صفحة الكاتب : كريم مرزة الاسدي

الشعرو قضاياه ... العروض و التجديد وما إليه يذهبون...الحلقة الثانية
كريم مرزة الاسدي
بادىء ذي بدء , أقول تعليقاً على تعليق ٍ لأحد القراء الأعزاء : إنَّ الإيقاع الشعري الموسيقي العربي ( الكمي ) هو الأصل والفصل قبل العروض وميزانه  , والترقيم وأفنانه , قد  تماشى معه الغناء والحدو متناغمين  , ومن ثم الرقص مرادفا  , قال حسان بن ثابت ذات يوم : 
تغنَّ بالشعر إمّا كنت قائله          إنّ الغناءَ لهذا الشعر مضمارُ
فالشعر الشعر هو الإبداع , والشاعر الشاعر هو المبدع , وعلى ركن هذا وأساس ذاك , وضع العرضيون عروضهم , وقاسوا بميزانهما أوزانهم , وغرفوا من بحرهما بحورهم, والعروض علم يعتمد على عقول علمائه  وتقنيناتها , فعندما يتمرد عباقرة الشعر على أوزانه , يجب أن يسايرهم جهابذة العروض على جديدهم الجميل الرائع  , لأن دائرة الخيال الفني , وموهبته الإيقاعية  أوسع من دائرة الأدراك الحسي العقلي وتفعيلاته العروضية العربية , ومقاطعه الأفرنجية , وهذا ليس تنازلاً لأصحاب النص النثري   ,  فانا قد رضيت بالتمرد العبقري  لأنه ولود , ونوهت بأبي العتاهية رائدهم الأول  , ورفضت الرفض لأنه  عقيم ,  والحقيقة أن الفراهيدي نفسه , وبكلمة أدق عصره لم يستوعب حالات التمرد أو الشذوذ في شعر من سبقه ومن لحقه ,ويشير الدكتور جوادعلي في (مفصله ) الى خروج بعض الشعراء الجاهليين عن قواعد العروض والنحو , ويستشهد بروايات تاريخية عن إمرىء القيس ,  وقصيدة  " عبيد الله بن الأبرص" : أقفرمن أهله ملحوب      فالقطيبات فالذنوبُ
فهي من مخلع البسيط, قلما يخلو بيت منها من حذف في بعض تفاعيله  أو زيادة  . وفي قصيدة المرقش الأكبر :
هل بالديار أن تصيب              لو كان رسمٌ ناطقا كلـّم
فهي من السريع , وقد خرجت شطور أبياتها على هذا الوزن , كالشطر الثاني من هذا البيت :
ما ذنبنا في أن غزا ملكٌ            من آل جفنة حازم ٌ مرغم
فأنه من الكامل , ورووا اضطرابا وقع في شعر عدي بن زيد العبادي على النحو المذكور , خرج فيه من السريع الى وزن المديد ,وفي شعر غيره كذلك مثل  نونية  " سلمى بن ربيعة " : إنّ شواء و نشوة وخبب البازل الأمون  , فهي خارجة عن عروض الخليل (1) ,ويواصل الدكتور استشهاده , ويتوصل الى قوله : " وتستحق هذه الأمور وأمثالها أن تكون موضع دراسة خاصة , لما لها من أهمية في تكوين رأي علمي دقيق عن تطور العروض في الجاهلية  , ..." ( 2)
ربما يعود تغافل  الفراهيدي لصرامة عصره ,وميول مسامع أهله للبحور  السائدة والشائعة والسالفة , لكل زمان دولة وشوؤن , وذوق وفنون , ولكل جيل من الأجيال نغماته المحببة ,وموسيقاه المطربة ,و ألحانه الشجية , وبحوره الطرية  ,ففي العصر الجاهلي ساد (الطويل ) لجلاله وفخامته, ومن روائعه معلقات طرفة ولبيد وامرىء القيس , وظلت   سيطرته حتى القرن الثالث الهجري . ثم تراجع عن مكانته ,  وفي عصرنا صعب مراسه ,لازدواج تفعيلاته , فابتعد عنه أنصار الشعر الحر ( التفعيلة ) , ومثله في هذه الخصائص المهيبة  (البسيط ) , ولكن أقل شيوعا منه في جاهليتهما , وعدهما حازم القرطاجني في (منهاجه ) أعلى درجة البحور في الافتتان (3) , وترافقا في مسيرتهما حتى الإحيائيين , وفاقت صياغة الأخير على الأول لدى الرومانسيين في الربع الأول من القرن العشرين , ومن بعدهما يأتي عند العرب القدماء في ذيوعه ( الوافر ),وهبطت منزلته في القرن الثاني الهجري , وعاد الى صدارته عند شعراء الرومانسية ,ولم يتأثر به شعراء التفعيلة كسابقيه المهابين , ولكن الرجز وإن كان من أقدم البحور العربية المعروفة ,لارتباطه بحركة أقدام الأبل وحدو البدوي على إيقاعها , لم يذع بين الجاهليين , وازداد رواجه في العصر الأموي ,واستخدمت صياغته في الشعر التعليمي ( الأرجوزة ) , وأطربت تفعيلته المتكررة (مستفعلن )السياب العبقري , فتوج بها أروع قصائده ( إنشودة المطر) :
عيناكِ غابتا  نخيل ٍ  ساعة  َ السحرْ
أو شرفتان  راح  ينأى عنهما  القمرْ
عيناكِ حينَ   تبسمان تورق ُ الكروم
وترقص الأضواءُ..كالأقمار في نهرْ
أكرر  البيتين , وانا أعرف معرفتك لهما ,والأدرى بأنني طرقت مسامعك من قبل بهما , لروعة الجمال , وحسن  الأفتتان , ونتقرب الان الى ( المتقارب )الذي شغل نسبة عالية في العصر الجاهلي , ثم تراجع طوال العهود الاسلامية حتى تلاقفنته الفترة الرومانسية العربية  الحديثة ,ويتقدم ليصبح أكثر البحور دورانا في محيط رواد الشعر الحر , و( المتدارك )الذي بالكاد ولد في أحضان الأخفش وأهمله الشعراء لسرعة حركاته الإيقاعية الراقصة ,تناؤب عليه الزجالون في زجلهم , ونظم على بحره الحصري القيرواني قصيدته الشهيرة ( يا ليلُ الصبُّّّّّ متى غدهُ          أقيام ُ الساعة ِموعدهُ ) ,ونظم أحمد شوقي على هذاالمنوال معارضا (مضناك جفاه مرقده ), زادالاهتمام به في العصر الحديث , ثم ازداد جدا في منظومات شعر التفعيلة , و( الرمل) كان شائعا في الجاهلية ,وأصبح شعبيا في العصر العباسي الأول , يلجأ إليه أبو العتاهية في زهدياته , وأبو نؤاس في خمرياته , وتلاقفه الأندلسيون ليشدوا من خلاله موشحاتهم, وأخيرا نظم الإيحائيون بعض عقودهم منه ,وزاودهم عليه الرومانسيون , وركن إليه رواد القصيدة التفعيلية المعاصرون  , واستأنسوا بلطف نغماته , وإن سألت عن ( الهزج )  ,ندر لدى الجاهليين , زاد في عصور الغناء العباسي , وعاد ليمثل المسرحيات الحديثة بلسان شخوصها , وعن  (الخفيف ) , فقد صار البحر الأول عند إسلامي الحجاز , وزاد عند شعراء الرومانسية ,واذا طلبت المزيد , فعليك بالدكتور سيد البحراوي و (عروضه ) (4) , وهذه النظرة العاجلة تفي بالغرض المراد بأن لكل عصر ذوقه الشعري المتميز , بل ولكل بيئة اجتماعية أوتشكيلة مناطقية أو جماعة ثقافية  خصوصيتها الشعرية وميولها الإيقاعية ,فالإيقاع الشعري ليس له قيمة ثابتة ,و نغمة  محددة , ورتابة واحدة في كل الأمصار والعصور ,  فالأيام تسير ,والناس شتى  , والليالي يلدن كل ّ عجيب ,وللأذن ذوق رقيب , وللموروث جذر عريب  !
ويسألونك عن ( العروض ) و (القوافي )  , وما استجد عن ( الإيقاع) الشعري  :
ليس من موضوعنا هذا الموضوع , ولا نحن تبرعنا للتفصيل فيه , ولا فيما ذهبنا إليه من أمر التجديد ,  ولكن مجرد فكرة عامة , وخاطرة عابرة , وصياغة أدبية لعلم موضوع, وموضوع مطبوع  كتب فيه من كتب , والطريق مفتوح , ويذكرني هذا بما ذكره المازني في معرض حديثه عن ابن الرومي قائلا : " وتعجبني كلمة كتبها جوته الى معاصره وزميله شلر , قال " لقد عادت النفس فحدثتني أن انظم في قصة "وليم تل " قصيدة . ولست أخشى علي من روايتك . ولا بأس عليك مني .ولا بأس علي منك ". وهذا صحيح , لأن الشعراء لايركب بعضهم أكتاف بعض , ولا:
يدفن بعضهم بعضا َويمشي              أواخرهم على هام الأوالي "(5)
لا تقل لي هذا الكلام عن الشعراء رجاءً, الأدب كلـّه فن , وإن كان علما !  والأسلوب هو الإنسان نفسه , والدنيا صور !
نرجع , والرجوع أحمد الى الخليل بن أحمد الفراهيدي الأزدي البصري (ولد في عمان 100هجرية /718م - توفي في البصرة 174هجرية \ 790م) (6) , واضع علم- ولك أن تقول صناعة لحاجته للتمرن  -  (العروض ) على أغلب الظن , أومجدده  على رواية  ابن فارس (7) التي بخست الخليل حقه ,لان المعلومات وان كانت متوفره قبله , لم تصل الى درجة العلم المنهجي , والدراسة الواعية ,والقواعد الراكزة , والأستقراءات الرائعة  , والصناعة الماهرة , فالعصر المنفتح على مختلف الثقافات , وأجناس الناس , تفجر عن مدارس القياس في الفقه والنحو والعروض ..لغربلة الشاذ والملحون , وصد هجمات الدخيل والهجين  ,ومهما يكن سبب  تسمية الأخير بالعروض  ,إمّا كي يعرض الشعر عليه ليعرف صحيح وزنه من مكسوره , أو نسبة لمكان بين الطائف ومكة وضع فيه خليلنا علمه المعلوم , وقياسه المشهور , ولكن كيف ؟!
يقال إنّ الرجل مرّ ذات يوم بسوق الصفارين , فطرقت مسامعه مطارقهم على الطست , (تن , تتن , تتتن...) فرجع الى بيته, وراجع تدويناته وتقنيناته ,وقايس ومارس , ووقع اصابعه , وحركها ولملمها ,ولاريب انه كان ذا ذهن رياضي تحليلي تركيبي , وأذن موسيقيه ,وحس مرهف , وحافظة قوية  , وربما قال مع نفسه :الشعر لفظ موزون مقفى ذومعنى , واللفظ صوت مسموع في الشعر , لا حرف مرسوم , والحروف بحركات وسكون , تتوالى بانتظام الى حد ما , لتشكل الأنغام ,وشبه بيت الشعِر ببيت الشعَر ( الخيمة ) , بأسبابها وأوتادها ,وفواصلها , ومصراعيها  ..., وكما تعلم أن  العرب لا تبدأ  بساكن , فوضع أركان علم العروض أوزانه وتفاعيله ,وسار على نهجه القدماء ,رغم الإضافات والتعديلات الطفيفة , كالأخفش والجوهري والزمخشري والشيباني والمعري وابن جني وحازم القرطاجني وغيرهم , فتتركب أوزانه من شيئين , أحدهما مركب من حرفين ( السبب ) : إما متحرك وساكن , وهو (  السبب الخفيف) مثل لنْ ( /ه ),وإما متحركين  , وهو( السبب الثقيل ) مثل لكَ ( //) , والثاني مركب من ثلاثة أحرف ( الوتد ) : إما متحركين يتوسطهما ساكن , وهو (  الوتد المفروق) مثل لات ( /ه/ ) , وإما متحركين يعقبهما ساكن , وهو ( الوتد المجموع) مثل نعم ( //ه) (8) , فإذن أساس الإيقاع العربي - الذي يسمى مجازا الوزن - هما ( السبب والوتد ) , واذا أمعنت قليلا, سترى الوتد هو الأصل الذي أشتق منه السبب بشقيه , وما ثلاثة أسباب الا وتدين ,  وتتردد هذه بما لها من كم ٍّ إيقاعي بفترات زمنية منتظمة ذات مقدار , ويخضع كمُّها للزحافات والعلل التي ترضاها أذن السامع المرهف, وتطرق الأغريق من قبل الى مثل  هذه الحالة الى ما اسموه (الرتيم )(9), وتبعهم الأوربيون المعاصرون حاليا مستخدمين المصطلح نفسه , وسبق للزمخشري  أن نوّه بذلك عند تعريفه للشعر العربي - إذا أستثنيا اللفظ - فالأشياء الثلاثة الأخرى , ويعني الوزن والقافية والمعنى  " الأمر فيها على التساوي بين الأمم قاطبة " (10) ,وسنواصل المسيرة الموجزة للحالات المتجددة , والله الموفق .    
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) د جواد علي  :المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام , الموسوعة الشاملة ( 1/5617 ).
(2 ) المصدر نفسه (1/5618) 
(3)ابو الحسن حازم القرطاجني : منهاج البلغاء ومسي,رة الأدباء ص 168.
(4)  .د سيدالبحراوي : العروض وإيقاع الشعر العربي الهيئة المصرية العامة للكتاب   1993من ص 39 -53.
(5) ابراهيم عبد القادر المازني :ابن الرومي حياته وشعره - المكتبة الحديثة - بيروت ص 31.
(6)الخليل بن أحمد الفراهيدي (الفرهودي )الأزدي أبو عبد الرحمن: سيدأهل الأدب قاطبة في علمه وزهده , كان من تلامذة عيسى بن عمرو وأبي عمرو ابن العلاء , وأخذعنه سيبويه والنضر بن شميل والكسائي الكوفي , وهو أول من استخرج علم العروضوضبط اللغة , وأملى كتاب (العين ), راجع : كريم مرزة الأسدي /نشأة النحو العربي ومسيرته الكوفية / مقارنة بين النحو البصري والنحو الكوفي /دمشق 2003 ص 20 , الهامش رقم (1) .
(7) يرى ( أحمد بن فارس )في كتابه ( الصاحبي في فقه اللغة ) مؤسسة بدران - بيروت - 1964  ص 38 " إن أبا الأسود ليس أول من وضع العربية ,ولا الخليل أول من تكلم في العروض , وإنما هذان العلمان كانا معروفين قديما ,وتجددا على أيديهما . راجع كريم مرزة الأسدي - المصدر السابق  الهامش (2) , ص 5.
(8) الزمخشري : القسطاس في علم العروض ص 4.
RYTHMOS(9) .
(10) المصدر نفسه ص 2.

قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat


كريم مرزة الاسدي
 (للدخول لصفحة الكاتب إضغط هنا)

    طباعة   ||   أخبر صديقك عن الموضوع   ||   إضافة تعليق   ||   التاريخ : 2011/02/23



كتابة تعليق لموضوع : الشعرو قضاياه ... العروض و التجديد وما إليه يذهبون...الحلقة الثانية
الإسم * :
بريدك الالكتروني :
نص التعليق * :
 



حمل تطبيق (كتابات في الميزان) من Google Play



اعلان هام من قبل موقع كتابات في الميزان

البحث :





الكتّاب :

الملفات :

مقالات مهمة :



 إنسانية الإمام السيستاني

 بعد إحراجهم بكشف عصيانها وخيانتهم للشعب: المرجعية الدينية العليا تـُحرج الحكومة بمخالفة كلام المعصومين.. والعاصفة تقترب!!!

 كلام موجه الى العقلاء من ابناء شعبي ( 1 )

 حقيقة الادعياء .. متمرجعون وسفراء

 قراءة في خطبة المرجعية : هل اقترب أَجلُ الحكومةِ الحالية؟!

 خطر البترية على بعض اتباع المرجعية قراءة في تاثيرات الادعياء على اتباع العلماء

 إلى دعاة المرجعية العربية العراقية ..مع كل الاحترام

 مهزلة بيان الصرخي حول سوريا

 قراءة في خطبة الجمعة ( 4 / رمضان/ 1437هـ الموافق 10/6/2016 )

 المؤسسة الدينية بين الواقع والافتراء : سلسلة مقالات للشيخ محمد مهدي الاصفي ردا على حسن الكشميري وكتابيه (جولة في دهاليز مظلمة) و(محنة الهروب من الواقع)

 الى الحميداوي ( لانتوقع منكم غير الفتنة )

 السيستاني .. رسالة مهدوية عاجلة

 من عطاء المرجعية العليا

 قراءة في فتوى الدفاع المقدس وتحصين فكر الأمة

 فتوى السيد السيستاني بالجهاد الكفائي وصداها في الصحافة العالمية

 ما هو رأي أستاذ فقهاء النجف وقم المشرّفتَين السيد الخوئي بمن غصب الخلافة ؟

 مواقف شديدة الحساسية/٢ "بانوراما" الحشد..

أحدث مقالات الكتّاب :


مقالات متنوعة :





 لنشر مقالاتكم يمكنكم مراسلتنا على info@kitabat.info

تم تأسيس الموقع بتاريخ 1/4/2010 © محمد البغدادي 

 لا تتحمل الإدارة مسؤولية ما ينشر في الموقع من الناحيتين القانونية والأخلاقية.

  Designed , Hosted & Programmed By : King 4 Host . Net