صفحة الكاتب : سماحة الشيخ حلمي السنان القطيفي

من اسلام الحديث الى اسلام القرآن بين الحيدري وطرابيشي (الحلقة الثانية)
سماحة الشيخ حلمي السنان القطيفي

المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الموقع، وإنما تعبر عن رأي الكاتب.

 بسمه تعالى

كان موضوع هذه الحلقة مما أعد لأن يكون الحلقة الرابعة في ترتيب هذه الحلقات إلا أن كثرة التساؤلات من القراء الاعزاء حول التغاير بين عنوان حلقات الحيدري ـ والذي عنونا به هذه المقالات ـ ؛ حيث كانت بعنوان " من إسلام الحديث إلى إسلام القرآن " ، بينما نجد عنوان كتاب جورج طرابيشي على العكس منه ، فهو باسم " من إسلام القرآن إلى إسلام الحديث ". وكأن هذا التغاير بينهما سبّب اشكاليةً عند الكثير من القراء ؛ ولتوضيح الامر وتسهيل الخطب أحببت الاشارة لبعض النقاط في كلا الطرحين ، كي يكون القارئ على بصيرة من أمره حتى لا يقول إننا تجاهلنا عقله او فهمه .
 
الامر الاول: لقد عنون جورج طرابيشي كتابه هذا بهذا العنوان " من إسلام القرآن الى إسلام الحديث " ، وذيّل العنوان بكلمة مهمة جداً لمن عنده تحليل علمي للمداليل اللفظية ، فقد كتب بعده (النشأة المستأنفة) ، والمقصود منها هو استئناف قراءة الاسلام بمنظور حديثي ، لكن لا بتطبيق الآيات على مفاهيم الاسلام ، بل بتصديق تلك الآيات بما ورد من موروث حديثي ؛ وليس هذا أيضا من قبيل تعضيد الكتاب بالسنة ، وإنما لأجل بيان مدى تكريس النصوص في توجيه التفسير القرآني عند علماء الاسلام ؛ وقد عبر عنه بالتأويل ونسبه للطبري المفسر ؛ كما انه اعتمد في أكثر هذا التكريس المتعمد على تفسير الطبري ، وذلك لما يعلم عنده وعند غيره من كثرة الروايات الموضوعة والإسرائيلية فيه ؛ والنتيجة الحتمية الواضحة هي أن هذا التوجيه لآيات الكتاب بالحديث ليست مما بها يحيى الاسلام القرآني بل هي مما يموت بها الإسلام القرآني ؛ ومن هنا وصل الى نتيجة في نهاية الكتاب ألا وهي هزيمة العقل بيد أرباب الايديولوجيا الحديثية ويقصد بهم المد الأشعري آنذاك . 
 
فهذه النتيجة وان لم تكن هي المرضية للكاتب إلا انه كرس كتابه لهذا الامر ؛ ومن شواهد ما ذكرنا ما نقله من كلمات في اول الكتاب عن بعضهم ؛ فقد نقل عن البربهاري في شرح السنة قوله: اعلم ان الاسلام هو السنة والسنة هي الاسلام ولا يقوم أحدهما الا بالاخر .كما نقل عن الغزالي قوله : السنة جاءت قاضية على الكتاب ولم يجئ الكتاب قاضياً على السنة . 
الأمر الثاني : ما هي المحتملات في عنوان كتاب جورج طرابيشي: 
الاحتمال الاول : ما يظهر مما قدمناه من أن الاسلام هو بقراءة القرآن بالحديث لكن ليس بكل حديث بل بما كرسه من توجيه اعلامي لموروث حديثي أوجب انقلاب الكثير من المفاهيم القرآنية ؛ وذلك بسبب الحيثيات التي أخذت في تلك الاحاديث . فمن باب المثال ما ذكره في الفصل الاول ففي المفهوم القرآني ان الرسول مكفوف اليد عن التشريع بينما في المفهوم الحديثي الرسول مشرع ؛ وحينما نقابل بين الآية والروايات يقول اننا نقدم - بلا شك - الطرح القرآني على تلك الروايات ؛ ثم يعضد كلامه بروايات طبرية على ان النبي قد خالف ربه فعاتبه او عاقبه او هدده او اوضح له جبرئيل عدم رضا ربه عنه فيرجع الرسول صلوات الله عليه وآله مقهوراً بالقرآن . 
 
أقول : فهذا في الحقيقة رجوع لإسلام القرآن وليس لإسلام الحديث ، وان كان العنوان على العكس منه. 
الاحتمال الثاني: ما يتحصل عليه القارئ من حصيلة معرفية بعد مطالعته لفصول الكتاب من ان الكاتب يريد الوصول بنا الى أن صنمية النص الحديثي أوصلتنا الى إلغاء القرآن وهو الامر الذي لا تريده السنة نفسها . 
الاحتمال الثالث: أن يكون العنوان إشارة الي تسلسل تأريخي لفكرة الاسلام ؛ وأن الاسلام بدأ قرآنياً وسار حتى صار حديثياً . 
 
وهذا الاحتمال الثالث هو المتبادر عند أغلب القراء من ظاهر العنوان ؛ إلا أن من المستبعد أن يريد مثل هذا الكاتب هذا المعنى السطحي للعنوان ؛ خاصة مع ملاحظة مضامين الكتاب ؛ فهو يتعرض للسنة وينقلها على أنها ناقضة الكتاب وأن السنة قيود لحرية الرأي وأن الامام مالك قد أعطى شيئاً من الحرية في الرأي ابتعاداً عن النص. وتراه في موطن اخر يهاجم المنهجية السائدة في دراسة الحديث بالتركيز على السند ويعبر عنها - ص 144- بقوله: (هذه الشكلية الخالصة هي المسؤولة عن كل اللامعقول الذي شحنت به المنظومة الحديثية) .
وهكذا حتى وصل الامر في فكر أبي حنيفة الى التعبد بالرأي في مقابل السنة مطلقاً ، الى ان يصل لبيان دور الشافعي وأنه أجاد في تكريس السنة بدعوى ان الحكمة في آيات الكتاب هي سنة رسول الله صلوات الله عليه واله ، وهكذا يسير سيراً تراتبياً إلى أن يصل في آخر الكتاب الى إثبات أن التفكير التحديثي الذي استلم قيادته الاشعري وصار الموروث الروائي - السنة - موروثاً أشعريا قد استطاع نقل الفكر العام عند المسلمين من العقل الى النص وليس النص القرآني بل الحديثي. 
 
أقول : لا يخفى على القارئ ان الاحتمالين الثاني والثالث انما ساقهما التسلسل التاريخي لكيفية التعامل مع السنة منذ صدر الاسلام ، وأما العنوان الذي عنون به الحيدري أطروحاته فهو : " من إسلام الحديث إلى اسلام القرآن " ، ففي بدو النظر أنه عنوان معاكس لما عنون به طرابيشي كتابه المتقدم ؛ فهل هو يقصد جداً هذا العنوان؟ ولماذا اختار هذا العنوان ؟ وما هي أوجه الاختلاف بين العنوانين والاثار المترتبة على الاختلاف بين العنوانين؟ .
 
ان هذا الامر يجرنا للبحث في سبب تسمية الحيدري لأطروحاته بهذا الاسم ؛ وقد ذكر هو في أولى حلقاته حول هذا العنوان من انه عنوان مبهم وقال بعد ذلك: إن الوظيفة هي الانتقال من اسلام الحديث الى اسلام القرآن ؛ فبعد أن عرّف القرآن وعرّف الحديث وقال بأن كليهما فيه معارف كاملة في العقيدة والشريعة قال بتلخيص منا : ان الآراء في القران والحديث ثلاثة : 
1- من يرى أن المرجع هو القران فقط مصدرا للتشريع الاسلامي . حسبنا كتاب الله .
2- من يرى أن المرجع هو السنة ؛ والقرآن بدون السنة ليس مما يصح الاخذ به. 
3- من يرى أن المرجعية للحديث ولكن بسبب التعارض بين الاحاديث نحتاج للقرآن فما وافق القرآن يرجح على مخالفه ، فالسنة كأصل ومحور وممن تبناه السيد الخوئي .
ثم قال: ان نظريته هي محورية القرآن ومركزيته ، فهو المرجع لكنه مخالف للوجه الاول ؛ وكل ما قيل انه من السنة ولكنه مخالف للكتاب فهو مطروح ، وقرأ رواية من الكافي ج1/ ص238 واخرها : اذا كانت الروايات مخالفة للقرآن كذبتها. فالاتجاه الذي يعتقده الحيدري أن السنة لا استقلالية لها في مقابل القرآن ، بل لابد أن تفهم في ضمن القرآن. 
 
أقول: والذي يتحصل من كلامه هو أن القول بانتقال المسلم من إسلام الحديث الى إسلام القرآن يعني أن مرجعية القرآن كاملة بينما مرجعية السنة ليست كاملة ، ولذا احتاجت الى الرجوع للقرآن. وعليه فحينما يقول : من اسلام الحديث الى اسلام القرآن يحتمل أموراً: 
احدها: انه لابد من الانتقال الى الفهم القرآني لنفهم الحديث. ونعيد تأهيله ليتناسب والاسلام. ثانيها : أن إسلام الحديث لا يكفي في تحقق مفهوم الاسلام الكامل ، بينما اسلام القرآن هو اسلام الانسان الكامل كما قال هذا في حلقات لاحقة . 
 
إذا عرفنا هذا المعنى من مجمل كلمات الاثنين الحيدري وجورج طرابيشي ؛ فما هي أوجه المفارقة والمقاربة بين النظرتين؟ هل هما عنوانان متباينان كما قال البعض؟ أم هما عنوانان كذلك الا أن معنونهما واحد وغايتهما واحدة أم أن أحدهما ضد الاخر وناقض له؟.
 
استظهر البعض أن الحيدري لما رأى أن مشروع جورج طرابيشي يرجع لتخليد السنة والحديث واستقلاليتها في تحديد مفهوم الاسلام حاول أن يبدأ بمشروع عكسي وهو الدعوة لتخليد القرآن من خلال أسلمة المفهوم الحديثي بإخضاع الموروث الروائي كاملاً لمفاهيم القرآن. وهذا الاستظهار يساعد عليه ظاهر تخالف العنوانين خاصة على الاحتمال الثالث لما يريده طرابيشي من عنوان كتابه ، إلا أنني أميل للامر الثاني ؛ وهو أنهما عنوانان لمعنون واحد فالذي يقرأ في كتاب طرابيشي يجزم بأنه لم يرد أصلا تخليد السنة او مرجعيتها ومحوريتها في أسلمة المفاهيم عند الانسان المسلم ؛ فإن الذي يصل في نتيجة بحثه في الفصل الاول الى ان الرسول آلة او صندوق بريد فقط لتبليغ الرسالة لا شك أنه يلغي الحديث لا أنه يخلده ويجعله محوراً للإسلام ؛ والحيدري من خلال أطروحاته في عدة حلقات والشواهد التي أقامها على دعاواه كل تلك الامور تؤيد بل لا تترك مجالاً للشك في أنه قام بضرب الموروث الروائي والحديثي لكن بطريقة غير مباشرة ؛ فهذا يقول نرجع الحديث للقرآن لا للعرض فقط بل للأخذ بالقرآن فقط ؛ وذاك يقول نلغي الحديث أمام القرآن مطلقاً ؛ وان كانت النتيجة التي ذكرها اخر الكتاب هي انتصار اهل الحديث على العقل . لكنه لا يعيرها اهتماماً . 
 
إذن فكلاهما يصب في بوتقة واحدة وان كانا يستقيان من مشارب مختلفة و ينبضان بقلبين لا بقلب واحد إلا أن النبض واحد فيهما ؛ والأثر من كلا البحثين هو : إما التسقيط للموروث الروائي وإما التشكيك فيه ونتيجة التشكيك التوقف عن العمل به. 
وأما اختياري لهذا العنوان للحلقات هنا وهو نفس عنوان أطروحات الحيدري وجعل الامر دائراً بينه وبين طرابيشي ؛ فلا غضاضة فيه ولا مشاحة فإن أطروحات الحيدري هي محل البحث والكلام ، وإنما كان كتاب طرابيشي عنواناً مشيراً لمنشأ الطرح الحيدري ؛ خاصة بعدما لاحظنا بعض أوجه التشابه بين الطرحين وقانا الله شر الدارين .
 
الى هنا أقف في هذه الحلقة بعد ان اتضح للاخوة القراء كلا العنوانين مفصلا ، وسأبدأ في الحلقة القادمة قراءة ناقدة لكلا المسلكين والفكرتين لنرى الملاحظات التي تؤخذ عليهما ان شاء الله ، والحمد لله رب العالمين وصلى الله على محمد وآله الهادين.
 
العلامة الشيخ حلمي السنان القطيفي

قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat


سماحة الشيخ حلمي السنان القطيفي
 (للدخول لصفحة الكاتب إضغط هنا)

    طباعة   ||   أخبر صديقك عن الموضوع   ||   إضافة تعليق   ||   التاريخ : 2013/08/15



كتابة تعليق لموضوع : من اسلام الحديث الى اسلام القرآن بين الحيدري وطرابيشي (الحلقة الثانية)
الإسم * :
بريدك الالكتروني :
نص التعليق * :
 



حمل تطبيق (كتابات في الميزان) من Google Play



اعلان هام من قبل موقع كتابات في الميزان

البحث :





الكتّاب :

الملفات :

مقالات مهمة :



 إنسانية الإمام السيستاني

 بعد إحراجهم بكشف عصيانها وخيانتهم للشعب: المرجعية الدينية العليا تـُحرج الحكومة بمخالفة كلام المعصومين.. والعاصفة تقترب!!!

 كلام موجه الى العقلاء من ابناء شعبي ( 1 )

 حقيقة الادعياء .. متمرجعون وسفراء

 قراءة في خطبة المرجعية : هل اقترب أَجلُ الحكومةِ الحالية؟!

 خطر البترية على بعض اتباع المرجعية قراءة في تاثيرات الادعياء على اتباع العلماء

 إلى دعاة المرجعية العربية العراقية ..مع كل الاحترام

 مهزلة بيان الصرخي حول سوريا

 قراءة في خطبة الجمعة ( 4 / رمضان/ 1437هـ الموافق 10/6/2016 )

 المؤسسة الدينية بين الواقع والافتراء : سلسلة مقالات للشيخ محمد مهدي الاصفي ردا على حسن الكشميري وكتابيه (جولة في دهاليز مظلمة) و(محنة الهروب من الواقع)

 الى الحميداوي ( لانتوقع منكم غير الفتنة )

 السيستاني .. رسالة مهدوية عاجلة

 من عطاء المرجعية العليا

 قراءة في فتوى الدفاع المقدس وتحصين فكر الأمة

 فتوى السيد السيستاني بالجهاد الكفائي وصداها في الصحافة العالمية

 ما هو رأي أستاذ فقهاء النجف وقم المشرّفتَين السيد الخوئي بمن غصب الخلافة ؟

 مواقف شديدة الحساسية/٢ "بانوراما" الحشد..

أحدث مقالات الكتّاب :


مقالات متنوعة :





 لنشر مقالاتكم يمكنكم مراسلتنا على info@kitabat.info

تم تأسيس الموقع بتاريخ 1/4/2010 © محمد البغدادي 

 لا تتحمل الإدارة مسؤولية ما ينشر في الموقع من الناحيتين القانونية والأخلاقية.

  Designed , Hosted & Programmed By : King 4 Host . Net