صفحة الكاتب : د . افنان القاسم

القصص الأخيرة لأفنان القاسم الكابوس الثاني
د . افنان القاسم

  الطوابق
   لم أكن أطيق الذهاب إلى السوبرماركت، رغم وجوده على بعد خطوتين من العمارة التي أسكن فيها. كان ذلك بسبب المصعد المعطل، فنزول الطوابق الأربعة ليس كصعودها. صعودها مرة واحدة في اليوم كان أمرًا محتملاً، أما مرتين، أما ثلاث مرات، أما أربع مرات أو خمس مرات، وأحيانًا ست مرات، وسبع مرات، وثماني مرات، وتسع مرات، وعشر مرات، ومائة مرة، وألف مرة، وعشرة آلاف مرة، مائة ألف مرة، مليون مرة، مليار مرة، عشرات المليارات، مئاتها، آلافها، فالصعود إلى جهنم بكثير أهون. موزع البريد لا يمر أبدًا في ساعة محددة، وأنا أفضل ألا أطلب من كليوباترا، البوابة الخنثى، إصعاد بريدي مقابل بعض الملاليم، لأن عينها فارغة هذه الكليوباترا. لديها زوجاها، سيزار، الزنجي، وأنطونيو، الإيطالي، ومع ذلك، كل الرجال لا يكفونها. اطلبني كل ما تشاء، موسيو شابان، كانت تلهث، وهي تخرج من شقتها الأرضية لتلتصق بي. موسيو شعبان، أصححها. موسيو شع... وتتنحنح، موسيو شع... وتسعل، موسيو شع... موسيو شابان. موسيو شعبان، أصيح، فيجيء صوت سيزار من الداخل: موسيو شعبان. لقد قالها زوجي، تقول باسمةً. أيهما؟ أنطونيو؟ سيزار، يقول الرجل الأسود، وهو يطل من الباب بمشلحه النسائي. موسيو شعبان، يعيد القول. ومن الداخل، أسمع صوت أنطونيو: جميل أن تسأل عني، موسيو شعبان. أمد نصفي الأعلى من الباب باحثًا عنه، فيرفع لي يده عبر المرآة، وهو يتزوق، ويدخن، عاريًا: كوكو! ادخل، موسيو شابان، تقول كليوباترا، وهي تشدني، بينما يلتصق سيزار بي، ويدفعني، وهو يغنج: نعم، ادخل، بالله عليك أن تدخل، موسيو شعبان، يا حبيبي! وبعد الظهر، هناك الكأس التي أشربها في البار. كانت لدي كل أنواع الكحول، ولكن كأس النبيذ التي أشربها في البار المعتم الفائح برائحة العطن وروائح أخرى عفنة يعجز المرء على التمييز بينها، كانت أروع كأس في الوجود. ليس بسبب النادلة الشابة، جاسمين، أنزل الطوابق الأربعة بعد الظهر. كنت أحب ردفيها، هذا صحيح، لكني لم آخذها منهما كما يفعل باقي الرواد بين كأس وأخرى في المرحاض تحت. رائحة عطنة رائحة العناق، إلا أنها رائحة شهية. ثم ذاك العطر الذي تسكبه على ردفيها، جاسمين، عطر من النوع الرخيص، لكنه ذو رائحة مهولة. كنت أنتصب أحيانًا على شمه، لكني لم أترك نفسي مرة واحدة تسقط في حبائل إغوائها، جاسمين، فتسخر بي العجوز أوديت، صاحبة البار. لا تقل لي إنك... كانت تقول على مسمع الجميع، فيضحك كل من هم في البار. لا أقل لك إني ماذا؟ أسأل، وأنا أبتسم، فأنا أعرف قصدها. خذها على حساب البيت، موسيو شابان. اتركيه لحاله، تهمهم جاسمين. تعالي، جاسمين، أطلب منها. لماذا أتركه لحاله؟ تسأل العجوز أوديت. اقتربي، جاسمين، أطلب منها من جديد. قولي لي لماذا أتركه لحاله؟ تعود العجوز أوديت إلى السؤال. اقتربي، بالله عليك، جاسمين، أقول هذه المرة، وأنا أشدها من ذراعها. لماذا أتركه لحاله؟ لماذا أتركه لحاله؟ تردد الشمطاء أوديت. هكذا، تهمهم جاسمين، فقط، اتركيه لحاله. أكون قد أخذتها بين ذراعيّ، وقبلتها من خدها على ضحكات الحاضرين الذين ينفخون سجائرهم أو يسحقونها في مَنفضات هي في الواقع ساعات حائط محطمة، لكنها تفلت مني، وتهرب خلف المشرب لتخفي دمعها. كنتُ قذرًا بالفعل مع جاسمين، لم أكن أعطف عليها كغيري من الرواد، ولأعوضها عن ذلك، كنت أترك لها الكثير من البخشيش، أكثر من ثمن الكأس التي أشربها كنت أترك لها. وآخر مرة أنزل الدرج وأصعده في الليل، عندما لا يأتيني النوم، أنزل الطوابق الأربعة لأتمشى، ثم لأجلس في الحديقة. رائحة باريس في الليل عطنة لذيذة، في الشتاء خاصة، رطوبة الليل شيء آخر في باريس، كرطوبة الطين المشبع بالبول رطوبة الليل في باريس. أعمل على ألا أبول طوال الليل، لأفرغ كل مثانتي في طين الحديقة، فأشم رائحة باريس، وأتنهد. أعب الرائحة العطنة، كألذ رائحة، الرائحة العطنة، كرائحة فخذين لا تغتسلان. كانت طريقتي للاحتيال على الأرق، لأنني كنت أذهب نائمًا بعد ذلك كالطفل المذنب. لم أكن وحدي من يحتال على الأرق بهذه الطريقة، فكلما كنت أصل إلى الحديقة، كان شخص يغادرها، وكأنه يتحاشى رؤيتي له، لم أكن أعرف، أو أنه يضيق من مشاركتي بعض الليل وإياه.
    فتحت ثلاجتي لأرى ما ينقصني من طعام وشراب، كان ينقصني كل شيء. يا دين الرب، همهمت. سحبت عربتي، واتجهت إلى باب الخروج الذي كان مفتوحًا على مصراعيه. كانت شقتي تمتد كباقي الشقق على كل الطابق الرابع، كانت لكل طابق شقة واسعة، فالعمارة قديمة، كانت العمارة فندقًا خاصًا من الفنادق الخاصة التي بناها الأخَوَان بيرير في أواسط القرن التاسع عشر غير بعيد من المنتزه الشهير منتزه مونسو. أدخلت مقعدي المنجد، وهممت بإغلاق الباب، لكني قررت أن أتركه مفتوحًا. أمسكت حبال المصعد، وهززتها بحنق، وأنا أنظر إلى علبته الراسية في الطابق الأرضي. سمعت ضربات الحاسوب في الطابق الخامس والأخير، وصوت جورج ساند، وهي تقرأ أول بأول ما تكتب. رفعت رأسي، وأنا أفكر في الصعود لأراها. لكني نزلت الدرج بقدم مترددة، وفي الأخير، قررت الصعود. لم تكن تقفل عليها الباب، مثلي تمامًا. اختلست النظر إليها، فبدت لي أول ما بدت ساقاها من تحت المكتب. كانت في قميص النوم. راحت ترفع قميص نومها عن فخذيها، وتحكهما بأصابعها بنعومة، ثم تعود إلى الضرب على الحاسوب، وهي تقرأ بصوت عال: حبيبي المتلصص الجبان تركته يلتهم فخذيّ بعينيه من مخبئه... وتحكهما بأصابعها بنعومة، ثم تعود إلى الضرب على الحاسوب، وهي تقرأ بصوت عال: لماذا لا يأتيني بيديه، بذراعيه، بثدييه، بشفتيه، بكل جسده، لماذا لا يسقط عليّ كما تسقط الصواعق على الشجر وتدمرها... وتحك فخذيها بأصابعها بنعومة، وتسير بيديها إلى ما بين فخذيها، وتتأوه، ثم تعود إلى الضرب على الحاسوب، وهي تقرأ بصوت عال: الحقيقة أنني أرعبه بجمالي، فجمالي ليس دنسًا، جمالي جمالٌ ورعٌ، وشعوري شعور الحب والإجلال... وهذه المرة راحت تحك فخذيها بأصابعها بخشونة، وتحكهما هما ما بينهما، وهي تصرخ لاهثة، مما جعلني أنسحب بأقصى سرعة.
    وأنا أمضي بالباب المفتوح لشقة الطابق الثالث، لمحت سالومي، وهي تقص شعر أبيها، وتتابع، في الوقت ذاته، مسلسل نيران الحب. نظرت إلى ساعتي، فلم يكن موعد المسلسل. إنه بابا، قالت سالومي دون أن تلتفت إليّ. بابا، همهمتُ. انفجرت سالومي ضاحكة. ليس كما تفكر، سارعت سالومي إلى القول. ادخل، موسيو شابان، قال الأب. سَجَّلَ لي بابا الحلقة الأخيرة، أوضحت سالومي. لماذا لا تقص شعرك، موسيو شابان؟ سأل الأب. ليس الآن، همهمتُ. تعال في الوقت الذي تشاء، قالت سالومي، وهي تواصل النظر إلى التلفزيون عندما صاحت فجأة: بابا، هل رأيت ما فعل بها، بابا، لماذا لم تقل لي؟ وراحت سالومي تبكي. لماذا كل هذه الخيانة؟ خونة كلهم الرجال. بابا، أليس كذلك؟ الرجال كلهم خونة... سالومي، لا تبكي، يا حبيبتي، همهم الأب، وهو يأخذ ابنته بين ذراعيه مجلسًا إياها على ركبتيه. ليس كل الرجال خونة، يا حبيبتي. بلى. لا، ليس كلهم. بلى، بلى. لا، ليس كلهم. بلى، بلى، بلى، كلهم خونة، يابا. ليس كلهم. بل كلهم. ليس كلهم. بابا، لا تهزأ بي. وتعود إلى البكاء، وهي تضم أباها بقوة. في الطابق الثاني، كان موسيو ومدام برنار يقفان قرب حبال المصعد، وهما يشدانها، ويمدان أذنيهما ليقفا على سبب بكاء سالومي. لا شيءَ، قلت لهما. لا شيءَ كيف؟ رمت مدام برنار بخشونة. لا شيءَ خَطِرًا، عدت إلى القول. لا شيءَ خَطِرًا، وكل هذا البكاء؟ رمى مسيو برنار بخشونة. بسبب المسلسل، أوضحت. نيران الحب؟ سألت مدام برنار بخشونة. نيران الحب، همهمتُ. هل رأيت أيها المغفل؟ عنفت مدام برنار زوجها، نيران الحب. نيران الأب! رد موسيو برنار ساخرًا، غير ممكن، كل هذا البكاء مع واحد خنزير مثله... وفجأة لزوجته: هذه هي الأنوثة، هذه هي الأحاسيس الرقيقة، وليس مثلك. مثلي كيف؟ سألت مدام برنار بعنف. مثلك كما يعرف العالم بأكمله. مثلي كيف؟ كما يعرف العالم بأكمله، كما تعرف البشرية بأكملها. وأنت؟ وأنا ماذا؟ وأنت، أيها المغفل؟ وأنا ماذا، وأنا ماذا؟ قلت وأنت؟ وأنا ماذا، وأنا ماذا، وأنا ماذا؟ تعال إلى الداخل أحسن لك. إلى الداخل؟ أحسن لك... ودفعته من أمامها، ثم ضربت الباب في وجهي، وما لبثت أن وصلتني أصوات معركة عنيفة بين الاثنين، خرجَتْ على أثرها ماري آنج وزوجها ديابولومنت وأطفالهما الخمسة سكان الطابق الأول. هل كل شيء على ما يرام معهما؟ سألت ماري آنج، وهي تشير إلى فوق. لا أظن، قلت مبتسمًا، والمعركة لم تزل متواصلة. وضع ديابولومنت يده على بطن زوجته الحامل، وهمهم: لا أريدك أن تقلقي، يا حبيبتي، ليس هذا بصلنا. والشياطين الخمسة كانت فرصتهم الذهبية، زلقوا على حافة الدرج حتى الطابق الأرضي، فتحوا الباب المحطم للمصعد المعطل، وراحوا يلعبون بأزراره، ويتسلقون علبته، حتى أن أحدهم رفع سقفها، وحاول تسلق حبالها. ليس هذا بصلنا، أعاد ديابولومنت. متى سيكون؟ سألتُ ماري آنج، وأنا أشير إلى بطنها الضخم. ليس بعيدًا، أجاب ديابولومنت، وهو يبتسم ابتسامة واسعة قطعتها ضجة ضخمة لدى مسيو ومدام برنار، خلنا العمارة تنهار على أثرها. ما هذا؟ صاحت سالومي من طابقها. لا شيء، يا حبيبتي، رفعت ماري آنج صوتها، إنهما موسيو ومدام برنار. ليس الزلزال الذي لحق ببمبويي إذن؟ علقت سالومي. اهدأوا، يا أولاد، قالت ماري آنج لأطفالها دون أن يهدأوا. إنهما توأمان، همهم ديابولومنت، وهو ينحني، ويطبع على بطن زوجته قبلة مديدة. لم أكن أعرف، همهمتُ. صبي وبنت، همهمت ماري آنج. هذا ما ينقصكما، همهمتُ من جديد. انفجر الأبوان ضاحكين، فكانت فرصتي للهرب، لكني ما أن اجتزت باب شقة الطابق الأرضي للبوابة حتى انفتح، وظهرت كليوباترا. إنه موسيو شابان، صاحت بزوجيها. لكن... تلعثمتُ. لم أطرق الباب، ومع ذلك نادت: تعال، يا سيزار، تعال، يا أنطونيو. وصاحت بالأولاد: كفوا عن الضجيج! ثم لنفسها: أبناء الجن هؤلاء لا يكفون عن الضجيج! لا حاجة إلى أن يأتيا، فلم أكن سوى عابر، رميتُ، وأنا أهم بالذهاب، فالتقطني سيزار وأنطونيو كل من ناحية، وهما مزوقان كعادتهما، وشبه عاريين. سنشرب شايًا بالنعنع، قالا بصوت واحد، وبعد ذلك نتركك وشأنك. لكن... عدتُ أتلعثم. تعال، موسيو شعبان، قال سيزار. تعال، يا حبيبي، قال أنطونيو، وهو يخرج سيجارة من عبه، ويشعلها بعود ثقاب يخرجه أيضًا من عبه بعد أن يحكه بإليته. نظرتُ إلى كليوباترا، ورأيت أنها لا تشبه زوجيها، كانت خنثى مثلهما، ولم تكن تشبههما، كانت تشبه إلى حد كبير المطربة أمل بنت.

* * *
   
    جلست في مقعدي المنجد أمام بابي، وأنا أحتسي كأس شاي بالنعنع، منتظرًا نزول جورج ساند. كان وقت ذهابها إلى العمل، الساعة الثانية بعد الظهر، كما كانت تدعي، دون أن أصدق شيئًا من هذا. الذهاب إلى العمل أين على الساعة الثانية بعد الظهر؟ وأي عمل هو هذا العمل الذي تذهب إليه الروائية الكبيرة! أحيانًا كانت تذهب إلى العمل على الساعة الثانية بعد الظهر، وتعود على الساعة الثالثة بعد الظهر، بسبب الوحي الذي ينزل عليها، فأسمعها تضرب على الحاسوب، وهي تقرأ بصوت عال، وتمارس العادة السرية. لهذا كنت أشتهيها، لممارستها العادة السرية، وليس لجمالها. كان لديها شيء شرير يشدني إليها. العادة السرية، وشيء آخر، شيء شرير. كان لها وجه يطفح براءة يغطي ما هو شرير لديها. شيء شرير. شيء شيطاني لا يراه أحد. أراه وحدي. شيء شرير يربطني بها. شيء جهنمي. لم يكن يظهر لأحد آخر سواي. لهذا كنت عندما أصاب بالاكتئاب أفكر فيها، وأنا فيها، في أشد الأوضاع جهنمية. حتى أنني أحيانًا كنت أتفجر خلال النوم، بعد أن أكون قد قضيت وقتي طوال الليل، وأنا في أقصى حالاتي توترًا. لم يكن جسدها مثيرًا إلى هذه الدرجة، وربما كان عاديًا لا استثناء فيه، لهذا كنت أُسقطها نفسيًا في الجسد الذي أشتهيه.
    سمعت طرقات كعبها على الدرج، وفجأة إذا بها أمامي، وهي بحياء تهمهم: مرحى، موسيو شابان. مرحى مدموزيل جورج ساند، أهمهم بدوري. المصعد لا يعمل، تقول جورج ساند، وهي تضغط على الزر، وترسل رأسها بين الحبال ناظرة إلى المصعد الراسي في الطابق الأرضي. عملت شايًا بالنعنع، أقول لها. شاي بالنعنع، تقول، وأنا أكاد أسمعها بالكاد لخجلها. اجلسي قليلاً معي، أهمس. يا ليتني كنت أستطيع، تقول، وهي تخنق نصف ضحكة. العمل، أقول، وأنا أخنق نصف رغبة في ضمها والعبث بثدييها الصغيرين، ثم، وأنا أخنق كل رغبة: سأرافقك إلى تحت، وأنهض من مكاني. لا تُتعب نفسك، تسارع إلى القول، فأنتقم من لطفها: ليس من أجلك، أرمي بخشونة، من أجل البريد. آه، ترمي مصدومة. ونحن ننزل الدرج معًا، تلتفت إليّ، وتبتسم، وتشيح بوجهها عني. تخنق نصف ضحكة، ورأسها يستدير إلى الناحية الأخرى، فيختلج شيء تحت بطني. ونحن على مقربة من الباب المفتوح لسالومي وأبيها، نسمع نشيجها، فننظر إلى الداخل، ونراها تبكي على كتف أبيها، وهي تجلس على ركبتيه بينما صوت يجيء من التلفزيون يقول: أحبك لما تكونين بعيدة، يا حبي، هكذا أنا أحبك، لما تكونين بعيدة، وأنت قربي أكرهك، ولكني أحبك لما تكونين بعيدة... نظرت في عيني جورج ساند، وكأني أقول لها العكس تمامًا، ففهمت، وابتسمت، وأشاحت بوجهها عني. تركنا الطابق الثالث إلى الطابق الثاني، ونحن نسمع الأب يقول لابنته: اسكتي، يا سالومي، اسكتي، يا حبيبتي، بابا يحبك، وأنت بعيدة، وأنت قريبة... فتزداد سالومي نحيبًا. ماذا بها سالومي؟ سألت مدام برنار بعنف، لماذا تنتحب طوال الوقت؟ من يخريها هكذا دون انقطاع؟ نعم، من يخريها هكذا دون انقطاع؟ سأل موسيو برنار بتهكم، من يخريها غير... مرحى، موسيو برنار، همهمت جورج ساند بحياء، فارتعش موسيو برنار، وغدا وديعًا كحمل: مرحى مدموزيل جورج ساند. سألتُ من يخريها، من يخريها، هكذا دون انقطاع؟ عادت مدام برنار إلى القول دون أن يبالي أحد بها. هل من خدمة أقدمها لك، مدموزيل جورج ساند؟ سأل موسيو برنار بكل اللطف اللازم. من يخريها، من يخريها؟ شكرًا، موسيو برنار. كان ينظر إلى جسدها النحيل، ويُسقطها نفسيًا في الجسد الذي يشتهيه مثلي تمامًا. ضَرَبَته زوجه على ظهره، ودفعته إلى داخل شقتهما، وهي تجمجم: أنت من يخريها، أنت من يخريني، أنت من يخري الجميع. وأنتِ؟ أبدى عن نواجذه. وأنا ماذا؟ أنتِ من يخري العالم بأكمله، أنتِ من يخري البشرية بأكملها، وراح بها ضربًا، وراحت به ضربًا، وبقيا يضربان بعضهما في داخل شقتهما. نظرتُ إلى جورج ساند، كانت تعض شفتيها أكثر فأكثر بعد كل ضربة، وهي تنقط رغبة. انقضضت عليها، فزلقنا على الدرج حتى باب ماري آنج وديابولومنت، وراح الواحد بالآخر عناقًا مستحيلاً، إلى أن شعرنا بعيون الأطفال، وهم يحدقون فينا من كل جانب، فقمنا، وماري آنج من الداخل تصيح: تعالوا، يا أولاد، إنه وقت الحمام، والأولاد لا يتحركون. اتركيهم، ماري آنج، وتعالي، سمعنا ديابولومنت يهتف. تعالي، يا حبيبتي! أجيء أين؟ تعالي، تعالي. أجيء أين؟ أجيء أين؟ تعالي، تعالي، تعالي. أجيء أين؟ أجيء أين؟ أجيء أين؟ فقط تعالي، فقط تعالي، فقط تعالي. وهذه بدأت تغنج: توقف! لن أتوقف... توقف! توقف! لن أتوقف، لن أتوقف... ويقهقه، فتقهقه: توقف! توقف! توقف! لن أتوقف، لن أتوقف، لن أتوقف... وسمعنا انطراق باب الحمام. لماذا لا نصعد عندي؟ قلت لجورج ساند. عليّ الذهاب إلى العمل، قالت المرأة. ونحن نمضي بباب شقة الطابق الأرضي المفتوح نصف فتحة، رأينا كليوباترا بفرج الرجال، وهي تمارس الحب مع زوجيها. لا بد أن الأمر ممتع جدًا، رمت جورج ساند، وهي ترمقني بمكر، ثم قفزت، وغادرت العمارة. أخرجت بريدي من علبة الرسائل، كانت هناك بعض الفواتير وبعض الإعلانات الدعائية. تسلقت أدراج الطوابق الأربعة، وأنا ألهث، وعلى مقعدي المنجد ألقيت بنفسي. أفرغت كأس الشاي في حلقي، وضربت بها بكل قواي إلى حبال المصعد، فإذا بالمصعد يتحرك، وإذا به يتوقف تحت نظراتي الدهشة الغائمة اللامصدقة، وإذا بأمي تدفع بابه المحطم.
    ماما!
    يا دين الرب، شابان، جدفت أمي. أطللت برأسي من فوق غير متأكد من أن المصعد يعمل، حتى أنني أمسكت بدفته، أغلقتها، وفتحتها. ماذا؟ صاحت أمي كعادتها. المصعد يعمل، ماما، كيف فعلت؟ سارعتُ إلى القول. هل أفاجئك أنا أم المصعد ليكون هذا الاستقبال الحار، بَصَقَتْ، وهي تشدد على كلمة "الحار". أنتِ، ماما. المصعد، ماما. أنتِ والمصعد، ماما. أَخْرِج الحقائب، يا ولد. اجلسي، ماما، ارتاحي، هل قمت برحلة طيبة؟ خراء، رحلة خراء! حقائبك كبيرة ثقيلة، ماما. هذا لأني لا أعلم متى سأغادرك. لماذا، ماما؟ نَهَضَتْ، وصفعتني على خد، بينما كنت أنحني لوضع الحقيبة الثانية. ماذا قلتُ، ماما؟ لا تريدني عندك، يا ولد؟ أريدك، ماما. أَخْرِج الحقيبة الثالثة. ها هي، ماما، قلتُ، وأنا أتحسس وجهي من أثر الصفعة. هذا المصعد البدائي لم يسع لكل حقائبي. انزل الآن، واحضر شانغهاي. شانغهاي معك؟ معي. من سيحرس لي كلبتي؟ لكنها لا تحبني مثلك، ماما. ولهذا السبب. ولهذا السبب ماذا؟ لأنها لا تحبك مثلي. أنت لا تحبينني، ماما، وكلبتك، لا تحبني مثلك، وعندما لا يحبك أحد، هذا يعني أنه لا يحبك. صفعتني على الخد الآخر، فأردتُ أخذ المصعد، لكنه أبى النزول. لم أتردد لحظة واحدة، رحت أبتلع الدرجات ثلاثًا ثلاثًا، وأنا لا أبالي بما يقول الجيران، عن أمي، عن المصعد، عن الشيطان الذي أحل أمي عندي. كنت أفكر لماذا جاءت؟ لكن شنغهاي، كلبة أمي، أخذت تنبح، وهي في قفصها، تشي تسو بشعة، وتقفز، تريد عضي. لم أشعر بصعودي الطوابق الأربعة إلا وأنا من جديد وجهًا لوجه مع أمي. ها هي كلبتك، ماما. قَرَّبَتْ جبيني من فمها، وقبلتني. دَخَلَتْ بالقفص الشقة، فانهرت على المقعد المنجد لاهثًا. عدة ثوان فيما بعد، انتفضتُ على صوتها الملعلع، وهي تطلب مني إدخال الحقائب.

* * *

    رافقتني أمي إلى البار، طلبت لنفسي كأس نبيذي المعتادة، وطلبت لها كأس شاي بالنعنع. تجنبتني جاسمين، وهي تدور بين الزبائن ضاحكة مع هذا، صائحة مع ذاك، والزبائن ينفخون سجائرهم أو يطفئونها في مَنفضات ساعات الجدار المحطمة، فقالت لي أمي: هذه البنت تحبك، ويا للخسارة. لماذا يا للخسارة، ماما؟ سألتُ أمي. يا دين الرب، شابان، رمت في وجهي، وهي تبتسم للفتاة. أن تكون عاهرة شيء، وأن تحبني شيء آخر، ماما، همهمتُ. عاهرة تحبك، شابان! همهمت أمي، وهي تبتسم للفتاة. شعبان، ماما، شعبان. شابان، أصرت أمي على القول. شابان لماذا، ماما؟ لأني أكره أسماء العرب. واسمك، ماما؟ لأني أكره اسمي، أكره كل ما يمت بصلة بالعرب. ونحن، ماما؟ نحن خراء! نحن خراء، ماما؟ أوديت، هل تسمعين؟ قلت لصاحبة البار، العجوز الشمطاء، التي تجلس وراء الصندوق، وهي تكلم نفسها. نحن خراء، تقول ماما. ضحكت أوديت، وهمهمت: أمك امرأة عظيمة! نحن خراء، نسلنا خراء، أسماؤنا خراء. نادني منذ اليوم، كلوديا شيفير، يا صغيري شابان، هل سمعتني؟ نادني كلوديا شيفير. كفى مزاحًا، ماما. أنا لا أمزج، يا دين الرب! نادني خراء شيفير... خراء شيفير، همهمتُ. هكذا، أخذَتْ يدي، وقبلتها. أخذتُ جرعة نبيذ، وأنا أفكر مهمومًا: خراء شيفير. قلت لأمي: تحبين فرنسا، ماما. أحب فرنسا، أكدت أمي. وبعد أن أخذَتْ جرعة شاي بالنعنع، وهي تفكر مثلي مهمومة، سمعتها تقول: دومًا ما أحببت فرنسا، وفرنسا لم تحبني أبدًا. وأنا أيضًا، ماما. وأنت أيضًا ماذا؟ دومًا ما أحببت فرنسا، وفرنسا لم تحبني أبدًا. لأن فرنسا عاهرة صغيرة. عاهرة كبيرة، ماما. تموت من أجلها؟ أموت من أجلها، ماما، بعد أن غدت وطني. بدافع الواجب؟ بدافع الواجب. فقط بدافع الواجب؟ فقط بدافع الواجب، دافع اصطناعي، غير جوهري، أموت من أجلها بدافع اصطناعي، خراء، ماما! فجأة، راحت أمي تهمهم، وهي ترتعش: يا دين الرب! يا دين الرب! بقينا صامتين للحظات، لحظات قليلة لكنها كانت طويلة، كاللحظات التي يقضيها المرء في المقبرة. قذفتُ كل ما تبقى من نبيذ في حلقي، وطلبت إليها: لنذهب، ماما. والبنت التي تحبك؟ قالت أمي دون أن يبدو عليها أنها تمزح. يا دين الرب، ماما! رح معها على حسابي. يا دين الرب، ماما، يا دين الرب! واحد شاي آخر بالنعنع، صاحت أمي بأوديت، وواحد بوجوليه ثان لهذا الولد العاق. لم تكن نريد أن نذهب. بعد قليل سألتُها: كيف عرفت أنه بوجوليه، ماما؟ عرفت. كيف عرفت؟ له رائحة المرأة المحجبة، البوجوليه، الحجاب الشاد على جسدها ليبرز مفاتنها. ولو كان بوردو؟ البوردو شيء آخر، للبوردو رائحة المرأة الفاسقة، امرأة شقراء فارعة القامة لا تفكر إلا في العناق. ومع ذلك، أنت لا تعرفين ما هو طعم النبيذ، ماما. ابتسمت أمي، وسألت، وهي تشير إلى النادلة: تلك البنت، هل ستروح معها أم لا، على حسابي، أقول لك. جاسمين، نادتها، فجاءت. يريد شابان أن... انفجرت جاسمين باكية، وذهبت تجري لتختفي خلف المشرب. لماذا أنتِ قاسية، هكذا، ماما؟ لنذهب من هنا، أمرت أمي بعصبية، أنا لا أطيق دموع البغايا، ونهضت في اللحظة التي أحضرت فيها أوديت طلبها. مشجٍ كل هذا، كموتك من أجل العاهرة الكبيرة! قالت لي ساخرة. رمت لصاحبة البار ورقة كبيرة من النقود، وضربتني على كتفي كي أتبعها، والعجوز الشمطاء تنظر إليها ذاهلة.
    ونحن في الطريق، رأينا سيارة محطمة، وجمعًا لا يعد ولا يحصى من الأطفال الذين يلعبون حولها وعليها وفيها. كان طفل يحطم ساعتها الداخلية بحجر، ويفجر أرقامها وعقاربها وزنبركاتها. همهمت أمي: إنه موعد نزهة شنغهاي، وطلبت مني الذهاب لإحضارها، وأنا أقول لنفسي، مع ماما تضاعف عدد صعودي الطوابق الأربعة ونزولها. تجاهلتها، فصاحت: هذه الكلبة أشرف منك! لأن جاسمين لم تشأ النوم معي؟ لأنها بكت، العاهرة التي تبكي أشرف من كل النساء. عند باب العمارة، قالت إنها ستصعد هي لإحضار كلبتها. قلت: سأصعد أنا. أمرت: انتظرني. انتظريني أنت، ماما، سأصعد أنا، رجوتها. سأصعد أنا، يا دين الرب، جدفت أمي غاضبة. ثم وهي في قلب باب العمارة: إذا أمعنت في معاندتي عدت من حيث أتيت! ضغطت على زر المصعد الذي لم يتحرك، رأيتها تصعد كشابة في العشرين، فابتسمت. كانت أمي وحدها. كانت أمًا بالفعل. كانت لبؤة. كنت فخورًا بها. خراء شيفير، همهمت، وأنا أداوم على الابتسام. كم كان رائعًا خراء شيفير! أمي خراء شيفير. كانت محيرة، منفرة، مسعررة، وكنت فخورًا بها. عندما عادت بالكلبة، راحت هذه تنبح عليّ. كل النساء لا تحبك، رمت أمي، قبل أن تضيف: أتمنى أن أكون على خطأ.
    نزّهنا شنغهاي في الحديقة، وطوال الوقت لم تنطق أمي بكلمة، لكننا، ونحن في الطابق الأرضي قبل أن نصعد الدرج، أشارت إلى الباب نصف المفتوح للبوابة، وقالت إنهم الوحيدون الذين يحبون بعضهم بصدق، وليس مثلنا، وأنا أنتظر أن توضح. لأنهم ليسوا مثلنا. الشواذ يحبون، يحبون فقط، ولا يعرفون الكره، فهم طبيعيون أكثر من اللازم. ونحن في الطابق الأول، أشارت إلى باب ماري آنج وديابولومنت: هؤلاء هم أكذب البشر. لديهم مائة ألف طفل، ماما، وهم بانتظار توأمين. إنهم أكذب الناس. ونحن في الطابق الثاني، وصلنا صراخ مدام وموسيو برنار، فقالت: هذان سيجدان سلامهما عما قريب. من الطبيعي ذلك، ماما، فلن يبقيا في حرب إلى الأبد. ليس من الطبيعي ذلك، ولكنهما سيجدان سلامهما، أنت من سيجده لهما. أنا؟! أنت أو غيرك. ونحن في الطابق الثالث، وقد أخذ قلبي يدق دقًا عنيفًا، أشارت أمي إلى سالومي التي خرجت مبتسمة على سماع خطواتنا، وقالت: يا ليت كان باستطاعتي أن أحبك كما يحبها أبوها. أعرف أنك تكرهينني، ماما، همهمت. هلا دخلتما لترتاحا، طلبت سالومي إلينا. نعم، نعم، صاح الأب من الداخل، وهو يقذف سهامه في قرص ساعة حائط محطمة، فليدخلا ليرتاحا. كانت شنغهاي قد نطت بين ذراعي سالومي، وراحت تلعقها من ذقنها، وسالومي تتكركر، وتهمهم: حبوبة! حبوبة! أطل الأب بقامته المربوعة، وهتف: هلا تفضلتما؟ قلت: لم يبق سوى طابق. لكن أمي كانت قد استجابت لمطلب أبي سالومي، فنقل هذا الكلبة بين ذراعيه، وراح يداعبها من أثدائها، وهو يقول: حبوبة! حبوبة! والكلبة تهز ذيلها بسعادة. من عادتها ألا تحب الرجال، رمت أمي. هذا صحيح، أكدتُ، إنها تكرهني تمامًا. يجب أن تعرف كيف تداعبها، قال الأب، إنها ككل النساء. ابني لا يعرف كيف يداعب أحدًا، قالت أمي بخشونة، إذا داعب أبكى. ماما! رجوتُ. صحيح ما تقوله أمك؟ سألت سالومي. أنتَ كأبطال المسلسلات؟ أضافت سالومي. فكرت في أنها ستنهار باكية، فسارعت إلى النفي: أبدًا أبدًا. ابتسمت سالومي، وهي تعود إلى السؤال: أبدًا أبدًا أم أبدًا أبدًا؟ أبدًا أبدًا. أنا أشك في ذلك، رمت سالومي، وهي تبتسم، قبل أن تسأل ماما: هل تريدين أن أصنع لك شايًا بالنعنع؟ شايًا بالنعنع؟ أعادت أمي دون رغبة. بالأحرى هو بابا. هز الأب رأسه مشجعًا. وهو يتقنه تمامًا، يتقنه تمامًا كالعرب. كالعرب! صاحت أمي بغضب. أحضري لها بعض العصير، تدخلتُ. ولِمَ لا بعض البوجوليه؟ ناكدتني أمي. ماما! سنشرب كأس بوجوليه إذن، قال الأب. ماما لا تشرب النبيذ، أوضحتُ. ماما تمزح، فقط لا غير. أنا لا أمزح، سنشرب كأس بوجوليه. مارستُ كل الحريات بعد موت أبيك إلا هذا، لقد حان الوقت. ماما! اذهب لتلعب مع سالومي، واتركني ألعب مع أبيها. ماما، أنا ذاهب! وذهبتُ محتجًا، وسالومي تخف من ورائي، بينما أمي تجيب على سؤال أبيها: اسمي كلوديا شيفير. فانفجر الأب ضاحكًا: وأنا إيف سان لوران، قبل أن يضيف: البوجوليه مع سيجارة بالنعنع شيء مهول! فصحت، وأنا على عتبة الباب: ماما لا تدخن. لا تستمع إليه، قالت أمي، فماذا يعني ذلك، ألا أدخن السجائر، ألا أشرب النبيذ؟ في وقتنا، هذا لا يعني شيئًا. في وقتنا، كل شيء لا يعني شيئًا، قال أبو سالومي، في وقتنا كل شيء جائز، كل شيء جائز لأنه لا يعني شيئًا، يكفي أن تستتبع إحساسك، أن تسترجع إنسانيتك.
    أنا آسفة! همهمت سالومي من ورائي. لا تأسفي، قلت لها، وأنا أستدير، بينما أواصل الصعود على الدرج إلى الطابق الرابع. توقفتُ، فجأة، وسألتها: ما رأيك في كأس شاي بالنعنع عندي؟ هبت تصعد الدرج لتتعلق على ذراعي، ولندخل معًا شقتي. لم نتوقف عن الضحك خلال تحضير الشاي بالنعنع، ولم نفطن إلى جورج ساند التي ما أن وضعت القدم على الطابق الرابع حتى وصلها ضحكنا. عندما خرجنا بالإبريق والكؤوس والتمر فاجأناها، وهي تتلصص علينا. تظاهرت بأخذ المصعد، وإذا بالمصعد يعمل، وكالصاروخ يصعد بها حتى سقف الطابق الخامس المزجج، ويخترقه قبل أن يتوقف تمامًا. وضعنا، أنا وسالومي، ما نحمله أرضًا، ورحنا نركض صاعدين، وكل الجيران، أمي أولهم، على صوت المصعد خرجوا، وجاءوا ليروا ما وقع. هل كل شيء على ما يرام، مدموزيل جورج ساند؟ صحتُ، وجورج ساند فوق لا تبدي حراكًا. مدموزيل جورج ساند، صاحت سالومي، وعلى عدم ردها، راحت تبكي على كتفي. ماذا حصل لمدموزيل جورج ساند؟ سأل أبو سالومي. إنها لا تجيب، قلت قلقًا. إنها لا تجيب، أعادت سالومي باكية، وهي تترك كتفي إلى كتف أبيها. افعل شيئًا، يا شابان، أمرتني أمي. ما الذي وقع؟ سألت مدام برنار، وهي لم تصل بعد إلى مستوانا. أليس عندكم سلم؟ سألتها أمي، بينما سالومي تنشج على كتف أبيها مرددة: مدموزيل جورج ساند، مدموزيل جورج ساند... عندنا، أجاب موسيو برنار، وعاد ينزل الدرج. لا تبكي، يا حبيبتي، همهم الأب. مدموزيل جورج ساند، مدموزيل جورج ساند... إنها مدموزيل جورج ساند، قال موسيو برنار لماري آنج ولديابولومانت زوجها الذي يساعدها على الصعود بسبب بطنها الضخم، وأنا ذاهب لإحضار سلم. لم يمت أحد إذن؟ سأل ديابولومنت. نحن لا نعرف بعد، قال موسيو برنار، وهو يبتلع الدرجات ثلاثًا ثلاثًا. لا يعرفون بعد إذا ما مات أحد، قال ديابولومنت لزوجته. اتركني، هلا أردت؟ نفرت ماري آنج بزوجها. ولكن، حبيبتي! قلت لك اتركني! ومن تحت، صاحت كليوباترا بزوجيها: يا سيزار، يا أنطونيو، أنا صاعدة! والأطفال الخمسة يتشيطنون من حولها، ويتسلقون فجوة المصعد. يا لأبناء الجن هؤلاء، من أي جهنم جاءوا؟ حضر سيزار، وحضر أنطونيو، وهما في آخر أناقتهما الخنثوية، لكنهما كانا عابسين: سنبقى هنا منتظرين أوامرك، تلعثم زوجا كليوباترا. أخرج أنطونيو سيجارة من عبه، وضعها في فمه، فاختطفها سيزار، ووضعها في فمه، مما اضطر أنطونيو إلى إخراج سيجارة ثانية من عبه، فعود ثقاب حكه بإليته، وبأصابع مرتعشة أشعل السيجارتين. إنها مدموزيل جورج ساند، قال موسيو برنار لكليوباترا، وهو يخرج بالسلم. إنها مدموزيل جورج ساند، صاحت كليوباترا بزوجيها، وهما مضطربان لا يعرفان ما يفعلان، والأطفال لا يتوقفون عن اللعب في فوهة المصعد. ها أنا أجيء بالسلم، هتف موسيو برنار من الطابق الرابع. كفى بكاء، يا حبيبتي، قالت ماري آنج لسالومي التي لا تتوقف عن النشيج بين ذراعيها بعد أن تركت ذراعي أبيها. ثم إلى زوجها: اذهب وأعنه! ما لك مكتوف اليدين هكذا؟ لماذا لم يرفعني أحدكم؟ سألت أمي. ارفعني، يا ولد! ها هم يأتون بالسلم، قال أبو سالومي. وسالومي لا تتوقف عن النشيج والترداد: مدموزيل جورج ساند، مدموزيل جورج ساند... تأخرتَ كثيرًا، قالت مدام برنار لزوجها. وضع موسيو برنار السلم على طرف علبة المصعد، فدفعته أمي تريد الصعود، ودفعتها كليوباترا تريد الصعود، لكن موسيو برنار هو الذي صعد. لم يمت أحد إذن؟ عاد ديابولومنت يسأل، وموسيو برنار في وسط السلم. انفجرت سالومي باكية للمرة الألف، وماري آنج تهدهدها، وتعنف زوجها بعينيها، وهي تقول: لا تبكي، يا حبيبتي! شابان، لماذا لم تصعد أنت، يا دين الرب؟ جدفت أمي. كان عليّ أن أصعد أنا، قال أبو سالومي، فابتسمت له أمي، وشدت على يده. مدموزيل جورج ساند، صاح موسيو برنار، وهو يقفز في علبة المصعد. ماذا، يا برنار؟ صاحت زوجته. لم يمت أحد إذن؟ صاح ديابولومنت، ودموع سالومي تتفجر على خديها. اذهب أنت، نبرت ماري آنج بزوجها، لا تبق هنا! لكنه لم يتحرك من مكانه. سمعنا موسيو برنار يقول دون أن نراه: هناك عش فيه خمسة من صغار الصقور. ومدموزيل جورج ساند؟ سألت مدام برنار بقلق، ثم قالت لي: إنه لا يقول شيئًا، هذا المغفل! ومدموزيل جورج ساند؟ صحتُ. لم يمت أحد إذن؟ همهم ديابولومنت، فهبت به ماري آنج، وطردته، لينزل عدة درجات، ويجلس على إحداها مكلمًا نفسه: لم أقل شيئًا، سألت فقط إذا ما مات أحد. لا تبكي، يا حبيبتي، طلبت ماري آنج إلى سالومي. مدموزيل جورج ساند فتحت عينيها، صاح موسيو برنار بصوت طافح بالحيوية، فقلنا "آه"، ونحن نبتسم لبعضنا. قفزت مدام برنار على عنقي، وقبلتني من خدي، وتركت أمي أبا سالومي يحيط كتفيها بذراعه، بينما راحت سالومي وماري آنج في هديل من الضحك المتواصل. مدموزيل جورج ساند بخير، صاحت كليوباترا بزوجيها من الطابق الخامس، وزوجاها: مدموزيل جورج ساند ماذا؟ بخير. ماذا؟ اسكتوا، يا أولاد! بخير، قلت بخير، مدموزيل جورج ساند بخير. مدموزيل جورج ساند بخير؟ اذهبا إلى الشيطان، أيها الأحمقان، جمجمت كليوباترا. وديابولومنت يهمهم لنفسه: لم يمت أحد إذن. كان تعيسًا. اصعد وساعده، يا شابان، طلبت أمي إليّ، لكن كليوباترا هي التي صعدت. أعطاها موسيو برنار عش صغار الصقور، فخففتُ، إلى الصعود لأتناوله منها، ولأعطيه بدوري لمدام برنار التي أعطته بدورها لماري آنج، وماري آنج تبتسم لصغار الصقور، وتداعبها من أجنحتها المزغبة. عددها خمسة كأبنائي الخمسة، همهمت ماري آنج. انظري، قالت سالومي، هناك بيضتان، وانفجرت كلتاهما ضاحكتين. كتوأميّ، همهمت ماري آنج، وهي تنظر في عيني سالومي. كتوأميك، همهمت سالومي، وهي تضع يدها على بطن ماري آنج، وتضغط ضغطًا خفيفًا. كانتا في منتهى السعادة. على مهلك، مدموزيل جورج ساند، همس موسيو برنار، وهو يساعدها على النزول وكليوباترا. نظرتُ إلى مدام برنار، فوجدتها تنظرُ إليّ. ابتسمنا لبعضنا. شيء ما تبدل فيها. لم تعد العنيفة كأمي، الشرسة، الجهنمية. شيء ما تبدل فيّ. حذار، كليوباترا، طلب موسيو برنار. شيء ما تبدل فيه. ابق أنت، واتركني أفعل، قالت كليوباترا. بقي فوق، وكليوباترا على وشك الانزلاق مع جورج ساند، صاح موسيو برنار لَهِفًا: قلت حذار، كليوباترا. حذار، كليوباترا الشجاعة، قالت أمي. ومن تحت: مدموزيل جورج ساند بخير؟ سأل زوجا كليوباترا. وضعت كليوباترا قدمها على الأرض، فجورج ساند. أخذتنا كليوباترا بالأحضان واحدًا واحدًا، وجورج ساند تنظر إلينا، وتبتسم. بسبب العش، همهمت جورج ساند. سقط على رأسي، فأغمي عليّ. بسبب العش لم يحصل لك أي أذى، قالت أمي، فلولا العش لما وقعتِ، ولاصطدم رأسك بالسقف. وإذا بالسلم يميل، والمصعد يتحرك. موسيو برنار! صاحت جورج ساند. الأولاد، يا سيزار، يا أنطونيو! صاحت كليوباترا بزوجيها اللذين راحا يلتقطان الأولاد من جوف المصعد، ويلقيانهم خارجه لما فجأة فلت المصعد في سقوط مدوخ، فترامت ماري آنج بين ذراعي سالومي على صراخ موسيو برنار المدوي غائبة عن الوعي. انطلقتُ هابطًا الدرج كالسهم إلى الطابق الرابع، وبسرعة البرق، حملت كأسًا من كؤوس شاينا بالنعنع، ورشقت بها حبال المصعد، وإذا بالمصعد يتوقف على بعد نصف متر من أرضه. كان سيزار، بعد أن ألقى بآخر طفل، ينام بطوله من تحته. قفز موسيو برنار من المصعد، بينما سحب أنطونيو الرجل الأسود، وسقط ثلاثتهم في أحضان بعضهم باكين. بكينا كلنا، حتى أمي بكت، وابتسمنا كلنا، ونحن نبكي. لكن المفاجأة كانت عندما جاءت أم الصقور عنيفة بعنف أمي بحثًا عن صغارها، هاجمتنا مثل كتيبة، ولم تهدأ إلا بعد أن علقت ماري آنج العش على نافذتها، وتركت الأم تحنو على صغارها كما تحنو هي على صغارها.

* * *

    بعد ذلك الحادث، تبدلنا، وتبدلت أيامنا. لم تعد جورج ساند تذهب إلى العمل، كما كانت تدعي، كانت تبقى في الشقة طوال الوقت بصحبة موسيو برنار، فأسمعها، وهي تكتب رواياتها، وتقرأها بصوت عال يقطعه لهاثها المستعر، بسبب رأس عشيقها الذي غالبًا ما يتركه بين فخذيها. ولم تعد أمي تصعد عندي، أنزلتُ لها حقائبها وكلبتها عند أبي سالومي، ويا كلوديا شيفير، ويا إيف سان لوران، وهذه الكأس، وهذه السيجارة، وما رأيكِ فيّ؟ رأيي فيك؟ رأيكِ فيّ؟ رأيي فيك؟ رأيكِ فيّ كزوج؟ رأيي فيك كزوج؟ كزوج؟ كزوج؟ ليس كما تفكرين، رأيكِ فيّ كزوج؟ رأيي فيكَ كزوج؟ كزوج؟ ولِمَ لا كأب؟ سئمت من كوني أبًا. أنا أيضًا، سئمت من كوني أمًا. تأخذ أمي جرعة نبيذ، وتتك سيجارتها في مَنفضة على شكل قرص الشمس، وتهمهم: رأيي فيكَ كزوج؟ وما الفائدة، ونحن، في النهاية، نتك أعمارنا كما نتك الرماد؟ أما سالومي، فقد "تزوجت" من ماري آنج على الرغم من كل الذين في رؤوسهم الخراء، وأولهم ديابولومنت. راح الأطفال ينادونها "بابا"، وأنا أسعد الناس على سماعهم. كان فيّ من يصرخ: اتركوا الأطفال يختارون آباءهم من بين أمهاتهم وأمهاتهم من بين آبائهم. كانت تلك هي الحرية الفقيدة لولادتنا، وانتهاء عهد الأوصياء على أعمارنا. لم يأخذوا رأينا قبل أن نجيء إلى العالم هذا صحيح، لكننا نفرض رأينا عندما نعود بأعمارنا إلى الوراء، ولا يهم أن نكون أطفالاً، لا يهم أن يكون الأطفال أطفالاً، فالأطفال كبار دون أن نعلم. نظام أسرة الأطهار نظامكم نريد هدمه على رؤوسكم التي ليس فيها غير الخراء. خراء الناكح والمنكوح، منذ آدم إلى اليوم، على نفس الوتيرة، الناكح والمنكوح على نفس الوتيرة، دون لذة أخرى غير لذة الألفة، ومع الوقت، لذة فعل الشيء من أجل الشيء، أي دون لذة. أطفال دون لذة، أطفالكم، وأطفال بلذة، أطفال التبني، أطفال الحرية. وعندما كانت ماري آنج توزع البيض المسلوق على أطفالها لم تكن تنسى أن تضع في منقار كل واحد من صغار الصقور بيضة، وكذلك كانت تفعل بالبطاطا المقلية سالومي، وبحزوز الكلمنتينا، بينما أم الصقور ترقد على بيضتيها، وكلها اطمئنان على نسلها. لولو، قالت لي مدام برنار، وأنا أسألها عن اسمها. لولو، همهمتُ. لولو، أعادت. لولو، أعدت. وأنتَ... وانتظَرَتْ. ما الاسم الذي يعجِبُكِ؟ الاسم الذي يعجبني؟ نعم، الاسم الذي يعجِبُكِ؟ الاسم الذي يعجبني… وانتظَرْتُ. الاسم الذي يعجبني؟ الاسم الذي يعجِبُكِ؟ ماهوميه (محمد بالفرنسية). اتسعت ابتسامتي، وقلت بسعادة لا تصدق: ماهوميه، فليكن. أما ديابولومنت، فلم يغادر الدرج. كان يقضي كل وقته جالسًا هناك، فتعطيه سالومي ما يأكل، وكان يرفض النوم عند كليوباترا، ويفضل النوم في المصعد. كان يقول سيزار له مغريًا: جحيمنا أخضر، فيتدخل أنطونيو: ها أنت تبرهن على أنك من الغابون، ليجيب الرجل الأسود: أنا فرنسي يحب الغابون لا شيء أكثر.
    لم أخلص من أرقي، على الرغم من كل شيء. في إحدى الليالي، تركت لولو، وهي تنام نومًا عميقًا، وقلت أذهب إلى الحديقة. كان ديابولومنت لا يعرف النوم مثلي في القفص المعطل، عندما مضيت به حييته، فلم يرد على تحيتي لا بأفضل منها ولا بأعطل. استدرت قبل أن أغادر العمارة، ورأيته يطرق الباب على كليوباترا وزوجيها. تلقفه الرجال الثلاثة كمن يتلقف أحدهم هدية تسقط عليه من السماء، وأدخلوه في جحيمهم الأخضر.
    في الحديقة، تبولت كما لم أتبول من قبل، وتنهدت، وتمطيت. نظرت إلى السماء في فراش غيمها، كانت تكشف عن صدرها، وكانت بعض اللآلئ المفروطة حول حلمتيها. ذهبت إلى المقعد الذي من عادتي الجلوس عليه، كان المقعد رطبًا، فأصابتني قشعريرة قوية اهتز كل جسدي لها. فكرت في الشخص الذي يغادر الحديقة ما أن أصلها، وفي اللحظة ذاتها، تحرك أحدهم من بين الشجر المقابل إياي، وما لبث أن راح يعدو. عدوت من ورائه، وأنا أطلب منه التوقف، لكنه داوم على الهرب. في الشارع شبه المعتم، التفت الشخص ليرى إذا ما كنت أتبعه، فعرفت من كان.


ramus105@yahoo.fr
الكابوس القادم: القطب

 


قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat


د . افنان القاسم
 (للدخول لصفحة الكاتب إضغط هنا)

    طباعة   ||   أخبر صديقك عن الموضوع   ||   إضافة تعليق   ||   التاريخ : 2013/02/03



كتابة تعليق لموضوع : القصص الأخيرة لأفنان القاسم الكابوس الثاني
الإسم * :
بريدك الالكتروني :
نص التعليق * :
 



حمل تطبيق (كتابات في الميزان) من Google Play



اعلان هام من قبل موقع كتابات في الميزان

البحث :





الكتّاب :

الملفات :

مقالات مهمة :



 إنسانية الإمام السيستاني

 بعد إحراجهم بكشف عصيانها وخيانتهم للشعب: المرجعية الدينية العليا تـُحرج الحكومة بمخالفة كلام المعصومين.. والعاصفة تقترب!!!

 كلام موجه الى العقلاء من ابناء شعبي ( 1 )

 حقيقة الادعياء .. متمرجعون وسفراء

 قراءة في خطبة المرجعية : هل اقترب أَجلُ الحكومةِ الحالية؟!

 خطر البترية على بعض اتباع المرجعية قراءة في تاثيرات الادعياء على اتباع العلماء

 إلى دعاة المرجعية العربية العراقية ..مع كل الاحترام

 مهزلة بيان الصرخي حول سوريا

 قراءة في خطبة الجمعة ( 4 / رمضان/ 1437هـ الموافق 10/6/2016 )

 المؤسسة الدينية بين الواقع والافتراء : سلسلة مقالات للشيخ محمد مهدي الاصفي ردا على حسن الكشميري وكتابيه (جولة في دهاليز مظلمة) و(محنة الهروب من الواقع)

 الى الحميداوي ( لانتوقع منكم غير الفتنة )

 السيستاني .. رسالة مهدوية عاجلة

 من عطاء المرجعية العليا

 قراءة في فتوى الدفاع المقدس وتحصين فكر الأمة

 فتوى السيد السيستاني بالجهاد الكفائي وصداها في الصحافة العالمية

 ما هو رأي أستاذ فقهاء النجف وقم المشرّفتَين السيد الخوئي بمن غصب الخلافة ؟

 مواقف شديدة الحساسية/٢ "بانوراما" الحشد..

أحدث مقالات الكتّاب :


مقالات متنوعة :





 لنشر مقالاتكم يمكنكم مراسلتنا على info@kitabat.info

تم تأسيس الموقع بتاريخ 1/4/2010 © محمد البغدادي 

 لا تتحمل الإدارة مسؤولية ما ينشر في الموقع من الناحيتين القانونية والأخلاقية.

  Designed , Hosted & Programmed By : King 4 Host . Net