صفحة الكاتب : د . نعمة العبادي

جناب التوقيع المحترم
د . نعمة العبادي

المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الموقع، وإنما تعبر عن رأي الكاتب.
التوقيع أو الإمضاء أو البصمة أو (Signature) ، أيقونة مكثفة تختزل الذات في رسم ذي خصوصية دلالية مميزة تحكي هوية الموقع بمستوى ما من الكشف ، وتشير إلى صاحبها بدلالة إيحائية لا تخلو من التجسد الحسي لما هو معنوي واعتباري فيه ، وأصبحت صيغة قانونية تعني تجسد الالتزام بما هو ممضى عليه .
يستحق الجانب الفلسفي والسيكلوجي والسسيولوجي لموضوع الإمضاء الكثير من البحث والعناية ، لأني أحسب أن الموضوع لم يأخذ حقه من البحث والعناية كحال الموضوعات المهمة المهملة الأخرى ، إلا أني هنا في هذه السطور غير معني بتلك الجوانب ، بل يهمني العلاقة الجدلية متعددة الأطراف بين (الموقع –الموقع عليه-الموقع لأجله- المستفيد من التوقيع- المتضرر منه- ترابط التأثير بين الواقع والتوقيع) .
مع اختراع الحرف والكتابة صار التوقيع إشارة إلى هوية الكاتب ، أو دلالة على مصدر المكتوب ، وفي كل الحالات هو نحو من (الكشف عن / والالتزام بـ) ، يرتب نحوا من الحقوق والواجبات تتصل بتلك الملكية والمسؤولية ، وبتطوير الأنظمة الإدارية وتقعيد أشكالها المعهودة اليوم ، مثل (الموقع عليه ) ، وسيلة للكشف عن الأمر والرأي والالتزام والطلب ، وبالإجمال كشف هوية العبارة المذيلة بالتوقيع ، والإلتزام بها وعليها ضمنا .
يتوجه العالم المتطور بجدية لترشيد أنظمته الإدارية ، وتقليص الحلقات الزائدة المعبر عنها بـ (البيروقراطية ) ، ويحاول تجاوز محطات الروتين غير المجدية ، ويفكر باستمرار بابتداع وسائل تساهم بشكل فعال في سرعة الإنجاز ودقة العمل وقلة الكلفة وسرعة تقديم الخدمة ومراعاة حقوق الإنسان .
على خلاف هذه الصورة ما زال الجانب الآخر من العالم غارق في بيروقراطية مقيتة ( إما برغبته وهو ما تفعله الأنظمة الاستبدادية والبوليسية من أجل إحكام السيطرة على كل حلقات الحياة ووضع الأمور تحت إشرافهم وموافقاتهم ، أو لعجز في الوصول إلى التنمية المثمرة والتحديث المجدي) ، وفي كلا الصورتين يعاني (إنسان هذا العالم) ، من تعقيد في الحياة وعسر في الحصول على الحقوق والخدمات وهوان وانتهاك لحقوقه وكرامته وذلك من أجل الوصول إلى حقه .
تختلف أهمية التوقيع بأهمية الأمر المتعلق به ، ومكانة الموقع ، فهو (يعطي ويمنع ) ، (يضع ويرفع) ،  (يفرح ويحزن) ، (يغني ويفقر) ، (يحبس ويحرر) ، (ينفي ويؤكد) ، طبعا كل ذلك بعد الفراغ من أن إرادة الله سبحان وتعالى هي الحاكم النافذ في الأمور .
(بجرة قلم) ، العبارة فاقعة اللون قوية الإيقاع في (النفوس والواقع ) ، والتي يعدها الناس سر التغيرات ، أي المحرك من ورائها . وهكذا يردد الكثير بقصد أو عفوية ، بجرة قلم أفعل كذا أو كذا ، أو بجرة قلم يمكن أن يفعل (لي/ لك) كذا أو كذا . إذن جرة القلم مفتاح الإنجاز والتغيير.
إن هذه العلاقة المستحكمة بين الأثر (إعطاء/ منع- نفع / ضرر) من جهة ، وبين (جرة القلم) التي تعني بضمنها التوقيع ، تستوجب أن يكون النظر إليها بعناية ودقة .
فجرة القلم هذه أو التوقيع ، إما أن يتصل بمصير عام ، أو شأن خاص ، وفي كلا الحالتين على (صاحب التوقيع ) ، أن يفكر مليا ، ما هي الآثار والنتائج التي تترتب على توقيعه بالموافقة أو المنع ، وما هي الأضرار التي تترتب على تأخير توقيعه أو امتناعه عن التوقيع ؟
كثير من الأحيان ، سعادة عائلة ، أو مصير جماعة ، يتوقف على توقيع من (جلالة / دولة / معالي/ سيادة /سعادة /عناية /.....الخ) ، فهل يا ترى يدرك الموقِع ما يترتب على توقيعه من أثر ؟ ، وإذا كان يدرك ذلك ، فهل يضع ذلك المدرَك بنظره وعنايته ؟ ، هل يسأل نفسه عن مسؤوليته تجاه تأخير التوقيع على أمور الناس وحاجاتهم ؟ ، كيف يستحضر مصلحته ومصلحة الموقع له أو من أجله ، هل يكون همه في كل مرة ، أن يكون ذلك التوقيع لمصلحته ، ومن فائدته ، ولا يرتب عليه أثرا ، ولا يلزمه بشيء ، أم أنه يفكر بمصير الموقع له ، وما يترتب على ذلك التوقيع من نتائج؟ ،هل يدري من يوقع ،أنه يضع نسخة من الورق الكاربون تحت توقيعه ،فواحد يظهر على الورقة الموقع عليها ، وآخر نسخة طبق الأصل يظهر في صحيفة أعماله عند الله ؟ هل يفكر المسؤول عن التوقيع أن هناك من يقف منتظرا بقلب يتوجع ونفس متعبة  التوقيع وما يرتبه ؟ وهل يفهم من يوقعون تحت الإغراء أو الضغط أو المنفعة ، ما هي النتائج التي تترتب على توقيعهم ؟ هل يسأل كل من يجلس في كرسي المسؤولية نفسه عن مصائر الناس وحقوقهم وحاجاتهم ، ويحسب بوعي وقلب نابض بالإحساس النتائج والعواقب التي تترتب على توقيعه أو عدمه ؟ هل يفهم من يجلس على الكرسي (جيدا) شعور من يحمل الورقة ، وهو يقف أمامه منتظرا توقيعه ؟ هل يجلس من لديه (سلطة التوقيع) ، مع نفسه في العمل أو خارجه ، ويسأل نفسه ، ماهي الآثار التي حققتها تواقيعه في الفترة الماضية ، وهل يفكر بتدارك الخطأ ، أو الإهمال ، أو التقاعس الذي كان منه في الفترة السابقة ؟
في ظل تشعب حاجات الإنسان من جهة ، وتعقد كيان الدول والأنظمة الإدارية من جهة أخرى ، نحن بحاجة ماسة إلى جملة أمور ملحة منها : المراجعة الموضوعية والعلمية العاجلة لكل حلقاتنا الإدارية ، وسلاسل التوقيع الطويلة ، وطبيعة قائمة الطلبات الواجب إحضارها ، والنظر فيما هو زائد ولغو والسعي الجاد لحذفه وتجاوزه ، من أجل سرعة الإنجاز ، وحفظ كرامة الناس ، التي ابتذلتها الكثير من حلقات الروتين والبيروقراطية ، ومن أجل الكثير من المصالح المهمة والحيوية ، التي يعوقها التوقيع ومشتقاته ، وثانيا ، نحن بحاجة إلى إشاعة ثقافة (ضمير التوقيع) ، التي تعني بإيجار أن يستشعر الموقع أو من لديه سلطة التوقيع ،ما هي المصالح العامة والخاصة ، التي ترتبط بتوقيع (موافقة أو رفضا) ، وثالثا ، نحتاج إلى مزيد من الوعي والدراية والتدريب لكل حلقاتنا في إدارة الدولة ، لتجاوز هذا الجهل المخجل ، الذي تظهره طبيعة الهوامش والتعليقات والأوامر المذيلة بالتوقيعات ، وهي تكشف عن عدم دراية ، إما بجوهر الموضوع بكامله ، أو بطبيعة الجزئية محل النظر وما يستوجب لها ، فإن هذا الجهل المخجل يضر بقوة بـ (المصالح العامة والخاصة و مصير الدولة والمجتمع وسمعة الجهاز الحكومي والإداري) .
أتمنى أن تكون هذه السطور حافزا لمراجعة لكل حلقات عمل الدول المبتلاة بالروتين وبالبيروقراطية ، وجرسا يدق على رأس كل إنسان يتحمل مسؤولية التوقيع ، ويترتب على توقيعه أثر مهم ، وأن تفتح بابا من أجل توسيع النقاش الجاد الذي أحاول جاهدا تحريكه من أجل (أن نكون أحسن وأسعد ) .

قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat


د . نعمة العبادي
 (للدخول لصفحة الكاتب إضغط هنا)

    طباعة   ||   أخبر صديقك عن الموضوع   ||   إضافة تعليق   ||   التاريخ : 2013/08/03



كتابة تعليق لموضوع : جناب التوقيع المحترم
الإسم * :
بريدك الالكتروني :
نص التعليق * :
 



حمل تطبيق (كتابات في الميزان) من Google Play



اعلان هام من قبل موقع كتابات في الميزان

البحث :





الكتّاب :

الملفات :

مقالات مهمة :



 إنسانية الإمام السيستاني

 بعد إحراجهم بكشف عصيانها وخيانتهم للشعب: المرجعية الدينية العليا تـُحرج الحكومة بمخالفة كلام المعصومين.. والعاصفة تقترب!!!

 كلام موجه الى العقلاء من ابناء شعبي ( 1 )

 حقيقة الادعياء .. متمرجعون وسفراء

 قراءة في خطبة المرجعية : هل اقترب أَجلُ الحكومةِ الحالية؟!

 خطر البترية على بعض اتباع المرجعية قراءة في تاثيرات الادعياء على اتباع العلماء

 إلى دعاة المرجعية العربية العراقية ..مع كل الاحترام

 مهزلة بيان الصرخي حول سوريا

 قراءة في خطبة الجمعة ( 4 / رمضان/ 1437هـ الموافق 10/6/2016 )

 المؤسسة الدينية بين الواقع والافتراء : سلسلة مقالات للشيخ محمد مهدي الاصفي ردا على حسن الكشميري وكتابيه (جولة في دهاليز مظلمة) و(محنة الهروب من الواقع)

 الى الحميداوي ( لانتوقع منكم غير الفتنة )

 السيستاني .. رسالة مهدوية عاجلة

 من عطاء المرجعية العليا

 قراءة في فتوى الدفاع المقدس وتحصين فكر الأمة

 فتوى السيد السيستاني بالجهاد الكفائي وصداها في الصحافة العالمية

 ما هو رأي أستاذ فقهاء النجف وقم المشرّفتَين السيد الخوئي بمن غصب الخلافة ؟

 مواقف شديدة الحساسية/٢ "بانوراما" الحشد..

أحدث مقالات الكتّاب :


مقالات متنوعة :





 لنشر مقالاتكم يمكنكم مراسلتنا على info@kitabat.info

تم تأسيس الموقع بتاريخ 1/4/2010 © محمد البغدادي 

 لا تتحمل الإدارة مسؤولية ما ينشر في الموقع من الناحيتين القانونية والأخلاقية.

  Designed , Hosted & Programmed By : King 4 Host . Net