صفحة الكاتب : حيدر الحد راوي

الذئب وعيون المدينة !
حيدر الحد راوي

الجفاف , القحط , اليباس ضرب تلك البراري الشاسعة , هجرتها حيواناتها , واخرى نفقت , فجاعت الذئاب وهزلت , لكنها استمرت بالبحث عن طرائد بلا ملل او كلل , لابد لها ان تسكت صوت المعدة , وتوقف الم الجوع .

غادر الرعاة مراعيهم وتوجهوا نحو المدينة , لترعى وترتع وتلعب قطعانهم في اماكن القمامة , بدلا من تلك المروج الخضراء .

انتشر قطيع الذئاب في البوادي المجاورة , بحثا عن طرائد , او مكان اخر , فيه كل ما يؤمل , انطلق كل ذئب في جهة , واختار الذئب جبر الاعور جهة خاصة , يسابق الرياح تارة , ويمشي تارة اخرى , يستنشق ذرات الهواء , يحللها , لعلها تحمل روائحا لمكان لا زال خصبا , او لعل فيها روائح لفرائس كثيرة , تقيه وتقي افراد القطيع من الموت المحتوم , امتعض واستاء كثيرا عندما لم يجد فيها بغيته , لكنها كانت محملة بروائح المدينة , وما يصدر منها من دخان وابخرة , فأشمئز من ذلك , وغيّر طريقه , لكنه توقف فجأة , واقترح على نفسه ان يقف على مشارفها , ليستطلع الامر , ويتأمل الحياة فيها ! .  

اقترب اكثر واكثر , بحذر تام , وانتباه عال , حتى تبادر الى اسماعه ثغاء اغنام , فملئ رئتيه بنسيم عطرها , شد العزم وهرول نحوها , حتى كمن في مكان قريب , يحدق فيها متأملا , يسيل اللعاب من جانبي فكيه , فقرر الهجوم , لكنه توقف , حين لاحظ عدم وجود كلابا تحرس القطيع كما ينبغي ويفترض , ولاحظ ايضا غياب الراعي : 

- لا يمكنني الهجوم حتى اعرف مكان الراعي ... وسبب اختفاء الكلاب ! . 

حام حول المكان بالحذر المعهود , حتى سمع قهقهات ضعيفة , مترددة , خافتة , تصدر من مكان قريب , استطلع الامر , فوجد ان الراعي يلهو مع عشيقته في مكان منخفض , أدرك عندها ان القطيع بلا حامي , ثم استدار نحو قطيع الاغنام , لينقض عليها انقضاض ذئب الصحراء , هجوما سريعا مباغتا , فغرس انيابه في عنق حمل صغير , ثم اطلق ساقيه للريح .  

ما ان وصل الى مكان امن , حتى شرع بالتهامه , ثم عاد الى جحر الذئاب شبعا مسرورا , واخفى الامر عن رفاقه , واخبرهم انه لم يجد شيئا , وكذلك كانت تقارير ذئاب الاستطلاع الاخرى .  

في الليلة الاخرى , وقف على مشارف المدينة , يستطلع ويفكر , فلاحظ حركة المارة , سيارات , راجلة , انتظر حتى انعدمت الحركة , فقرر الدخول , لكنه لاحظ انوار المدينة , التي يخشى ان تكشف وجوده , فولج من مكان مظلم , لا يراه فيه احد , واخذ يتنقل في الازقة المدلهمة , لم يعثر على شيء ذو بال , لكنه شمّ رائحة الدجاج , عدة دجاجات في قن داخل احد البيوت , قفز السياج , تابعا اريج عطرهن , لحسن حظه كان باب القن مفتوحا , القى التحية , وشرع بالتهامهن جميعا . 

استمر على هذا المنوال عدة ليال , وذات ليلة بينما كان مختبئا في زاوية مظلمة , سمع صوت رجال الشرطة : 

- يجب ان نفرض حضر التجوال لدواعي امنية ! . 

- حسنا ! .   

انبهر وسرّ لسماع الكلمة ( حضر التجوال ) , حيث سيبقى الجميع في بيوتهم , وسوف تخلو الشوارع من المارة , وعاد ليسترق المزيد : 

- كم الساعة يبدأ الحضر ومتى سينتهي ... سيدي ؟ . 

- من الحادية عشرة وحتى الشروق ! .

لم يتمالك نفسه فصدرت منه قهقهة كادت تكشف عن مكانه , كتم انفاسه وعقب عليهما مقترحا مستهزئا : 

- كلا ... كلا ... فليكن الحضر من الغروب حتى الشروق ... ليكون عندي متسع من الوقت ! .   

فجأة غيّر الضابط رأيه , فقال : 

- كلا ... فليكن من الغروب حتى الشروق ! . 

- حاضر سيدي ! . 

استغرب الذئب جبر الاعور واندهش من ذلك , ورحب كثيرا بقرار الضابط : 

- احسنت ايها الضابط ... عندها يمكنني التجول في المدينة كيفما اشاء ... لا اخشى ان يراني احد ! . 

استمر الحضر عدة ليالي , يسرح الذئب جبر الاعور ويمرح , يلهو ويلعب , يسرق ويأكل كل طال فكيه , حتى سمن وترهل , ومن جانب اخر , كثرت الشكاوى المقدمة من الاهالي لفقدان ماشيتهم وحيواناتهم الاليفة والداجنة , مطالبين الشرطة بوضع حدا لذلك والقاء القبض على الفاعل , فقرر قائد الشرطة ان ينشر رجاله في كل انحاء المدينة , شرطيا على الاقل في كل شارع , لكن ذلك لم يمنع الذئب جبر الاعور من سرقاته , فقد خبر المدينة ودهاليزها جيدا . 

ذات ليلة , لمحه احدهم , فصرخ ( ذئب ... ذئب ) , تجاهله في بادئ الامر , لكنه فكر مليّا وخشي ان يكشف امره للسكان , فعاد لينقض عليه , فقتله , في الصباح الباكر , تجمهر الناس حول جثة القتيل , وحضر محققي الشرطة , فقرروا ان الفاعل ( ذئبا ) , لكن هل يعقل ان ذئابا تدخل المدينة ليلا ؟ ! .

قدم كثير من الناس بلاغات بمشاهدة ذئابا في شوارع المدينة , اغلبها من اطفال , لذا لم يعبأ بها اباءهم , ففرضت الشرطة طوقا امنيا حول المدينة , وبمساهمة الجيش والاهالي .      

اجتمع قطيع الذئاب في وكرهم , ليتباحثوا في امر الجدب والقحط , فقال احدهم : 

- اننا نزداد وهنا وهزالا بينما يزداد جبر الاعور سمنة وقوة ! . 

- وايضا انه لا يحضر اجتماعاتنا الدورية والمغلقة ! .    

هزّ الزعيم رأسه وقال : 

- الامر كذلك ... هذا مما كنت اود ان اطرحه في هذا الاجتماع .

- لابد انه قد عثر على مكان فيه الكثير من الفرائس ... ولا ينوي اخبارنا عنه ! .

- لذا قررت ان نراقبه الليلة ... وان اكتشفنا انه يخفي شيئا عنا سنقضي عليه ! . 

حالما ارخى الليل سدوله , انطلق جبر الاعور نحو المدينة , فرحا , محبورا , طربا , ينشد اناشيد النصر , فيهون عليه بعد المسافة , حالما وصل مشارف المدينة , لاحظ عدة تغييرات قد اجريت , فأقترب بحذر تام , كان الهدوء مطبقا , اخذ شهيقا عميقا , ليحلل ذرات الهواء , فوجدها تزخر بروائح البارود وبني البشر , لا يقع عليهم نظره , لكن روائحهم ازكمت انفه , ادرك انهم قد اكتشفوا امره , واستعدوا لعودته , فقال نادما : 

- لقد كان خطئي ... ما كان يجب ان اقتل ذلك الشخص ! .    

لكنه لم ييأس , حام حول المدينة لعله يجد ثغرة يلج منها , لكن دون جدوى , اثناء ذلك , انتبه لوجود روائح اخرى تملئ الافاق , فأدرك ان افراد قطيع الذئاب كانوا خلفه , يلاحقونه , يتبعونه , يراقبونه , فشعر انه بين فكي كماشة , حراس المدينة من جهة , وافراد القطيع من جهة اخرى , ان لم يقض عليه اولئك سيقضي عليه هؤلاء . 

قرر اللجوء الى حيلة لتخلصه من هذا المأزق , فأقترب من مكان تجمع القمامة , وتوارى جيدا , واقترب قطيع الذئاب اكثر واكثر , بحثا عنه , فأطلق عواءا تردد صداه في الفضاء , وما هي الا لحظات , حتى فتح الشرطة والجيش والاهالي النيران نحو القمامة , فتحصن جبر الاعور جيدا , بينما ترك افراد قطيع الذئاب فريسة للرصاص ! .


قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat


حيدر الحد راوي
 (للدخول لصفحة الكاتب إضغط هنا)

    طباعة   ||   أخبر صديقك عن الموضوع   ||   إضافة تعليق   ||   التاريخ : 2013/09/27



كتابة تعليق لموضوع : الذئب وعيون المدينة !
الإسم * :
بريدك الالكتروني :
نص التعليق * :
 



حمل تطبيق (كتابات في الميزان) من Google Play



اعلان هام من قبل موقع كتابات في الميزان

البحث :





الكتّاب :

الملفات :

مقالات مهمة :



 إنسانية الإمام السيستاني

 بعد إحراجهم بكشف عصيانها وخيانتهم للشعب: المرجعية الدينية العليا تـُحرج الحكومة بمخالفة كلام المعصومين.. والعاصفة تقترب!!!

 كلام موجه الى العقلاء من ابناء شعبي ( 1 )

 حقيقة الادعياء .. متمرجعون وسفراء

 قراءة في خطبة المرجعية : هل اقترب أَجلُ الحكومةِ الحالية؟!

 خطر البترية على بعض اتباع المرجعية قراءة في تاثيرات الادعياء على اتباع العلماء

 إلى دعاة المرجعية العربية العراقية ..مع كل الاحترام

 مهزلة بيان الصرخي حول سوريا

 قراءة في خطبة الجمعة ( 4 / رمضان/ 1437هـ الموافق 10/6/2016 )

 المؤسسة الدينية بين الواقع والافتراء : سلسلة مقالات للشيخ محمد مهدي الاصفي ردا على حسن الكشميري وكتابيه (جولة في دهاليز مظلمة) و(محنة الهروب من الواقع)

 الى الحميداوي ( لانتوقع منكم غير الفتنة )

 السيستاني .. رسالة مهدوية عاجلة

 من عطاء المرجعية العليا

 قراءة في فتوى الدفاع المقدس وتحصين فكر الأمة

 فتوى السيد السيستاني بالجهاد الكفائي وصداها في الصحافة العالمية

 ما هو رأي أستاذ فقهاء النجف وقم المشرّفتَين السيد الخوئي بمن غصب الخلافة ؟

 مواقف شديدة الحساسية/٢ "بانوراما" الحشد..

أحدث مقالات الكتّاب :


مقالات متنوعة :





 لنشر مقالاتكم يمكنكم مراسلتنا على info@kitabat.info

تم تأسيس الموقع بتاريخ 1/4/2010 © محمد البغدادي 

 لا تتحمل الإدارة مسؤولية ما ينشر في الموقع من الناحيتين القانونية والأخلاقية.

  Designed , Hosted & Programmed By : King 4 Host . Net