صفحة الكاتب : فادي الحسيني

الربيع العربي: أفول أباطرة البلاد وصعود دكتاتوريات الحارات
فادي الحسيني

المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الموقع، وإنما تعبر عن رأي الكاتب.

 ما زالت أحداث الربيع العربي تشق صحيفة الزمان، بتبعات وآثار لم تؤخذ يوماً في الخاطر أو في الحسبان، فبعد أن تسللت الثورات من رحم البطش والقهر والأحزان، دكت حصوناً، وزلزلت قصوراً، لأباطرة طالما انتهكوا كرامة الإنسان. وإن توقفت عجلة الأحداث عند هذه النهايات، لكان هذا الربيع قد نسج أجمل ثوب في تاريخ البلاد، ولكان قد عزف أعذب سيمفونية إرادة لأمة استفاقت بعد سنين من الوهن والسبات. غير أن هذا الربيع أثبت أنه ما زال يحمل في جعبته الكثير من الخبايا والأسرار، وألغاز عجزت سواعد من أشعلوا نار الثورات عن فك رموز منطقة نأت بنفسها عن أي سبيل من سبل الاستقرار.

خط ربيع ثورات العرب فصلا جديدا من فصول كتاب تاريخ هذه الأمة، قد تصح تسميته باسم ‘أحوال العرب بين مضاجع الديمقراطية واستقرار الديكتاتورية’. لقد استطاعت الثورات أن تطيح بعدد من الأباطرة والديكتاتوريات، التي مكثت لعقود في قصورها، بعيدة عن أوجاع من كانوا في الشوارع والأزقة والحارات، إلا أن هذه الثورات أفرزت نوعاً جديداً من الديكتاتوريات هي، ديكتاتوريات الشوارع والحارات. هم أولئك الثوار، الذين رأوا أن الشارع قد غيرّ ما بدا سابقاً أنه ضرب من ضروب المستحيل، فاقتلاع رئيس مكث في قصره المنيف، وبحماية مرتزقته، وبدعم الغرب المستفيد من وجود أمثالهم في سدة الحكم، كان أمراً أشبه بالخيال.

نجحت الثورات، وبعد أن مكث أباطرة القصور في حصونهم لسنوات، بدا وكأن الثوار يستبدلون الأدوار، فتحصن ديكتاتوريو الشوارع في أزقتهم، بعد أن خال لهم أن القوة التي أخرجها الشارع لا تضاهيها قوة، وكأنها السبيل الأمثل لتحقيق الغايات. فعجت شوارع ليبيا بالميليشات المسلحة، ولم يفارق الكثير من الشباب الثائر أماكنهم في مصر واليمن، وفي تونس أصبحت التظاهرات أمراً مألوفاً، أما في سوريا، فما زال الجرح الغائر ينزف، بلا مؤشر عن موعدٍ لقرب اندماله.

وما كانت هذه الممارسات إلا للجهل بالمعنى الحقيقي لممارسة الديمقراطية، ولحرية الرأي، وللشراكة وقبول الطرف الآخر، وهي نتيجة حتمية من الجثوم لعقود طويلة تحت براثن نظم ديكتاتورية، خلفت تشوهات حقيقية في هذه المفاهيم، خاصة في فهم المعنى الحقيقي لسيادة القانون، وانعكست بشكل واضح في ممارسة الفرقاء السياسيين في مختلف هذه البلاد بعد الثورات، فاستبدلت ثقافة الاستقرار والتسامح والشراكة بالفوضى والتعصب والإقصاء.

أثّرت هذه التطورات، خاصة ما يحدث في سوريا، في فكر المواطن العربي، فانتقل مستوى التفكير لمنحى آخر، يختلف جذرياً عما بدا عليه مع بداية الثورات العربية. وتجسدت هذه النقلة في تشكك الكثير بدوافع الثورات وأسبابها، ومدى جدواها، وبدأت تظهر تساؤلات عما إذا كانت الديمقراطية سبيلاً فاعلاً، وطريقاً لجلب الاستقرار والحكم الصالح، خاصة إذا ما تمت مقارنتها بأوضاع البلاد إبان حكم الديكتاتوريات، التي وفرت شكلاً من أشكال الأمن والأمان، ونوعاً من أنواع الهدوء والاستقرار.

فنبض الشارع بحديث يغاير ما في مكنون النفوس، وبدأ الفؤاد يتحدث بأقوال تخالف ما في خلجات القلوب، تتمنى عودة من خلعهم الناس لبطشهم وقهرهم وممارساتهم واستغلالهم لمقدرات الأمة، سأماً من أحوال الضياع والفوضى الجديدة، وتذرعا بأوضاع تبعد عنهم حالة الكرب المريرة.

إلا أن هذه القراءة لمجريات الأمور يجانبها الصواب، خاصة أن ما وفرته تلك النظم السابقة ما هو إلا استقرار وأمن سطحي، يحفظ حكمهم ويبقيهم في سدة الحكم لأطول أمد ممكن. فالقبول مجدداً بنظم على شاكلة التي بادت، أمر لا يستوعبه عقل، فمن ذا الذي يقبل بدولة بوليسية، تسمح بكل شيء إلا كرامة الإنسان، تزرع الجهل، تستغل الثروات، وتغرس ثقافة مشوهة عمادها المحسوبية والوساطة والفساد، تمارس سياستها وتحظر على الآخر أي ممارسة، تقول ما تريد وتمنع الآخر أن يقول.

إذا، فالمقاربة بين مخاض الديمقـــــراطية مع استقرار الديكتاتورية هو أمر مغلوط، لا يفيد إلا في زيادة حالة التخبط، ووأد أي إرادة حقيقية لبناء لبنات الأمة من جديد، كرسته ممارسات ديكتاتوريات الشوارع، التي جاءت بدورها نتيجة منطقية لما خلفته النظم الزائلة من أوضاع الجهل والكبت والإحباط وإقصاء الطرف الآخر.

صحيح أن حالة الفوضى والتخبط هي أعراض طبيعية في رحلة الانتقال من حقبة لأخرى، ومعالم متوقعة في درب بناء التجربة الديمقراطية الخاصة بأي شعب، وهي أحداث شهدتها أعظم النظم الديمقراطية في العالم، إلا أن إطالة عمر هذه المرحلة الانتقالية لا يساهم سوى في تعميق حالة الاستقطاب والتجذر والفتور حيال أي تقدم نحو بناء المجتمعات الجديدة.

إن ما تقوم به ديكتاتوريات الشوارع من أطالة عمر الفوضى والاضطرابات لا يصــــب إلاّ فــــي مصلحة النظم الزائلة، فمع كل ضحية تسقط، ترتفع أسهم النظـــــم الزائــــلة، فتُظـــهر ‘بقايا تلك النظم’ أن البديل عن حكمهم هو الخراب والدمار والقتل والتشرد. وأشارت بالفعل بعض الدلائل إلى أن بعض النظم القمعية القائمة في المنطقة تقوم بتغذية مثل هذا الحراك، كي تظهر لمواطنيها أن البديل عن حكمهم ‘إن فكروا يوماً أن يثوروا’ هو الفوضى والفلتان.

في الختام، يمكن القول ان عقودا من الأحكام الديكتاتورية تركت المجتمعات العربية بعيدة عن النشأة والثقافة والتعليم السليم، فحمل جيل الربيع العربي ثقافة جديدة هي ثقافة التظاهر واللجوء للشارع عوضاً عن صندوق الاقتراع، وممارسات مغلوطة ترسخ مفهـــــوم الإقصاء وعدم قبول الطرف الآخر. وعليه، فإن أرادت النخب العربية الــجــديدة الارتقاء بهذه الأمة، وانتشالها من أوضاع مرشحة بقوة لأن تزداد سوءاً، وجب أن يكون تحسين ظروف التعليم والتربية وتطوير الأوضاع الاجتماعية أولى أولياتهم، بعد أن يضعوا حب الوطن والانتماء اليه نصب أعينهم وقبل اي انتماء


قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat

  

فادي الحسيني
 (للدخول لصفحة الكاتب إضغط هنا)

    طباعة   ||   أخبر صديقك عن الموضوع   ||   إضافة تعليق   ||   التاريخ : 2013/12/25



كتابة تعليق لموضوع : الربيع العربي: أفول أباطرة البلاد وصعود دكتاتوريات الحارات
الإسم * :
بريدك الالكتروني :
نص التعليق * :
 



حمل تطبيق (كتابات في الميزان) من Google Play



اعلان هام من قبل موقع كتابات في الميزان

البحث :



أحدث التعليقات كتابة :



  علّق شیخ الحق ، على دور ساطع الحصري في ترسيخ الطائفية (الفصل السادس) - للكاتب د . عبد الخالق حسين : فعلا عربان العراق ليسوا عربا هم بقايا الكورد الساسانين و العيلامين. فيجب ان يرجعوا إلى أصولهم و ينسلخوا من الهوية المزورة العروبية.

 
علّق الحسن لشهاب.المغرب.بني ملال. ، على ضعف المظلومين... يصنع الطغاة - للكاتب فلاح السعدي : جاء في عنوان المقال: ضعف المظلومين... يصنع الطغاة، بينما الحقيقة الشبه المطلقة، هو ان حب و تشبث النخب العربية بأموال الصناديق السوداء و بالمنافع الريعية و بخلود الزعامة السياسية و النقابية ،و حبهم لاستدامة المناصب الادارية العليا و حبهم في الولوح الى عالم النخبة ,,هو من يصنع الطغاة بامتياز؟؟؟ بالاضافة بالطبع الى رغبة الغرب المنافق في صناعة الطغاة من اجل ردع و قمع الشعوب المسلمة ،المتهمة بالارهاب و العنف الديني,, و حتى و ان قرر الغرب بعد فضيحة فساد البرلمان الاوروبي ،التخلي عن الطغاة و التمسك بالقانون ، فانه و للاسف الشديد ،،النخب لم تتخلى عن هذه الطغاة,

 
علّق بهاء حسن ، على هل هذا جزاء الحسين عليه السلام ؟ - للكاتب سامي جواد كاظم : ماهو مصدر القصة نحن نعلم ان بجدل هو قطع الخنصر المقدس، لكن القصة وضيافة الامام له ماهو مصدرها

 
علّق محمد ، على هل يوجد قائم في المسيحية؟ - للكاتب إيزابيل بنيامين ماما اشوري : ما عید التقدمه؟ فحصت الانترنت و لم اظفر بشیء فیه

 
علّق ا. د. صالح كاظم عجيل علي ، على أساتذة النحوية في مدرسة النجف الاشرف* - للكاتب واثق زبيبة : السلام عليكم ورحمة الله وبركاته الأخ الكريم استاذ واثق زبيبة المحترم هذا المقال هو جزء من أطروحة دكتوراه الموسومة بالدرس النحوي في الحوزة العلميّة في النجف الأشرف عام ٢٠٠٧ وكل الترجمات الموجود في المقال مأخوذة نصا بل حرفيا من صاحب الأطروحة فلا اعرف لماذا لم تذكر ذلك وتحيل الى كتب تراجم عامة مع ان البحث خاص باطروحة جامعية ارجو مراجعة الأطروحة مرة أخرى الباب الأول الفصل الأول من ص ١٥ الي ص ٢٥ فضلا عن المغالطات العلمية الواردة في المقال على سبيل المثال (مدرسة النجف النحوية!!!) تحياتي

 
علّق محمد ، على هل يوجد قائم في المسيحية؟ - للكاتب إيزابيل بنيامين ماما اشوري : ما عید التقدمه؟ فحصت الانترنت و لم اظفر بشیء فیه

 
علّق سليمان علي صميدة ، على هل يوجد قائم في المسيحية؟ - للكاتب إيزابيل بنيامين ماما اشوري : بارش بن حاسم احد صلحاء بني اسرائيل عاصر النبي موسى عليه السلام و حفظ تنبؤاته و منها : ( كل الدنيا سلام من جديد, وكل الدنيا دار الكخباد والمسـيح اراد ربه ان يعود) و الكاخباد كلمة عبرية المقصود بها القائم المهدي . الكثير من هذه التنبؤات مخبأة في دهاليز الفاتيكان .

 
علّق سليمان علي صميدة ، على الكخباد قادم يا أبناء الأفاعي - للكاتب سليمان علي صميدة : بارش بن حاسم احد صلحاء بني اسرائيل عاصر النبي موسى عليه السلام و حفظ تنبؤاته و منها : ( كل الدنيا سلام من جديد, وكل الدنيا دار الكخباد والمسـيح اراد ربه ان يعود) و الكاخباد كلمة عبرية المقصود بها القائم المهدي . الكثير من هذه التنبؤات مخبأة في دهاليز الفاتيكان .

 
علّق حسين ، على (غير المغضوب عليهم ولا الضالين)، هل صدق القرآن في ذلك؟ (1) مع الأب الأقدس القس مار يعقوب منسي. - للكاتب إيزابيل بنيامين ماما اشوري : السلام عليكم  حسب ما ورد من كلام الأخت إيزابيل بخصوص ( غير المغضوب عليهم ولا الضالين)كلامها صحيح وسائرة على نهج الصراط المستقيم . اريد ان اجعل مدلولها على الاية الكريمةالمذكورة أعلاه بأسلوب القواعد وحسب قاعدتي ؛ [ ان الناس الذين مارسوا أفعال وأقوال شريرة ضد دين زمانهم واشركوا بالله الواحد الاحد فهم في خانة المغضوب عليهم ان ماتوا ، وان كانوا بعدهم أحياء ولم تأتي قيامتهم أثناء الموت فهم في خانة الضالين عسى ان يهتدوا إلى ربهم الرحمن قبل موتهم فإن ماتوا ولم يهتدوا فتنطبق عليهم صفة المغضوب عليهم وهذه القاعدة تنطبق على كل البشر والجن ( والملائكة أيضا اذا انحرفوا كما أنحرف أبليس فصار شيطانا . ) اقول ان سورة الحمد وهي ام الكتاب حقا قد لخصت للجميع مايريده الله العلي العظيم .

 
علّق س علي ، على انتخابات الرجال زمن الرعب في النجف الاشرف - للكاتب الشيخ عبد الحافظ البغدادي : سلام عليكم شيخنا الجليل ممكن ان احصل على طريقة للتواصل مع الشيخ المطور جزاكم الله الف خير كوني احد بناء الذين ذكرتهم جزاكم الله الف خير

 
علّق مروان السعداوي ، على العشائر الشيعية في ناحية "السعدية" بمحافظة ديالى العراقية تتصدى لهجوم تنظيم "داعش" الإرهابي : عشيره السعداوي الاسديه متواجدة في ديالى وكركوك وكربلاء وبعض من اولاد عملنا في بغداد والموصل لاكن لايوجد اي تواصل واغلبنا مع عشائر ثانيه

 
علّق د. سندس اسماعيل محسن الخالصي ، على نطاق أرضية الحماية الاجتماعية في الإسلام - للكاتب مركز آدم للدفاع عن الحقوق والحريات : مقالة مهمة ومفيدة بوركت اناملكم وشكراً لمدونة كتابات في الميزان

 
علّق حعفر البصري ، على كذبة علم الاجتماع العراقي ومؤسسه علي الوردي بحث مناقش / القسم الثالث - للكاتب حميد الشاكر : سلام عليكم لفض هذا الاشتباك بين كاتب المقال والمعلقين أنصح بمراجعة أحد البحوث العلمية في نقد منهج الدكتور على الوردي والباحث أحد المنتمين إلى عائلة الورد الكاظمية، اسم الكتاب علم الاجتماع بين الموضوعية والوضعية للدكتور سليم علي الوردي. وشكرا.

 
علّق محمد زنكي الاسدي الهويدر ، على العشائر الشيعية في ناحية "السعدية" بمحافظة ديالى العراقية تتصدى لهجوم تنظيم "داعش" الإرهابي : عشيره السعداوي الأسديه أبطال

 
علّق سنان السعداوي الاسدي ، على العشائر الشيعية في ناحية "السعدية" بمحافظة ديالى العراقية تتصدى لهجوم تنظيم "داعش" الإرهابي : الله حيوا رجال بني أسد في السعديه.

الكتّاب :

صفحة الكاتب : رضي فاهم الكندي
صفحة الكاتب :
  رضي فاهم الكندي


للإطلاع على كافة الكتّاب إضغط هنا

الملفات :

مقالات مهمة :



 إنسانية الإمام السيستاني

 بعد إحراجهم بكشف عصيانها وخيانتهم للشعب: المرجعية الدينية العليا تـُحرج الحكومة بمخالفة كلام المعصومين.. والعاصفة تقترب!!!

 كلام موجه الى العقلاء من ابناء شعبي ( 1 )

 حقيقة الادعياء .. متمرجعون وسفراء

 قراءة في خطبة المرجعية : هل اقترب أَجلُ الحكومةِ الحالية؟!

 خطر البترية على بعض اتباع المرجعية قراءة في تاثيرات الادعياء على اتباع العلماء

 إلى دعاة المرجعية العربية العراقية ..مع كل الاحترام

 مهزلة بيان الصرخي حول سوريا

 قراءة في خطبة الجمعة ( 4 / رمضان/ 1437هـ الموافق 10/6/2016 )

 المؤسسة الدينية بين الواقع والافتراء : سلسلة مقالات للشيخ محمد مهدي الاصفي ردا على حسن الكشميري وكتابيه (جولة في دهاليز مظلمة) و(محنة الهروب من الواقع)

 الى الحميداوي ( لانتوقع منكم غير الفتنة )

 السيستاني .. رسالة مهدوية عاجلة

 من عطاء المرجعية العليا

 قراءة في فتوى الدفاع المقدس وتحصين فكر الأمة

 فتوى السيد السيستاني بالجهاد الكفائي وصداها في الصحافة العالمية

 ما هو رأي أستاذ فقهاء النجف وقم المشرّفتَين السيد الخوئي بمن غصب الخلافة ؟

 مواقف شديدة الحساسية/٢ "بانوراما" الحشد..

أحدث مقالات الكتّاب :





 لنشر مقالاتكم يمكنكم مراسلتنا على info@kitabat.info

تم تأسيس الموقع بتاريخ 1/4/2010 © محمد البغدادي 

 لا تتحمل الإدارة مسؤولية ما ينشر في الموقع من الناحيتين القانونية والأخلاقية.

  Designed , Hosted & Programmed By : King 4 Host . Net