تسارعت خطواته على تضاريس ذلك الطريق المُنحشر بكل ما يعيق مشي المرء بسكينة و انسيابية ،فلا مفر من ارتطام قدميه بما هو مُتعرج صعوداً و نزولاً .. حفرة من هنا و مطب فوق مطب ، يبدو أن البلدية أضاعت الأوراق الخاصة بمعاملة هذا الطريق كما أضاعت و نسيَّت معاملات بقية الطرق على وجه معمورة أحياء المدينة، كله يُحتَمل مادامت الخُطى تتقدم في طريقها لمرضاة الله ،لإقامة صلاة المغرب في مسجد الحي كما اعتاد ، لم ينتابه انزعاج من كل ذلك بقدر انزعاجهُ من تلك اليد التي لوَّحت له و ذلك السلام الذي اٌلقي عليه من جاره أحمد ، لم يكن متوجهاً للمسجد في حين الأذان يُدوِّي الأرجاء ، ياله من جار لا يستحق الإحترام ،يتخلى عن صلاة الجماعة و هو بكامل موفور الصحة و المسجد على بُعد خطوات لا تتعدى أصابع اليد، هذا صدى لسان حاله ، رد السلام بتثاقل ، و أكمل الطريق.
بعد سويعات و إذا بصفحته الفيسبوكية تضُج بعبارات الاستنقاص بالتلميح لسلوك ذلك الجار، و تزاحمت نبرات التعالي و الإعجاب.. بنفسه ، بعبادته ، بتدينهُ ، يُخيّل للقاريء أنه العبد المثالي خُلقاً و عبادتاً ، و أن الجنة لم تُخلق إلا لجنابه...
أيها المُتباهي بعبادتك و أعمالك الظاهرة للعيان .. " قف "
فجارك أحمد.. كان متوجهاً لأمه المريضة، و العاجزة عن مُباشرة علاجها لشدة مرضها ، فأعطى المسجد ظهرهُ عُنوة و توجه ليُلقم أمه لقمة من الغذاء قبل تناول دوائها في وقته المحدد كما شدد الطبيب .
قال تعالى وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاَهُمَا فَلاَ تَقُل لَّهُمَا أُفٍّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلاً كَرِيماً (23) وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيراً الإسراء:24،23.
هذا نموذج من آلاف النماذج في مجتمعنا ، مرض الاستعلاء و الإعجاب بالنفس، هَوَسْ العِرق الأعوج ،مَنبعهُ خلل العلاقة بين المرء و بين الله سبحانه و تعالى، فمن يقترب من ربه، تُسكب عليه سكينة الروح و نقاء النفس، لا أن يُكرِّس عُصارة جهدهُ في هدم ما يَبنى من صالح العمل ، و من خُرمِ جيبهُ تتساقط أعماله الطالحة مُتوشحة بسوء النوايا و الظنون،عملٌ يفتقر لملامح المصداقية في الصنع المُتلبس بسوءٍ مَخبُوء ، فحتماً تُمحق الأعمال و تُزاح ، فكرٌ يفتقر لمعاني الصفاء الداخلي ، تؤطره موجة صارخة بمجمل ما تحمل من صراعات ذهنية عنيفة، يتقاسمها ذلك الموروث التربوي بملامحه المُتخمة بفوضى التصور المُشوِّه للآخر، و كل ذلك يُفضي بنا لضحالة المكوّن الفكري للأفراد حين تعتلي تلك الموجة المغرورة فتطفو كبقعة زيت مُتسربة فوق موج الشاطيء، لفتة مضيئة : " أرفعُ الناس قدرًا من لا يرى قدرَه، وأكبر النّاس فضلاً من لا يرى فضلَه " الإمام الشافعي.
فالقيم الأخلاقية الإنسانية جزء من حقيقة الشخصية ، تُمايزه بمقدار الوعي و الفكر السوي المتوازن ، مدلوله أنّ نُظماً أخلاقية مُندفعة تدفع بصاحبها لقمم السعادة الإنسانية أو تُفضي به للوادي السحيق، فتُمحِق ما يصبو به لنيل المنزلة العُليا . لو أدركت هذه الفئة كيف أن أعمالها تتساقط كما تهوي النقود المعدنية من جيب مخروم ، فتُصدر صوتاً عند السقوط و يغدو صاحبها فقير الجيب.*
------------------------------------
*نشرت هذه المادة في صحيفة الشرق المطبوعة العدد رقم (629) صفحة (14) بتاريخ 24-08-2013
قناتنا على التلغرام :
https://t.me/kitabat
قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat