صفحة الكاتب : سيد صباح بهباني

بغداد مركز المعرفة والأدب ...!
سيد صباح بهباني

المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الموقع، وإنما تعبر عن رأي الكاتب.

نسيم صبا بغداد بعد خرابها *** تمنيت لو كانت تمر على قبري.

الشاعر والفيلسوف سعدي الشيرازي درس في المدرسة النظامية في بغداد التي كانت مركز المعرفة والعلم في ذلك الوقت.
وحضي الشاعر سعدي الشيرازي تكريماً عالمياً من قبل منظمة الأمم المتحدة وأقرت أن يوم الحادي والعشرين من أبريل يوماً عالمياً لتكريمه..
واختارت مدينته شيراز الإيرانية مدينة ثانية للأدب العالمي، ولد هذا الرجل حوالي 1219م في أسرة إيرانية علمية، انتقل إلى بغداد حيث المدرسة النظامية مركز المعرفة في ذلك الوقت، وبعد أن أكمل تعليمه قضى حوالي ثلاثين عاماً في الأسفار شرقا وغربا، ومثل الكثير من رجال عصره نهل من مدرسة الإمام عبد القادر الجيلاني، الأمر الذي أسبغ على أعماله روحا إنسانية متسامحة في عصر طبعه انكسار المسلمين أمام المغول وسقوط بغداد عاصمة الخلافة وتراجع دور المجتمع والعلماء، وكانت في النهاية الخانقاه (الزاوية الصوفية) بمثابة تلك المشكاة التي حاولت أن تحضن كيان رجل . سطع في سماء الوئام الإنساني إلى أن دعاه الباري عز وجل حوالي1294 م يعد سعدي إلى جانب مولانا والفردوسي وحافظ، أحد أعمدة الثقافة الإيرانية المتميزين، إذ يعتبر أب النثر الفارسي ومن أرباب الحكمة و شعر الغزل العذري.
وحين اكتشفه المستشرقون اعتبروه معلما إنسانيا في الحكمة والعرفان، فنقل أدريه دوريه بعضا من نتاجه إلى الفرنسية. وكذلك فعل فريديش اكسن باخ وآدم أولثاريوس إلى الألمانية، وكتب عنه الفيلسوف الفرنسي ديدرو واقتبس منه هوغو ولافونتين، وأشاد به الشاعر الأمريكي أمرسن بينما وضع الفيلسوف الأمريكي الكت آثاره إلى جانب أعمال سقراط وأفلاطون ودانتي وشكسبير وملتون. وشبهه الشاعر بايرون بالشاعر الغنائي الروماني كاتولوس وتأثر به غوته، في المقابل ظل سعدي الشيرازي إلى اليوم غريبا بين المثقفين العرب .
ويمكن النظر إلى حياة سعدي الشيرازي من ثلاث زويا :
- زاوية الرحلة: فهو رحالة بامتياز استغرقت رحلاته ثلاثة عقود من عمره، فمكنه سيره في الآفاق من الاطلاع على خفايا وأسرار النفس البشرية، وأهلته تلك الرحلات من النظر في خصائص المجتمع الإنساني وتجارب الدول والحكومات، لقد شارك في الجهاد ضد الروم ثم زار آسيا الصغرى و ورد ذكر عدة مناطق في كتبه منها الشام وفلسطين والجزيرة العربية ومصر والمغرب والحبشة وآسيا الوسطى والهند، مما دفع الباحثين إلى تقصي رحلاته ومناقشتها وأبرزهم في ذلك المستشرق هنري ماسيه في رسالته المعروفة عن سعدي بينما يقرنه الكثيرون بابن بطوطة و ناصرخسرو .
- زاوية الجمال: يعرف سعدي الشيرازي بشاعر الجمال والرقة، فقد نجح بتفوق عجيب في تقريب قارئه من الأشياء الجميلة دون عناء وتكلف، لذلك عرف تراثه بالسهل الممتنع، سهل عندما تباشره وتتأثر به لكنك تجده صعبا عندما تحاول تقييمه أو سبر أغوره. شعره وقصصه وأمثاله تفرض عليك دائما التوقف معها من أجل برهة للتأمل، فالرجل مزج في مكتوباته بين الحكمة و الفضيلة والمتعة. مزج يجعلك تعيش المعرفة في أجواء ممتعة.

- زاوية التربية والإصلاح: تغلب على أعمال سعدي مسحة إصلاحية حكيمة تريد أن تأخذ بيد المخاطب في رفق، ترشده إلى مكامن الشر في نفسه، تجلي له سبل الترقي المعنوي و تحفزه من اجل اكتساب العدل و الفضيلة. لذلك تلقف الغرب خاصة أبان نهضته الكثير من آراءه ونظراته التربوية واشتغل عليها. وقد واجه بصلابة انحرافات المجتمع خاصة الأمراء و الفقهاء الذين فضح نفاقهم قائلا :

إن التدروشَ لا يهدي إلى التقوى
إن المرائين في أثوابهم نفرٌ
بكلّ آنٍ لهم في ما اشتهوا فتوى
فافتحْ لنا سُبلَ التوحيد وامضِ بها
عسى نُحطم أصناماً هي البلوى

أما الملوك فقد خصص لهم سعدي الشيرازي جانبا مهما من جهده الإصلاحي يدلهم على وسائل متعددة لتدبير ملك حكيم ورحيم، ويحذرهم باستمرار من الوقوع في فخ الظلم وهاوية الغفلة وبطانة السوء. فوضع مجموعة من القواعد والحكم في هذا الباب، نختار منها مايلي:

ابدأ أولا بنصح القريب بعد ذلك انصح البعيد، وليس هناك اقرب من نفسك إليك، فإن لم تعمل بما تقوله فلا تنتظر أن يتأثر غيرك بكلامك .
الرعية كالشجرة، إذا رعيتها جنيت ثمارها فلا تقتلع جذورها وثمارها بغير رحمة فان الجاهل يوقع الأذى بنفسه، والرعية كالجذر والسلطان كالشجر والشجرة يا بني!
تأخذ قوتها من الجذر فلا تجرح ـ ما استطعت ـ قلوب رعيتك .
على الحاكم ألا يظلم علماء مملكته، حتى لا يضطر عند هجوم أعداء الخارج إلى مواجهة أعداء الداخل .
لا يمكن حفظ الدين إلا بالعلم ولا يمكن حفظ الملك إلا بالحلم .
من خصائص المال أنه يبدل الأعداء إلى أصدقاء لكن حفظه يؤدي إلى تحويل الأصدقاء إلى أعداء .
الحاكم حين يظلم تجار مملكته يغلق أبواب الخير عن بلاده وحكمه.
في حياتك اجتهد في العمل الصالح، فعند الموت يستوي الملك و المسكين، ألا ترى أنك إذا فتحت قبري الملك و الحارس لن تجد هناك فرقا يذكر.
لا تنتظر معرفة عيوبك من أصدقائك، بل أنصت إلى ما يقوله عنك أعداؤك . لا يمكن أن تفرق الأعداء المتفرقين إلا إذا صادقت بعضهم .
كما أن سعدي الحكيم بث الكثير من الحكم وعبارات التوجيه والإرشاد في الأفق الإنساني، يقول في إحداها: «شيئان يقودان الحكيم إلى الخطأ: البقاء صامتا حينما يكون الكلام واجبا، والتكلم حينما يلزمه الصمت»، أما الأبيات الشعرية التي ترجمت إلى الكثير من لغات العالم وقدمت الرجل إلى أهل الدنيا باعتباره مبشرا بأرقي معاني التآلف الإنساني، فهي تلك التي فيها يرى الناس رغم كل اختلافاتهم جسدا واحدا يعودون في أصلهم إلى شئ واحد، إنها الأبيات التي اختارتها الإنسانية المعاصرة شاهدا على جدران مقر الأمم المتحدة هناك في نيويورك، حيث يصدح الصوت الشيرازي الرفيق :
أبناء آدم بعضهم من بعض............. في أصل خلقهم من جوهر واحد فإن أصاب الدهر أحد الأعضاء بألم .... استجابت له باقي الأعضاء بالاضطراب فإذا كنت لا تبالي بمحن الآخرين......... فأنت لا تستحق أن تسمى آدميا.

واضح أننا لن نستطيع نقل جمالية هذه المضامين مهما حاولنا لأن طبيعة اللغة الشاعرة تأبى ذلك، كما أن سعدي في هذه الأبيات كان تلميذا للبيان النبوي الكريم حين اقتبس من كلام المصطفى عليه وآله السلام الذي يقول فيه: (مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى).

تفاعل سعدي مع حوادث زمانه بتلقائية وصدق، من إحدى قصائده العربية التي رثا فيها الخليفة العباسي المعتصم ومصاب بغداد ننقل هذين البيتين :
حبست بجفني المدامع لا تجري ... فلما طغى الماء استطال على السكر

نسيم صبا بغداد بعد خرابها ....... تمنيت لو كانت تمر على قبري.

تكلم المهتمون بسعدي كثيرا حول اتجاهه الغزلي، إذ زاوج بين الغزلي العذري وأحيانا الصوفي، من غزلياته ننقل هذه الأبيات :

يا ملوك الجمال رفقا بأسرى .... يا صحاة ارحموا تقلب سكري

قد غلبتم روائح المسك طيبا ..... وقهرتم محاسن الورد نشرا

كنسيم النعيم حيث حللتم ......حل بالواردين روح وبشرى.

سعدي رجل تائب لا يكاد في كل أشعاره يؤكد هذه الحقيقة، فتراه يعود إلى ربه منشدا تراتيل الإياب، فهو شاعر واعظ بامتياز، يقول :

رب اعف عني وهب لي ما بكيت أسى .. لأني على فرط أيام مضت آس

مر الصبا عبثا وابيضت ناصيتي ...شيبا، فحتى متى يسود كراسي

يا لهف عصر شباب مر لاهية ...لا لهو بعد اشتعال الشيب في رأسي.

استطاع سعدي الشيرازي أن يقدم للإنسانية الجمال مقرونا بالفضيلة والحكمة، في نفس إنساني جامع ورحيم يتسربل بالبساطة، أي المتعة العالمة الجذابة، إنه التعالي الذي أصاب الغرب بالحيرة والدهشة وجعله ينطلق من تلك المفردات البانية و الرصينة نحو مشروعه الذي نراه اليوم، والعجيب في الأمر أننا نعرف عن لمارتين وديدرو ولافونتين و عن باقي رموز الحضارة الغربية، لكن الكثير منا لا يعرف عن سعدي الشيرازي خريج نظامية بغداد، وهم يعرفونه لأنهم تتلمذوا على آرائه و نظراته وتأثروا بأعماله، إن هذه الحالة المعرفية المؤسفة التي نعيشها ليست إلا واحدة من نتائج ذلك الاعتقاد الخاطئ الذي يؤرخ للحضارة الإنسانية ابتداء من عصر النهضة ....!!!الأوربي ثم لا يلبث أن يضع لها نقطة نهاية يسميها الحداثة وما بعد الحداثة من المؤكد أن الموقف مع سعدي الشيرازي لا يعني استحضار سيرة شخص متفرد، بقدر ما هو فرصة لتأمل موقف صادق ورفيق جاءنا شاهدا من عمق حوالي ثمانية قرون، جاءنا داعيا إلى المحبة والحكمة والتآخي، فهل ستنصت الأمم اليوم لهذا الداعي الكريم، لاسيما أنها اختارت كلامه حجة، فجعلته ينشد لها كل صباح نشيد: "أبناء آدم بعضهم من بعض..."، أم أن هدير الحروب وغبار المعارك سيحجب ربيع الحب وضوء السلام . وما على الإرهابيين والتكفيريين والرموز الجديدة المسماة بالقاعدة وغيرها أن يتعلموا رسالة الحبيب محمد صلى الله عليه وآله وسلم كيف يصف المتحابين المؤمنين ويصفهم بالجسد الواحد لقوله : ((مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى)).
ونعوذ بالله من هؤلاء المكره المتلبسين برداء الإسلام ورسالة السلام ويفتون على أهوائهم والدولارات المدفوعة لهم...!.
ونعم ما قيل :
إن المرائين في أثوابهم نفرٌ ... بكلّ آنٍ لهم في ما اشتهوا فتوى.
والله خير حافظ وهو أرحم الراحمين.
المحب المربي
سيد صباح بهبهاني
 Ingolstadt   Germany Seyed Sabah Behbehani
behbahabi@t-online.de


قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat


سيد صباح بهباني
 (للدخول لصفحة الكاتب إضغط هنا)

    طباعة   ||   أخبر صديقك عن الموضوع   ||   إضافة تعليق   ||   التاريخ : 2011/03/04



كتابة تعليق لموضوع : بغداد مركز المعرفة والأدب ...!
الإسم * :
بريدك الالكتروني :
نص التعليق * :
 



حمل تطبيق (كتابات في الميزان) من Google Play



اعلان هام من قبل موقع كتابات في الميزان

البحث :





الكتّاب :

الملفات :

مقالات مهمة :



 إنسانية الإمام السيستاني

 بعد إحراجهم بكشف عصيانها وخيانتهم للشعب: المرجعية الدينية العليا تـُحرج الحكومة بمخالفة كلام المعصومين.. والعاصفة تقترب!!!

 كلام موجه الى العقلاء من ابناء شعبي ( 1 )

 حقيقة الادعياء .. متمرجعون وسفراء

 قراءة في خطبة المرجعية : هل اقترب أَجلُ الحكومةِ الحالية؟!

 خطر البترية على بعض اتباع المرجعية قراءة في تاثيرات الادعياء على اتباع العلماء

 إلى دعاة المرجعية العربية العراقية ..مع كل الاحترام

 مهزلة بيان الصرخي حول سوريا

 قراءة في خطبة الجمعة ( 4 / رمضان/ 1437هـ الموافق 10/6/2016 )

 المؤسسة الدينية بين الواقع والافتراء : سلسلة مقالات للشيخ محمد مهدي الاصفي ردا على حسن الكشميري وكتابيه (جولة في دهاليز مظلمة) و(محنة الهروب من الواقع)

 الى الحميداوي ( لانتوقع منكم غير الفتنة )

 السيستاني .. رسالة مهدوية عاجلة

 من عطاء المرجعية العليا

 قراءة في فتوى الدفاع المقدس وتحصين فكر الأمة

 فتوى السيد السيستاني بالجهاد الكفائي وصداها في الصحافة العالمية

 ما هو رأي أستاذ فقهاء النجف وقم المشرّفتَين السيد الخوئي بمن غصب الخلافة ؟

 مواقف شديدة الحساسية/٢ "بانوراما" الحشد..

أحدث مقالات الكتّاب :


مقالات متنوعة :





 لنشر مقالاتكم يمكنكم مراسلتنا على info@kitabat.info

تم تأسيس الموقع بتاريخ 1/4/2010 © محمد البغدادي 

 لا تتحمل الإدارة مسؤولية ما ينشر في الموقع من الناحيتين القانونية والأخلاقية.

  Designed , Hosted & Programmed By : King 4 Host . Net