صفحة الكاتب : ستار عبد الحسين الفتلاوي

قصة قصيرة المغلول
ستار عبد الحسين الفتلاوي

 

قبل ان يفتح الباب الخارجي ، شعر بالتردد ، وبخوف غريب يراوده . ارتعشت يده التي تمسك المفتاح ، قال : من الواضح أن حكايات زوجتي قد أثرت فيّ . أعادت على مسامعي مراراً وتكراراً ، قصة العائلة التي مزقتها الفؤوس ، الأم الشابة وأولادها الثلاثة قتلوا بطريقة بشعة ، لماذا ؟ لان رب العائلة كان مديناً لأحدهم ببضع ملايين من الدنانير ، تساءل سلام حمادي في نفسه : من أين تنبع هذه الوحشية؟ هذه الرغبة البدائية لإنسان الكهوف في إيذاء الآخرين ، وبواسطة ماذا ؟ بواسطة فأس !! أين يا ترى ذهب موروثنا الديني ؟

قطعاً لو فكرنا في النهاية المحتومة التي تنتظرنا ، لو تحلينا بشيء يسير من تعاليم ديننا ، لما سمعنا بهذه الجرائم .... القتل العشوائي .... المفخخات التي تعصف بأرواح الخلق دون تمييز.

لقد امتلأت نفوسنا قيحاً كريهاً ، أزكمت أنوفنا عفونته ، فتحجرت الرحمة في قلوبنا ... هزائمنا ... خساراتنا ... حروبنا التي سرقت من الأحبة... الجلادون الذي يترصدون ضحكاتنا .. تواطئنا مع الموت ضد حياتنا .

مرضت أرواحنا مرضاً لا شفاء له .. غرباء .. مشوهين ، في بلد يستثقل خطواتنا وضحكات أطفالنا .. إيه منك يا بلد ، لم تأبه يوماً لهمومي ، وأشعلت النار في عمري.

أحس انه وقف طويلاً أمام الباب ، يولج المفتاح في قفل الباب ، ويُديرهُ مرة .. مرتين وأخرى ، قال : (ملاعين) أولئك الصينيين ، فهم يضعون لنا أقفالا لا تناظر خوفنا ، اخترق الخوف كل تحصيناتنا ، وبدء يداعب حقدنا الدفين ، الذي ورثناه مشحونا مع جينات أجدادنا الوراثية.

الغِل يمسك بخناقنا أكثر فأكثر ، فنتقيأ سما اصفرا يكفي لقتل فيل!

أول خطوة له في الخارج .. يواجهه الغبش الرمادي ، لا يدري أين سمع بهاتين الكلمتين؟ الغبش الرمادي .. الصبح الرمادي . كانت السماء قد هبطت بغيومها لتقبل الأرض ، ضباب ناعم كثيف يتغلغل في الحديقة التي زرعها بيده.

نقط حبات الفلفل الأحمر كانت واضحة ، يكمل وضوءه بسرعة، عشر دقائق تفصله عن طلوع الشمس ، يغلق الباب خلفه ، ويدير لسان القفل ثلاث مرات ، قال : الاحتياط واجب ، لا أدري ماذا سيكون حالي اذا فتحت عيني على شخص يشهر سلاحه بوجهي ، ويطالبني بمليون دينار ، او يقتلني انا وأطفالي ، لأني استطيع القول وبمنتهى الوضوح .. لا املك مليون دينار ، انا متجرد عن الماديات رغماً عن انفي.

تنحنح وهو يصف قدميه للصلاة ، كأنما يستعيد صوته ونبرته المنسية خلال النوم ولحظات ما بعد الاستيقاظ ، تنهال مشاكله وهمومه مرة واحدة مثلما ينهار كثيب رمل ، جروحه الغائرة في الأعماق تفتح أفواهها ويتحدث كل فمٍ بلسان ، كان أفكاره تنتهز لحظات صفائه .. تدهمه على غير رغبة منه . نبتة كريهة ومشوكة تعرش على روحه وقلبه.

ابتهل بعد صلاته ، راضيا عن نفسه لأنه صلى الفجر في وقته ، قال : (اللهم غير سوء حالنا بحسن حالك) ، نتمسك بمذلة بأتفه الأشياء ، ونلعن الدنيا جهارا وإسراراً ، نعجز عن تغيير أقدارنا ، وحينئذ نلجأ إلى الحيلة السمجة ، نرش عليها شيئا من البهارات ، لنعطيها نكهة مقبولة ، ونرضى بالمقدر والمقسوم.

يحدث نفسه بصوت مسموع : أنهكتك سنوات الحرمان ، وروحك استهلكت بشاشتها في الأيام الخوالي ، سنوات عمرك تركض بك نحو الخمسين ، شعرك الذي أصبح رمادياً .. الهالات السوداء تحت العينين وحليفا نومك ... الأرق والكوابيس .. ماذا بقي لك؟

بقي قليل من الأحلام ، وقامة منتصبة ، حتى لا يقال إننا ضعفنا ، بقي حرمان كثير لا يشبعه عمراً آخر بقدر عمرك.

بقيت سنوات مذله ، لا تمحوها أيامك المتبقية.

يتحفز الوحش الكامن في قعر بئر عميق ، ذلك الوحش الذي تربى على المرارة والخسارات المتكررة وأحلام بسيطة (لرجال قصار العمر) تأبى ان تتحقق!

الوجوه الملبدة بغيوم الشك ، تمطر على القلب مطراً اسوداً ثقيلاً .. تحترق كل المساحات الخضراء وينبت (الحلفاء) في الأرض اليباب تنغرز ابر الحلفاء في المناطق اللدنة من جسدك ، فتضج الروح المعطوبة بالشكوى .. لا

لا تصرخ .. فصوتك مبحوح ولسانك متخشب.

لا تبكي .. عيب فالرجال لا يبكون !

لا تخرج من صمتك ، فالثرثرة مهزلة لا تليق بوقارك!

لا تقف فأنت دوما متأخر!

يلملم سجادته بوهن ، ويتكأ على الأريكة التي خلفه ، قال : أشعر برغبة في البكاء ، لابد ان ازور سيدي الحسين ، لن استطيع المكابرة مثلما تفعل الكائنات الضعيفة ، الدنيئة في اغلب نياتها ، ؟؟؟؟؟ عروقي حتى يخرج هذا الغل من صدري .. سأبكي روحي المغلولة التي لم ولن تكون مثل أصحاب الحسين ... بقيت كائناً ضلامياً يجتر حذائه بصمت.

يفتح خزانة الملابس فيصدر بابها صوتا خفيفا لا يتوقع ان يوقظ ذلك الصوت زوجته النائمة وسط أطفاله .

المرأة وهي مغمضة العينين تقول : طبعا تحتار ماذا تلبس ؟

بدلت ان تجمع الفلس على الفلس وتشتري لنا بيت يلمنا ، تبعثر راتبك في شراء الملابس.

نظر بطرف عينه إلى المرأة المسطحة الوجه.

- عودي للنوم ، ليس هذا شغلك.

يختار البدلة ذات اللون الرصاصي ، قال : هي ملائمة لهذا الصباح الرمادي أي ربطة عنق ستختار؟

يختار ربطة عنق بنفسجية مشربة بخطوط سوداء ، ويبدأ بحزم بإجراءات شنق نفسه ، يفرق خديه وإبطيه برشات من عطر فرنسي.

أيام زمان ، عندما كان الدينار له قيمة ، كان يحلو له شراء علبة كاملة من عطر (بام) ... عطر لكل يوم ، ثلاثين علبة أنيقة بحجم راحة الكف .

قال : رائحة ذنوبنا تفضحنا ، لذا نحتاج ان نرش عليها قليلا من العطر .

يقف أمام المرآة ويعدل ربطة عنقه ، يداعب شعره الرمادي بالمشط ، يسهم بصره مستذكرا ، ماذا يسمى الرجل ذو الرجل الرمادي قديما.

أجاب متفكها ، اشمط...

يضحك من وقع الكلمة في أذنيه ، ويردها مرة أخرى .. اشمط..

يراقب وجهه في المرآة .. قسماته جامدة لم تستجب لضحكته.

قال : المهم لدي (ابتسامة النمر المتخاذلة) ! من أين تجيء هذه الكلمات؟

من دهاليز ذاكرة رجل يقترب من الخمسين .. ذاكرة صورية مؤقتة بين قوسين صحوة موت.

تربكه ملاحظته الأخيرة . قال : كمن يمضغ الكلمات .. وحقك ربي ما عشنا عمرنا مثل الاوادم!!

ينظر إلى أسفل قدميه . صرصار متجمد من برودة الصباح يسير ببطء .

يسحقه بإحدى قدميه ، متوقعا ان يسمع طقطقة قشرته او يشعر ببرودة احشاءة اللزجة ، يعد نفسه لتكشيرة الاشمئزاز المتوقعة في مثل هكذا حالة .. لكن شيئا من ذلك لم يحدث .

يضيء مصباح النيون .. لم يكن ثمة صرصار ولا يحزنون!

كانت بقعة سوداء في بلاطات الأرضية .

قال : الحمد لله ان أحدا لم يرني ، ولكن يا سلام هذه واحدة من علامات الكبر .. أصبحت أتوهم الأشياء .. عيناك تخدعانك ! إلى أين تسير بك الدنيا يا سلام حمادي؟

يخطو على السجادة الصوفية دون أي صوت . يفتح الباب ، غمغمة المرأة النائمة تأتيه مثل حشرجة : تأكد من إغلاق الباب ، لست مستعدة ان تسرق حاجياتي القليلة.

لم يجبها بشيء . اعتاد ان يسمع كلماتها عند خروجه صباحا ، يرتدي جوربيه ، مستندا بمؤخرته على الحائط ، يدس حذاءيه في حذائه اللامع . وقبل ان يفتح الباب يقرأ المعوذتين ، عن يمينه وعن شماله . يسير عدة خطوات في الشارع . البيوت لا تزال غارقة في النوم والضباب ، كأنها مرسومة بقلم رصاص ، وتنظر ان تمحوها ممحاة الدهر .

يمسح حبات الضباب الرقيقة عن زجاج ساعته . السابعة والنصف بالتمام .. الوقت المحبب لخروجه الصباحي . شيء ما ينغرز في ظهره ، يقول لنفسه : (انظر خلفك بغضب).

يجد جارته بكل حقدها .. جارته التي لم تسلّم عليه يوما . كانت تردد في اجتماعات النميمة النسائية : (شايف روحة شوفة) امرأة فارقتها كل اللطائف التي تتزين بها النساء .. الجمال .. الشباب .. الكلمات الحلوة .. ماذا يبقى ؟

يبقى كيان مشوه ، لا يستطيع ان يخفي قبحه . هو لم يكن الوحيد الذي يكره رؤيتها ، تقريبا كل أهل الشارع يتحاشونها ويتشاءمون من رؤيتها المقبضة – الجارة تصفق الباب المعدني بوجهه بحدة ، يكمل مشيته نحو الشارع العام ، محاولا ان ينسى سحنتها.

يدغدغه وحشه الصغير ، فتلتهب روحه بنيران غضبه ، قال مغمضا: (ماذا تفعل مثل هذه المرأة البشعة في شارع الحياة ؟ كانت في الماضي وكيلة للأمن . أما الآن فهي امرأة مؤمنة اعتمرت مرتين ، وزارت قبر السيدة زينب . ارتدت على رأسها خرقة بيضاء لتعلن برئتها من كل التهم المنسوبة إليها !

الناس اللطفاء يذهبون سريعا ومثل هذه (الدملة) المتقيحة تعمّر!

لماذا ؟ هل نسيها الموت؟

يزفر هواء رئتيه ثم يعيد استنشاقه بقوة . قال: استغفر الله على هذا الهذيان . رب انزل السلام على روح سلام المنهكة .

أضواء السيارات يمتصها الضباب . الرؤية ما زالت معدومة لأكثر من عشرة أمتار . يتفحص محفظته الجلدية السوداء . لم يكن فيها شيئا ذا أهمية . يحملها فقط للوجاهة .

يعبر الشارع وهو يتوقع .. لا بل الأصح يتمنى ان تدهسه سيارة ما ، وتفرشه على الإسفلت المبلل .

توقفت سيارة (الكيا) حشر نفسه في أول مقعد . احد الركاب يرتدي بلوزة مبقعة بالأسود والأبيض ويمتص سيجارته بشراهة . جو السيارة مختنق بالدخان وأنفاس الركاب . قال : أخي من فضلك افتح النافذة او أطفئ سيجارتك . 

المرأة التي تجلس خلفه ترفض قائلة : لا تفتح النافذة عيني الطفل يأخذ برد.

الرجل ذو البلوزة المبقعة يرمقه بنظرة حديدية . يسحق سيجارته تحت قدميه.

- أخي لماذا تنظر لي بحقد . انا لم اسبك ، قلت افتح النافذة لان الجو كان مختنقا بالدخان.

يستدير السائق ، وقد رسم على وجهه ابتسامة ذليلة . يضحك ببلاهة . ها ها ها ثم يصمت وهو ينظر إلى الشارع .

ينظر سلام حمادي في وجهه الذي لم يضع عليه كف ماء ليغسله من آثار النوم . لحيته مشعثة ، واليشماغ الذي يرتديه مغبر كأنه وجده في مزبلة .

هي ذات الوجوه تعود من رحلة تعبها الأبدي . تنفض عن نفسها تراب القبر . مكللة بالموت والمذلة .. محكومة بالاستسلام لقدر قسري .. تأكل .. تتناسل .. تنام .. تستيقظ ، دورة كاملة من حياة مثالية في رتابتها ، لكنها بلا طعم .

يشعر بشيء يثقل على قدمه ، فيسحبها ببطء وحذر . المرأة المواجه له سحقت حذائه اللامع ، يتأفف . امرأة في خريف العمر ، بدينة نوعا ما . طبعا وفق مقاييس ذوقه ، اما عند الآخرين فهي مربوعة . وجهها الأبيض دائري ومشرب بحمرة خفيفة . بشرتها متماسكة ، ولا اثر للتجاعيد فيها . ثوبها المورد يفضح أعلى صدرها ، وبرزت من تحت شالها خصلات من شعرها المشقر . ساقاها مربوبان يشف الجورب الأسود عن بياضهما . قال يحدث نفسه : كل ذلك هين ، لكن العجيب نظرتها الجامدة على وجهها ، وقد سكب البحر زرقته وصفائه في عينيها .

زرقة عينها واستقامة نظرتها تثير رعدة في مفاصله . يشعر انها تنتهك بقايا عفته . وحشه المتخفي يتمطى في الأعماق ، وهو يستمع النداءات الأثيرية التي يطلقها جسد المرأة.

تلتقي نظراتهم في ثواني الهدنة .. شكل المرأة مألوف ، يمكن ان يكون قد رآها في مكان ما ، ولكن أين؟

يتذكر .. آه ، إنها التفاحة التي تسوست أعماقها ، وبقيت خدودها حمراء .. جسد مصبوب من مرمر ابيض ، لم تؤثر فيه معاول الزمن ، جسد له طعم الغوابة الأولى .. المتكرر بلا انقطاع ، حتى تصل إلى القعر المظلم للجحيم.

ينهمر من عينيها شلال ماء ازرق ، فتغيب حواسه المبهوتة ، المترملة في الدم الأول للخطيئة ، تخضل أشجار روحه ويطلع منها ثمر كأنه رؤوس الشياطين.

ينطق صمتها ، تقول : لماذا لا تستجيب لي؟

- لن أبيع روحي لشيطانك.

- أنت عار على الرجال.

- وان يكن ، فرأيك لا يهمني.

المرأة العجوز الجالسة إلى جانبه تبتسم بخبث بفمها الادرد ولثتها الودية المحاطة بشفتين منتفختين.

يسحب قدمه بعنف ، تجفل المرأة وتشيح بوجهها عنه ، تسحب عباءتها لتغطي صدرها المنمش.

يتمخط الرجل ذو البلوزة المبقعة بعنف ، تستدير الوجوه كلها نحوه بحركة آلية ، تلتهمه العيون وتتقيأه ، ينزوي الرجل في مقعده يفتح النافذة ويبصق بوجه تعاسته.

تتوقف السيارة إلى جانب الطريق ، السائق ينتظر راكبا لن يجيء .

الساعة الثامنة الا عشر دقائق ، يصرخ سلام حمادي بحدة من نفس مغلولة أخي أخرتنا ، وراءنا دوام ، ماذا تنتظر ؟

يستيقظ السائق ببلاهته ، قائلا : اذا مستعجل انزل واركب سيارة أجرة.

المرأة القبيحة المقنعة بالجمال تدلي بدلوها : (فلوسكم قليلة!) ترمقه بنظرة ذات مغزى وتقول له بلغة مشفرة : زبائني أكثر مما تتصور ، كائنات متورهة برغبات أبدية ، أنت هو الغريب .. أنت الخروف الضال عن القطيع . بدلتك الرمادية وعطرك الفاخر ونظراتك المتنمرة التي تذودنا عنك ، كما تذاد غريبة الإبل عن المورد.

لو انك استجبت لندائي ، لكنت إلى جانبك...

تنتابه غربة قاحلة . يصرخ بها : لا ... اللحظات الآثمة المسروقة لا تناسبني . كرهت عالمكم المتهرئ والملفوف بالبؤس ، وبعض مظاهر التقوى الرخيصة.

تتوقف السيارة ، فينسل مرتبكاً ، تطارده العيون النهمة للتشفي ، يقف على الإسفلت المبلول ، يراقب السيارة وهي تختفي في سحب الضباب. التي انتهكتها أشعة الشمس.

مجرد ولد صغير

ستار عبد الحسين الفتلاوي

قصة قصيرة

الآن ، في هذه اللحظة بالذات ، يكون التلاميذ الأكبر على الطريق الترابي الضيق . متجهين إلى المدرسة ذات الأكواخ الطينية ، وأيديهم في جيوبهم وعيونهم مغبشة بالنوم . يضربون قطع الحجارة التي تعترضهم ، فيتصاعد الغبار إلى رؤوسهم الضائعة ، أحذيتهم المطاطية تصدر اصواتاً مضحكة تشبه أصوات مؤخراتهم الملوثة بالبراز.

الشارع يمتد متعرجا مع امتدادات النهر المتماهل في جريانه ، شجيرات (الغرب) بأوراقها العريضة المزرقة ، تعرش على جانبي النهر . ذكور السلاحف الكبيرة خانسة في ظلال الشجيرات   ، السرطانات الصغيرة بمقصاتها البيضاء اختفت في حفائر الجرف ، غير آبهة بوقع الأقدام المتعثرة فوقها . تنسحب غيمة بخار خفيفة عن وجه النهر . وتضيع في غيمة الغبار المتصاعدة من بين اقدام الاولاد .

تتمايل حقائب الأولاد المصنوعة من أكياس (الجنفاص) والمزينة بخيوط ملونة ، تتمنى لو تذهب معهم ، كي تقرص المعلمة خديك ، اذا قرأت لها نشيداً ، أصواتهم المواهنة تختلط ببكاء تلاميذ الصف الأول ، تبصق خلفهم عدة مرات ، بنت الجيران البلهاء تدير رأسها وتحك باستفزاز شعرها المغبر المليء بالقمل ، تلوح لك بمودة تتجاهل ان ترد عليها . هي اعتادت ان تقابلها بوجه خالٍ من أي تعبير لا تحبها ، ولا تكرهها ، دائما تبقي مسافة ثابتة بينكما .. مسافة فارغة محشوة بالصمت واللامبالاة . تقول لك : أنت تخب بقرتك الحمراء أكثر مني.

تشعر بأنك غير معني بان تجيبها ، حين كبرت قالوا لك : ان البقرة الحمراء هي التي غذتك بحليبها حتى فطامك . لان الحليب نشف عن صدر أمك او لسبب آخر لا تعرفه . ينطق شرود ملامحك المغبرة بالتراب : طبعاً أحب تلك البقرة فهي تعطيني حليبا وتجعلني امتطي ظهرها ، اما أنت مجرد بنت منبوذة . ماذا تعطيني؟

تأخذ يدك المتعرقة بين يديها ثم تضمها إلى صدرها: حيث اكبر سأكون أمك.. أليس ذلك جميلا؟

تسحب يدك بعنف : لا ليس جميلا ، انا لدي أم ولا احتاجك . 

- لكن هذه المرأة المظلمة ليست أمك ، انها لا تحبك الا تضربك كل يوم؟

تغمض عينيك وتتخيلها بفمها الواسع ، شفتيها المزرقتين ، ووجهها الطيني وابتسامتها البليدة التي لا تفارقها ، حتى وأنت ترشقها بالحجارة . تمسك بيد طرف ثوبها المرفوع إلى خصرها ، وبيدها الأخرى تضع حقيبتها على رأسها ، تخوض في المياه المخضرة للمبزل.

ترفع صوتها لتسمعك : انظر السمكات الصغيرات يتجمعن حولي آه .. إنهن يدخلن بين ساقي.

تراقبها بصمت وتكف عن رشقها بالحجارة ، كأنك أشفقت عليها 

تقول لك : اسمع لا تخبر أحدا بما رأيت انه سرنا.

اسمع زقزقة العصافير فأتذكر الفخاخ التي نصبتها لاصطياد القبرات . من يتفقدها الآن؟ لا أحد ، أخفيتها تحت طبقة من التراب وتركت حبات الحنطة ظاهرة لإغواء القبرات بالاقتراب منها.

الحجرة معتمة ، وأنا أشعر بخدر في ساقاي النحيلتين .. يداي مركونتان على صدري . أتصنع عدم الاهتمام بالعقوبة التي تنتظرني ، لم اخرج الأبقار من مراحها إلى المرعى . صوت رغائها الحزين يتردد في أذني.

أعاند نفسي في النهوض من فراشي . أفكر .. أمي الآن تحمل حزمة من أعواد الرز الجافة لتقدمها للأبقار الجائعة ، ترفض الأكل في البداية تدور مرة او مرتين حول المربط ، تهز رسنها ، يائسة من قدومي لاصطحابها إلى جنتها ، حيث العشب الطري اللامع بخضرته ، والتحرر من قيود رستها ، حبلها على غاربها ، وشيئا فشيئا يطفأ بريق الترقب من عيونها السوداء الكبيرة.

تتشمم الأعواد اليابسة . ترفع رؤوسها للمرة الأخيرة نحو الباب تنفث الهواء والمخاط من أنوفها الفاحطة ، ثم تبدأ بالتهام الأعواد في ذهول صامت . من المؤكد انها حاقدة علىّ ، ولو قد رأتني ستبقر بطني بقرونها .. آه لا أظن البقرة الحمراء ستسمح لي بامتطاء ظهرها العريض مرة أخرى.

يزداد صوت الخربشة في سقف الحجرة ، افتح عيني ، فأجدها تتلوى وهي متعلقة بإحدى ثنايا السقف ، تفقد توازنها وتسقط على الأرضية الصلدة للحجرة ، تسكن عن الحركة للحظات ، أتوقع انها ماتت ، ستكون خسارة كبيرة ان تموت حيتنا الرمادية.

كنت أراها بين حين وآخر متعلقة بعضادتي الشباك او تخطف قريبا مني لتنسل تحت الأغراض . أمي تقول دائما : لا تؤذوا هذه الحية وأكلت الجرذان عيوننا.

صحوت في إحدى الليالي مفزوعا ، وأطلقت صرخة مدوية ، شقت ستار السكون الجاثم على الحقول القصية ، كانت ثمة جرذ يحاول قضم إصبعي ، لم تفزعه صرختي . وبالكاد ضربته أمي فهرب .

منذ ذلك اليوم تصالحت مع هذه الحية الرمادية . تسامحت في وجودها بيننا مقابل ان تخلصنا من الجرذان بعد موسم الحصاد ، تراقبنا بصمت بعيونها الصغيرة ، في بعض الأحيان ، أمي تجلب لها اسماك الخشني النافقة في حقول الرز المغمورة بالماء.

تختفي الحية لأسابيع بعد التهام وجبتها من السمك.

تصدر عن الحية حركة خفيفة . ترفع رأسها وتنظر ناحيتي ، تنسل بهدوء تاركةً خلفها بقعة دم صغيرة.

أعاند نفسي ولا انهض من الفراش . انظر إلى فراش أخي الخالي ورائحة عفنة تفسد الهواء وتثقله . أمد يدي إلى عيني , أردت إزالة الرمص المتجمع في أطرافها ، لكن لا .. ستكتشف أمي إني كنت مستيقظا حين تجد عيني نظيفتين.

ينفتح الباب ، ويسقط ظل أمي على وجهي ، النور يجتاح الحجرة المعتمة أمي تقف وسط الباب المفتوح ، فيما كان النور يسيل من جانبيها إلى الداخل ، أتصنع الاستغراق في النوم . قلبي يدق بسرعة وأجفاني ترتجف . تمد يدها وتصفعني على رأسي . تغمغم من بين أسنانها المصفرة : فعلتها في الفراش مرة أخرى يا ابن الملعونة.

أوقفتني على قدمي ، ونزعت (دشداشتي) المبلولة إلى الأسفل . ارمق وجهها المتشنج من بين رموشي . فتصرخ بي : افتح عيونك يا ابن القحـ.....

خشيت ان تصفعني مرة أخرى . فتحت عيني ، منكساً رأسي انظر إلى عورتي الذاوية.

تلبسني (دشداشة) ثانية ، وأنا أترنح في وقفتي . تقودني من يدي إلى الخارج ، وتحكم بإغلاق باب الحجرة . تضع يدها تحت مؤخرتي واليد الأخرى خلف ظهري ثم ترفعني إلى صدرها ، أشم من أثوابها رائحة روث البهائم الذي دافته بالماء ، وصنعت منه أقراصا تركتها تحت الشمس لتجف.

تصل إلى كوخ النار . بابه المنخفض يحتم عليها ان تنحني . قدماي يخطان قرب ركبتيها . تنزلني من حضنها بسرعة ، كما لو انها تريد ان ترميني بالموقد.

بضع جمرات متوقدة ومخبوءة تحت الرماد . يرقد بينها قدر مسودُ الحواف فيه حليب مغلي ، وتطفو على سطحه قشرة صفراء.

انحنت أمي لتخرج محراث التنور . تزداد نحافةً وسواداً سنة بعد أخرى . يأتي صوت جدتي مهتدجاً مبحوحاً من زاوية الكوخ : إستيقضت يا مدلل أبيه ، تحدجني بنظرة مبهمة ، وتسند العجل الصغير ليرضع من ضرع أمه المنتفخ.

تشرأب أعناق الأبقار على صوت جدتي ، تتراجع البقرة الحمراء إلى الخلف ، فتصبح مؤخرتها فوق رأسي . ترفع ذيلها وتطلق تياراّ قوياً من بولها . أسبح في بولها الحار ، وتنطفئ جمرات الموقد ، يمتلأ قدر الحليب بالبول.

أيست من امتصاص قشدة الحليب اللذيذة. أرفس قوائم البقرة الخلفية فلا تتزحزح من مكانها ، وكأن الموضوع لا يعنيها ، كانت مصرة على إطلاق آخر دفعة بول من مثانتها . تهرول جدتي مشوحة بيديها ، وقد نتأت عروق وجهها الزرقاء ، وبان وشم ذقنها الأخضر وسط الغضون كريهاً ومرعباً ، تقول: لولا إصرار زوجة أبيك على بقائك لطردتك إلى أخوالك.

اهرب منها مجتازا عتبة الباب . أحدق في وجهها بغضب . اصفق بيدي بترنيمة سريعة ومستفزة . اردد : (الغراب اخذ منك حلاتك والبومة حماتك...)

أعيد ترديد الكلمات بسرعة أكثر . تركض نحوي كأنها جرادة تقفز فوق عشب كثيف . اقفز مرتين في الهواء زيادة في استفزازها . أطلق ساقي للريح ، وأنا اشعر بالخزي من (دشداشتي) المبلولة ببول البقرة . أتوقف عند نخلة الخضرواي القصيرة ، أتسلقها مستعينا بالكرب اليابس . اجلس على إحدى السعفات ، فتحرقني مؤخرتي المحصفة . تنغرز بعض الخوصات المدببة في أردافي . التقط حبات التمر الناضجة ، ثم انفخ الغبار العالق بها ، والتهمها دون ان امسح الدموع المتجمعة في عيني . وفي الأسفل المح كلبتنا ، وقد لبدت بين الفسائل المتشابكة ، كانت منهمكة تلاعب جرائها العمياء ، وتوجهها ببوزها الأسود إلى امطائها الممتلئة بالحليب.

 


قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat


ستار عبد الحسين الفتلاوي
 (للدخول لصفحة الكاتب إضغط هنا)

    طباعة   ||   أخبر صديقك عن الموضوع   ||   إضافة تعليق   ||   التاريخ : 2013/03/16



كتابة تعليق لموضوع : قصة قصيرة المغلول
الإسم * :
بريدك الالكتروني :
نص التعليق * :
 

أحدث التعليقات إضافة (عدد : 1)


• (1) - كتب : فراس ، في 2013/03/17 .

جميل جدا عندما اقرأ لك ياستار اشم رائحة الريف واتيقن ان بقايا طين المشخاب لا زالت عالقة في روحك, صدقني ان قلت لك انك تكتب ما افكر به تنكأ ذاكرة جيل توهم ان له مكانا في مساحة الخراب الزمنية التي تأكل كل ما لاح لها بين المستهل والخاتمة, لا زلت مجنونا ياستار ولا زلت الوحيد الذي استطيع ان اقول عنه صديقي الوحيد, كم انا مشتاق اليك.
صديقك واخوك فراس




حمل تطبيق (كتابات في الميزان) من Google Play



اعلان هام من قبل موقع كتابات في الميزان

البحث :





الكتّاب :

الملفات :

مقالات مهمة :



 إنسانية الإمام السيستاني

 بعد إحراجهم بكشف عصيانها وخيانتهم للشعب: المرجعية الدينية العليا تـُحرج الحكومة بمخالفة كلام المعصومين.. والعاصفة تقترب!!!

 كلام موجه الى العقلاء من ابناء شعبي ( 1 )

 حقيقة الادعياء .. متمرجعون وسفراء

 قراءة في خطبة المرجعية : هل اقترب أَجلُ الحكومةِ الحالية؟!

 خطر البترية على بعض اتباع المرجعية قراءة في تاثيرات الادعياء على اتباع العلماء

 إلى دعاة المرجعية العربية العراقية ..مع كل الاحترام

 مهزلة بيان الصرخي حول سوريا

 قراءة في خطبة الجمعة ( 4 / رمضان/ 1437هـ الموافق 10/6/2016 )

 المؤسسة الدينية بين الواقع والافتراء : سلسلة مقالات للشيخ محمد مهدي الاصفي ردا على حسن الكشميري وكتابيه (جولة في دهاليز مظلمة) و(محنة الهروب من الواقع)

 الى الحميداوي ( لانتوقع منكم غير الفتنة )

 السيستاني .. رسالة مهدوية عاجلة

 من عطاء المرجعية العليا

 قراءة في فتوى الدفاع المقدس وتحصين فكر الأمة

 فتوى السيد السيستاني بالجهاد الكفائي وصداها في الصحافة العالمية

 ما هو رأي أستاذ فقهاء النجف وقم المشرّفتَين السيد الخوئي بمن غصب الخلافة ؟

 مواقف شديدة الحساسية/٢ "بانوراما" الحشد..

أحدث مقالات الكتّاب :


مقالات متنوعة :





 لنشر مقالاتكم يمكنكم مراسلتنا على info@kitabat.info

تم تأسيس الموقع بتاريخ 1/4/2010 © محمد البغدادي 

 لا تتحمل الإدارة مسؤولية ما ينشر في الموقع من الناحيتين القانونية والأخلاقية.

  Designed , Hosted & Programmed By : King 4 Host . Net