صفحة الكاتب : الشيخ مازن المطوري

المعرفة الحسية إشكالية وحلول (6)
الشيخ مازن المطوري

المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الموقع، وإنما تعبر عن رأي الكاتب.
التطابق بين الإحساس وموضوعه
ثم أن الشهيد الصّدر قد سعى لإثبات التطابق بين المحسوس بالذات والمحسوس بالعرض,  وذلك ضمن الشروط الموضوعيّة للإحساس, التي تتوقف على سلامة الجهاز النفسي والعضوي الوظيفي بما في ذلك الحواس. وقد رأى أن الشيء الذي نتحسّسه بشكل ما, فإنه يدل حقاً على كونه بهذا الشكل في الواقع أو قريب منه, بدرجة لا تجعل منه شكلاً آخر من الأشكال الهندسية الأخرى(1). يقرّر قائلاً: «إنّنا نعتقد عادة بوجود تشابه- بدرجة ما - بين الصورة المحسوسة التي ندركها, والواقع الموضوعي لها الذي أثبتناه بالتطبيقات السابقة. وهذا الإعتقاد استقرائي مستدل, وليس علماً أولياً مباشراً؛ لأننا في إدراكنا الحسي لا نواجه الواقع الموضوعي مباشرة, وإنما نواجه الصورة المحسوسة. فإذا رأينا مثلاً قطعة من الخشب على شكل مربّع, فنحن نواجه في الحقيقة صورة محسوسة موجودة في جهازنا الحسّي تتصف بالتربيع, ولهذه الصورة واقع موضوعي هو سبّب إثارة تلك الصورة. ورغم الثنائية بين الصورة المحسوسة والواقع الموضوعي, نتجه إلى الإعتقاد بأن صفة التربيع التي نلاحظها في الصورة المحسوسة ثابتة في الواقع الموضوعي لتلك الصورة المحسوسة»(2).
أمّا الدليل على هذا التطابق بين الصورة المحسوسة والواقع الموضوعي, فيقرر السيّد الصّدر الآتي:
إنّ عدم التطابق بين الصورة الحسيّة والواقع الموضوعي مرجعه إلى أحد أمرين على نحو القضية مانعة الخلو:
1) إمّا أن يكون راجعاً إلى عدم رؤية جزء من الشيء الذي نواجهه.
2) وإمّا أن يكون  راجعاً إلى رؤية شيء لا نواجهه, فنتج عنه عدم التطابق.
وبناءً على هذا فإن عينَي الرائي إذا كانت ترى كلّ ما يواجهها ولا ترى شيئاً لا يواجهها, فمعنى ذلك أن تكون الصورة الملتقطة من الواقع الموضوعي مطابقة له, وإلا لو كانت مختلفة معه, فمعناه أن هذا الاختلاف ناشئ من عدم رؤية العين كلّ ما تواجهه. أو أنّها ترى ما لا تواجهه. ومن ثمَّ ستكون الرؤية ضمن شروطها العامة معناها: هو أن العين ترى كلَّ ما تواجهه, ولا ترى شيئاً ممّا لا تواجهه(3).
 
النتيجة:
تحصّل لنا ممّا تقدّم أن القضايا المحسوسة قضايا استقرائيّة تقوم على أساس تراكم القيم الاحتماليّة, وكذا حال المطابقة بين الصورة الحسيّة والقضايا المحسوسة. ولكن هل أضحى الشهيد الصّدر بهذا التفسير للمعرفة الحسيّة وأصول المعرفة, فيلسوفاً تجريبياً يرفض المصدر القبلي للتصديقات المعرفيّة, فيكون بدعاً من حكماء المسلمين الذين تبنّوا المنطق الأرسطي الذي يرى قبلية هذه المعارف؟.
والجواب عن ذلك واضح, فالشهيد الصّدر وإن أقام الدليل الاستقرائي التجريبي على تلك القضايا, لكنّه لا يمكن القول أن السيّد الصّدر فيلسوف تجريبي محض, ذلك أن المذهب الذاتي في المعرفة قد توفّر في بنيته على روح المذهبين العقلي والتجريبي, فلا هو عقلي محض ولا تجريبي كذلك. بل رأى الشهيد الصّدر أن نظريّة الاحتمال تمثّل الحلقة المفقودة في سلسلة النسق المعرفي, إذ من خلالها يتمّ التأسيس للدليل الاستقرائي وجعله العنصر الرابط بين عناصر المعرفة ومصادرها: العقل, التجربة, الوحي.
وهو وإن أقام الدليل التجريبي على القضايا المحسوسة والمتواترة والحدسيّة والتجريبيّة, إلّا أنه في الوقت ذاته أقرّ بقبليّة قضايا أخرى وصادر عليها من قبيل: مبدأ عدم التناقض أي القضية القائلة باستحالة اجتماع النقيضين وارتفاعهما, فقد رأى أن هذه القضيّة لا يمكن افتراض اثباتها بالدليل الاستقرائي, وإنّما هي قضيّة ثابتة ثبوتاً أوليّاً قبليّاً, وهو بذا يتوافق مع المنطق الأرسطي الذي رأى في هذه القضية أنها من القضايا البديهيّة الأوليّة التي يكفي تصوّر طرفيها لحكم النفس والتصديق بها ولا يمكن الإستدلال عليها. وكذا رأى في المصادرات التي يحتاجها الدليل الاستقرائي في سيره الاستدلالي كبديهيات نظريّة الاحتمال أنها قضايا قبليّة مصادر عليها(4). جاء في تقريرات درسه الأصولي:
«.. فيما يتعلّق بالعقل الأوّل ومدركاته [المعارف الأوليّة في الفكر البشري]. وهي المدركات التي حدّدها المنطق‏ الصوري في قضايا ستّ اعتبرها موادّ البرهان في كلّ معرفة بشرية وهي:  الأوّليات والفطريات والتجربيات والمتواترات والحدسيات والحسيّات. وقد إدّعى المنطق الصوري أن هذه القضايا كلّها بديهية, ونحن نسلّم معهم في إثنين منها هما الأوّليّات- كإستحالة اجتماع النقيضين- والفطريات وهي التي قياساتها معها, ولم نقل برجوعها إلى الأوّليّات على ما هو التحقيق- فهاتان قضيّتان قبليّتان, وأمّا غيرهما أي القضايا الأربع الباقية فليست المعرفة البشريّة فيها قبليّة بل بعديّة, أي تثبت بحساب الاحتمالات وبالطريقة الاستقرائيّة التي يسير فيها الفكر من الخاصّ إلى العام حسب قوانين وأسس شرحناها مفصلاً في ذلك الكتاب [الأسس المنطقيّة للاستقراء], بعد إبطال ما حاوله المنطق الصوري من تطبيق قياس خفي فيها بمناقشات عديدة مشروحة في محلّها»(5).
معالجة الصّدر وخيارات فريز
بقي علينا أن نعرف هل تجاوزت معالجة الشهيد الصّدر لإشكاليّة المعرفة الحسيّة, مثلث إشكاليّات فريز التي وضعها في وجه الحلول الرامية لمعالجة مشكلة أسس الخبرة أو لا؟.
أمّا بالنسبة إلى الإشكالية الأولى وهي التسليم الأعمى أو (الدوجماطيقيّة), فمن الواضح أن الشهيد الصّدر قد تجاوز ذلك حيث ذهب إلى إمكان الاستدلال على القضايا الحسيّة من خلال الإستعانة بالدليل الاستقرائي, وليست هي قضايا بديهية مسلّمة تسليماً قبلياً أعمى, فلا (دوجماطيقيّة) في المقام.
وأما إشكالية النزعة (السايكولوجيّة) فمعالجة الشهيد الصّدر قد تجاوزت ذلك من خلال اختيار ثاني تعريفين للاحتمال, ذلك أن الشهيد الصّدر في المرحلة الذاتيّة من بناء الدليل الاستقرائي قد طرح صيغتين لتعريف الاحتمال(6):
1) رأى في التعريف الأوّل أن الاحتمال يعبّر عن درجة من درجات اليقين, وإذا كان كذلك فلا شك في وقوعه في إشكالية النزعة (السايكولوجية), لأنّ اليقين ودرجاته تعبّر عن حالة نفسية (سايكولوجيّة) وهي لا تبرّر الواقع.
2) أمّا التعريف الثاني فقد رأى فيه أن الاحتمال عبارة عن نسبة تكرار وقوع الحادثة. ونسبة تكرار وقوع الحادثة أمر موضوعي خالي من أي عنصر (سايكولوجي), فلا تقع معالجة الصّدر وفق ذلك في النزعة (السايكولوجيّة).
وبالنسبة لإشكاليّة الوقوع في التسلسل والإرتداد اللانهائي وبالتالي تعذّر الإثبات والنفي, فالوقوف على وقوع معالجة الشهيد الصّدر في هذه الإشكالية أو عدم وقوعها فيها, يحتاج إلى دراسة مستقلّة مستأنفة, لعلّنا نوفّق لها مستقبلاً إن شاء الله تعالى.
 
الهوامش:
( ) الأسس المنطقية للاستقراء: 531. 
(2) الأسس المنطقية للاستقراء: 530.
(3) الأسس المنطقية للاستقراء: 531- 532. 
(4) الأسس المنطقية للاستقراء: 540. 
(5) بحوث في علم الأصول 4: 130- 131. 
(6) الأسس المنطقية للاستقراء: 232 فما بعدها ؛ منطق الاستقراء: 158. 

قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat


الشيخ مازن المطوري
 (للدخول لصفحة الكاتب إضغط هنا)

    طباعة   ||   أخبر صديقك عن الموضوع   ||   إضافة تعليق   ||   التاريخ : 2013/09/11



كتابة تعليق لموضوع : المعرفة الحسية إشكالية وحلول (6)
الإسم * :
بريدك الالكتروني :
نص التعليق * :
 



حمل تطبيق (كتابات في الميزان) من Google Play



اعلان هام من قبل موقع كتابات في الميزان

البحث :





الكتّاب :

الملفات :

مقالات مهمة :



 إنسانية الإمام السيستاني

 بعد إحراجهم بكشف عصيانها وخيانتهم للشعب: المرجعية الدينية العليا تـُحرج الحكومة بمخالفة كلام المعصومين.. والعاصفة تقترب!!!

 كلام موجه الى العقلاء من ابناء شعبي ( 1 )

 حقيقة الادعياء .. متمرجعون وسفراء

 قراءة في خطبة المرجعية : هل اقترب أَجلُ الحكومةِ الحالية؟!

 خطر البترية على بعض اتباع المرجعية قراءة في تاثيرات الادعياء على اتباع العلماء

 إلى دعاة المرجعية العربية العراقية ..مع كل الاحترام

 مهزلة بيان الصرخي حول سوريا

 قراءة في خطبة الجمعة ( 4 / رمضان/ 1437هـ الموافق 10/6/2016 )

 المؤسسة الدينية بين الواقع والافتراء : سلسلة مقالات للشيخ محمد مهدي الاصفي ردا على حسن الكشميري وكتابيه (جولة في دهاليز مظلمة) و(محنة الهروب من الواقع)

 الى الحميداوي ( لانتوقع منكم غير الفتنة )

 السيستاني .. رسالة مهدوية عاجلة

 من عطاء المرجعية العليا

 قراءة في فتوى الدفاع المقدس وتحصين فكر الأمة

 فتوى السيد السيستاني بالجهاد الكفائي وصداها في الصحافة العالمية

 ما هو رأي أستاذ فقهاء النجف وقم المشرّفتَين السيد الخوئي بمن غصب الخلافة ؟

 مواقف شديدة الحساسية/٢ "بانوراما" الحشد..

أحدث مقالات الكتّاب :


مقالات متنوعة :





 لنشر مقالاتكم يمكنكم مراسلتنا على info@kitabat.info

تم تأسيس الموقع بتاريخ 1/4/2010 © محمد البغدادي 

 لا تتحمل الإدارة مسؤولية ما ينشر في الموقع من الناحيتين القانونية والأخلاقية.

  Designed , Hosted & Programmed By : King 4 Host . Net