صفحة الكاتب : صالح الطائي

وأخير أدرك العرب معنى العرقنة
صالح الطائي

المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الموقع، وإنما تعبر عن رأي الكاتب.

أن يتطبع الإنسان والحيوان كل منهما بطباع الآخر وتصبح في منظومة سلوكهما مساحات  متشابهة أمرا يبدو شبه مستحيل، أما أن يتطبع شعب كامل بطباع حيوان دموي مفترس لمجرد أنه عاش مع هذا الحيوان حقبة من الزمن في حبس وقفص واحد فذلك من اكبر المستحيلات.
لكن المستحيل في بلداننا العربية يصبح ممكنا تحت وطأة حالات وظروف مفرطة الخصوصية والتفرد، لا توقع الحيوان تحت سطوة الشعب ليملي عليه ما يريد وإنما الشعب هو الذي يكون ضحية عسف وجور وقسر وإكراه وجبروت الحيوان، فيتطبع بطباعه ولا ينجح في تطبيع الحيوان على أي من طباعه البشرية. ولكم فيما كان يدور في العراق، وما يدور فيه اليوم، أسوة حسنة.
كتب "دوستويفسكي" الروائي الروسي الشهير عن تشابه سلوكي غريب حدث نتيجة علاقة حميمة بين رجل وكلب بسبب سنوات العيش المشترك، وإذا كانت رواية "مذلون ومهانون" قد جاءت لتتحدث بأسلوب سوفسطائي فنطازي عن نوع من التتناقل الثقافي بين هذين الكائنين المتباينين في القدرات الفكرية والعقلية، فإنها في الواقع المعاش لم تنجح في إقناع الناس بجدية إمكانية حدوث هذا الأمر، وبقيت مجرد رواية خيال جامح مغرق بالرمزية وطلاسمها الساحرة الساخرة، لكن مشكلة الرفض الفكري والمنطقي تتلاشى مع حقائق سرد الحالة العربية، لأن المعايشة القسرية والتطبع خلقا نوعا من التشابه السلوكي بين "البشر" الشعب المغلوب وبين الحيوان "القائد وزمرته" ليس لأن الشعب عرف الآخر وفهمه فحدث التناقل الثقافي نتيجة الفهم، بل لأن ثقافة الكبت والتخويف والتهديد والتعذيب الموروثة التي تربى عليها العرب هي الثقافة التي جعلت شعوبنا راضخة مستسلمة لا أبالية منعزلة منطوية على نفسها، كل فرد فيها يحمد الله حينما يأوي في المساء إلى فراشه أنه لا زال حيا حتى هذا اليوم، وأن هناك يوم عيش آخر قد يكون بانتظاره!!
بالتأكيد يوجد في موروثنا الفكري المتراكم ما يدفعنا للقبول بالاعوجاج لأننا شعوب أدمنت تمجيد الفتوات والشقاوات كقيم سامية "روبن هودية "  ينضح من جوانبها مفهوم الرجل "الرجل" وفق منظور "أنت رجل والرجال قليل" فالرجل وفق موروثنا هو من يكسر عين الآخر حتى ولو بأكره المحرمات ويفرض نفسه على الآخر حتى ولو بأقذر الطرائق، ويدفعه للخوف منه والإذعان لنزواته الشريرة!!
الرجل "الفتوة" نفسه الذي هو ابن شعوبنا ومن صلبنا يبقى حتى ولو اشتغل رئيسا للجمهورية وقائدا عاما للقوات المسلحة وأمينا عام للحزب الحاكم أسير هذا المفهوم والفهم فيدفعه ذلك إلى تمجيد الذات المرضي من خلال تنمية قدراته الشريرة بطرائق كسر العين ومصادرة قدرات الشعب التي استلبها تحت وقائع عدم توازن القوى!!
والشعب يتماهى مع تلك الحالة وينزل قطيعيا إلى سفالة مراحل الدونية البشرية الناهقة في صورة تبدو ترجمة واقعية لحوار رواية " دوستويفسكي" فيبقى خمسة وثلاثين عاما يسير بهدوء وسكينة بالطابور المنظم الدقيق إلى دكة المسلخ ليجز رأسه بدون رحمة، وحينما يلتفت وهو مقطوع الرأس إلى الوراء لا يجد عينا باكية عليه وإنما يجد الجماهير العربية تصفق لبطل العروبة ومحرر الأراضي المسلوبة وتلعن الضحية وتتهمها بالعمالة والخيانة والجبن، فلا يتمنى سوى أن يوارى جثمانه التراب لكي لا يرى هذا التقزز المذل!!
كان الشعب العراقي أول الشعوب العربية وعيا للمرحلة وأكثرها يقينا بضرورة تسقيط الفراعين والانعتاق، ولكنه رغم التضحيات الكبيرة التي قدمها عبر تاريخه النضالي المرير لم يجد يدا عربية واحدة تصفق له وتؤيد مطالبه، بقي وحيدا فريدا أمام إفتراسية حيوان ضار ينهش لحمه وعظمه بلا رأفة، ولم يسمع كلمة تطيب خاطره من أخ أو من صديق!!
اليوم بعد أن وصلت الشعوب العربية إلى مرحلة الوعي العراقي وتعرقنت وتمردت على هجينية التماهي (الإنساني الحيواني) وثارت لكرامتها، ثارت لكي تثبت لنفسها أن الإنسان إنسان والحيوان حيوان، ثارت لتصحح الخلط الشاذ في الهويات لتعود هوية الآدمي واضحة وهوية الحيوان واضحة. كانت قلوب العراقيين ودعواتهم صادقة.. وأمنياتنا بانتصارهم كبيرة .. فرحنا لهم .. صفقنا لهم .. أرسلنا لهم التهاني ولم نتذكر مواقف الأمس المخزية .. وسوف ندعوا بالنصر ونصفق ونؤيد ونهنيء كل شعب عربي آخر يثور على فرعونه ليتخلص من الظلم!!
لكن هل من ضمانة أن القائد الجديد لن يتحول إلى فرعون آخر أقسى من سابقه وأكثر تفرعنا من سلفه؟هل تضمن لنا دساتيرنا المتهرئة القابلة للتعديل والتجديد والتبديل حسب الرغبات إمكانية عدم المرور بتجربة العراقيين المرة؟هل هناك مصل واق ممكن أن نلقح به الحكام الجدد لنحميهم من الفرعنة ونمنعهم من التفرعن، أم أن كل ما حدث وما سيحدث في القريب العاجل مجرد سعي جديد لتغيير الصورة النمطية لأبطال رواية " دوستويفسكي"؟


قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat


صالح الطائي
 (للدخول لصفحة الكاتب إضغط هنا)

    طباعة   ||   أخبر صديقك عن الموضوع   ||   إضافة تعليق   ||   التاريخ : 2011/02/12



كتابة تعليق لموضوع : وأخير أدرك العرب معنى العرقنة
الإسم * :
بريدك الالكتروني :
نص التعليق * :
 



حمل تطبيق (كتابات في الميزان) من Google Play



اعلان هام من قبل موقع كتابات في الميزان

البحث :





الكتّاب :

الملفات :

مقالات مهمة :



 إنسانية الإمام السيستاني

 بعد إحراجهم بكشف عصيانها وخيانتهم للشعب: المرجعية الدينية العليا تـُحرج الحكومة بمخالفة كلام المعصومين.. والعاصفة تقترب!!!

 كلام موجه الى العقلاء من ابناء شعبي ( 1 )

 حقيقة الادعياء .. متمرجعون وسفراء

 قراءة في خطبة المرجعية : هل اقترب أَجلُ الحكومةِ الحالية؟!

 خطر البترية على بعض اتباع المرجعية قراءة في تاثيرات الادعياء على اتباع العلماء

 إلى دعاة المرجعية العربية العراقية ..مع كل الاحترام

 مهزلة بيان الصرخي حول سوريا

 قراءة في خطبة الجمعة ( 4 / رمضان/ 1437هـ الموافق 10/6/2016 )

 المؤسسة الدينية بين الواقع والافتراء : سلسلة مقالات للشيخ محمد مهدي الاصفي ردا على حسن الكشميري وكتابيه (جولة في دهاليز مظلمة) و(محنة الهروب من الواقع)

 الى الحميداوي ( لانتوقع منكم غير الفتنة )

 السيستاني .. رسالة مهدوية عاجلة

 من عطاء المرجعية العليا

 قراءة في فتوى الدفاع المقدس وتحصين فكر الأمة

 فتوى السيد السيستاني بالجهاد الكفائي وصداها في الصحافة العالمية

 ما هو رأي أستاذ فقهاء النجف وقم المشرّفتَين السيد الخوئي بمن غصب الخلافة ؟

 مواقف شديدة الحساسية/٢ "بانوراما" الحشد..

أحدث مقالات الكتّاب :


مقالات متنوعة :





 لنشر مقالاتكم يمكنكم مراسلتنا على info@kitabat.info

تم تأسيس الموقع بتاريخ 1/4/2010 © محمد البغدادي 

 لا تتحمل الإدارة مسؤولية ما ينشر في الموقع من الناحيتين القانونية والأخلاقية.

  Designed , Hosted & Programmed By : King 4 Host . Net