشون الحياة مع الله المبنية على الحب والخضوع والخشوع والاستسلام والتوكل عليه تعالى ، هؤلاء المؤمنون يعيشون حالة الاطمئنان والهدوء والاستقرار النفسي والامل بالحياة السعيدة في الدنيا والاخرة ،فالتوكل اذن من المستلزمات المهمة للايمان والمؤمن ان لم يتصف بصفة التوكل يعتبر ناقص او غير مكتمل الايمان ، والمؤمن المتوكل هو المتصف بالايمان الذي يقود الى الخضوع والاستسلام لله تعالى (( انما يؤمن بآياتنا الذين اذا ذكّروا بها خرّوا سجدا وسبحوا بحمد ربهم وهم لا يستكبرون ، تتجافى جنوبهم عن المضاجع)) السجدة 15، 16 وقوله تعالى ((وعلى الله فليتوكل المؤمنون)) آل عمران 122 ، ((ومن يتوكل على الله فهو حسبه))الطلاق 13
هذه هي معالم الايمان التوكل والسجود والاعتماد والامل وعدم التكبر والثقة اللامحدودة بالله تعالى ، وللتوكل مقامات ودرجات ، كما ان للايمان مقامات ودرجات ، وللسيد الخميني رحمه الله تعالى بحث رائع عن التوكل في كتابه 
(الاربعون حديثا )حيث يجعل للتوكل ثلاث درجات الاولى يتصف بها غالبية الناس ويقول (( والظاهراننا منهم )) وهذه العبارة تنم عن تواضعه وتؤشر على درجة ايمانه وشدة توكله على الله تعالى ، لان اهل العلم والمعرفة متواضعون وهم قدوة للاخرين في ذلك ، يقول السيد الخميني (رض) ان هذه الطبقة من الناس (( ليس لهم علم كامل بربوبية الله بل يكون توحيدهم ناقصا ، حيث حجبت عنهم ربوبية الحق وسلطنته لعلل واسباب ظاهرة .. فأنهم في الامور الدنيوية لا يعتمدون على الحق سبحانه بأي شكل من الاشكال ، ولايتشبثون الا بالاسباب والمؤثرات الكونية . واذا ما اتفق احيانا ان توجهوا الى الحق تعالى وطلبوا منه حاجة ، او رجوا منه رجاء ، فذاك من باب التقليد او من باب الاحتياط .. ان هؤلاء لا يتمسكون حتى بادنى درجات التوكل في اعمالهم الدنيوية )). اما الدرجة الثانية من المتوكلين فهم ((فريق من الناس اقتنعوا اما بالبرهان واما بالنقل ، وصدقوا بأن الحق تعالى هو مقدر الامور ، ومسبب الاسباب ، والمؤثر في الوجود ، ولا حدود لقدرته وتصرفه هؤلاء يتوكلون على الله سبحانه عن طريق العقل )) وهذا الصنف من الناس اثبتوا اركان التوكل وهي (( ان الحق تعالى عالم بحاجات العباد وانه قادر على تلبية تلك الحاجات وانه ليس في ذاته المقدسة بخل وانه رحيم بالعباد ورؤوف بهم .
اذن يجب التوكل على عالم قدير كريم رحيم بالعباد ، قائم بمصالحهم ،لا يفوت عليهم شيئا منها ، حتى وان لم يميزوا هم بين ما ينفعهم وما يضرهم ، هؤلاء وان كانوا من المتوكلين عمليا ، الا انهم لم يبلغوا مرتبة الايمان ))
اما الطائفة الثالثة من المتوكلين فهم اصحاب القلوب (( الذين توصلوا بقلوبهم الى معرفة الحق تعالى في الكائنات ، فآمنت تلك القلوب بأن مقدر الامور ، والسلطان ومالك الاشياء ، هو الحق تعالى .. وهؤلاء ايضا يختلفون من حيث مراتب الايمان ودرجاته اختلافا كبيرا ، قبل ان يصلوا الى درجة الاطمئنان الكامل ))
اذن فالتوكل له درجات اعلاها درجة اصحاب القلوب ، وهذه الدرجة لها مراتب ومقامات ، لان اصحاب القلوب ايضا ليس لهم مرتبة واحدة في سلم التوكل والايمان 
فالتوكل عند اصحاب القلوب والعرفان هو (( طرح البدن في العبودية وتعلق القلب بالربوبية )) وقال آخرون (( التوكل على الله انقطاع العبد في جميع ما يأمله من المخلوقين )) وهناك مقامات عند اهل العرفان اعلى درجة من التوكل ذاته كمقام الرضا ، فالمتوكل يطلب الخير من الحق تعالى لنفسه اما الراضي (( فيكون قد افنى أرادته في ارادة الله فلا يختار لنفسه شيئا )) فهدفه هو ان يحصل على الرضا عند الحق تعالى ، ولا يهمه شيئا من خيرات الدنيا ، جعلنا الله واياكم من التابعين لهؤلاء وسلمكم الله تعالى من كل مكروه.
 
علي جابر الفتلاوي 
A_fatlawy@.yahoo.com 
 

قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat


علي جابر الفتلاوي
 (للدخول لصفحة الكاتب إضغط هنا)

    طباعة   ||   أخبر صديقك عن الموضوع   ||   إضافة تعليق   ||   التاريخ : 2011/03/22



كتابة تعليق لموضوع : سياحة فكرية ثقافية (6) الايمان والتوكل
الإسم * :
بريدك الالكتروني :
نص التعليق * :
 



حمل تطبيق (كتابات في الميزان) من Google Play



اعلان هام من قبل موقع كتابات في الميزان

البحث :





الكتّاب :

الملفات :

مقالات مهمة :



 إنسانية الإمام السيستاني

 بعد إحراجهم بكشف عصيانها وخيانتهم للشعب: المرجعية الدينية العليا تـُحرج الحكومة بمخالفة كلام المعصومين.. والعاصفة تقترب!!!

 كلام موجه الى العقلاء من ابناء شعبي ( 1 )

 حقيقة الادعياء .. متمرجعون وسفراء

 قراءة في خطبة المرجعية : هل اقترب أَجلُ الحكومةِ الحالية؟!

 خطر البترية على بعض اتباع المرجعية قراءة في تاثيرات الادعياء على اتباع العلماء

 إلى دعاة المرجعية العربية العراقية ..مع كل الاحترام

 مهزلة بيان الصرخي حول سوريا

 قراءة في خطبة الجمعة ( 4 / رمضان/ 1437هـ الموافق 10/6/2016 )

 المؤسسة الدينية بين الواقع والافتراء : سلسلة مقالات للشيخ محمد مهدي الاصفي ردا على حسن الكشميري وكتابيه (جولة في دهاليز مظلمة) و(محنة الهروب من الواقع)

 الى الحميداوي ( لانتوقع منكم غير الفتنة )

 السيستاني .. رسالة مهدوية عاجلة

 من عطاء المرجعية العليا

 قراءة في فتوى الدفاع المقدس وتحصين فكر الأمة

 فتوى السيد السيستاني بالجهاد الكفائي وصداها في الصحافة العالمية

 ما هو رأي أستاذ فقهاء النجف وقم المشرّفتَين السيد الخوئي بمن غصب الخلافة ؟

 مواقف شديدة الحساسية/٢ "بانوراما" الحشد..

أحدث مقالات الكتّاب :


مقالات متنوعة :





 لنشر مقالاتكم يمكنكم مراسلتنا على info@kitabat.info

تم تأسيس الموقع بتاريخ 1/4/2010 © محمد البغدادي 

 لا تتحمل الإدارة مسؤولية ما ينشر في الموقع من الناحيتين القانونية والأخلاقية.

  Designed , Hosted & Programmed By : King 4 Host . Net