صفحة الكاتب : نبيل عوده

قضايا ثقافية: القصة بين الوعي الفني والمواعظ
نبيل عوده

  اعتمدت في قصصي الجديدة،بعضها ضمن سلسلة "يوميات نصراوي"،  عدا الأسلوب السردي السهل لغوياً وفنياً في الصياغة، مفاهيم فلسفية متعددة، كانت بالنسبة لي سابقاً نبراساً سياسياً بالأساس، ربما أثرت فكرياً على كتاباتي الثقافية والسياسية العامة، ولكني رأيت فجأة أنني قادر على تحويل أصعب المقولات الفلسفية إلى موضوع قصصي شيق وسهل الفهم، وان القيمة الثقافية الروحية في الفكر الفلسفي الذي أسرني منذ بداية وعيي، لا يقل أهمية عن الفهم السياسي أو الاجتماعي أو الأخلاقي، هكذا وجدت نفسي غارقاً في سلسلة كتابات قصصية أمسكتني عن أية كتابة أخرى لفترة أشهر امتدت منذ أواسط العام 2010 وحتى شهرين قبل أن نطوي آخر أيامه وتوقفت بسبب استلامي رئاسة تحرير صحيفة "المساء"  اليوميةٍ السياسية .

ما ساءني أن نخبة قليلة من مثقفين، تسبق أسماءهم صفات طويلة وثقيلة القيمة، سماعياً على الأقل،التبس عليهم المفهوم القصصي، لم يفهموا المقروء الفلسفي أو حتى الأدبي البسيط... وراحوا نحو تفسيرات هرطقية ومواعظ دينية لا علاقة لها بالفن القصصي، أو الوعي الإبداعي بصفته نشاط يؤدي إلى اكتشاف جديد، يعتمد على استيعاب أوسع ما يمكن من الثقافة الإنسانية، كشكل من أشكال الوعي الثقافي والاجتماعي، مما يعني أن بينهم وبين الثقافة (والفن بمجمله) والرؤية القصصية ومفهوم الإبداع الفلسفي، المحيط الأطلسي بكل اتساعه.
لو جاءت الهرطقة التنظيرية من قراء عاديين، لتفهّمت الموضوع ونسبته لمسألة تطور الوعي والتأثيرات الشعبية للفكر الماضوي السائد في المجتمعات العربية.

لا بد من توضيح أن الإبداع هو حالة من حالات الوعي وليس مسألة انفعالية  كما يتوهم البعض. الإبداع يقود المبدع إلى إعادة صياغة ذاته من جديد، أشبه بولادة جديدة، هنا القيمة الإنسانية السامية للمحرك الإبداعي في المجتمع، ليس في الثقافة الروحية (الكتابة الأدبية) فقط، إنما في الإبداع الشامل للمجتمع بجانبيه الروحي والمادي، عبر تطوير الثقافة، تطوير وسائل الإنتاج ، الرقي الاقتصادي وما يتطلبه المجتمع من ضروريات الحياة العصرية المتطورة.

حتى في القصص البسيطة والساخرة، مثلا قصة: "حتى يهديهما الله" .. هناك فكرة فلسفية بسيطة عن "فشل التفكير المنطقي" لدى بعض الناس (استمرار بطل القصة  في شرب الخمر بحجة انه يشرب عن صديقيه)... وليس مجرد لسعة فكاهية. أو غمز ضد الدين، كما تفلسف بعض الجهلة وراحوا يحفرون أنفاقاً فكرية توصلهم إلى زمن لم يعد يربطنا به إلا حكايات تاريخية هناك شك بصحتها أيضا..!!
المضحك أن ناقد حصيف "أوضح" لي أن الخمر محرمة، ليس لشاربها فقط، بل كل التعامل "الثقافي" حولها ولا يجوز الكتابة عنها إلا بالذمّ وتصوير مفاسدها.

مثلا في قصة أخرى تحمل اسم "أرملة على الشاطئ" انتقدتني إحدى "المثقفات" الكبيرات، لأن الأرملة، بطلة القصة، تخرج للبحث عن علاقة جديدة قبل مضي أربعين على وفاة زوجها وان الدين يقول "كيت وكيت". رغم أن القصة تعالج ما يسمى "المنفعية"، أي فيها نقد للفكرة القائلة إن "الهدف يعطي للوسائل المتبعة مصداقيتها"   وان "المصداقية الأخلاقية لتصرُّفٍ ما تتقرر بناء على النتائج". بالطبع أنا لا اطرح رأيي إنما أقدم حالة قصصية – اجتماعية ساخرة، لو كانت "المثقفة"، أمدها الله ببعض العقل، تفهم المقروء لما التجأت إلى نصوص دينية لتصويبي، حتى "أُصوّب" الأرملة في تصرفاتها. أي أن القصة حسب هذا الفهم الضيق، هي دين وعبادة وشريعة ومواعظ وقيود متزمّتة وانغلاق فكري وإنساني.. والكاتب يجب أن يستأجر مفتياً (وما أكثرهم) ليظل على صواب في كتاباته..

اعتمدت في الكثير من القصص الجديدة، على طرف سمعتها وشكلتها كما يلائم جو القصة، لكشف مضمون فلسفي عميق في معناها!!

ليس من المتبع أن يفسر الكاتب أفكاره.. أي أن يقدم اللقمة كاملة الهضم للقارئ، أو لنقاد لا يفهمون فلسفة المقروء.. أنا لا أكتب للتسلية كما اتهمني ناقد حصيف. يبدو أن الكثيرين من حملة ألقاب كبار المفكرين، كبار النقاد وكبار الكتاب، لا يختلفون في "فشل تفكيرهم المنطقي" عن القارئ البسيط. على الأقل القارئ العادي يجد ما يلفت يمتعه (وهذا بحد ذاته ضمن شروط اللعبة القصصية وفن القص).. أما بعض "الكبار" فيدعون أن قلمهم "شرفني" حين كتبوا عن قصة لي وإنهم عادة لا يكتبون إلا عن "كبار الأعمال" والبعض لم أقرأ ما كتبه لأنه حولها إلى خطبة دينية مكرّرة مملّة مستعرضاً عضلاته في حفظ النصوص الدينية وسرد الممنوعات حسب تفكيره القروسطي.. وجميعهم بالتلخيص الأخير يثبتون جهلهم الثقافي واللوجي (العقلي المنطقي) والتباس مرضي لمفهوم القصة تحديدا  والأدب عامة وفلسفة الثقافة والقدرة على التفكير بمنطق ثقافي، وليس بآلية مبرمجة بعقلية قتل "الميكي ماوس"، كما أفتي أحدهم بحماس وعصبية!!

عندما لا أعرف شيئا عن الكاتب وآفاقه المترامية الأطراف، وتجربته الحياتية والثقافية، لا أستطيع أن أضعه في خانة وأبدأ بإطلاق الأحكام (الرصاص) عليه!!

فقط في ثقافتنا العربية هذا الأمر جائز لأننا بصراحة نعاني من أمية مثقفين وانتشار طبقة متثاقفين "يعرضون محاسنهم" مثل بعض نجمات الفضائيات  ويا ليت محاسنهم بنفس المستوى  لكُنَّا عذرناهم!!

إن مفهوم البعض للقصة يعاني من قصور فكري. القصة قادرة أن تحل مكان مقال سياسي أو فكري، مكان تحليل اجتماعي أو أخلاقي، مكان رؤية مستقبلية، مكان كتابة نقدية في مجالات متعددة  وليس في مجال الإبداع الروحي فقط.

المشكلة تتعلق كما أراها بتطوير قدراتنا القرائية، تطوير وعينا ومعارفنا حول عالمنا وحضاراته وخروجنا من حالة الشلل الحضاري والإبداعي بمفهومه الإنتاجي – إنتاج الخيرات المادية لسعادة المجتمع  وليس الإبداع الروحي فقط.

القصة كما أرى، تجاوزت مرحلة التسلية إلى مرحلة الوعي والفكر، وهذا لا ينفي متعة القراءة، بل يضاعفها بمفهوم أن مخاطبة القصة للوعي الانساني، تضاعف متعة القراءة بسبب الإضافة الكبيرة لمضامين النص إلى جانب الحس الإنساني للقارئ.

الرسائل التي تصلني تحمل الكثير من الملاحظات الممتعة والجادة وبعضها أفادني إلى أبعد الحدود، بالطبع هناك كبار المفكرين (الذين شرفوني بالكتابة عني) أثبتوا أن فكرهم وفهمهم يعاني من التباس وعُقَد تحتاج إلى عيادة طبيب نفسي وليس إلى عيادة كاتب مثلي لا يملك إلا تعميق ضياعهم الفكري وشططهم العقلي.

 


قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat


نبيل عوده
 (للدخول لصفحة الكاتب إضغط هنا)

    طباعة   ||   أخبر صديقك عن الموضوع   ||   إضافة تعليق   ||   التاريخ : 2013/12/17



كتابة تعليق لموضوع : قضايا ثقافية: القصة بين الوعي الفني والمواعظ
الإسم * :
بريدك الالكتروني :
نص التعليق * :
 



حمل تطبيق (كتابات في الميزان) من Google Play



اعلان هام من قبل موقع كتابات في الميزان

البحث :





الكتّاب :

الملفات :

مقالات مهمة :



 إنسانية الإمام السيستاني

 بعد إحراجهم بكشف عصيانها وخيانتهم للشعب: المرجعية الدينية العليا تـُحرج الحكومة بمخالفة كلام المعصومين.. والعاصفة تقترب!!!

 كلام موجه الى العقلاء من ابناء شعبي ( 1 )

 حقيقة الادعياء .. متمرجعون وسفراء

 قراءة في خطبة المرجعية : هل اقترب أَجلُ الحكومةِ الحالية؟!

 خطر البترية على بعض اتباع المرجعية قراءة في تاثيرات الادعياء على اتباع العلماء

 إلى دعاة المرجعية العربية العراقية ..مع كل الاحترام

 مهزلة بيان الصرخي حول سوريا

 قراءة في خطبة الجمعة ( 4 / رمضان/ 1437هـ الموافق 10/6/2016 )

 المؤسسة الدينية بين الواقع والافتراء : سلسلة مقالات للشيخ محمد مهدي الاصفي ردا على حسن الكشميري وكتابيه (جولة في دهاليز مظلمة) و(محنة الهروب من الواقع)

 الى الحميداوي ( لانتوقع منكم غير الفتنة )

 السيستاني .. رسالة مهدوية عاجلة

 من عطاء المرجعية العليا

 قراءة في فتوى الدفاع المقدس وتحصين فكر الأمة

 فتوى السيد السيستاني بالجهاد الكفائي وصداها في الصحافة العالمية

 ما هو رأي أستاذ فقهاء النجف وقم المشرّفتَين السيد الخوئي بمن غصب الخلافة ؟

 مواقف شديدة الحساسية/٢ "بانوراما" الحشد..

أحدث مقالات الكتّاب :


مقالات متنوعة :





 لنشر مقالاتكم يمكنكم مراسلتنا على info@kitabat.info

تم تأسيس الموقع بتاريخ 1/4/2010 © محمد البغدادي 

 لا تتحمل الإدارة مسؤولية ما ينشر في الموقع من الناحيتين القانونية والأخلاقية.

  Designed , Hosted & Programmed By : King 4 Host . Net