صفحة الكاتب : احمد العبيدي

رسالة من الموصل الى بابل
احمد العبيدي


بعد ان نشرت مقالي (أنت المعزى بالساعدي يا يونس) في تأبين د. حميد الساعدي الذي قتله التكفيريون في ليبيا ، بعث إليّ أخي وصديقي يونس الموصلي الذي اقصده بخطابي في ذاك المقال رسالة يجدر بكل عراقي قراءتها ، انشرها بعد ما استأذته معتذرا مقدما عما تضمنته من اطراء لي، اذ اردت نشرها كما هي دون حذف او اختصار:
(العراقيون معدنٌ أصيل لا يصدأ)
 يونس الموصلي
 رسالة للعزيز- احمد العبيدي
 اخي العزيز ، ايها الصديق الوفي ابا مجتبى، لي شوق كبير للقائك والاستمتاع بحواراتك الشيقة. واسال الله ان تكون بخير دائما . فمذ عرفتك قبل اكثر من ربع قرن من الزمان الذي مر سريعا وكانه يوم او بعض يوم، وانت دائما احمد ، ذلك العراقي المحب لارضه ووطنه، وادرك تماما ان العراق واهله لم يفارقانك لحظة واحدة ، وان اجبرت على الرحيل عنه كما انا والملايين من ابناء هذه الارض العزيزة، ولربما كنت انت اول طائر عاد لارضه بعدما تيسرت الاسباب، ولقد اصبنا انا وانت والملايين من عذابات الغربة ومتاعبها الكثير، وبرغم كل ما يمر به عراقنا الحبيب ، فمن يبتعد عنه يعرف ما هو العراق وما قيمة الوطن الذي نحيا على ترابه.
كلماتك وانت توجه الخطاب لي ، بمناسبة خطف زميلنا د. حميد خلف في ليبيا من قبل الظلاميين التكفيريين، خوارج العصر ، فمالهم كيف يحكمون ، فيا ايها المجرمون ، اتقتلون رجلا يقول ربي الله ومحمداً نبيي وال بيته الطاهرين ائمتي وسادتي؟ وقد عاش بينكم عمرا يعلمكم ما لم تكونوا تعلمون. فأي قوم انتم. فلك الرحمة يا شهيد العلم، ان كان قد اصابك قدر الله، ونسال الله ان يفرج عنك ان كنت لم تزل حيا في أسرك.
اقول يا صديقى احمد ، كلماتك مصدر فخر لي ولك ، ان كنا انا وانت مثلا، وردا واقعيا لمن يدعي ان العراق فيه ( طائفية ) والتى ما عرفناها أبدا ولا خطرت على بالنا يوما، ولم نسمع بها من قبل ويقينا انها لم تكن صنعا عراقيا قط.
ولولا نبل مقصدك فيما ذكرت من صنيع كان بيننا سابقا، لما وافقتك ، فليس بين الاحبة والاخوان جميل يذكر، ولكنه وفاؤك ومعدنك الاصيل اخي الحبيب ابا مجتبى.
ولنفس مقصدك هذا، دعنى اقص عليك واحدة من هذه الصور الجميلة التي عشناها هناك على ارض ليبيا كعائلة عراقية تضم كل أطيافه، والله لم أزد على ما حدث فيها حرفا لاجل الحبكة القصصية او غيرها مطلقا. فكما حدثتك سابقا كنا مجموعة من العراقيين، اغلبنا اساتذة جامعيين تغربنا هناك جميعا، فينا السني والشيعي والكردي والعربي وغيره، وكلنا وصل هنا لنفس السبب تقريبا، وهذا يدلل ان الظلم في العراق كان عادلا، حيث اصاب الجميع بلا استثناء وان اختلفت درجته. ومن بين الموجودين هناك مهندس ميكانيكي كنيته ابو فخري (سني – سامرائي)، وله صديق مهندس كهربائي كنيته ابو فاطمة (شيعي – نجفي )، يعملان معا، وهما صديقان قبل ان يكونا شريكين في العمل، وفي يوم ما حدثت بينهما جفوة ، حيث جاءني ابو فاطمة وحدثني انهما اختلفا في امر مادي، وشكا لي ، ان ابا فخري لم يدفع له بقية اتعابه لعمل نفذاه سوية ، فعملنا جلسة لحل المسألة كما هي العادة في عرفنا وبحضور أفراد آخرين، وتبين ان صاحب العمل لم يدفع ما تبقى من أتعاب لابي فخري كونه المقاول الرئيس بالعمل، ووعد بالدفع عند استلام المبلغ من صاحب العمل، وأكل حقوقنا واحدة من اهم معاناتنا في الغربة، ولي في هذا حديث يطول فانا من أشدهم ضرراً بذلك.
انتهى الامر عند هذا الحد الا ان الجفوة بقيت بين الطرفين على ما كنا نرى ظاهرا، اما القلوب فالله اعلم بمكنوناتها. وفي احد الايام اتصل بي احد الاصدقاء: ابو اوس انت وين هسة؟ أجبت انا في المكتب وعلى وشك المغادرة لتناول الغداء مع عائلتي الصغيرة ومن ثم العودة بعد الظهر كعادتي ، كان المتصل هو ابو كرار ( شيعي من بغداد). قاطعني ابو كرار بصوت مرتبك : انا في مستشفى الحوادث تعال بسرعة ولا تخبر زوجتك ام اوس. احسست ان الحادث يمسنى مباشرة والا لماذا لا يريد ابو كرار ان اخبر زوجتي، ان اكثر ما يخوفنا هناك هو حوادث السيارات، وخاصة اطفالنا عند عودتهم من المدارس، فلم اتمالك نفسي وصرخت، ارجوك ابو كرار قل لي ماذا حدث بالضبط ، اجاب : ابو فخري عمل حادثا وهو في الانعاش الآن . تركت كل شيء بيدي واغلقت الباب وانطلق بسيارتي نحو مستشفى الحوادث بشارع الزاوية والذي لا يبعد كثيراً عن مكتبي الهندسي، ووصلت بعد 15 دقيقة، وكانت الساعة تقريبا الثانية بعد الظهر، كانت المستشفى مليئة بالمراجعين لكثرة حوادث السيارات عند الليبيين، لمحت ابا كرار من بعيد واسرعت اليه ، كان معه ابو سجاد (شيعي يمثل الجالية العراقية)، وآخرون على عدد الاصابع، قلت: ابو كرار ، كيف صار الحادث؟ قال لي: كان ابو فخري يصلح احد المصاعد في الطابق الخامس كعادته في عمله فسقط المصعد وابو فخري فوق الكابينة وهو بين الحياة والموت، ولهذا قلت لك لا تخبر زوجتك لكي لا يصل الخبر لام فخري زوجته، كون الاخيرة صديقة زوجتي كثيرا. كان الكل يتضرع الى الله ان ينقذ هذا الرجل لاجل عائلته واطفاله الصغار في هذه الغربة. ما هي دقائق واذا بهو الانتظار قد مليء بالعراقيين، ابي زهراء ( شيعي ) ، ابي افراح ( سني )، ابي جان (مسيحي) وآخرين، وأنا على يقين ان أبا فخري لا يعرف نصفهم ولكنهم ما ان سمعوا الخبر حتى جاءوا، كعادتنا نحن العراقيين في مثل هذه المواقف، المصاب رجل سني ومن يؤازره ويدعو له بالنجاة الشيعة قبل السنة، وأكاد اسمع ابو كرار يتمتم : إلهي بجاه إبي عبد الله نجِّه لاجل أطفاله. كان منظراً يبعث على الفخر والاعتزاز رغم ما نحن به من مصاب بهذا الرجل الطيب.
تمكنت وابو كرار ان ندخل غرفة الانعاش لنطمئن على حالة المصاب، ولنتأكد من انه يسعف كما هو مطلوب او ننقله الى مستشفى خاص، كانوا يصعقون قلبه بالكهرباء كلما توقف ليعاود النبض من جديد، قال لنا الطبيب لا يمكن نقله من هنا نحن نقوم بما هو ممكن، وما لكم إلا الدعاء، ووقفنا ندعو له وننتظر الفرج . بعد نصف ساعة تقريباً لمحت الفريق الطبي توقف عن العمل، فأسرعت للطبيب ، قلت له: ما الامر لم توقفتم ؟ قال لي: من تكون انت؟ اجبت : نحن اصدقاؤه. قال : البقية بحياتكم ، هذا أمر الله. اذن توفي ابو فخري ، رأيت دموع ابو كرار وهو يضم ابن المرحوم الى صدره ويقول له: انت رجل. وهو يحاول ان يشد من عزمه ويصبّره ، خرجنا والجميع سنة وشيعة يبكي، اقولها بكل صدق هذا ما حدث بالضبط، وقف ابو سجاد قائلا: لنجمع التبرعات حالا ولنقم لصديقنا الفقيد العزاء اللائق. وكان كذلك ، فأقمنا سرادقا كبيرا للعزاء وهو اكبر عزاء للعراقيين اقيم هناك، حضره العراقيون من كل المدن من يعرف الفقيد ومن لا يعرفه، ولو حدثتكم عن التكاتف والتعاون والتبرعات بالاموال لاقامة العزاء ولعائلة الفقيد حينها لطال الكلام، وكان هذا مثاراً لاعجاب الليبيين لموقف العراقيين هذا، وكم شعرنا بالفخر رغم اننا في عزاء. حتى جثمان الفقيد، أصر الجميع ان لا يدفن إلا بالعراق، وكل مصاريف ذلك كان من العراقيين المتواجدين هناك بكل اطيافهم.
في اليوم الثالث للعزاء انتحيت جانبا ومعي ابو فاطمة ، ذلك المهندس المهذب، إبن النجف الاشرف صاحب الاخلاق الفاضلة، وخاطبته: ابو فاطمة، هل لك ان تسامح المرحوم فيما لك عليه من دين، وذكرته بالذي كان بينهما، إذ لا يخفى عليك وانت الرجل المتدين ان الدين يبقى في ذمة المتوفى حتى يتم سداده، فما تقول؟ كم كان هذا الرجل رائعا بموقفه، اراد ان يجيبني فكانت دموعه تسبقه، قال: ابو اوس ، نعم انا كنت زعلانا عليه، لكنه صديقي واحبه كثيرا، حتى انني لم اعد ارى طفله الصغير احمد ابن التسع سنوات الذي تعلقت به كثيرا ، فهل لك ان تتخيل اني كنت اذهب لمدرسة احمد في فترة زعلنا وانتظر هناك لاراه، لانني لم اعد ازورهم بالبيت، وعندما يخرج من مدرسته أضمه الى صدري وأقبله واعطيه مصروفاً، وأقول له سلم لي على بابا، فكيف يمكن لمثلي ان لا يسامح المرحوم في دنانير تافهة كانت سببا في زعلنا. عندها قبّلت جبين هذا الرجل الذي اعرف تماما ان حالته المادية ليست ميسورة تماماً، وانتهى الكلام، فهمست لنفسي: هكذا نحن العراقيون معدن اصيل لا يصدأ. فلا مكان للطائفية في عراقنا طالما فيه مثلك يا أبا فاطمة.
يونس الموصلي
 

 


قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat


احمد العبيدي
 (للدخول لصفحة الكاتب إضغط هنا)

    طباعة   ||   أخبر صديقك عن الموضوع   ||   إضافة تعليق   ||   التاريخ : 2013/12/21



كتابة تعليق لموضوع : رسالة من الموصل الى بابل
الإسم * :
بريدك الالكتروني :
نص التعليق * :
 



حمل تطبيق (كتابات في الميزان) من Google Play



اعلان هام من قبل موقع كتابات في الميزان

البحث :





الكتّاب :

الملفات :

مقالات مهمة :



 إنسانية الإمام السيستاني

 بعد إحراجهم بكشف عصيانها وخيانتهم للشعب: المرجعية الدينية العليا تـُحرج الحكومة بمخالفة كلام المعصومين.. والعاصفة تقترب!!!

 كلام موجه الى العقلاء من ابناء شعبي ( 1 )

 حقيقة الادعياء .. متمرجعون وسفراء

 قراءة في خطبة المرجعية : هل اقترب أَجلُ الحكومةِ الحالية؟!

 خطر البترية على بعض اتباع المرجعية قراءة في تاثيرات الادعياء على اتباع العلماء

 إلى دعاة المرجعية العربية العراقية ..مع كل الاحترام

 مهزلة بيان الصرخي حول سوريا

 قراءة في خطبة الجمعة ( 4 / رمضان/ 1437هـ الموافق 10/6/2016 )

 المؤسسة الدينية بين الواقع والافتراء : سلسلة مقالات للشيخ محمد مهدي الاصفي ردا على حسن الكشميري وكتابيه (جولة في دهاليز مظلمة) و(محنة الهروب من الواقع)

 الى الحميداوي ( لانتوقع منكم غير الفتنة )

 السيستاني .. رسالة مهدوية عاجلة

 من عطاء المرجعية العليا

 قراءة في فتوى الدفاع المقدس وتحصين فكر الأمة

 فتوى السيد السيستاني بالجهاد الكفائي وصداها في الصحافة العالمية

 ما هو رأي أستاذ فقهاء النجف وقم المشرّفتَين السيد الخوئي بمن غصب الخلافة ؟

 مواقف شديدة الحساسية/٢ "بانوراما" الحشد..

أحدث مقالات الكتّاب :


مقالات متنوعة :





 لنشر مقالاتكم يمكنكم مراسلتنا على info@kitabat.info

تم تأسيس الموقع بتاريخ 1/4/2010 © محمد البغدادي 

 لا تتحمل الإدارة مسؤولية ما ينشر في الموقع من الناحيتين القانونية والأخلاقية.

  Designed , Hosted & Programmed By : King 4 Host . Net