صفحة الكاتب : حيدر الحد راوي

تاملات في القران الكريم ح181 سورة النحل الشريفة
حيدر الحد راوي
بسم الله الرحمن الرحيم
 
وَلَهُ مَا فِي الْسَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَلَهُ الدِّينُ وَاصِباً أَفَغَيْرَ اللّهِ تَتَّقُونَ{52} 
تضمنت الاية الكريمة مقدمتين يتلوها سؤال انكار وتوبيخ :
1- ( وَلَهُ مَا فِي الْسَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ ) : خلقا وملكا , بلا استثناء , فهو جل وعلا الخالق المدبر . 
2- ( وَلَهُ الدِّينُ وَاصِباً ) : له وحده جل وعلا الطاعة دائما وواجبا .    
حري بالمخلوق العاقل ان يتقي ويخاف ويجتنب نواهيه تعالى ذكره , لا ان يتقي آلهة اخرى ( أَفَغَيْرَ اللّهِ تَتَّقُونَ ) .     
 
وَمَا بِكُم مِّن نِّعْمَةٍ فَمِنَ اللّهِ ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ{53} 
سلطت الاية الكريمة الضوء على عدة مضامين منها :
1- ( وَمَا بِكُم مِّن نِّعْمَةٍ فَمِنَ اللّهِ ) : ان الله تعالى مجده مصدر النعمة والخير , والنعمة كما يعرفها القمي هي ( الصحة والسعة والعافية ) . 
2- ( ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ ) : الضر هو كل شدة يتعرض لها الانسان كالمرض والعوز وسائر انواع البلاء الاخرى , الملاحظ ان اغلب البشر عند اليسر والرخاء يبتعدون عن ذكر الله تعالى , ويقصدون غيره جل وعلا , اما عند تعرضهم الى الضر ( بكل مضامينه ) فأنهم ( فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ ) , يتركون كل ما سواه جل وعلا ويرفعون اصواتهم له بالدعاء وطلب الاستغاثة ورفع الضر عنهم  وينبذون كل ما كان عليه اعتمادهم .      
 
ثُمَّ إِذَا كَشَفَ الضُّرَّ عَنكُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِّنكُم بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ{54}
تبين الاية الكريمة هذه الحقيقة , يجهد الانسان نفسه بطلب الاستغاثة ورفع الضر منه جل وعلا , وحالما يرفع الضر او البلاء يعود الانسان الى الشرك والفسوق والعصيان , لكن ليس الجميع بل ( إِذَا فَرِيقٌ مِّنكُم بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ ) , دل حرف الجر ( من ) على التبعيض . 
 
لِيَكْفُرُواْ بِمَا آتَيْنَاهُمْ فَتَمَتَّعُواْ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ{55}
تبين الاية الكريمة ان الكفر يأتي بعد الشرك , او ان الشرك مقدمة للكفر , فيكفروا بنعمة كشف الضر وسائر نعمه جل وعلا وينكرون انها منه تعالى ذكره , وينسبونها الى ما سواه مما نبذوه ساعة الشدة والبلاء , فيأتي التهديد الرباني المباشر لهم ( فَتَمَتَّعُواْ ) , في الدنيا فقط , فكل شيء فيها ماض الى الزوال , ( فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ ) , سوف تعلمون حقيقة امركم وعاقبته ومصيركم الخالد في النار .            
 
وَيَجْعَلُونَ لِمَا لاَ يَعْلَمُونَ نَصِيباً مِّمَّا رَزَقْنَاهُمْ تَاللّهِ لَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنتُمْ تَفْتَرُونَ{56} 
الاية الكريمة بجملتها في مورد التوبيخ والتعنيف للمشركين , ( وَيَجْعَلُونَ لِمَا لاَ يَعْلَمُونَ ) , اصنامهم التي لا تعلم ولا تدرك شيئا , او انهم هم من لا يعلمون ولا يكادون يدركون حقيقتها بانها لا تضر ولا تنفع , ( نَصِيباً مِّمَّا رَزَقْنَاهُمْ ) , كان من عادات العرب ان يتقربوا للاصنام بالقرابين او المزروعات وغيرها بدعواهم المعروفة ( هذا لله وهذا لشركائنا ) , ( تَاللّهِ لَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنتُمْ تَفْتَرُونَ ) , ( من أنها آلهة وأنها أهل للتقرب إليها وهو وعيد لهم على ذلك ) . "تفسير الصافي ج3 للفيض الكاشاني" .            
 
وَيَجْعَلُونَ لِلّهِ الْبَنَاتِ سُبْحَانَهُ وَلَهُم مَّا يَشْتَهُونَ{57} 
ذكرت الاية الكريمة جانبا من مفتريات الكفار ( مشركي العرب ) ( وَيَجْعَلُونَ لِلّهِ الْبَنَاتِ )  بزعمهم ان الملائكة بنات الله تعالى عن ذلك علوا كبيرا , فقد اشتهروا بكرههم واستضعافهم للنساء وعدوهن مجلبة للعار , ( سُبْحَانَهُ ) , تنزيها له جل وعلا من مزاعمهم , ( وَلَهُم مَّا يَشْتَهُونَ ) ,  واحتفظوا لانفسهم بالبنين , حيث كانوا يعتبرون الولد مصدر القوة والفخر .  
 
وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالأُنثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدّاً وَهُوَ كَظِيمٌ{58}
سلطت الاية الكريمة الضوء على احدى العادات الاجتماعية المتعارفة لدى عرب الجاهلية , ( وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالأُنثَى ) , اذا زف اليه خبر ولادة انثى له , ( ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدّاً ) , صار مغموما مهموما بالخجل والحياء من الناس , وامتلئ غيضا وحنقا على والدتها ( وَهُوَ كَظِيمٌ ) , يتجرع الغيظ تجرعا . 
 
يَتَوَارَى مِنَ الْقَوْمِ مِن سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ أَلاَ سَاء مَا يَحْكُمُونَ{59} 
تكشف الاية الكريمة عن حال الوالد في تلك الحالة ( يَتَوَارَى مِنَ الْقَوْمِ ) , يستخفى منهم , خشية التعيير وما شابه , ( مِن سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ ) , وكأن الامر جريمة تدعو الى الغم والهم , في ذلك المقام يكون امامه طريقين : 
1- ( أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ ) : ان يحتفظ بالمولودة ويتحمل الذل والهوان . 
2- ( أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ ) : او ان يدفنها حية تحت التراب ( يئدها ) .       
معتقدا ان ما فعله هو الصواب , فترد الاية الكريمة في ختامها على مثل هذه التصرفات والاحكام الجاهلية ( أَلاَ سَاء مَا يَحْكُمُونَ ) , قبح ما فعلوا , وساء فعلهم هذا , وقبح ان ينسبوا الانثى التي هي في هذا المقام لديهم الى الله تعالى عن ذلك علوا كبيرا .   
 
لِلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ مَثَلُ السَّوْءِ وَلِلّهِ الْمَثَلُ الأَعْلَىَ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ{60}
نستقرأ الاية الكريمة في موردين : 
1- ( لِلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ مَثَلُ السَّوْءِ ) : مثل السوء صفته القبيحة والتي تتمثل في الحاجة الى الولد ( بنينا وبناتا ) والتكاثر والتفاخر بالذكور مع كراهية وتقليل شأن النساء رغم حاجتهم اليهن ومن ابرزها خوفهم منهن في جلب العار و وأدهن صغارا , وكذلك منها العجز والجهل ... الخ .    
2- ( وَلِلّهِ الْمَثَلُ الأَعْلَىَ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ) : المثل الاعلى الصفة العليا حيث صفات الالوهية في الكمال والجلال والغنى عن الصاحبة والولد والاستغناء عن الخلق والنزاهة عن صفات المخلوقين ... الخ , ( وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ) , العزيز في ملكه وملكوته , الحكيم في تدبير شؤون خلقه ومملكته , وبعبارة اخرى ( المتفرد بكمال القدرة والحكمة ) "تفسير الصافي ج3 للفيض الكاشاني" .          
 
وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِم مَّا تَرَكَ عَلَيْهَا مِن دَآبَّةٍ وَلَكِن يُؤَخِّرُهُمْ إلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى فَإِذَا جَاء أَجَلُهُمْ لاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ{61} 
تشير الاية الكريمة الى تأجيل العقاب على الناس ( وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِم ) , كفرهم ومعاصيهم وافتراءاتهم وسائر الذنوب الاخرى , ( مَّا تَرَكَ عَلَيْهَا مِن دَآبَّةٍ ) , تعجيل العقاب في الدنيا على كل تلك المعاصي يستوجب فناء الناس , ( وَلَكِن يُؤَخِّرُهُمْ إلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى ) , لكنه جل وعلا تحننا ومنا وامهالا يؤجل العقاب الى حين الاجل ( الموت ) , ومن ثم { كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ }المدثر38  , { كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ }الطور21 , ( فَإِذَا جَاء أَجَلُهُمْ لاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ ) , لا تأخير ولا تقديم للاجل ولو باليسير من الزمن .  
 
وَيَجْعَلُونَ لِلّهِ مَا يَكْرَهُونَ وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الْكَذِبَ أَنَّ لَهُمُ الْحُسْنَى لاَ جَرَمَ أَنَّ لَهُمُ الْنَّارَ وَأَنَّهُم مُّفْرَطُونَ{62}
تبين الاية الكريمة ( وَيَجْعَلُونَ لِلّهِ مَا يَكْرَهُونَ ) , ان الكفار يجعلون وينسبون لله تعالى ذكره ما يكرهونه لانفسهم كالنساء بزعمهم ان الملائكة بنات الله تعالى عن ذلك علوا كبيرا وايضا الشركاء في الرياسة والاستخفاف بالرسل والانبياء (ع) , كما وانهم ينسبون اراذل الاموال له تعالى ذكره , ( وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الْكَذِبَ ) , مع كل تلك المزاعم الواهية والجعولات الباطلة لا يتقولون بألسنتهم غير الكذب , حيث يدعون انهم بكل ذلك ( أَنَّ لَهُمُ الْحُسْنَى ) , اي يزعمون ان لهم المقام الحسن عند الله تعالى , وهذا ما اشارت اليه الاية الكريمة { وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ رَحْمَةً مِّنَّا مِن بَعْدِ ضَرَّاء مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ هَذَا لِي وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِن رُّجِعْتُ إِلَى رَبِّي إِنَّ لِي عِندَهُ لَلْحُسْنَى فَلَنُنَبِّئَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِمَا عَمِلُوا وَلَنُذِيقَنَّهُم مِّنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ }فصلت50 , فيأت الرد الالهي على دعواهم تلك في محورين : 
1- ( لاَ جَرَمَ أَنَّ لَهُمُ الْنَّارَ ) : حقا ان النار موردهم , وليس كما يطمحون ويأملون . 
2- ( وَأَنَّهُم مُّفْرَطُونَ ) : فيها عدة معاني منها : 
أ‌) ( مُّفْرَطُونَ ) : مقدمون الى النار . "تفسير الجلالين للسيوطي , تفسير الصافي ج3 للفيض الكاشاني " .
ب‌) ( مُّفْرَطُونَ ) : معجلون في دخولها . " تفسير الصافي ج3 للفيض الكاشاني , مصحف الخيرة / علي عاشور العاملي" . 
ت‌) ( مُّفْرَطُونَ ) : بكسر الراء مفرطون في ركوب المعاصي والاثام . "تفسير الجلالين للسيوطي , تفسير الصافي ج3 للفيض الكاشاني " .
ث‌) ( مُّفْرَطُونَ ) : معذبون . "تفسير القمي". 
ج‌) ( مُّفْرَطُونَ ) : متروكون فيها . "تفسير الجلالين للسيوطي" . 

قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat


حيدر الحد راوي
 (للدخول لصفحة الكاتب إضغط هنا)

    طباعة   ||   أخبر صديقك عن الموضوع   ||   إضافة تعليق   ||   التاريخ : 2014/01/21



كتابة تعليق لموضوع : تاملات في القران الكريم ح181 سورة النحل الشريفة
الإسم * :
بريدك الالكتروني :
نص التعليق * :
 



حمل تطبيق (كتابات في الميزان) من Google Play



اعلان هام من قبل موقع كتابات في الميزان

البحث :





الكتّاب :

الملفات :

مقالات مهمة :



 إنسانية الإمام السيستاني

 بعد إحراجهم بكشف عصيانها وخيانتهم للشعب: المرجعية الدينية العليا تـُحرج الحكومة بمخالفة كلام المعصومين.. والعاصفة تقترب!!!

 كلام موجه الى العقلاء من ابناء شعبي ( 1 )

 حقيقة الادعياء .. متمرجعون وسفراء

 قراءة في خطبة المرجعية : هل اقترب أَجلُ الحكومةِ الحالية؟!

 خطر البترية على بعض اتباع المرجعية قراءة في تاثيرات الادعياء على اتباع العلماء

 إلى دعاة المرجعية العربية العراقية ..مع كل الاحترام

 مهزلة بيان الصرخي حول سوريا

 قراءة في خطبة الجمعة ( 4 / رمضان/ 1437هـ الموافق 10/6/2016 )

 المؤسسة الدينية بين الواقع والافتراء : سلسلة مقالات للشيخ محمد مهدي الاصفي ردا على حسن الكشميري وكتابيه (جولة في دهاليز مظلمة) و(محنة الهروب من الواقع)

 الى الحميداوي ( لانتوقع منكم غير الفتنة )

 السيستاني .. رسالة مهدوية عاجلة

 من عطاء المرجعية العليا

 قراءة في فتوى الدفاع المقدس وتحصين فكر الأمة

 فتوى السيد السيستاني بالجهاد الكفائي وصداها في الصحافة العالمية

 ما هو رأي أستاذ فقهاء النجف وقم المشرّفتَين السيد الخوئي بمن غصب الخلافة ؟

 مواقف شديدة الحساسية/٢ "بانوراما" الحشد..

أحدث مقالات الكتّاب :


مقالات متنوعة :





 لنشر مقالاتكم يمكنكم مراسلتنا على info@kitabat.info

تم تأسيس الموقع بتاريخ 1/4/2010 © محمد البغدادي 

 لا تتحمل الإدارة مسؤولية ما ينشر في الموقع من الناحيتين القانونية والأخلاقية.

  Designed , Hosted & Programmed By : King 4 Host . Net