صفحة الكاتب : محمد الحمّار

تونس: الجري مثل الوحوش وحكومة "الريتوش"
محمد الحمّار

المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الموقع، وإنما تعبر عن رأي الكاتب.
"هناك إيديولوجيا تأخذ الكثير من الجهد لزرعها : إنها لا إنسانية حتى أنه من الصعب إدخالها في رؤوس الناس، وهي أن تعتني فقط بنفسك وتنسَى أي شخص آخر. ونسختها المتطرفة هي نسخة آين راند (فيلسوفة وراوئية أمريكية من أصل يهودي روسي: 1905- 1982). في الواقع، هناك محاولة عمرها 150 سنة، تحديدا، لمحاولة فرض هذه الطريقة في التفكير على الناس".
إنّ هذه الإيديولوجيا، كما يميط عنها اللثام نعوم تشومسكي في المقتطفات أعلاه، مطبقة اليوم في تونس وفي المجتمع العربي كافة إن لم نقل في العالم بأسره. و قد يكون سَريان مفعولها في بلدنا قد بلغ الذروة بعد"الثورة". وهو أمر مضحك حقا. فهو مما يدلّ إما على أنّ 'الثائرين' أردوها ثورة بعنوان "الرأسمالية الفردية"(وهو المصطلح الذي تعرف به الإيديولوجيا)، وإما على أنها ثورة ضد كل أشكال العنف، بما فيه العنف الرأسمالي الذي تستبطنه هذه الإيديولوجيا. 
في الواقع لا يمكن بأي وجه من الوجوه أن ندعم الاحتمال الأول. فهو غير وجيه بالمرة بل ويتناقض مع الشعارات التي رفعها الشعب في ما بين 17 ديسمبر و14 جانفي من سنة 2011 لعزل الرئيس السابق ومنه للتعبير عن الرغبة في حياة كريمة تتلخص في عبارات "خبز" و"حرية" و"كرامة وطنية". اللهم إلا إذا كان المقصود بأن بالمنتفعين بالخبز سوف لن يكونوا كل الناس وبأنّ الحرية المطلوبة سوف تكون بناءً عليه فقط تلك التي تُرسخ مبدأ الداروينية الاجتماعية والقائل بـ"البقاء للأفضل" أي للأقوى وللأكثر ثراءً (و هو ما يعبر عنه التونسيون في المثل الشعبي بـ "حوت يأكل حوت وقليل الجهد يموت") وبأنّ الكرامة تتمثل في تجويع الأغلبية على حساب أقلية مستنزِفة لخيرات البلاد وذات عقلية كمبرادورية.
يبقى الاحتمال الثاني هو الأقرب إلى طموحات شعب ذي 15 قرنا من الاعتدال والوسطية في كل شيء. لكن يبدو أنّ إرادة هذا الشعب تمّ تزويرها حتى أنها لم تعد قادرة على التعبير سوى عمّا تكنزه النسخة المزوّرة حيث إنّ مجتمعنا يعاني من ظواهر اقتصادية فجة وخارجة عن سيطرة السلطة. وإلا فكيف يُسمح للعديد من ذوي الشغل القار أن يتعاطوا تجارة أو صناعة أو مهنة إضافية تدرّ عليهم بمداخيل مالية تفوق الخيال أحيانا بينما يبقى أكثر من نصف مليون نسمة معطلين عن العمل. وإلا فكيف لا تراقب السلطة من يمتهنون التجارة والصناعة ممن لا يدفعون الضرائب المتخلدة بذمتهم والحال أنّ أسلاكا مثل الموظفين والمدرسين والعملة مضطرون لدفع الضريبة مباشرة من رواتبهم وأجورهم.
إنّ العدالة الاجتماعية، والعدل حسب الفقهاء في الدين أعلى المقاصد شأنا، لا تتطلب فقط الاتفاق حول شخصية مستقلة لتشكل حكومة تسيّر شؤون البلاد في المرحلة الحالية لتوصلها إلى مرحلة الانتخابات المقبلة وإنما تتطلب أيضا وبالخصوص أن تكون الشخصية المفتش عنها والحكومة التي ستنكب على شؤون العباد والبلاد من ذوي التصوّر الثوري العالمي، أي أن تكون دارية ومُلمّة بمضمون وأهداف الحركات الثورية المعاصرة والمناهضة للرأسمالية المتوحشة على غرار "احتلوا وُول ستريت". حينئذ يكون الردّ على قوى الهيمنة الاقتصادية العالمية بمَثلٍ عربي متداول في أكثر من بلد (وفي أغنية جميلة للبحريني أحمد الجميري) "لو جريت جري الوحوش غير رزقك ما تحوش".
في كل الأحوال لا نريد بتنويهنا بمثل هذه التحديات أن نسيء الظن بالفاعلين السياسيين ولكننا نتحسر كثيرا لمّا نشاهد هؤلاء يخوضون في الشؤون الآنية للبلاد بطريقة عادة ما تكون خالية من البُعد الثوري أي أنها تتخذ الديمقراطية فقط بصفتها شعارا لا بصفتها وسيلة للبحث عن سبل النجاة الاقتصادية والاجتماعية المتناسبة مع ظرف عالمي دقيق ومتحوّل. فهل بعد جري الفاعلين جري الوحوش سيَقبل التونسيون بحكومة "ريتوش" أم أنّ تعثر الحوار الوطني يستوجب تعمقا أقصى لكي تتمّ إزالة العراقيل الخفية؟

قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat


محمد الحمّار
 (للدخول لصفحة الكاتب إضغط هنا)

    طباعة   ||   أخبر صديقك عن الموضوع   ||   إضافة تعليق   ||   التاريخ : 2013/11/05



كتابة تعليق لموضوع : تونس: الجري مثل الوحوش وحكومة "الريتوش"
الإسم * :
بريدك الالكتروني :
نص التعليق * :
 



حمل تطبيق (كتابات في الميزان) من Google Play



اعلان هام من قبل موقع كتابات في الميزان

البحث :





الكتّاب :

الملفات :

مقالات مهمة :



 إنسانية الإمام السيستاني

 بعد إحراجهم بكشف عصيانها وخيانتهم للشعب: المرجعية الدينية العليا تـُحرج الحكومة بمخالفة كلام المعصومين.. والعاصفة تقترب!!!

 كلام موجه الى العقلاء من ابناء شعبي ( 1 )

 حقيقة الادعياء .. متمرجعون وسفراء

 قراءة في خطبة المرجعية : هل اقترب أَجلُ الحكومةِ الحالية؟!

 خطر البترية على بعض اتباع المرجعية قراءة في تاثيرات الادعياء على اتباع العلماء

 إلى دعاة المرجعية العربية العراقية ..مع كل الاحترام

 مهزلة بيان الصرخي حول سوريا

 قراءة في خطبة الجمعة ( 4 / رمضان/ 1437هـ الموافق 10/6/2016 )

 المؤسسة الدينية بين الواقع والافتراء : سلسلة مقالات للشيخ محمد مهدي الاصفي ردا على حسن الكشميري وكتابيه (جولة في دهاليز مظلمة) و(محنة الهروب من الواقع)

 الى الحميداوي ( لانتوقع منكم غير الفتنة )

 السيستاني .. رسالة مهدوية عاجلة

 من عطاء المرجعية العليا

 قراءة في فتوى الدفاع المقدس وتحصين فكر الأمة

 فتوى السيد السيستاني بالجهاد الكفائي وصداها في الصحافة العالمية

 ما هو رأي أستاذ فقهاء النجف وقم المشرّفتَين السيد الخوئي بمن غصب الخلافة ؟

 مواقف شديدة الحساسية/٢ "بانوراما" الحشد..

أحدث مقالات الكتّاب :


مقالات متنوعة :





 لنشر مقالاتكم يمكنكم مراسلتنا على info@kitabat.info

تم تأسيس الموقع بتاريخ 1/4/2010 © محمد البغدادي 

 لا تتحمل الإدارة مسؤولية ما ينشر في الموقع من الناحيتين القانونية والأخلاقية.

  Designed , Hosted & Programmed By : King 4 Host . Net