صفحة الكاتب : الشيخ مازن المطوري

قيمة المعرفة الإنسانية بين الشهيدين مطهّري والصّدر (الحلقة الرابعة)
الشيخ مازن المطوري

المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الموقع، وإنما تعبر عن رأي الكاتب.

المرحلة الثانية:

بقي الشهيد مرتضى المطهّري وفيّاً لنظرية المعرفة على وفق الصياغة التي جاءت في المذهب العقلي, حتّى لحظة تخضّبه بدم الشهادة, فلم يطرأ على هذا الموقف منه أيُّ تبدّل أو تغيّر.

وقد اتضح لنا مما تقدم أن نظرية المعرفة في كتاب (فلسفتنا) كانت دراسة لصالح المذهب العقلي, فقد آمنت بالبديهيات وبامتناعها عن البرهان, وبالعلاقات الضرورية التي تحكم عالم الوجود. هذا ما كان قد قرّره الشهيد الصدر في (فلسفتنا).

ولكن الشهيد الصدر لم يقف عند الحدود التي وصلت إليها أبحاث نظرية المعرفة كما جاءت في (فلسفتنا), وإنما حصل له تحوّل كبير فيما يرتبط بموقفه من المعرفة البشرية, فضلاً عن تحول أكبر حصل له في الميدان المنطقي والفلسفي. هذا التحول في الموقف المعرفي كان حصيلة الدراسة في الأسس المنطقية لمعالجة مشكلة الاستقراء الناقص, التي وقف عندها الشهيد في كتابه النادر (الأسس المنطقية للاستقراء).

لقد اضطلع الشهيد الصدر في كتاب (الأسس المنطقية للاستقراء) بمحاولة جريئة في المعرفة الإنسانية, وهي أنه استهدف عبر طريق معالجة مشكلة الاستقراء الناقص, بناء نظرية شاملة في المعرفة تختلف عن المذهبين العقلي والتجريبي. لقد أراد السيد الصدر - وقد فعل- إثبات القضايا العقلية وتفسير قيمة المعرفة الإنسانية عبر الدليل الاستقرائي, وبالتالي لم يكن يهدف هذا الفيلسوف معالجة مشكلة الاستقراء الناقص معالجةً منطقيةً وحسب, وإنما كان يهدف إلى تشييد مذهب خاصٍ في المعرفة يتميّز بجملة من القضايا التي تختلف مع المذاهب الأخرى, وقد أطلق عليه اسم (المذهب الذاتي).

أما لماذا أقدم على هذا البناء المعرفي؟ فلأنه أراد من خلاله إكمال النقص الذي بُلي به المنطق الأرسطي, وكذا التأسيس العقلي والفلسفي للمنطق التجريبي(1).

كذلك ابتغى السيد الصدر هدفاً خاصاً من هذه الدراسة, وهو إثبات المسألة الإلهية وبعض العقائد الأخرى عبر الطريقة الاستقرائية. حيث يصار إلى إثبات وجود الصانع بنفس القدر الذي تثبت به القضايا العلمية الأخرى, بنحو يفضي البحث إلى تخيير الفرد المؤمن بالمنهج العلمي المنكر للمسألة الإلهية, إما الإيمان بالعلم والمسألة الإلهية معاً, أو الكفر بهما معاً, وأي سبيل آخر هو تناقض لأنه لا يمكن وفق هذا المنطق, التفكيك بين الأمرين لأنهما يولدان من رحم واحد, هو الطريقة الاستقرائية(2).

لا أريد هنا أن أتناول بالبحث والدرس هذا الصرح الذي شيّده الفيلسوف الصدر, بقدر ما أريد تلمّس المعطيات التي حفل بها هذا البناء فيما يرتبط ببحثنا (قيمة المعرفة). ولذا كان لابد لنا من عرض الهيكلية التي مارسها السيد الصدر في الأسس المنطقية, والتي صارت إلى مخاض ولادة «المذهب الذاتي».

على أن لا يفوتنا ذكر ملاحظة تتلخّص في أن الموقف المعرفي الجديد الذي اضطلع به الشهيد الصدر, ينصب أساساً على المعرفة في طورها التصديقي, وليس له علاقة بالمعرفة التصورية(3).

يمكننا تناول الهيكلية التي اتبعها الشهيد الصدر في كتاب الأسس المنطقية من خلال أربع نقاط:

النقطة الأولى: عرض وجهات النظر المختلفة إزاء الاستقراء

في البدء قام الشهيد الصدر بتقرير مشكلة الاستقراء الناقص, التي تتلخّص في: ذلك التعميم الذي نتج من قفزة من أفراد محدودة, فما مسوّغه المنطقي؟.

بعد ذلك طفق في عرض الاتجاهات المختلفة الموقف من هذا الاستقراء ومشكلته. أول ما ابتدأ به في الفصل الأول هو عرض الموقف الأرسطي, وبيان الحل الذي قدمه الأرسطيون القاضي بإرجاع الاستقراء الناقص إلى قياس مؤلف من صغرى الجزئيات المستقرئة, كبرى تقول: إن الاتفاق لا يكون أكثرياً ولا دائمياً. بعد ذلك انتقل إلى عرض الموقف الذي اتخذه المذهب التجريبي من الاستقراء بمختلف اتجاهاته.

عرض الشهيد في هذا الفصل ثلاثة اتجاهات, وقام بترتيبها على وفق درجة وثوقها بالدليل الاستقرائي. أول هذه الاتجاهات هو الاتجاه الذي تبنى إمكان الوصول إلى اليقين من خلال الدليل الاستقرائي, وقد مثل هذا الاتجاه الفيلسوف الانجليزي التجريبي ذو الاتجاه النفعي في الأخلاق جون ستيورات مِل (John Stuart mill) (1806- 1873 م).

بعد ذلك انتقل إلى عرض الاتجاه الثاني ذي النزعة الترجيحية, الذي يؤمن بأن الدليل الاستقرائي لا يفضي إلى اليقين وإنما يقتصر دوره على تنمية احتمال القضية المستقرئة. وفي هذه الفقرة عرض الدكتور زكي نجيب محمود (1905- 1993م) على انه من ممثلي هذا الاتجاه.

ثم انتقل إلى عرض الاتجاه الثالث الذي يعرف بالنزعة السيكولوجية, والذي ذهب إلى تجريد الدليل الاستقرائي من أي قيمة موضوعية, ويربط الاعتقاد الاستقرائي بالعادة. أما الرائد الأول لهذا الاتجاه فهو الفيلسوف الاسكتلندي ديفيد هيوم (David Hume) (1711- 1776م) الذي يعدّ من طليعة الفلاسفة الذين بشروا بالمذهب التجريبي.

وهكذا فقد توفر الكتاب على عرض وجهات النظر المختلفة. نعم, هناك اتجاه استقر في العقدين الأخيرين من القرن العشرين في الغرب, رفض الدليل الاستقرائي من أساس, واعتقد أن الاستقراء الناقص لا يمكن تسويغه ما لم نخرج عن قواعد وأسس المذهب التجريبي, وقد مثّل هذا الاتجاه فيلسوف العلم المعاصر كارل بوبر (Karl Popper) (1902- 1994م), ولكن هذا الاتجاه لم يعرض له كتاب الأسس المنطقية للاستقراء.

فضلاً عن عرض وجهات النظر المختلفة حول الاستقراء, توافر الكتاب على عرض مختلف التفسيرات التي تناولت نظرية الاحتمال.

أما أهم المصادر التي اعتمد عليها في عرض الاتجاهات المختلفة التي ورد ذكرها في الكتاب, فهي:

البرهان من منطق الشفاء لابن سينا, تحقيق الدكتور عبد الرحمن بدوي.

تاريخ الفلسفة الحديثة ليوسف كرم.

جون ستيورات مل للدكتور توفيق الطويل.

دافيد هيوم للدكتور زكي نجيب محمود.

روش رئاليسم (أصول الفلسفة) للعلامة الطباطبائي.

شرح المنظومة (قسم المنطق) للحكيم السبزواري.

فلسفة هيوم للدكتور محمد فتحي الشنيطي.

المعرفة الإنسانية لبرتراند رسل, في فصله الخامس الخاص بنظرية الاحتمال, الذي كلّف بترجمته الدكتور كريم متّي أحد أساتذة جامعة بغداد. 

معيار العلم للغزالي.

منطق أرسطو, التحليلات الأولى, تحقيق الدكتور عبد الرحمن بدوي.

المنطق الحديث ومناهج البحث للدكتور محمود قاسم.

المنطق الوضعي للدكتور زكي نجيب محمود.

النقطة الثانية: نقد وجهات النظر المختلفة

تمثلت النقطة الثانية من الهيكلية التي مارسها الشهيد الصدر في كتاب (الأسس المنطقية), بنقد جميع المذاهب ووجهات النظر التي قام بعرضها, ابتداءً من الموقف الأرسطي ثم انعطف على نقد الاتجاهات التي مثلت المذهب التجريبي, فضلاً عن التفسيرات التي حظيت بها نظرية الاحتمال كالتعريف الرياضي الكلاسيكي المنسوب إلى لابلاس (1749- 1827), والتعريف التكراري.

وقد نقد السيد الصدر هذه الحلول والاتجاهات المختلفة بما لا مزيد عليه, وخلص إلى تهافتها وعدم إمكان قبولها.

النقطة الثالثة: التأسيس المعرفـي الجديد

مثّلت النقطة الثالثة وهي القسم الثالث من كتاب الأسس المنطقية, التأسيس لمذهبه الخاص في المعرفة, وقد جعل الكلام في هذا النقطة في تمهيد وفصلين, تناول في التمهيد التعريف بالمذهب الذاتي, أما أول الفصلين فقد تناول فيه نظرية الاحتمال ببديهياتها السّت وقد عبر عن هذه المرحلة بـ(المرحلة الاستنباطية). أما ثاني الفصلين فقد تناول فيه (المرحلة الذاتية) من بناء الدليل الاستقرائي.

«وقد انتهى إلى أن الدليل الاستقرائي اعتماداً على أساسه الرياضي, يمكن أن يبلغ بالحكم العام إلى درجة تصديقية احتمالية عالية.. ودلل على أن الدليل الاستقرائي يعتمد بديهيات قبيلية هي: بديهيات حساب الاحتمال, والإيمان القبلي بمبدأ استحالة اجتماع النقيضين. مضافاً إلى ذلك احتمال صحة المبدأ العقلي في تفسير العليّة, وفقدان المسوّغ القبلي لرفض ذلك المبدأ»(4).

النقطة الرابعة: نظرية المعرفة على وفق التأسيس المعرفي الجديد

ألحقَ السيّد الصدر النقاط الثلاث المتقدمة بأخرى رابعة, تناول فيها المعرفة البشرية في ضوء المذهب الذاتي. فلقد تضمّن هذا الجهد الذي مارسه الفيلسوف الشهيد, فوارقَ عدّة تتمايز ممّا كان قد سطره في كتاب (فلسفتنا) حيث تماشى فيها مع المذهب العقلي. ونحن بدورنا هنا نريد الإشارة إلى بعض هذه الفوارق, ثم ننتقل إلى النتائج المرتبطة بموضوع بحثنا أي قيمة المعرفة وفقاً لما جاء في «الأسس المنطقية للاستقراء».

1) أوّل مسألة اختلف فيها «الأسس المنطقية للاستقراء» مع «فلسفتنا», هو ذهابه إلى أن مبدأ العقلية وسائر القضايا السببية التي تتضمن معنى الضرورة ولا تخضع لوسائل التجريب مهما كانت دقيقة, هذه القضايا يمكن إثباتها بالطريقة الاستقرائية في ضوء المذهب الذاتي. ولكن هذا لا يعني رفض كون هذه القضايا عقلية قبلية, وإنما معناه أنا لو تنزلنا ورفضنا كون هذه القضايا قبلية, فإنه يمكننا إثباتها في عالم الطبيعة عن طريق الاستقراء(5).

2) ومن جملة هذه المسائل, هو قيامه بتفسير موضوعية القضايا الحسية في ضوء الدليل الاستقرائي. وفي هذا الضوء اعتبر أن الاعتقاد بوجود الواقع الموضوعي للعالم معبراً عن معرفة استقرائية ناتجة من تجميع القيم الاحتمالية المتعددة بالواقع الموضوعي للقضايا المحسوسة, على ما سيأتي بيانه(6).

3) كذلك اختلف المذهب الذاتي مع العقلي في طريقة نمو المعرفة, فقد رأى المذهب العقلي أن هناك طريقة واحدة لنمو المعرفة البشرية هي طريقة التوالد الموضوعي, التي تنطوي على عنصر التلازم بين المقدمة والنتيجة المتولدة عنها. فقد رأى العقليون أن تولد معرفة من معرفة سابقة, هو تولد ناتج عن ارتباط بين متعلق الفكرة الأم وبين متعلق الفكرة البنت, أي بين متعلق الفكرة (السبب) وبين متعلق الفكرة (المسبّب). وهذا هو الحاصل فعلاً في القياس.

أما على وفق المذهب الذاتي, فقد رأى السيد الصدر أن من جملة ما أخطأ فيه المذهب العقلي هو حصره نمو المعرفة في طريقة واحدة هي التوالد الموضوعي, وإنما هناك طريقة أخرى يتولد منها الجزء الأكبر من المعرفة البشرية, هي طريقة التوالد الذاتي والتي يكون اللزوم فيها ذاتياً بين نفس المعارف والعلوم, ومثاله ما يحصل في التعميمات الاستقرائية والوصول إلى اليقين من هذا النوع. إذ التحوّل ممّا هو خاص ومحتمل إلى ما هو عام ويقيني ليس فيه أي لزوم منطقي, وإنما يتضمن لزوماً ناتجاً من نفس المعرفة, بمعنى أن نفس المعرفة الاحتمالية ذات الدرجة الكبيرة هي التي لزم عنها المعرفة الأخرى ذات اليقين.

3) ويترتب على هذا اختلاف جوهري بين المنطق الذاتي والمنطق العقلي: وهو كون موضوع المنطق العقلي هو نفس الأمر والواقع, أما المنطق الذاتي فموضوعه هو الفكر البشري بما هو. ومن ثمَّ سيكون البحث فيه عن العلية والسببية بوصفها عرضاً ذاتياً لنفس الفكر, حيث تكون الفكرة بما هي فكرة علة لفكرة أخرى. أما غرض المنطق الذاتي: فهو بيان قوانين التوالد الذاتي لفكرة من فكرة أخرى(7).

5) هناك قضايا عدها المنطق الأرسطي, مبادئ عقلية قبلية, في حين عدّها السيد الصدر في الأسس المنطقية للاستقراء قضايا مستنتجة من الاستقراء. منها القضية التي حاول الأرسطيون من خلالها معالجة مشكلة الاستقراء الناقص, وهي القضية القائلة: (إن الاتفاق لا يكون أكثرياً ولا دائمياً)(8).

وكذلك هناك قضايا ذكر السيد الصدر بأنها ليست بديهية ولا مستنتجة من الأوليات العقلية كما ذهب إلى ذلك المذهب العقلي, كالمحسوسات والمجربات والحدسيات والمتواترات(9).

قيمة المعرفة في ضوء المذهب الذاتي

أما بشأن قيمة المعرفة على وفق المنطق الذاتي, فقد رأى السيد الصدر أن المعارف البشرية تكشف عن الواقع الموضوعي خارج الذهن البشري(10), بل «وتتطابق مع هذا الواقع, وهذه ليست النتيجة الجديدة التي أتت بها الأسس المنطقية للاستقراء, بل هي عين ما ادعته المدرسة العقلية, وهي نفس الاتجاه الذي تبنّاه (أصول الفلسفة) و(فلسفتنا), كما لا تتعارض مع الموقف المبدئي الذي تتبنّاه كل الاتجاهات الواقعية في تفسير قيمة المعرفة البشرية بما فيها المادية الجدلية.

وإنما الجديد في الأسس المنطقية هو أنه اكتشف سبيلاً مبتكراً لإثبات موضوعية قيمة المعرفة البشرية, والتدليل على الواقع الخارجي.. وكان سبيل الأسس المنطقية هو الدليل الاستقرائي ذاته»(11).

يقول الفيلسوف الصدر: «وفي هذا الضوء يمكننا أن نردّ على المثالية التي تنكر وجود أيّ مبرّر للاعتقاد بالواقع الموضوعي للعالم, فقد عرفنا أن الاعتقاد بذلك يستمد مبرّره من الدليل الاستقرائي. كما نردّ أيضاً على بعض المناقشين للمثالية الذين ادّعوا أن القضية القائلة بوجود واقع موضوعي للعالم, قضية أوّلية بديهية يصدّق بها الإنسان تصديقاً مباشراً.

وردّنا على هؤلاء: أن هذه القضية لا تعني إلا أن بعض القضايا المحسوسة على الأقل صادقة, فقيمتها مستمدة من جمع قيم هذه القضايا المحسوسة, وهذا هو الذي يفسّر لنا أنها أكثر وضوحاً من أي قضية محسوسة بمفردها»(12).

أما الحال في المدارس الأخرى التي ادّعت الواقعية كالماركسية, فيؤكد لنا أهل التتبّع أنها قد عجزت عن إقامة الدليل على واقعيتها, بل أنه بعد المتابعة لم يوجد في أدبيات الفكر الماركسي, إلا محاولة كتبها بعض المفكرين السوفيت على هامش بعض بحوثهم(13).

وعلى هذا الأساس سعى الفيلسوف الصدر إلى إثبات القدر الكبير من المطابقة بين الصورة الذهنية والواقع الخارجي, ضمن الشروط الموضوعية للإحساس, التي تتوقف على سلامة الجهاز النفسي والعضوي الوظيفي بما في ذلك الحواس. وقد رأى أن الشيء الذي نتحسسه بشكل ما, فإنه يدل حقاً على كونه بهذا الشكل في الواقع أو قريب منه, بدرجة لا تجعل منه شكلاً آخر من الأشكال الهندسية الأخرى(14).

يقول الشهيد: «إننا نعتقد عادة بوجود تشابه- بدرجة ما - بين الصورة المحسوسة التي ندركها, والواقع الموضوعي لها الذي أثبتناه بالتطبيقات السابقة. وهذا الاعتقاد استقرائي مستدل, وليس علماً أولياً مباشراً؛ لأننا في إدراكنا الحسي لا نواجه الواقع الموضوعي مباشرة, وإنما نواجه الصورة المحسوسة. فإذا رأينا مثلاً قطعة من الخشب على شكل مربّع, فنحن نواجه في الحقيقة صورة محسوسة موجودة في جهازنا الحسّي تتصف بالتربيع, ولهذه الصورة واقع موضوعي هو سبّب إثارة تلك الصورة.

ورغم الثنائية بين الصورة المحسوسة والواقع الموضوعي, نتجه إلى الاعتقاد بأن صفة التربيع التي نلاحظها في الصورة المحسوسة ثابتة في الواقع الموضوعي لتلك الصورة المحسوسة»(15).

أما الدليل على هذا التطابق بين الصورة المحسوسة والواقع الموضوعي, فيقرر السيد الصدر الآتي:

إن عدم التطابق بين الصورة الحسية والواقع الموضوعي مرجعه إلى أحد أمرين على نحو مانعة الخلو:

1- إما أن يكون راجعاً إلى عدم رؤية جزء من الشيء الذي نواجهه.

2- وإما أن يكون  راجعاً إلى رؤية شيء لا نواجهه, فنتج عنه عدم التطابق.

وبناءً على هذا فإن عيني الرائي إذا كانت ترى كل ما يواجهها ولا ترى شيئاً لا يواجهها, فمعنى ذلك أن تكون الصورة الملتقطة من الواقع الموضوعي مطابقة له, وإلا لو كانت مختلفة معه, فمعناه أن هذا الاختلاف ناشئ من عدم رؤية العين كل ما تواجهه. أو أنها ترى ما لا تواجهه. ومن ثمَّ ستكون الرؤية ضمن شروطها العامة معناها: هو أن العين ترى كل ما تواجهه ولا ترى شيئاً مما لا تواجهه(16).

فبينما كان التطابق بين الصورة الحسيّة والواقع الموضوعي في المذهب العقلي بعامة, لا يحتاج إلى استدلال إنما هو أمر بديهي - وإن اختلف السيد الصدر معهم في إمكان الاستدلال على ذلك - كان التطابق على وفق المذهب الذاتي راجعاً إلى الدليل الاستقرائي.

نتائج الدراسة:

لقد كشفت دراستنا هذه عن وجود ملتقيات ومشتركات كثيرة بين الشهيدين مطهّري والصّدر في مبحث قيمة المعرفة. نعم اختلفا في مسألة التطابق بين الإدراك والواقع الموضوعي له, إذ رأى الشهيد مطهّري تبعاً للعلامة الطباطبائي وكثير من حكماء الإسلام إلى أن التطابق, أمرٌ بديهي لا يتطلب برهاناً, بل لا يمكن الاستدلال عليه. أما الشهيد الصّدر فقد أكدَّ في أكثر من موضع على إمكانية الاستدلال على التطابق, غير أن هذا الاستدلال راجع إلى بديهيات العقل وعلى رأسها قانون العلية.

كما كشفت عن وحدة النظرة والتقييم التي تمتّع بها الشهيدان لمختلف الاتجاهات, التي أدلت دلوها في بحث قيمة المعرفة. بل أكثر من ذلك  فقد دلّلت هذه الدراسة أن «فلسفتنا» قد أفادت كثيراً من «أصول الفلسفة», وكانا معاً صدىً للاتجاه الذي تبنّاه الفيلسوف الإسلامي الكبير صدر الدين الشيرازي.

وقد استطاعت في هذه الدراسة, أن تسلّط الضوء على التميّز الذي حضي به الشهيد الصدر في مقام تأسيسه لمذهب معرفي جديد, كانت له آثار مختلفة في شتّى مجالات المعرفة الإنسانية. أما الشهيد مطهري فقد ظلّ وفياً لاتجاهات الحكماء الإسلاميين الذين تابعوا المذهب العقلي في المعرفة.

 

الهوامش:

(1) محاضرات تأسيسيّة.. التأسيس للمنطق الذاتي, محاضرات السيّد محمد باقر الصدر: 37.

(2) الأسس المنطقية للاستقراء: 577- 578.  

(3) دراسات في الحكمة والمنهج, السيّد عمّار أبو رغيف: 360.  

(4) دراسات في الحكمة والمنهج, السيد عمّار أبو رغيف: 364- 365.  

(5) الأسس المنطقية للاستقراء, السيد محمد باقر الصدر: 99, ط المؤتمر العالمي للإمام الشهيد الصدر.  

(6) الأسس المنطقية للاستقراء: 517.

(7) محاضرات تأسيسية.. التأسيس للمنطق الذاتي: 43- 44. 

(8) الأسس المنطقية للاستقراء: 63. 

(9) الأسس المنطقية للاستقراء: 477, «موقفنا من النقاط الأساسية في المعرفة».  

(10) الأسس المنطقية للاستقراء: 527.  

(11) دراسات في الحكمة والمنهج, السيّد عمّار أبو رغيف: 366- 367.  

(12) الأسس المنطقية للاستقراء: 528.  

(13) دراسات في الحكمة والمنهج, السيد عمّار أبو رغيف: 367. 

(14) الأسس المنطقية للاستقراء: 531.  

(15) الأسس المنطقية للاستقراء: 530.  

(16) الأسس المنطقية للاستقراء: 531- 532.


قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat


الشيخ مازن المطوري
 (للدخول لصفحة الكاتب إضغط هنا)

    طباعة   ||   أخبر صديقك عن الموضوع   ||   إضافة تعليق   ||   التاريخ : 2013/09/19



كتابة تعليق لموضوع : قيمة المعرفة الإنسانية بين الشهيدين مطهّري والصّدر (الحلقة الرابعة)
الإسم * :
بريدك الالكتروني :
نص التعليق * :
 



حمل تطبيق (كتابات في الميزان) من Google Play



اعلان هام من قبل موقع كتابات في الميزان

البحث :





الكتّاب :

الملفات :

مقالات مهمة :



 إنسانية الإمام السيستاني

 بعد إحراجهم بكشف عصيانها وخيانتهم للشعب: المرجعية الدينية العليا تـُحرج الحكومة بمخالفة كلام المعصومين.. والعاصفة تقترب!!!

 كلام موجه الى العقلاء من ابناء شعبي ( 1 )

 حقيقة الادعياء .. متمرجعون وسفراء

 قراءة في خطبة المرجعية : هل اقترب أَجلُ الحكومةِ الحالية؟!

 خطر البترية على بعض اتباع المرجعية قراءة في تاثيرات الادعياء على اتباع العلماء

 إلى دعاة المرجعية العربية العراقية ..مع كل الاحترام

 مهزلة بيان الصرخي حول سوريا

 قراءة في خطبة الجمعة ( 4 / رمضان/ 1437هـ الموافق 10/6/2016 )

 المؤسسة الدينية بين الواقع والافتراء : سلسلة مقالات للشيخ محمد مهدي الاصفي ردا على حسن الكشميري وكتابيه (جولة في دهاليز مظلمة) و(محنة الهروب من الواقع)

 الى الحميداوي ( لانتوقع منكم غير الفتنة )

 السيستاني .. رسالة مهدوية عاجلة

 من عطاء المرجعية العليا

 قراءة في فتوى الدفاع المقدس وتحصين فكر الأمة

 فتوى السيد السيستاني بالجهاد الكفائي وصداها في الصحافة العالمية

 ما هو رأي أستاذ فقهاء النجف وقم المشرّفتَين السيد الخوئي بمن غصب الخلافة ؟

 مواقف شديدة الحساسية/٢ "بانوراما" الحشد..

أحدث مقالات الكتّاب :


مقالات متنوعة :





 لنشر مقالاتكم يمكنكم مراسلتنا على info@kitabat.info

تم تأسيس الموقع بتاريخ 1/4/2010 © محمد البغدادي 

 لا تتحمل الإدارة مسؤولية ما ينشر في الموقع من الناحيتين القانونية والأخلاقية.

  Designed , Hosted & Programmed By : King 4 Host . Net