صفحة الكاتب : د . سعد الحداد

اللغة السايسانية .. تأصيلٌ لتراث حليٍّ منقرض
د . سعد الحداد


من نعم الله على مدينة الحلة تتابع أناس يقدمون معارفهم النافعة ، ويعرضون بضاعتهم الرائعة ، يؤلفون عنها وعن أهلها وتاريخها وجغرافيتها ، وماأبدع أهلها من فكر وعلم وأدب وفن . وإنّ ما صدر من كتب بهذا الصدد يعدّ ظاهرة عراقية ملفتة للنظر. فمنذ سقوط الطاغية حتى اليوم صدر أكثر من أربعمئة كتاب عن الحلة ، ومن نعم الله أن تصان الفيحاء بين الحين والآخر ويظهر من يجدد لها شبابها ويلبسها نضارة تجود هي به عليه .
الحلة .. تعويذة الحالمين برفعتها الدائمة وألقها المشرق الوضاء ، والعاملين على الارتقاء بها ، والساعين لبذل المعروف إليها .. وواحد من الحالمين العاملين الساعين الصديق الباحث محمد عبد الجليل شعابث الذي ما انفك مأسوراً بهيبة الحلة وجلالها ، فاتخذ منها زاوية ينقّب فيها عن مبتغاه في مجال طريف لازمه لسنوات ، قدّم من خلاله جهداً طيباً أثار استحسان الكثير من متابعيه . وهو اليوم يتجه نحو زاوية ثانية من الحجرة ذاتها ، أعني التراث الشعبي الحلي ليميط اللثام عن موروث آخر أضاء فيه سراجاً أسماه ( اللغة السايسانية في التراث الحلي ).
وبين الاتفاق والاختلاف في لفظ مفردة ( اللغة) آراء متباينة واعتقادات لها مايبررها . فالاستاذ الدكتور أسعد محمد علي النجار يذهب وهو يدّبج الكتاب بمقدمة مهمة الى الاعتقاد بأنها ( لهجة محلية لدخول مفردات عربية فصيحة مرة وعامية مرة ثانية ) بينما يعدها الباحث شعابث ( لغة) بدليل قوله( إن اللهجات الحلية معروفة وان دخلت عليها مفردات عربية كثيرة كون المتحدثين بها هم من أهالي الحلة وأكثرهم من العرب ، والسبب الآخر كونها لغة سرية مما يعطي صورة واضحة عن كونها لغة مستقلة بذاتها . فلو أنها كانت لهجة لتخاطب بها الناس جميعاً وانتفت صفة السرية عنها ) .
ويذهب الباحث الى ابعد من ذلك حين يرى أن( اللغة السايسانية لغة مركبة من مفردات قديمة من حضارات وادي الرافدين مع مزيج من حضارات مختلفة مثل الحضارة الهندية والفارسية والتركية والكردية والعربية ( ولهجتها العامية الحلية) مكونة بذلك لغة قائمة بذاتها ولو انها ليست مبنية على قواعد وأبجدية خاصة بها).
ويفرق الباحث بين لغة ابتكرها أحد ملوك الفرس من بني ساسان عرفت بـ( لغة المكدين) واللغة السايسانية موضع البحث باعتبار عدم وجود مشتركات بين اللغتين من حيث ( الشكل والمضمون ) . فالسايسانية ( هي مجموعة مفردات منها عربية بلهجاتها المتعددة وفارسية وتركية وهندية وكردية وكذلك بعض المفردات من الحضارات القديمة التي سكنت بلاد وادي الرافدين ).
أما من تعاطاها فهم قلة من الناس ممن اتخذ من الخيل مهنة ، ولقّبوا بـ( الساسة) ، ومن أقدم الأسر الحلية التي عرفت بهذه المهنة ( آل حرّان) . واليوم لم يعد فيهم من يتقن التحدث بلغة آبائه وأجداده لما تعرضوا إليه من قبل النظام البائد بأساليب قمعية أدت الى وأد لغتهم الخاصة بحجة أنّهم يتكلمون لغة سرية تمسّ النظام ، مما أدى الى منع تداولها وسجن المتحدث بها .
وأحسن صنعاً الأستاذ محمد شعابث حين تقصّى مفردات اللغة السايسانية بصبر ودأب لسنوات طويلة تمكن خلالها عن طريق المعمرين ومنهم الحاج ليلو مهدي الحران الملقب بـ( نينو) وآخرين مازالوا يحفظون بعضاً من مفرداتها أدى به الى عمل معجم خاص باللغة السايسانية اشتمل على سبعة وسبعين مفردة .

قدّم الباحث كتابه بوقفة تاريخية عن مدينة الحلة عبر القرون التسعة من عمر تمصيرها ، وماحفلت به من ازدهار عظيم في احتضان العلم والأدب من قبل أمرائها المزيديين ثم انتقال الزعامة الدينية إليها واتساع فضاء الحركة العلمية والفكرية على يد علماء وأدباء أفذاذ كان لهم ريادة الفعل التنويري ليس في العراق حسب بل في العالم الإسلامي .
ثم يعرج الباحث على مكونات المجتمع الحلي موضحاً تنوعه القومي والديني الذي أثرى المعرفة الإنسانية وكان رمزاً للسلم في التعايش الاجتماعي . و هذا التنوع أدى الى تميّز الحلة عن باقي مدن العراق بحفاظها على خصوصيتها المنفتحة المتنورة من جهة والتزامها خطّها العروبي والإسلامي من جهة ثانية وعمق ولائها المذهبي من جهة أخرى .لذا تعد الحلة من المدن الحضارية ومركزاً للتقارب والتسامح بأسمى وأجلّ صوره ، لذا لم يكن التنوع الثقافي والفكري والأدبي وحده الذي تميزت به الحلة الفيحاء إنما امتدت فضاءات من العادات والتقاليد واللهجات وتعدد الهويات المتآخية وهذا ما ساعد في انتعاشها وديمومة بقائها ، وأدى فيما بعد الى الانصهار الجمعي في الهوية الأم والامتزاج بمنظومة القيم والأخلاق الحلية ، والحفاظ على كيانها كمدينة جالبة لكل مصادر المعرفة بمختلف ألوانها وإبداعاتها .
وعرج الباحث بالحديث عن الشاعر صفي الدين الحلي المتوفى سنة سبعمئة وخمسين للهجرة واللغات الغريبة التي نظم بها شعراً متخذاً من قصيدته المشهورة التي مطلعها : (انّما الحيزبون والدردبيس .... والطخا والنفاخ والعطلبيس) موضع دراسة مقدماً دليله القاطع ببعد المراد من اللغة موضع البحث .
وأسهب الباحث شعابث في مبحثي الكتاب ( الرابع والخامس) بالتنظير والتأصيل للغة السايسانية وتتبع مفرداتها كونها لغة قديمة استخدمت في الحلة وتحديداً في إحدى محلاتها وهي ( محلة المهدية) من قبل ( ساسة الخيل) التي اصطبغت بهم وسمّيت باسمه ( اللغة السايسانية) . وهذه اللغة شفاهية وصفية غير هجائية ولم تكن مشيدة على أبجدية مقرؤة كما وصفها الباحث ، كان ساسة الخيل يستخدمونها للتفاهم بينهم في البيع والشراء وهي اقرب الى لغة التفاهم السرية لما فيها من حماية للمستخدمين لها ، وقد لاتنطوي على غايات في إخفائها ومحدودية استخدامها ، إنما الهدف سرعة التفاهم بين أصحابها وهم في اغلبهم أصحاب حرف وصناعات كالنجارين والخياطين وغيرهم .

ومن الطريف والنافع هنا ان نورد بعض المفردات الخاصة بهذه اللغة . وقد انشأ منها الباحث جملاً على سبيل التقريب ودوَّن ماسمعه من جمل في مبحث مستقل .. فمن قولهم ( الصمك تلّاغه شلّوف خل نبذه) أي ( الرجل كلامه غير جيد علينا بالذهاب ) . وقولهم ( موس أرمّه للصمك) أي ( اعرف هذا الرجل) وقولهم ( البحاث والمطفّر زلج) أي ( الدجاج والرز لذيذ) وقولهم ( تلّغ الرستاي حتى مايبذهك بالقباوي) أي ( اقنع الشرطي كي لايودعك السجن) وقولهم ( كدّه أرمي برمه) أي ( زوجتي كريمة) ومن قولهم ايضاً ( جيف إمحمّر للخضيري) أي ( إعطِ شاياً للسيد) وكذلك قولهم ( صار الدامس وادمخت) أي ( صار الليل ونمت ) وقولهم ( القنيمه تكش كشيمه) أي ( الطفلة تأكل الخبز ) .. ومن المعاني المعاصرة صاغ الباحث هذه العبارة ( الشلوف طنوا الزلوج بمدحرج امدوه) وتعني ( قتل الإرهابيون الأبرياء بالقنابل ) ..

تضمن الكتاب بصفحاته (132) صفحة من القطع الوزيري المطبوع في دار الصادق في الحلة والصادر عن مركز بابل للدراسات الحضارية والتاريخية في جامعة بابل سنة 2013م . تضمن شهادة للأستاذ الدكتور صباح نوري المرزوك أثنى فيها على جهد الباحث ومذكراً بعطاء المبدعين من أسرة آل شعابث الحلية في ميادين الشعر والأدب والفن . ثم قدّم الأستاذ الدكتور أسعد محمد علي النجار مقدمة مهمة تعرض فيها الى نشأة اللهجات وعوامل شيوعها ومباركاً للباحث جهده في تتبع آثار هذه اللغة . واحتجن الكتاب بعد الشهادة والتقديم على مقدمة ووقفة تاريخية عن الحلة السيفية تضمنت( سور الحلة والحوزة العلمية ومكونات المجتمع الحلي ومحلات الحلة ) ثم تمهيد ومباحث خمسة وخاتمة .
نبارك للصديق الباحث الأستاذ محمد عبد الجليل شعابث جهده المميز الذي حتماً سيغني المكتبة الحلية لطرافته وفرادته .


قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat


د . سعد الحداد
 (للدخول لصفحة الكاتب إضغط هنا)

    طباعة   ||   أخبر صديقك عن الموضوع   ||   إضافة تعليق   ||   التاريخ : 2013/09/10



كتابة تعليق لموضوع : اللغة السايسانية .. تأصيلٌ لتراث حليٍّ منقرض
الإسم * :
بريدك الالكتروني :
نص التعليق * :
 



حمل تطبيق (كتابات في الميزان) من Google Play



اعلان هام من قبل موقع كتابات في الميزان

البحث :





الكتّاب :

الملفات :

مقالات مهمة :



 إنسانية الإمام السيستاني

 بعد إحراجهم بكشف عصيانها وخيانتهم للشعب: المرجعية الدينية العليا تـُحرج الحكومة بمخالفة كلام المعصومين.. والعاصفة تقترب!!!

 كلام موجه الى العقلاء من ابناء شعبي ( 1 )

 حقيقة الادعياء .. متمرجعون وسفراء

 قراءة في خطبة المرجعية : هل اقترب أَجلُ الحكومةِ الحالية؟!

 خطر البترية على بعض اتباع المرجعية قراءة في تاثيرات الادعياء على اتباع العلماء

 إلى دعاة المرجعية العربية العراقية ..مع كل الاحترام

 مهزلة بيان الصرخي حول سوريا

 قراءة في خطبة الجمعة ( 4 / رمضان/ 1437هـ الموافق 10/6/2016 )

 المؤسسة الدينية بين الواقع والافتراء : سلسلة مقالات للشيخ محمد مهدي الاصفي ردا على حسن الكشميري وكتابيه (جولة في دهاليز مظلمة) و(محنة الهروب من الواقع)

 الى الحميداوي ( لانتوقع منكم غير الفتنة )

 السيستاني .. رسالة مهدوية عاجلة

 من عطاء المرجعية العليا

 قراءة في فتوى الدفاع المقدس وتحصين فكر الأمة

 فتوى السيد السيستاني بالجهاد الكفائي وصداها في الصحافة العالمية

 ما هو رأي أستاذ فقهاء النجف وقم المشرّفتَين السيد الخوئي بمن غصب الخلافة ؟

 مواقف شديدة الحساسية/٢ "بانوراما" الحشد..

أحدث مقالات الكتّاب :


مقالات متنوعة :





 لنشر مقالاتكم يمكنكم مراسلتنا على info@kitabat.info

تم تأسيس الموقع بتاريخ 1/4/2010 © محمد البغدادي 

 لا تتحمل الإدارة مسؤولية ما ينشر في الموقع من الناحيتين القانونية والأخلاقية.

  Designed , Hosted & Programmed By : King 4 Host . Net