صفحة الكاتب : محمد الحمّار

فكرٌ بديل بلا بُدلاء، ومدرسة بلا علماء؟
محمد الحمّار

المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الموقع، وإنما تعبر عن رأي الكاتب.
 إنّ النخب المفكرة والسياسية في مجتمعاتنا العربية الإسلامية مسترسلة في السير على طريق منهجي معوجّ. وآخر المستجدات على هذه الحلبة (مع أننا نشكر من دعانا للحضور ونقدر جهوده ونشجعه) هي إقامة ملتقى بعنوان" نحو فكر إسلامي بديل" (تونس في 20-4-2013). أما ما يثبت صفة الاعوجاج بخصوص مثل هذه الملتقيات والندوات فهو التئام نقاش حول الفكر "البديل" دون حضور "البدلاء". وهي ذروة الأزمة المعرفية التي نعيشها.
ما من شك في أنّ مجتمعاتنا تلحّ اليوم على طلب "قراءة معاصرة للإسلام" وعلى تعدد مثل تلك اللقاءات. وهذا مما يستبطن أساسا رغبة هذه المجتمعات في الحصول على تصورات لنمطٍ راقٍ للحياة ولحقوق الإنسان وللحقوق المدنية ولوضعية المرأة ولغيرها من مكونات المجتمع العصري. إلا أنّ المشكلة هي أنّ استجابة النخب لهذا المطلب المستعجل كانت دوما مُجانبة للحاجة الحقيقية التي تسند الرغبة المجتمعية في التمتع بـ"قراءة معاصرة". وتتمثل المُجانَبة في كون هذه النخب لا فقط تمتنع عن تعليم المجتمع كيف "يصطاد السمكة" فـ"تعطيه سمكة"، وإنما الأخطر من ذلك أنّ"السمكة" المعطاة هي سمكة ميتة بمعنى أنها اصطيدت وهي في حالة موت (وهذا صنيع غير طبيعي، إذ إنه كان بالإمكان أن يكون طبيعيا لو أنّ السمكة اصطيدت وهي على قيد الحياة ثم ماتت على إثر اصطيادها).
صحيح أنّ المفكرين الدينيين والمفسرين والمجتهدين يحاولون تزويد الفرد والمجتمع المسلم بتصورات ورؤى ونماذج للحياة لكن هذه الأخيرة أضحت موادا غير صالحة للعصر، وذلك بسبب أنها لا تدمج الفرد والمجتمع في عملية التصور ثم الصياغة حتى يكون التطبيق مستطاعا وسهلا. و إدماج المسلمين في هذه العمليات بات ضروريا اليوم لأنه متناسب مع المدّ الإنساني التحرري أي مع روح العصر المطبوعة بقيم الحرية والديمقراطية تحديدا.
بدءً بالأصولية الدينية ومرورا بما يسمى بالفكر الوسطي وانتهاءً إلى الغلو الدهري والنُّفاتي، ترى معظم طروحات هؤلاء تتسم بالاستبداد العلمي، إن جاز التعبير. وهو استبداد مشابه لما أسماه بعض مفكرينا الكرام بالاستبداد الديمقراطي (عصمت سيف الدولة). وهو حجة على جهل النخب بما يريده المجتمع أكثر منه حجة على جهل المجتمع. إنه الجهل المنهجي، وهو نابع من الخلل المعرفي.
وللشروع في تصحيح هذه الرؤية الايبيستيمولوجية المنحرفة لا بدّ أولا وبالذات من صوم النص الديني والإمساك عنه وادخاره بِنيّة الرجوع إليه عند الاقتضاء (من طرف الأصوليين وأيضا من طرف الدهريّين على حدٍّ سواء) عوضا عن امتطائه كحجة للاستبداد بواسطة تفسيرات وقراءات مسقطة، من طرف أولئك وهؤلاء، على مجتمع راغب في التعلم لا في الخنوع للإسقاطات.
وصوم النص يعني الكف عن احتكار التفكير الديني من قِبل من درسوا العلوم الشرعية، مما يستوجب اللجوء إلى خدمات الفئات المتعلمة من ذوي الاختصاصات كافة كلما كانت هنالك ندوة أو ملتقى حول المسألة الدينية أو التفكير الديني (كما نقترح في هذا الباب اجتناب كلمة "إسلامي" للحديث عن فكر المسلمين لمّا يكون المتحدث منتميا إلى ثقافة المسلمين). فالنخب المتعلمة تعليما عصريا هي التي تعرف أفضل من سواها كيفية "اصطياد السمك". هُم البدلاء الشرعيون عن المشايخ و"رجال الدين" والمُكملون لأخصائيي "الحضارة الإسلامية". وإذا التقى العرفان الحديث مع العرفان الديني يحصل الإبداع. 
إنّ المجتمع التونسي، مَثلُه مَثَل المجتمع العربي الإسلامي بأكمله، مقتنع كل الاقتناع بدينه (مسلمة نقتبسها عن مالك بن نبي ونتبناها). لكن ما ليس المجتمع مقتنعا به هو القدرة على تفعيل الدين الحنيف بواسطة المعارف والعلوم المعاصرة (وهذه قناعة للطاهر الحداد صادفت أن تكون قناعتنا أيضا). فإذا كانت النخبة نفسها فاقدة لهذه الاستطاعة (التي أسماها الحداد "حياة التفكير")  فكيف يتجرأ عاقلٌ على اتهام الإسلام، معاذ الله (كما يفعل المغالون بالحداثة)، أو الحداثة (كما يفعل الأصوليون والإسلام السياسي)، أو المعارف والعلوم الحديثة نفسها (كما يفعل الكثير من الأصوليين ورموز وتابعي الإسلام السياسي)، ناهيك اتهام المجتمع بعدم الاكتراث بعمل النخب والحال أنّ هذه الأخيرة تكرس الانقسام بين "فكر حداثي" و"فكر إسلامي" وبين هذا الأخير و"الفكر" تحديدا؟
من هنا نتخلص إلى التشديد على أنّ عدم استطاعة النخب والعامة على الربط بين فهم الإسلام وتفسيره من جهة (وهو من باب المحصول الحاصل)، وتطبيقه من جهة ثانية (وهو ما يستدعي الكفاءات البشرية بتمامها وكمالها، والاختصاصات كافة) من جهة ثانية، هي بؤرة الجهل.
 وبالتالي فمن باب أولى أن يشكل اكتساب هذه الاستطاعة محورَ العملية التربوية والتعليمية مستقبلا. فالمدرسة التي لا تُعلم الناشئة كيف "يصطادون السمكة" وهي حية ترزق ليست مدرسة بقدر ما هي تكريس للفناء المعرفي والعلمي والمنهجي. وللغة دور كبير في ترسيخ السلوك الضروري لتمَلّك ذلك المنهج التطبيقي، في المدرسة وخارجها، و بالتالي في صياغة الفكر البديل

قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat


محمد الحمّار
 (للدخول لصفحة الكاتب إضغط هنا)

    طباعة   ||   أخبر صديقك عن الموضوع   ||   إضافة تعليق   ||   التاريخ : 2013/04/26



كتابة تعليق لموضوع : فكرٌ بديل بلا بُدلاء، ومدرسة بلا علماء؟
الإسم * :
بريدك الالكتروني :
نص التعليق * :
 



حمل تطبيق (كتابات في الميزان) من Google Play



اعلان هام من قبل موقع كتابات في الميزان

البحث :





الكتّاب :

الملفات :

مقالات مهمة :



 إنسانية الإمام السيستاني

 بعد إحراجهم بكشف عصيانها وخيانتهم للشعب: المرجعية الدينية العليا تـُحرج الحكومة بمخالفة كلام المعصومين.. والعاصفة تقترب!!!

 كلام موجه الى العقلاء من ابناء شعبي ( 1 )

 حقيقة الادعياء .. متمرجعون وسفراء

 قراءة في خطبة المرجعية : هل اقترب أَجلُ الحكومةِ الحالية؟!

 خطر البترية على بعض اتباع المرجعية قراءة في تاثيرات الادعياء على اتباع العلماء

 إلى دعاة المرجعية العربية العراقية ..مع كل الاحترام

 مهزلة بيان الصرخي حول سوريا

 قراءة في خطبة الجمعة ( 4 / رمضان/ 1437هـ الموافق 10/6/2016 )

 المؤسسة الدينية بين الواقع والافتراء : سلسلة مقالات للشيخ محمد مهدي الاصفي ردا على حسن الكشميري وكتابيه (جولة في دهاليز مظلمة) و(محنة الهروب من الواقع)

 الى الحميداوي ( لانتوقع منكم غير الفتنة )

 السيستاني .. رسالة مهدوية عاجلة

 من عطاء المرجعية العليا

 قراءة في فتوى الدفاع المقدس وتحصين فكر الأمة

 فتوى السيد السيستاني بالجهاد الكفائي وصداها في الصحافة العالمية

 ما هو رأي أستاذ فقهاء النجف وقم المشرّفتَين السيد الخوئي بمن غصب الخلافة ؟

 مواقف شديدة الحساسية/٢ "بانوراما" الحشد..

أحدث مقالات الكتّاب :


مقالات متنوعة :





 لنشر مقالاتكم يمكنكم مراسلتنا على info@kitabat.info

تم تأسيس الموقع بتاريخ 1/4/2010 © محمد البغدادي 

 لا تتحمل الإدارة مسؤولية ما ينشر في الموقع من الناحيتين القانونية والأخلاقية.

  Designed , Hosted & Programmed By : King 4 Host . Net