صفحة الكاتب : علي جابر الفتلاوي

سياحة فكرية ثقافية (3 ) حقانية الاديان
علي جابر الفتلاوي

المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الموقع، وإنما تعبر عن رأي الكاتب.

قال ابن عربي الاندلسي :
لقد كنت قبل اليوم انكر صاحبي    اذا لم يكن ديني الى دينه داني
وقدصار   قلبي قابلا كل صورة   فمرعى لغزلان وبيت  لاوثان
ودير لرهبان وكعبة      طائف   والواح   توراة ومصحف قرآن
ادين  بدين  الحب انى توجهت    ركائبه ارسلت ديني   وايماني
ابن العربي من اهل العرفان الذين عاشوا في القرنيين الهجريين السادس والسابع وشعره يعبر عن حاله حيث يعيش قلبه حب الله ، ويرى نفسه انه قريب من الاخرين الذين يعيشون حالة الحب هذه ، وان اختلفت مسمياتهم واديانهم ،لان اللقاء لقاء القلوب لا لقاء الصور والمسميات الخارجيه ، وفي رأينا ان هذا الكلام لابن العربي يتناغم مع الدعوات الحديثه لبعض المفكرين في  العالم ، وبعض المفكرين الاسلاميين امثال الدكتور عبد الكريم سروش الذي يدعو الى التعدديه الدينيه ، وهي نظرية تقوم على مبدا عدم نفي الحق عن دين من الاديان ولو بنسبة معينة ، وعدم وصم الاديان الاخرى بالباطل والضلاله بصورة كلية ، فكل دين له نصيب من الحقانيه وله نصيب من الضلالة او الابتعاد عن الحق وكذلك المذاهب داخل دائرة الدين الواحد ، فالحق المطلق لا يمتلكه طرف واحد بحيث يكون الاخر على باطل وليست مسالة الحق والباطل في الاديان كمسالة الحق والباطل او الصدق والكذب في المنطق او العلوم ، ولاعطاء صورة واضحة عن بحث حقانية الاديان لابد من الاشاره الى اراء المفكر الاسلامي الدكتور عبد الكريم سروش وهو من المعاصرين للحداثة الان ويحمل كثيرا من فكر الحضارة الحديثة ،فهذا المفكر الحديث يطرح عدة امور فيما يتعلق بالفكر الاسلامي المعاصر خاصة والفكر الديني عامة منها مثلا ان التنوع في المعرفة سواء الفلسفيه او الكلاميه او غيرها من المعارف انما تسري نتائجها الى المعرفه الدينيه او الفهم الديني بمعنى ان التعدديه المعرفيه هي اساس التعدديه الدينيه أي ان التعدديه الدينيه انما تتحقق من خارج دائرة الدين ، فالقناعة بالتعدديه المعرفيه التي تتولد عند المتدين من التحقيق الذي يجريه خارج دائرة الدين ، انما تقود الى التعدديه الدينيه حتى وان تقاطعت هذه القناعة بالتعدديه مع مفاهيم دين او مذهب هذا المتدين المحقق، لان القناعة التي تولدت من خارج دائرة الدين انما جاءت بحكم البحث والتحقيق الذي ادى الى قناعة العقل ، فتسري هذه القناعة العقلية المتولده من التفكر والتحقيق الذي ادى الى قناعة العقل الى الايمان بالتعدديه الدينيه ، يقول سروش بخصوص هذا المعنى (( يجب علينا ..التفكيك بين التدين الذي ينطلق من موقع التقليد وبين التدين الذي ينطلق من موقع التحقيق فالتعدديه من شان التدين من النمط الثاني لا الاول )) وبما ان المتدينين المحققين هم الاقليه في المجتمع الديني ، والمتدينون المقلدون هم الاكثرية ولا نقصد بالمقلدين من يقلد مجتهدا في فروع الدين انما المقصود من يعتنق دينا معينا تقليدا للمجتمع او العائله التي يولد فيها ، فمن يولد في عائلة مسلمة فهو مسلم ، ومن يولد في عائلة سنية فهو سني ، ومن يولد في عائلة شيعية فهو شيعي ، وهذا هو واقعنا ، ولا يوجد في المجتمع من يبحث ويحقق بين الاديان او المذاهب لغرض اختيار دين او مذهب معين ، فهذه الكثرة من المتدينين ومن مختلف الاديان والمذاهب كل يرى ان الحق معه ، وانه سائر الى الله في الطريق الصحيح وغيره على خطأ وضلاله ، انما هي كثرة معلله حسب تعبير سروش بمعنى ان هناك اسبابا وعلل تقف وراء تدينهم ((علل تربوية ، عائليه ،عاطفيه ، اعلاميه ))وغير ذلك من العلل والتي كلها تقوم على مبداالتقليد للاخرين او الايحاء ، واليقين المتولد من ايمان هذا النمط من التدين لا يعد يقينا راسخا ومتجذرا انما هو يقين مهزوز وعرضة للتاثيرات الاعلاميه والايحائيه ،خاصة اذا كانت هذه التاثيرات تاتي من رجال يتعلمون بعلامات الدين فيكون تاثيرهم في عواطف وعقول هذه الكثرة المتدينه المقلده تاثيرا كبيرا وترسخ عندهم كثيرا من المفاهيم المحسوبة على الدين وهي انما آراء شخصيه تعود لرجال متدينين ولا علاقة لها بذاتية الدين ، هذه الكثرة المتدينه لا تؤمن بالتعدديه الدينيه كون مفاهيمها الدينيه ماخوذة عن طريق التقليد ولم تاتي عن طريق التحقيق واشغال العقل ، وانما يؤمن بالتعدديه من يعتمد العقل ويطلع على مفاهيم وفكر الاخر حتى يصل الى نتيجة هل انه وحده يمتلك الحق ؟ وهل هو يمتلك كل الحق ام جزءا منه ؟ وهل ان من يملك الحق لابد وان يكون الاخر على باطل ؟ لان الحق والباطل لا يجتمعان على مقولة استحالة اجتماع النقيضين في المنطق . هذه الاسئلة واسئلة اخرى بحاجة الى سياحة او جولة فكريه كي تتولد عندنا رؤية معينة عن الحق عندنا وعند الاخرين ولابد من طرح سؤال اخر مهم وهو ان الله الحكيم الرحيم العادل الذي يحكم بالقسط  كيف ينظر ويحكم على هذه الكثرة الدينيه وهو المحب لعباده وكل دين او مذهب يعتقد ويرى ان طريقه هو الذي يوصله الى الله الحق المبين ؟ ان هذه الاسئلة وغيرها اجاب عنها المفكرون الاسلاميون المعاصرون بان المتدين الذي يعتمد العقل والدليل لابد وان يصل الى نتيجة انه ليس وحده على الحق والاخرون على باطل ، بل لابد وان يمتلك الاخر جزءا او وجها من وجوه الحق ، وليس بالضرورة عندما اكون على حق ان يكون المختلف معي على باطل ، وفي هذه الحالة تكون مسألة الحق نسبيه أي ان كل دين او مذهب متوجه  في عبادته الى الله العظيم وحسب نية العبد وما يراه اتباع هذا الدين او المذهب صحيحا فأن هذا الدين او المذهب لابد وان يمتلك نسبة من الحق ولا يوجد الحق المطلق في جهة واحده والاخرون لابد وان يكونوا على باطل ، بل كل منهما يمتلك نسبة من الحق ، ولا احد من عباد الله يريد لنفسه ان يكون على باطل ، بل قناعته وعقله وقلبه يقول له انت على حق ، وانك تسير في الطريق الصحيح الذي يوصلك الى الله القدير الرحيم ، ولا احد من عباد الله يريد لنفسه غير هذه النتيجة التي يطمئن لها القلب يقول الدكتور عبد الكريم سروش في هذا المجال (( هناك ملاحظة مهمة في باب الاديان وهي بشكل عام اننا في المنطق نقول بعدم وجود وسط بين الحق والباطل او بين السلب والايجاب او الوسط بين النقيضين ..فاذا كان الراي حقا فله نقيض واحد وهو الباطل واذا كان الشئ صادقا فله نقيض واحد وهو الكاذب ، فالبعض ينظرون الى الحق والباطل في الاديان من هذا المنظار أي يتصورون ان النسبه بين دين الحق مع سائر الاديان نسبة النقيضين ، في حين ان نفس تعدد الاديان يدل على ان المسألة لا تخضع لمقولة النقيضين ، بمعنى ان كون احدهما حق لا يوجب بطلان الباقي )) لان المسالة في نظر سروش ليست مسالة منطقيه ، وليست محصورة في مجال تناقض نقيضين بل (( كل واحد من هذه الاديان يمثل نظاما فكريا خاصا أي انه يمثل مجموعة كبيرة من القضايا تستوعب كل قضيه منها قضايا كثيرة اخرى ،وهذا يعني انه لا يوجد في  عالم الواقع مقارنة بين قضيتين فقط ، بل بين نظامين او منظومتين من المعتفدات والافكار ، وهاتان المنظومتان تضمان حجما كبيرا من القضايا بحيث يكون من العسير جدا ان يحكم بوجود نقيض مشخص لها ، فكل واحده من هاتين المنظومتين او النظامين الفكريين قادر على تفسير التجارب الدينيه لدى اتباعه وحل حاجاتهم الروحيه وحل مشكلاتهم العقائديه وامثال ذلك )) .
واذا نظرنا الى المسالة من الناحية الواقعيه فان المسلمين لا يقولون ان المسيحيه او اليهودية على باطل بالمطلق ، بل يقولون ان اليهوديه في زمن معين هي على حق وكذلك المسيحيه حتى جاء الاسلام فتبنى نسبة الحق والصدق عند الديانتين اليهوديه والمسيحية مضافا ما جاء به الاسلام من الحق والصدق ، هذه النسبيه من الحق في الاديان هو ما يقول بها سروش المفكر الاسلامي المعاصر ، فعندما يقول شخص ان عمري عشرون عاما فهذه العبارة صادقة اذا قالها شخص عمره عشرون عاما فعلا وهي كاذبة اذا قالها شخص عمره  اكثر او اقل من عشرين عاما فابن الثلاثين عاما عندما يقول ان عمري عشرون عاما فهي قضية كاذبة فعبارة ان عمري عشرون عاما فهي قضية نسبيه بالنسبة لهذين الشخصين فهي صادقة بالنسبة لواحد وكاذبة بالنسبة لاخر ، وهي من الناحية الواقعية نفس العبارة وهذه القضية تختلف حين نقول ان الارض كروية او ان الفلزات تتمدد بالحرارة فهاتان قضيتان لا نسبية فيهما ، ولا احتمال للصدق او الكذب فيهما ، فلكل قضية من هذه القضايا وجه واحد وهو الصدق ولا احتمال لوجود الكذب ، فقضية الحق في الاديان لا تقاس قضيتهما بمثل قياس القضايا العلمية او الفلسفيه ، بل تقاس بالواقع العملي الفعلي المقيد بقيود عديده ومنها قيد الزمن ، فالمسيحيون والمسلمون يقولون عن اليهوديه (( ان اليهوديه دين الحق قبل مجئ المسيح )) والمسلمون يقولون (( ان المسيحية تمثل دين الحق لاتباعها قبل مجئ الاسلام )) اذن لم يحصل النفي المطلق للحق عن الديانة المسيحية او اليهودية بل انها تمثل الحق ولكن بقيد الزمن .
من هذا نرى ان مسالة الحق والباطل تختلف بالنسبة للاديان وهي لا تشبه مسألة الحق والباطل او الصدق والكذب مثل ما موجود في القضايا العلمية او الفلسفية فالحالة بالنسبة للاديان تختلف ، عليه يصل الدكتور سروش الى نتيجة مفادها (( ان المسيحية حق للمسيحيين الذين لم يصل اليهم الاسلام او لم يروا ان الاسلام هو دين الحق .. ولا يصح ان نقول ان الاسلام اذا كان حقا اذن فغيره مهما كان فهو على باطل ، هذا الكلام ناشئ من ذلك التوهم وهو ان حقانية الاسلام مثل حقانية كروية الارض او قضية تمدد الفلزات )) وهذا هو المعني بالحقانية في الاديان أي ان هناك نسبة من الحق في كل دين فلا يمكن ان نقول ان دين من الاديان يمتلك الحق المطلق وغيره حتما على باطل ، فالقضية ليست اجتماع نقيضين اذ ان اجتماع النقيضين التي هي قضية منطقية لا تنطبق في مجال الاديان هذا مجمل مايريد التوصل اليه الدكتور سروش وغيره من المفكرين الاسلاميين المعاصرين الذين يدعون الى التسامح واحترام الاخر في معتقداته الدينيه او السياسيه او الفكريه وغير ذلك من الخصوصيات .
A_fatlawy @yahoo.com


قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat


علي جابر الفتلاوي
 (للدخول لصفحة الكاتب إضغط هنا)

    طباعة   ||   أخبر صديقك عن الموضوع   ||   إضافة تعليق   ||   التاريخ : 2011/02/16



كتابة تعليق لموضوع : سياحة فكرية ثقافية (3 ) حقانية الاديان
الإسم * :
بريدك الالكتروني :
نص التعليق * :
 



حمل تطبيق (كتابات في الميزان) من Google Play



اعلان هام من قبل موقع كتابات في الميزان

البحث :





الكتّاب :

الملفات :

مقالات مهمة :



 إنسانية الإمام السيستاني

 بعد إحراجهم بكشف عصيانها وخيانتهم للشعب: المرجعية الدينية العليا تـُحرج الحكومة بمخالفة كلام المعصومين.. والعاصفة تقترب!!!

 كلام موجه الى العقلاء من ابناء شعبي ( 1 )

 حقيقة الادعياء .. متمرجعون وسفراء

 قراءة في خطبة المرجعية : هل اقترب أَجلُ الحكومةِ الحالية؟!

 خطر البترية على بعض اتباع المرجعية قراءة في تاثيرات الادعياء على اتباع العلماء

 إلى دعاة المرجعية العربية العراقية ..مع كل الاحترام

 مهزلة بيان الصرخي حول سوريا

 قراءة في خطبة الجمعة ( 4 / رمضان/ 1437هـ الموافق 10/6/2016 )

 المؤسسة الدينية بين الواقع والافتراء : سلسلة مقالات للشيخ محمد مهدي الاصفي ردا على حسن الكشميري وكتابيه (جولة في دهاليز مظلمة) و(محنة الهروب من الواقع)

 الى الحميداوي ( لانتوقع منكم غير الفتنة )

 السيستاني .. رسالة مهدوية عاجلة

 من عطاء المرجعية العليا

 قراءة في فتوى الدفاع المقدس وتحصين فكر الأمة

 فتوى السيد السيستاني بالجهاد الكفائي وصداها في الصحافة العالمية

 ما هو رأي أستاذ فقهاء النجف وقم المشرّفتَين السيد الخوئي بمن غصب الخلافة ؟

 مواقف شديدة الحساسية/٢ "بانوراما" الحشد..

أحدث مقالات الكتّاب :


مقالات متنوعة :





 لنشر مقالاتكم يمكنكم مراسلتنا على info@kitabat.info

تم تأسيس الموقع بتاريخ 1/4/2010 © محمد البغدادي 

 لا تتحمل الإدارة مسؤولية ما ينشر في الموقع من الناحيتين القانونية والأخلاقية.

  Designed , Hosted & Programmed By : King 4 Host . Net