صفحة الكاتب : محمد الحمّار

لا للتفريط العربي في الانقلاب الإيديولوجي الحاصل في تونس
محمد الحمّار

المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الموقع، وإنما تعبر عن رأي الكاتب.
من الآثار الخطيرة والطيبة جدا لثورة الكرامة في بلادنا أن مُنيت المنظومة الإيمانية المقلوبة (والتي شدّدتُ في عديد المناسبات أنها كذلك) (1) بأقوى ضربة تمنيتُها لها منذ بدأتُ أفقهُ في الفكر. وقد تمّت هذه الضربة الاستعجالية والوقائية باتجاه هز تلك المنظومة ودفعِها دفعًا نحو الإرساء على "رجليها" (ولا أدري بعدُ إن كانت هنالك علاقة تناظرٍ أو غيرها بين هذا الوضع والوضع الذي كان سائدا بين منظومتَي كلٍّ من كارل ماركس وهيجل).
 
باختصارٍ لا يُقصدُ منه الاختزال، أقول عن الوضع العقدي السابق للثورة، والذي كان ولا يزال يمثل أمّ المعارك الفكرية لديّ، إنه كان يتجلى في خطأ تقديري مرَضي، صادر عن عامة المسلمين تُجاه الفكر السياسي اليساري، لا تقدِر على وصفِه، بلغة ثقافتنا، إلاّ كلمات مثل "الإثم" أو "الذنب".
 
لم أكُن أتصوّر، كما لم يكن احدٌ يتصور حدوث ثورة في تونس، أنه سيأتي اليوم الذي سأستطيع فيه أن أحسّ عن كثب وفي الواقع الملموس بأنّ الحدث (انتفاضة البوعزيزي وثورة الكرامة)  سوف يسهل بحول الله استساغة المؤمنين لمفهوم عملتُ ولا زلتُ أعملُ من أجل بلورته في هذه الحقبة من تاريخ العرب والمسلمين المُعاصرة (وهي حقبة "ما قبل سياسية" ؛ وأتحمل مسئوليتي في ما أقول) : أن " ليس من العار أن يكون المؤمن من أهل اليسار"؛ بل بالعكس أنّ "من العار أن لا يكون مؤمنٌ من أهل اليسار". كيف ذلك؟
 
إنّ "اليمين" في الإسلام كل ما يحبّه الله ويرضاه: الناس الأبرياء يوم القيامة يُؤتون كتابهم بيمينهم؛ اليد "اليمنى" هي التي نسلّم بها؛ وأداءُ اليمين يتمّ باليد "اليمنى"؛ وهي اليد التي من المحبّذ أن ننجز بها الأعمال مُفيدة و الصالحة، من أكل وشرب وغيرهما.
 
أمّا "اليسار" في الإسلام فيرمز إلى القبح: أهل اليسار هُم ضمنيا من لا يؤتون كتابهم بيمينهم؛ والمسلمون لا يُقسمون بـ"اليسار"؛ وما من شك في أنّ اليد اليسرى، في أذهان المؤمنين، هي التي ننجز بها الأفعال الرديئة أو المنكرة أو القذرة، حتى لو كان المرء مخلوقا يساري اليد، أشول بالكتابة والأكل؛ وغرابة هذا الموقف الأخير المناوئ لليسار (الخَلقي) دليل على الشبهات التي ينطوي عليها الموقف، وإنذار بلزوم الحذر من مغبة التعميم في اتخاذ مثل هذا الموقف المُناوئ لكل يسار.
 
فلنحاذر إذن. إنّ المفارقة التواصلية، الناتجة عن سوء فهم وسوء تفاهم ("الاحتباس التواصلي") هي التي كانت، قبل ثورة التحرير والتنوير والتسيير، واحدة من مُبطلات الفهم العام أمام الذكاء العربي والإسلامي العام؛ لأنّ المشكلة كانت عويصة ومُستعصية حتى على من تجرّأ على الإشارة إليها، ولأنها تغلغلت في اللاوعي إلى أن ارتقت إلى رُتبة داءٍ يفتك بالوجود فيُزيّفُه، ويغمر جوهر الإنسان عموما، والإنسان المؤمن بالتوحيد على وجه التحديد، كما دفن محمد البوعزيزي نفسه حيا. 
 
وتلك مفارقة، لو فك الشباب المؤمن في تونس وفي كافة الوطن العربي والإسلامي رموزها انطلاقا من تناولهم الرصين لدروس ثورة تونس، كما سأحاول تبيينه في ما يلي وذلك بمحاولة الاستئثار باهتمامهم، لدَخلوا جنة الأرض، الأمر الذي ربما سيُمهد لهم الطريق لكي يعملوا من أجل نيل رضا الله ودخول الجنّة.
 
إنّ "اليمين" في السياسة هو الاعتياش من رأس المال على حساب عرق جبين المستضعفين؛ وهو وأكل مال اليتيم و تعاطي الربا والقمار؛ وكل الأشكال التي أدت إلى تجويع البوعزيزي والآلاف من البوعزيزي، ومنه إلى الإطاحة التاريخية بالحُكم البائد والسلطة الهاربة.
 
أمّا "اليسار" في السياسة فهو مساندة المستضعفين والفقراء والمساكين والعمال (عُمال مناجم جهة 'قفصة' جنوبي البلاد، و استبسالهم قبل سنتين، في التعبير عن غضب دفين قد مهّد، من دون أدنى شكّ، للثورة)؛ واليسار هو الوقوف إلى جانب مَن لا شغل لهم، بل الحيلولة دون أن تكون أية منظومة اقتصادية مستقبلية مكرسة لاستبعاد الضعاف على حساب الأقوياء بالتقويم الاجتماعي الدرويني غير العلمي من الدورة الحياتية الجماعية (حاشى أن يكون شارلز دروين مُنظرا لمثل ذلك الإقصاء، وحاشى أن يكون علمه ضالعا بطريقة علمية في ذلك) ؛ واليسار هو العمل على تقسيم الثروات بالعدل سواء بإدراج الزكاة كآلية في منظومة اقتصادية واجتماعية متماسكة أو، بالإضافة إلى ذلك، باستنباط الوسائل الكفيلة بإعادة توزيع الثروات ثم صَهرها في نفس المنظومة، وما إلى ذلك من العمل الصالح.
 
فلو فهم الشباب المؤمن هذا التقاطع أولا، ثم لو عرف كيف يسوّيه نحو الاستقامة حيث يصبح اليمين هنا مساندا لليمين هناك واليسار هنا مساند لليسار هناك، لأصبحت تونس أوّل بلد عربي مسلم يَقلب التاريخ ويُرسي قاطراته على سكة طموحاته وتطلعاته الجماعية، التي هي جزء لا يتجزأ من الحلم العربي والإسلامي .
 
في سياق العمل النضالي اليومي، تجدر الإشارة إلى أننا اليوم في مستهل عملية إعادة تنصيب منظومات الحياة العامة في تونس. لكن الخطير في الأمر هو أنّ التنصيب لا يتمّ الآن بالدعم الذي أراه ضروريا من طرف حركة تنوير بلا هوادة، لا يمكن أن تهدأ إلاّ لمّا  يسقط النظام البائد بطمّ طميمه من الأذهان. نحن نعيش زمن تواصل"الفوضى الخلاقة" التي تلَت زمن التحرر و الكرامة. والتنصيب لازم لكي تكون الفوضى خلاقة بالفعل. وللغرض يتوجب على الشعب عامة وعلى الشباب خاصة أن يُصحّح تصحيحا واعيا لمعادلة يمين/يسار السالف طرحها.
 
ولن يكون لهذا التصحيح معنى دون اندراج النخب الشبابية العربية أيضا(على الأقل) في المنظومة الفكرية الانقلابية المشفوعة بأعمال التركيب والتنصيب للمؤسسات. وليست هذه دعوة للثورة بقدر ما هي دعوة للتفكير الثوري الذي من شأنه أن يجهز الأرضية اللازمة لإنجاز التحولات الاجتماعية العميقة التي يأمل في تحقيقها كل عربي وكل مسلم في مجتمعه.
 
عندئذ لن تصمد فكرة إسلامٍ سياسي زعماؤه لا يَدْرُون أنهم في غياب التسوية الفكرية لمثل هذه القضية المطروحة، فإنهم في طريق مفتوح، وهُم اختاروا هذا الطريق عن حُسن نية لا محالة (لكن هل النية كافية للخلاص العام؟)، لتكريس العبودية بواسطة تكديس رأس المال وتشجيع تراكم الثروة. كما لن يبقي حزب شيوعي واحد ولا حزب يساري واحد في بلاد المسلمين يستبعد الإيمان بالله وعقيدة التوحيد من حساباته.
 
 بل من واجب منظري اليسار السياسي من هنا فصاعدا، وهذا درس ذو شأن من دروس الثورة العظيمة (إن أردنا لها العظمة) أن يتعاونوا مع منظري الفكر السابق للسياسة، بكل تواضع وبعد رفتٍ نهائي لأشباح الاعتداد الموصوف وأفكار التشدد الإيديولوجي والتشبث بمسلّمات تحطمت منذ تحولات أوروبا الشرقية في سنة 1989. من واجبهم الاستلهام من ما يُطرحُ من مقاربات تجريبية ميدانية (2)، غير ناسين أنّ ثورة البوعزيزي انقدحت من التجربة (تجربة بيع الخضر في الطريق العام رغم الشهادة والآلام).
 
 وسعي اليسار السياسي إلى التعاون سيكون عند البشر مشكورا وعند الله مذكورا، ناهيك أنّ المشروع الفارض نفسه مستقبلا، لو تمت استساغة آثار التصحيح، تصحيح معادلة يمين/يسار، سيَسهُل إنجازه  من باب أضعف الإيمان (لدى غير المؤمنين)، كما من باب أقوى الإيمان (لدى المؤمنين). ومشروع الخلاص الأكبر هو: علمنة عقيدة التوحيد أي تصريفها في الشأن العلمي، المعرفي والتجريبي. 
 
فثورة تونس أكدت أن العَلمانية (المعروفة عندنا باللائيكية) انتهت بقوّة الفعل ولم تبقَ إلاّ بقوة القول (القول غير المتسق مع الفعل).  ولم تعُد "العلمانية" تعني من هنا فصاعدا الفصل بين الدين والسياسة، بل الحركة الفكرية الرامية إلى صهر ما نُسف من الدين، على امتداد العقود، أو ربما القرون، في داخل العلم. ولا أعتقد أنّ مثل ها التصوّر سيضرّ بوجود غير المؤمن، وحتى بوجود الكافر، أو سيُعطل الارتقاء الحضاري لديهما، جنبا إلى جنب مع المؤمن.
 
وأملي أن يتمّم هذا شباب الشعب التونسي حينئذ، وبالاستعانة بمهارات الشباب العربي والمسلم في استساغة ما يجدّ من الأفكار، قلبَهُ للميزان الإيديولوجي العالمي الذي استهلّه شباب تونس بثورة الكرامة. فالثورة لن تنتهي لا في تونس ولا في بلاد العرب والمسلمين ولا في العالم إلا عندما يتحقق ذلك الانقلاب بالتمام وبالكمال.
 
محمد الحمّار
 
مؤسس"الاجتهاد الثالث": منهاج المسلم المعاصر الآن وهنا.
 
 
(1) "لسنا يمينا ولا يسارا، فماذا نكون وكيف نكون؟"
 
 
(2) "الأسس النظرية للفهم الميداني للإسلام"
 
 
 
 
 

قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat


محمد الحمّار
 (للدخول لصفحة الكاتب إضغط هنا)

    طباعة   ||   أخبر صديقك عن الموضوع   ||   إضافة تعليق   ||   التاريخ : 2011/01/26



كتابة تعليق لموضوع : لا للتفريط العربي في الانقلاب الإيديولوجي الحاصل في تونس
الإسم * :
بريدك الالكتروني :
نص التعليق * :
 



حمل تطبيق (كتابات في الميزان) من Google Play



اعلان هام من قبل موقع كتابات في الميزان

البحث :





الكتّاب :

الملفات :

مقالات مهمة :



 إنسانية الإمام السيستاني

 بعد إحراجهم بكشف عصيانها وخيانتهم للشعب: المرجعية الدينية العليا تـُحرج الحكومة بمخالفة كلام المعصومين.. والعاصفة تقترب!!!

 كلام موجه الى العقلاء من ابناء شعبي ( 1 )

 حقيقة الادعياء .. متمرجعون وسفراء

 قراءة في خطبة المرجعية : هل اقترب أَجلُ الحكومةِ الحالية؟!

 خطر البترية على بعض اتباع المرجعية قراءة في تاثيرات الادعياء على اتباع العلماء

 إلى دعاة المرجعية العربية العراقية ..مع كل الاحترام

 مهزلة بيان الصرخي حول سوريا

 قراءة في خطبة الجمعة ( 4 / رمضان/ 1437هـ الموافق 10/6/2016 )

 المؤسسة الدينية بين الواقع والافتراء : سلسلة مقالات للشيخ محمد مهدي الاصفي ردا على حسن الكشميري وكتابيه (جولة في دهاليز مظلمة) و(محنة الهروب من الواقع)

 الى الحميداوي ( لانتوقع منكم غير الفتنة )

 السيستاني .. رسالة مهدوية عاجلة

 من عطاء المرجعية العليا

 قراءة في فتوى الدفاع المقدس وتحصين فكر الأمة

 فتوى السيد السيستاني بالجهاد الكفائي وصداها في الصحافة العالمية

 ما هو رأي أستاذ فقهاء النجف وقم المشرّفتَين السيد الخوئي بمن غصب الخلافة ؟

 مواقف شديدة الحساسية/٢ "بانوراما" الحشد..

أحدث مقالات الكتّاب :


مقالات متنوعة :





 لنشر مقالاتكم يمكنكم مراسلتنا على info@kitabat.info

تم تأسيس الموقع بتاريخ 1/4/2010 © محمد البغدادي 

 لا تتحمل الإدارة مسؤولية ما ينشر في الموقع من الناحيتين القانونية والأخلاقية.

  Designed , Hosted & Programmed By : King 4 Host . Net