صفحة الكاتب : محمود الربيعي

اهل الكتاب والنصارى وآل عمران والحواريون في القرآن والسنة المحمدية
محمود الربيعي

المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الموقع، وإنما تعبر عن رأي الكاتب.

قراءة قرآنية نبوية ورؤية في الذات المسيحية واليهودية

توطئة

تنشط بين الحين والآخر تهجمات على شخصية مهمة في حياة البشرية ألا وهي شخصية رسول الله محمد بن عبد الله صلى الله عليه وآله وسلم بسبب أو لآخر كتحريك للفتنة بين أهل الأديان لأسباب سياسية أو دينية أو إقتصادية، وقد يكون بسبب ردود أفعال تنطلق بشكل معاكس لطوائف متطرفة متحجرة لاتصلح أن تكون ممثلة لجوهر الأديان أو للأهداف السامية التي تعمل لأجلها، ولإيقاف مثل هذه الفتن والضلالات لابد أن تشكل النفوس الخيرة لأبناء المعمورة دعامة قوية ضد التيارات المنحرفة التي تدعو الى الفتنة وخلق المشاكل إذ لابد من التعايش والحوار بين أهل الأديان والمذاهب لكي يسود السلام والمحبة بدلاً عن الحقد والكراهية. 

المقدمات الموضوعية

مصاعب ومشاكل الإنفتاح على أهل الكتاب

أولاً: - التطور التكنولوجي لدى العالم المسيحي واليهودي: - إن التطور التكنولوجي يعتبر من أهم العوائق التي تقف وتحول دون وصول الحقيقة الى عقول العوالم الأخرى التي تتمتع بالتطور التكنولوجي بسبب غرورها وإستخفافها بفكر القوى التي لاتتمتع بذلك التطور أو إنتاج الآلة وهذا مما يضعف قبول الإصغاء الى العالم الضعيف وفلسفته.

ثانياً:- القوة العسكرية عند الدول العظمى: - عندما يقود التطور التكنولوجي الدول  الى الحصول على الآلة وخصوصاً في المجال العسكري وتسيطر تلك القوى على الضعيف من الدول على إختلاف أحجامها الجغرافية والديموغرافية فإن الباب سيغلق أمام  أي حوار بسبب الغرور الذي يمنعهم من النظر الى فلسفة الأخر بالرغم من قوته العقلية والفكرية التي تستند الى صحة نظريتة الفكرية كما هو الحال بالنسبة لبعض القوى العظمى التي تتبنى الديانة المسيحية أو اليهودية أزاء الدول الضعيفة التي تعتنق الإسلام.

ثالثاً: - العلاقة بين قوة المصدر الإلهي وبيانه، والواقع البشري وقدرته: - عندما نعتقد بوجود قوتين بشريتين قوة مادية تمتلك الآلة وقوة لاتمتلك مثل هذه الآلة ونقصد بذلك إنتاجها كوسيلة والوصول بها الى التفوق والسيطرة على الآخرين من الضعفاء، غير أن هناك قوة ثالثة هي الأكبر وهي قوة الرب الذي قهر عباده بالموت وهو الذي يتمكن من إبتلاهم بالفقر والمرض، وبالأوبئة والفيضانات والزلازل، والحرارة والبرد، وعلينا أن نسمع لتلك القوة الأكبر عندما ترسل لنا رسلها والأنبياء ومنهم محمد صلى الله عليه وآله وسلم وهذا يدفع بالضرورة الى قراءة الناس للقرآن الذي جاء به محمد وأن نتحرى الحقائق وندرسه ثم نحكم عليه وهذا عاية مانتمناه.

رابعاً: - خصومة العالَم القوي مع العالَم الضعيف: - فقد نجد شخصين إحداهما غني والآخر فقير لكن الغني منهم يمتلك كل وسائل التمكن من المال والجاه والسلطة في الوقت الذي لايمتلك فيه الفقير إلاّ العقل والقوة البدنية في وليس له سلطة وينطبق ذلك أيضاً على دولتين إحداهما قوية تمتلك كل وسائل القوة المادية والثانية لاتمتلك الكثير من المقومات، وفي مثل هذه الحالة وعندما يسيطر الغني على الفقير والدولة القوية على الدولة الضعيفة فإنها تشلّها عن الحركة وأداء دورها الإنساني وهذا مايمكنك أن تلمسه من خلال قراءتك للتاريخ، وبالنتيجة فإن على شعوب القوى العظمى أن تعي هذه الحقيقة وعليها أن تنظر الى فلسفة الضعيف فلربما تقودها الى الخير والنجاح.

المدخل الى الموضوع: -  إن المشكلة القائمة بين عوالم أهل الأرض هي تقييم الحقائق وسط هذا الزحام من الصراع المادي والفلسفي والوصول الى عقول العالمين المسيحي واليهودي وبقية العوالم الأخرى فهناك الكثير من الناس يرغبون في الحصول على الحقيقة ويحبون أن يصلوا إليها ومنهم الكتّاب والمفكرين والباحثين الأكاديميين بل مطلق الباحثين.

إن الإختلاف بين أهل الكتاب من اليهود والنصارى حرك كل من التبشيرين المسيحي واليهودي بالضغط على الآخرين للإنخراط في ملتهم بلا حوار..  فبحسب إدعاءهم أن الحق في حيازتهم وهم في هذه الحالة لم يراعوا إرادة الرب الذي دعاهم الى سماع محمد والإستماع الى القرآن الذي نُزِّل عليه، وعلى الرغم من الإختلاف التاريخي بين اليهود والنصارى فإنك تجدهم يقفون في جبهة واحدة في مواجهتهم للإسلام والمسلمين ويسعون الى تقويض دعائمة المتمثلة بفكره وأفكاره والقضاء على رموزه، ونحن نعتقد من خلال إستقراءنا للتاريخ بأن الإنفتاح على المسيحيين هو أسهل من الإنفتاح على اليهود على الرغم من كل هذه المعوقات.

المقدمة الموضوعية الرئيسية

ندعو العالم المسيحي واليهودي الى المرونة والإنفتاح على عقائد المسلمين والإطلاع على جملة أفكارهم ونظرياتهم وأن لايقفوا عند أية عبارة قد تحتوي على نقدهم أو لومهم إذ لابد من الإصغاء إليهم وسماعهم ومناقشتهم والتحاور معهم وعليهم أن لايسخروا منهم قبل تمام الإطلاع على فلسفة الإسلام ونظرته الى الكون والحياة والإنسان وشؤون الحياة المختلفة التي تتعلق بالإجتماع والإقتصاد والميراث وغير ذلك بنظرة شاخصة وبعدها سيجدون أن هذا القرآن هو الدستور الملائم لحياة البشرية، ونحن نأمل أن يدرسوا الإسلام ويفهوا منهاجه بشكل صحيح.

الإنفتاح على أهل الكتاب

كما لابد للمسلمين أيضاً من الإنفتاح على أهل الكتاب عامة اسوة بما كان يفعله رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على الرغم من إحتمال وجود إختلاف وردود أفعال، كما ولنا أن نشير الى الواقع المعاصر الذي يشهد ثورة فكرية في عالم الإنسانية لإنتشار الشبكة العالمية للمعلومات وَتَيَسُّر اللقاء بالمؤسسات الفكرية والعقائدية المختلفة.

قال تعالى: - " قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ هَلْ تَنقِمُونَ مِنَّا إِلاَّ أَنْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلُ وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فَاسِقُونَ " سورة المائدة الآية 59.

ومن تفسير تقريب القرآن الى الأذهان جاء فيه: -  وجاء قوم من اليهود يسألون الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) عمن يؤمن به من الرسل فقال: "أؤمن بالله وما أُنزل إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق -إلى أن ذَكَرَ- عيسى (عليه السلام)" فلما سمعوا ذلك منه جحدوا نبوّته وقالوا : ما نعلم أهل دين أقل حظاً في الدنيا والآخرة منكم ولا ديناً شراً من دينكم، فنزلت ((قُلْ )) يارسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) لأهل الكتاب ((يَا أَهْلَ الْكِتَابِ هَلْ تَنقِمُونَ مِنَّا ))، أي تسخطون علينا ((إِلاَّ أَنْ آمَنَّا بِاللّهِ )) إيماناً لا يشوبه كفر - كإيمانكم- ((وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا )) يعني القرآن الحكيم ((وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلُ )) على جميع الأنبياء ((وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فَاسِقُونَ)) فإنّ فسقكم، أي خروجكم عن دين الله هو الذي سبّب النقمة علينا، وهذا كقولهم : هل تنقم منّي إلا أنّي عفيف وأنك فاجر، أو إلا أني كريم وأنت بخيل، فهو من باب الإزدواج يُحسن في الكلام لتعميم المقابلة فهو عطف على قوله (أن آمنّا) .

مجموعة أهل الكتاب من اليهود والنصارى والصابئة.. المصير! الى أين؟

وعلى شرط الإيمان بالله والعمل الصالح فلا خوف ولاحزن على أولئك المؤمنين على إختلاف مللهم.

قال تعالى: - " إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَالَّذِينَ هَادُواْ وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ " البقرة 2 الاية 62.

جاء في تقريب القرآن الى الأذهان مانصه: -  ((إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ)) من المسلمين ((وَالَّذِينَ هَادُواْ)) أي صاروا يهوداً باليهودية ((وَالنَّصَارَى)) المؤمنين بعيسى (عليه السلام) ((وَالصَّابِئِينَ)) وفيهم غموض وخلاف، وربما قيل أنهم عبدة النجوم ((مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ)) حقيقةً، ((وَعَمِلَ صَالِحاً)) مما أمر به الله سبحانه ((فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ)) لا في الدنيا ولا في الآخرة- كما تقدم- ((وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ)) فلا ييأس أحد من روح الله ما دام في الدنيا، وإنما قيدنا "من آمن" بـ"حقيقة" لئلا ينافي ما في صدر الآية "إن الذين آمنوا".

لابد لأهل الكتاب من إنصاف المسلمين

إن مطلب المسلمين أن ينظر أهل الكتاب إليهم على أنهم أهل كتاب أيضاً فهم لايختلفون عنهم في عبادة الله فهم يُقِّرون بنبوة الأنبياء كافة  لكن المشكلة تكمن في الموقف الحَدّي تجاه المسلمين بدلاً عن الإطلاع التام على مفردات القرآن قبل إتخاذ أية قرارات تحول دون التواصل معهم.

قال تعالى: - " وَقَالُواْ لَن يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلاَّ مَن كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُواْ بُرْهَانَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ " سورة 2 الاية 111.

جاء في نفس التفسير مانصه أيضاً: -  ((وَقَالُواْ لَن يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلاَّ مَن كَانَ هُوداً أَوْ نَصَارَى))، قالت اليهود لن يدخلها إلا النصارى، و"هود" جمع "هائد" كـ"عود" جمع "عائد"، ((تِلْكَ)) المقالة ((أَمَانِيُّهُمْ))، جمع "أمنية"، أي رغبتهم الكاذبة، ((قُلْ)) يا رسول الله لهم ((هَاتُواْ))، أي أحضروا وجيئوا ((بُرْهَانَكُمْ)) ودليلكم على ما تدعون ((إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ)) في مقالتكم.

الإختلاف بين أهل الكتاب من اليهود والنصارى

فأهل الكتاب إختلفوا فيما بينهم وكل منهم يقول للآخر إنك لست على شئ ويسخر بعضهم من بعض ويهزأ بعضهم من بعض بل ويتعدى ذلك الى أن من ليس له دين ولاإيمان بالله يدََّعي أنه على الحق وغيره على باطل ونحن نعيش هذه المعادلة التي لازالت تحكم الواقع المعاصر ولن تنتهي هذه المعادلة الى يوم يبعثون.

قال تعالى: - " وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَىَ شَيْءٍ وَقَالَتِ النَّصَارَى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَى شَيْءٍ وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتَابَ كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُواْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ " سورة 2 البقرة الآية 113.

جاء في تفسير تقريب القرآن الى الأذهان مانصه: - ((وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَىَ شَيْءٍ، وَقَالَتِ النَّصَارَى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَى شَيْءٍ)) من دين وإيمان وتقوى، فكل طائفة تجعل نفسها الناجية وغيرها الهالكة، ((وَ)) الحال أن ((هُمْ يَتْلُونَ الْكِتَابَ))، والتالي للكتاب لا يحق له أن يقول مثل هذه المقالة، إذ كل منهم يعلم أن صاحبه على بعض الشيء، فإن اليهود يعرفون أن النصارى لهم إيمان في الجملة، وكذلك النصارى يعرفون أن اليهود لهم إيمان في الجملة، ((كَذَلِكَ)) القول ((قَالَ الَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ)) من الكفار ((مِثْلَ قَوْلِهِمْ))، وهذا تأنيب للطائفتين حيث صاروا كمن لا كتاب له وهو جاهل، فإن الجاهل يمكن أن يقول ليس اليهود أو النصارى على شيء لأنه يزعم بطلان كليهما، ((فَاللّهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ)) جميعاً ((يَوْمَ الْقِيَامَةِ))، وهناك يتبين لكل طائفة أنه على شيء أم لا، ((فِيمَا كَانُواْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ))، ولعل تخصيص الحكم بهناك لأن هناك لا تبقى شبهة في الحكم، بخلاف حكمه سبحانه في الدنيا، فإن من لا يؤمن بالإسلام لا يعترف بحكمه.

التبشير المسيحي واليهودي

تبذل المؤسسات المسيحية واليهودية جهوداً إستثنائية للتبشير بأديانها من دون التفكير بالإنفتاح على الإسلام والمسلمين وحبذا لو إتخذوا طريق الإعتدال وسماع الطرف الآخر على أساس الحوار والتعايش بين أهل الأديان والعقائد المختلفة للوصول الى الحقيقة بشكل منهجي وموضوعي خصوصاً نحن نعيش عصراً يتميز بإنتشار العلوم وأدوات التواصل الفكري والعلمي وأشكال التواصل الأخرى.

جاء مانصه في القرآن الكريم: - " وَلَن تَرْضَى عَنكَ الْيَهُودُ وَلاَ النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءهُم بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِن وَلِيٍّ وَلاَ نَصِيرٍ " سورة 2 البقرة الاية 120.

وتفسير ذلك وبحسب ماورد في تفسير تقريب القرآن الى الأذهان مانصه: - ((وَ)) حيث أن من طبيعة الحال أن كل صاحب مبدأ ليستميله الخصماء إلى ناحيتهم، ويعدونه الرضاعة إذ مال نحوهم، بين الله تعالى لنبيه أن ذلك سراب خادع ويجب أن لا يغتر به الإنسان، إذ ((لَن تَرْضَى عَنكَ الْيَهُودُ وَلاَ النَّصَارَى)) إلى الأبد ((حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ)) وتدخل في طريقتهم، إذ كل ذي طريقة لا يرضى عن شخص إلا بدخوله في طريقته تماماً وكمالاً، ((قُلْ)) يا رسول الله ((إِنَّ هُدَى اللّهِ)) الذي هو الإسلام ((هُوَ الْهُدَى)) فقط دون ما سواه من اليهودية والنصرانية، ((وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءهُم)) إشارة إلى أن دينهم ليس إلا هوى أنفسهم، وليس من عند الله سبحانه، ((بَعْدَ الَّذِي جَاءكَ مِنَ الْعِلْمِ)) بالإسلام وشرائعه وبطلان اليهودية والنصرانية ((مَا لَكَ))، أي ليس لك ((مِنَ اللّهِ))، أي من طرف الله ((مِن وَلِيٍّ وَلاَ نَصِيرٍ))، أي فلا يلي تعالى أمورك ولا ينصرك.

الدعوة الى الإنخراط في ملة أهل الكتاب بشكل خال من الحوار

لانزال نعيش في عصرنا هذا خاصية الهيمنة الفكرية المصاحبة لهيمنة الإقتصاد والآلة والقدرة الصناعية وهي وسائل قد تكون ناجحة في السيطرة على الآخرين لكنها لاتعبر بالضرورة عن سلامة المبادئ والأفكار.

قال تعالى: - " وَقَالُواْ كُونُواْ هُودًا أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُواْ قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ " سورة 2 البقرة الآية 135.

ويفسر ذلك من خلال تفسير تقريب القرآن الى الأذهان مانصه: - ((وَقَالُواْ كُونُواْ هُودًا أَوْ نَصَارَى))، أي قالت اليهود كونوا يهوداً، وقالت النصارى كونوا نصارى ((تَهْتَدُواْ)) للحق وترشدوا، ((قُلْ)) يا رسول الله ((بَلْ)) نتبع ((مِلَّةَ))، أي دين ((إِبْرَاهِيمَ)) الصافي عن شوائب اليهودية والنصرانية، وإنما هي الإسلام المصفى وإن كان فرقٌ بين الإسلام وبين دين إبراهيم في بعض الخصوصيات التشريعية، فالمراد نفي النصرانية واليهودية، ((حَنِيفًا))، أي مستقيماً عن الاعوجاج، ((وَمَا كَانَ)) إبراهيم ((مِنَ الْمُشْرِكِينَ)) كما أنتم أيها اليهود والنصارى مشركون، إذ تقولون (عزير ابن الله) أو (المسيح ابن الله)، وعلى هذا، فالمراد بالتباع ملة إبراهيم (عليه السلام) اتباعها في التوحيد.

إدعاء أهل الكتاب حيازة الحق

يدعي كل طرف من أهل الكتاب أنه على الحق من دون النظر الى الحق المطلق الذي يشتمل على كل أنواع الحق وهو سبب كاف لأن يجتهد كل إنسان ويبذل الجهد في سبيل تحصيل الحقيقة دون تعالٍ أو غرور.

قال تعالى: - " أَمْ تَقُولُونَ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطَ كَانُواْ هُودًا أَوْ نَصَارَى قُلْ أَأَنتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن كَتَمَ شَهَادَةً عِندَهُ مِنَ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ " سورة البقرة الآية 140.

وفسر ذلك بما ورد في تفسير تقريب القرآن الى الأذهان: - ((أَمْ)) تباحثون معنا في أمر الأنبياء و((تَقُولُونَ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ وَالأسْبَاطَ)) أحفاد يعقوب - كانوا أنبياء - ((كَانُواْ هُودًا)) أي يهوداً ((أَوْ نَصَارَى))، وهذا اشتباه منهم، إذ اليهودية والنصرانية تولدتا بعد إبراهيم (عليه السلام)، فكيف يكون إبراهيم أحدهما، كما قال سبحانه: (ما أنزلت التوراة والإنجيل إلا من بعده)، ((قُلْ)) يا رسول الله لهؤلاء المدعين بيهودية الأنبياء أو نصرانيتهم ((أَأَنتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللّهُ))، فالله سبحانه يقول لم يكونوا يهوداً ولا نصارى، وأنتم تقولون كانوا، ((وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن كَتَمَ شَهَادَةً عِندَهُ مِنَ اللّهِ))، أي لا أحد أظلم ممن يكتم الشهادة التي عنده من قبل الله سبحانه، فإن اليهود كانوا يكتمون ما أنزل الله إليهم من البينات والهدى حول الأنبياء السابقين وحول نبي الإسلام، ((وَمَا اللّهُ))، أي ليس الله ((بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ))، فإنه يعلم أعمالكم التي منها كتمانكم للشهادة، ثم يجازيكم عليها.

 

إختلاف أهل الكتاب فيما بينهم يحمل عبرة تاريخية لهم

شهد التاريخ مراحل متعددة من الصراع المذهبي بين طوائف البروتستانت والأرثودوكس والكاثوليك، وأختلف اليهود في زكريا وفي عيسى وفي غيرهما من الأنبياء والرسل وكانت هناك فرق متصارعة عند كل ملة من الملل والطوائف التي تختلف فيما بينهما كما هو الحال عند المسلمين وفيما بينهم وهذا يدعو الى أن ينتبه الجميع الى أهمية الحوار والتعايش وقبول الطرف الآخر.

قال تعالى: - " وَمِنَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّا نَصَارَى أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ فَنَسُواْ حَظًّا مِّمَّا ذُكِّرُواْ بِهِ فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاء إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللَّهُ بِمَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ " سورة 5 المائدة الآية 14.

جاء في تفسير تقريب القرآن الى الأذهان للراحل السيد  محمد الحسيني الشيرازي: هذا كان شأن اليهود، أما النصارى فليسوا أحسن حالاً من اليهود من بعض الجهات ((وَمِنَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّا نَصَارَى )) قولاً باللفظ لا إعتقاد بالقلب كما تقول : فلان يقول أني مسلم، تريد بذلك أنه ليس بمسلم حقيقة بل مسلم قولاً ((أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ )) من إقامة الصلاة وإيتاء لزكاة والإيمان بالرُسُل واتّباع أوامر الله ((فَنَسُواْ حَظًّا مِّمَّا ذُكِّرُواْ بِهِ )) كما نسي اليهود ذلك من ذي قَبل ((فَأَغْرَيْنَا )) التسليط والتحريش والتحريض ((بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاء إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ)) فإنهم إنقسموا إلى أقسام وأخَذَ بعضهم يعادي بعضاً عداءاً لا مثيل له حتى إنّ عداء بعضهم لبعض بَلَغَ إلى حيث لم يبلغ عدائهم لليهود والمسلمين والوثنيين وقد شهد التاريخ قديماً مذابح من فرق النصارى ومعادات الكاثوليك والبروتستانت والأرثوذكس فعلاً لا يحتاج إلى برهان وهذا أحد معاجز القرآن الحكيم كإخباره عن ذلّة اليهود وأنه ضُربت عليهم الذلّة والمسكنة، وهنا سؤال أنه كيف يكون إلى يوم القيامة وفي زمان المهدي (عليه السلام) يُسلم الكل وجهه إلى الله ثم أنّ يوم القيامة إنما يكون بعد موت الناس عشرات السنوات ؟ والجواب : أنّ هذا معناه بقاء العداوة ما بقوا يعتبر عن إستمرار الشيء إلى الأخير بمثل هذا التعبير ((وَسَوْفَ )) في يوم القيامة ((يُنَبِّئُهُمُ اللّهُ ))، أي يُخبرهم سبحانه ((بِمَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ)) ويقف التعبير إلى هذا الحد ليرسم صورة من التهديد كما تقول للمجرم غداً أُنبّئك بما عملتَ اليوم، تريد بذلك تهديده بالعقاب القاسي .

 

العدل الإلهي هو المحور المشترك بين جميع اهل الكتاب

إن أهم نقطة مشتركة بين أهل الأديان أن خالقهم واحد وأنهم بمنزلة سواء إذ لايفرق الله بينهم إلا من خلال العمل، فالصالح منهم يُقَرَّب والطالح يبعد وما الله يريد ظلماً بالعباد فهو عادل بين خلقه لايفرق بين أحد منهم يثيب المحسن ويعاقب المسئ.

قال تعالى: - " وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاء اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُم بِذُنُوبِكُم بَلْ أَنتُم بَشَرٌ مِّمَّنْ خَلَقَ يَغْفِرُ لِمَن يَشَاء وَيُعَذِّبُ مَن يَشَاء وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ " سورة المائدة الاية 18.

ومن تفسير تقريب القرآن الى الأذهان: -  ((وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاء اللّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ )) فإنّ النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) لمّا حذّرهم بنقمات الله وعذابه قالوا : نحن أبنائه، والإبن الحبيب لا يخاف من نقمة الأب الودود ((قُلْ )) يارسول الله لهؤلاء المفترين ((فَلِمَ يُعَذِّبُكُم )) الله ((بِذُنُوبِكُم )) ؟ حيث تعترفون بما حكى القرآن عنهم (وقالوا لن تمسّنا النار إلا أياماً معدودة) فإن كُنتم أبناءاً أحباءاً لم يكن معنى للعذاب ولعلّ المراد من المستقبل الماضي، أي لِمَ عذّبكم سابقاً بذنوبكم حيث جعل القِردة والخنازير وأشباه ذلك ((بَلْ أَنتُم )) أيها اليهود والنصارى ((بَشَرٌ مِّمَّنْ خَلَقَ )) تعالى إن أحسنتم جوزيتم وإن أسئتم جوزيتم كما يُجازي غيركم من الناس ((يَغْفِرُ لِمَن يَشَاء )) من العاصين ((وَيُعَذِّبُ مَن يَشَاء )) منهم أنه لا بنوّة ولا عواطف خاصة بين الله وبينكم ((وَلِلّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ )) فليس شيء من نفس الله حتى لا يملكه سبحانه -كما تدّعون أنتم من كونكم أبنائه- ((وَمَا بَيْنَهُمَا )) من سائر المخلوقات والمراد بالسماء هنا الكواكب وما يُرى في ناحيتها -كما هو المنصرف- حتى يتصوّر ما بينهما لا جهة العلو ((وَإِلَيْهِ )) سبحانه ((الْمَصِيرُ)) المرجع والمآل فليس هناك غيره يملك شيئاً أو يرجع إليه في أمر .

 

إتحاد اليهود والنصارى في جبهة واحدة

لليهود خصوصيتهم وللنصارى خصوصيتهم وعلى الرغم من إختلافهم فإن المرحلة التاريخية تجعلهم يقفون صفاً واحداً من الحركات الجديدة وبالخصوص من المسلمين على  إعتبار أنهم المنافس الجديد فلا ينبغي للمسلم والحالة هذه أن يلجأ إليهم وهم ممن يضمر لهم العداوة والبغضاء.

قال تعالى: - " يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاء بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ " سورة المائدة الآية 51.

وبعدما بيّن سبحانه إنحراف اليهود وضلالهم ذَكَرَ سبحانه هنا عدم جواز إتخاذهم أو النصارى أولياء في سبب النزول أنه لما كانت وقعة أُحُد إشتدّ الأمر على طائفة من الناس فقال رجل من المسلمين : أنا ألحق أنا ألحق بفلان اليهودي وآخذ منه أماناً، وقال آخر : أنا ألحق بفلان النصراني فآخذ منه أماناً فنزلت الآية ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاء)) فلا تصادقوهم مصادقة الولي لوليّه والحميم لحميمه ((بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ )) فإنّ بعضهم ينصر بعضاً ويعينه عليكم، وقد ظهر إنطباق كلامه سبحانه على الخارج طيلة أربعة عشر قرناً فإنّ اليهود والنصارى لم يزالا ينصر أحدهما الآخر على المسلمين على ما بينهما من العداء والبغضاء ((وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ ))، أي يصادقهم وينتصر بهم ويجعلهم أولياء له من المسلمين ((فَإِنَّهُ مِنْهُمْ )) كافر عملاً، من أهل النار، خطر على المسلمين ، وقد شاهدنا ذلك في هذا القرن الأخير حيث أنّ المسلمين الذين تولّوا الكفار كانوا من أخطر الناس على المسلمين، وكانوا في زمرة الكفار ينصرونهم وينتصرون بهم ((إِنَّ اللّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ)) الذين يظلمون أنفسهم بعدما علموا وعرفوا فإنه سبحانه لا يلطف بهم ألطافه الخفيّة .

 

وقال تعالى أيضاً: - " إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَالَّذِينَ هَادُواْ وَالصَّابِؤُونَ وَالنَّصَارَى مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ "  سورة المائدة الآية 69.

وقد تكرر شرح ذلك عند ذكر الآية 62 الواردة  في سورة 2 البقرة

ومن تفسير تقريب القرآن الى الأذهان: -  وحيث تقدّم أنّ الله لا يهدي القوم الكافرين مما كان يوهم أنّ الكفار غير قابلين للهداية، ذَكَرَ سبحانه أنهم إن آمنوا -الملازم لإمكان الإيمان منهم- كان لهم ما لغيرهم من المؤمنين من الأجر والمثوبة ((إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ )) إيماناً ظاهراً بالشهادتين ((وَالَّذِينَ هَادُواْ ))، أي اليهود ((وَالصَّابِؤُونَ )) وهم قسم من المسيحيّين أو غيرهم -كما تقدّم في سورة البقرة- ورفع (الصابئون) مع أنه عطف على المنصوب بـ (إنّ) للإلفات إلى أنّ الصابئ الذي لا يُرجى فيه خير إن آمن قُبِل فكيف بغيره، فهو معطوف على محل إسم (إن) حيث كان مبتدءاً قبل دخول الناسخ ((وَالنَّصَارَى )) ليس إعتبار بأساميهم وصبغتهم العامة في النجاة والثواب بل ((مَنْ آمَنَ)) منهم ((بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ )) إيماناً حقيقياً من القلب لا يشوبه شرك ونحوه ((وعَمِلَ صَالِحًا ))، أي عمل عملاً صالحاً ((فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ)) لا في الدنيا ولا في الآخرة، أما في الآخرة فواضح، وأما في الدنيا فلأنّ الخوف الحقيقي والحزن الواقعي هو الذي لا يُرجى دفعه وتداركه، بينما خوف هؤلاء وحزنهم ليس كذلك فإنّ خوف المؤمن ليس كخوف الكافر وكذلك بالنسبة إلى الحزن .

 

الإنفتاح على المسيحيين أسهل من الإنفتاح على اليهود

وعلى الرغم من إتحاد اليهود والنصارى في مواقفهم من الإسلام إلا أنهم يختلفون في تلك المواقف على وجه الخصوص إذ أن المسيحيون يتميزون بالعلم والعبادة والزهد وهذا مالانجده في طبع اليهود، لكن ذلك لايمنع من التواصل معهم ومع الجميع فهم أهل كتاب ومن واجبنا الإنفتاح عليهم ودعوتهم للسماع والتواصل ودعوتهم للاطلاع على فكر الإسلام فنحن نعيش سوية وعلينا أن ندعو الى تعميم الدعوات التي تتلائم مع الأجواء والمناخات المناسبة للسلام وتحقيق أكبر قدر من العدل.

قال تعالى: -  " لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِّلَّذِينَ آمَنُواْ الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُواْ وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَّوَدَّةً لِّلَّذِينَ آمَنُواْ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ " سورة المائدة الآية 82.

وقد جاء في تفسير تقريب القرآن الى الأذهان: -  ثم ذكر سبحانه فرقاً بين اليهود والنصارى، وأنّ اليهود طبيعتهم العامة العناد والإستكبار والعداوة وأنّ النصارى ليسوا بتلك المثابة، إذ فيهم بعض المنصفين من العلماء، وما أصدق قوله سبحانه، فإنه نرى ذلك إلى اليوم، فقد نجد كثيراً من المسيحيّين يُسلمون ولا نجد إلا الشاذ النادر من اليهود يُسلمون ((لَتَجِدَنَّ )) يارسول الله ((أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِّلَّذِينَ آمَنُواْ ))، أي للمسلمين ((الْيَهُودَ )) فإنهم من أعدى أعداء المسلمين ((وَالَّذِينَ أَشْرَكُواْ ))، أي المشركين فإنهم في رديف اليهود -وبعدهم في الرتبة- عداوة للمسلمين ((وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ )) أقرب الناس ((مَّوَدَّةً لِّلَّذِينَ آمَنُواْ ))، أي حباً للمؤمنين ((الَّذِينَ قَالُوَاْ إِنَّا نَصَارَى )) فإنهم وإن كانوا نصارى بصرف اللفظ (قالوا إنّا نصارى) لا إنهم على تعاليم المسيح ودينه حقيقة لكنهم من أقرب الناس للمسلمين ((ذَلِكَ ))، أي سبب كونهم أقرب ((بِأَنَّ مِنْهُمْ ))، أي من النصارى ((قِسِّيسِينَ ))، أي علماء من "القس" بمعنى نشر الحديث ((وَرُهْبَانًا ))، أي الزهّاد أصحاب الصوامع، من "رهب" بمعنى خاف ((وَأَنَّهُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ)) عن إتباع الحق والإنقياد إليه إذا علموه وبهده الصفة خرج من لم يكن كذلك من النصارى فإنّ القيد يخصص المطلق .

حقيقة الحقائق

الإسلام يدعو الى نشر الحقيقة الثابتة وتصحيح المسار عند أهل الديانات السابقة ومن اللطيف أن يستمع أهل الكتاب من اليهود والنصارى الى هذه الحقائق ويناقشوا ويحاوروا بالتي هي أحسن للوصول الى نتائج معقولة وينبغي أن ينتهزوا الفرصة للحوار العقائدي الجاد، فالإسلام يريد المصلحة العامة حسب الإرادة الإلهية فحسب، ولايريد غير ذلك، وهذه الحقيقة هي تلك التي تتمثل بالإخلاص في توحيد الله.

قال تعالى: -  " وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتْ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ذَلِكَ قَوْلُهُم بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِؤُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ " سورة التوبة الآية 30.

جاء في تفسير تقريب القرآن الى الأذهان: -

قوله تعالى: «و قالت اليهود عزير ابن الله و قالت النصارى المسيح ابن الله» إلى آخر الآية المضاهاة المشاكلة.

و الإفك على ما ذكره الراغب كل مصروف عن وجهه الذي يحق أن يكون عليه فمعنى «يؤفكون» يصرفون في اعتقادهم عن الحق إلى الباطل.

ومن تفسير الميزان: -  و قوله: «و قالت اليهود عزير ابن الله» عزير هذا هو الذي يسميه اليهود عزرا غيرت اللفظة عند التعريب كما غير لفظ «يسوع» فصار بالتعريب «عيسى» و لفظ «يوحنا» فصار كما قيل «يحيى».

و عزرا هذا هو الذي جدد دين اليهود و جمع أسفار التوراة و كتبها بعد ما افتقدت في غائلة بخت نصر ملك بابل الذي فتح بلادهم و خرب هيكلهم و أحرق كتبهم و قتل رجالهم و سبى نساءهم و ذراريهم و الباقين من ضعفائهم و سيرهم معه إلى بابل فبقوا هنالك ما يقرب من قرن ثم لما فتح «كورش» ملك إيران بابل شفع لهم عنده عزرا و كان ذا وجه عنده فأجاز له أن يعيد اليهود إلى بلادهم و أن يكتب لهم التوراة ثانيا بعد ما افتقدوا نسخها و كان ذلك في حدود سنة 457 قبل المسيح على ما ذكروا فراجت بينهم ثانيا ما جمعه عزرا من التوراة و إن كانوا افتقدوا أيضا في زمن أنتيوكس صاحب سورية الذي فتح بلادهم حدود سنة 161 قم و تتبع مساكنهم فأحرق ما وجده من نسخ التوراة و قتل من وجدت عنده أو أخذت عليه على ما في كتب التاريخ.

و لما نالهم من خدمته عظموا قدره و احترموا أمره و سموه ابن الله و لا ندري أ كان دعاؤه بالبنوة بالمعنى الذي يسمي به النصارى المسيح ابن الله - و المراد أن فيه شيئا من جوهر الربوبية أو هو مشتق منه أو هو هو - أو أنها تسمية تشريفية كما قالوا: نحن أبناء الله و أحباؤه؟ و إن كان ظاهر سياق الآية التالية: «اتخذوا أحبارهم و رهبانهم أربابا من دون الله و المسيح بن مريم» الآية يؤيد الثاني على ما سيأتي.

و قد ذكر بعض المفسرين: أن هذا القول منهم: «عزير ابن الله» كلمة تكلم بها بعض اليهود ممن في عصره (صلى الله عليه وآله وسلم) لا جميع اليهود فنسب إلى الجميع كما أن قولهم: «إن الله فقير و نحن أغنياء» و كذا قولهم: «يد الله مغلولة» مما قاله بعض يهود المدينة ممن عاصر النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فنسب في كلامه تعالى إلى جميعهم لأن البعض منهم راضون بما عمله البعض الآخر، والجميع ذو رأي متوافق الأجزاء و روية متشابهة التأثير.

و قوله: «و قالت النصارى المسيح ابن الله» كلمة قالتها النصارى، و قد تقدم الكلام فيها و في ما يتعلق بها في قصة المسيح (عليه السلام) من سورة آل عمران في الجزء الثالث من الكتاب.

و قوله: «يضاهئون قول الذين كفروا من قبل» تنبىء الآية عن أن القول بالبنوة منهم مضاهاة و مشاكلة لقول من تقدمهم من الأمم الكافرة و هم الوثنيون عبدة الأصنام فإن من آلهتهم من هو إله أب إله و من هو إله ابن إله و، من هي إلهة أم إله أو زوجة إله، و كذا القول بالثالوث مما كان دائرا بين الوثنيين من الهند و الصين و مصر القديم و غيرهم و قد مر نبذة من ذلك فيما تقدم من الكلام في قصة المسيح في ثالث أجزاء هذا الكتاب.

و تقدم هناك أن تسرب العقائد الوثنية في دين النصارى و مثلهم اليهود من الحقائق التي كشف عنها القرآن الكريم في هذه الآية: «يضاهئون قول الذين كفروا من قبل».

و قد اعتنى جمع من محققي هذا العصر بتطبيق ما تضمنته كتب القوم أعني العهدين: العتيق و الجديد على ما حصل من مذاهب البوذيين و البرهمائيين فوجدوا معارف العهدين منطبقة على ذلك حذو النعل بالنعل حتى كثيرا من القصص و الحكايات الموجودة في الأناجيل فلم يبق ذلك ريبا لأي باحث في أصالة قوله تعالى: «يضاهئون» الآية في هذا الباب.

 

لابد من الإستعداد ليوم الحساب بدلاً من العناد

فالمشكلة لاتقف عند حدود المواقف الجامدة في الحياة الدنيا لكن المهم والعبرة في النتيجة، فالناس كُتِبَ عليهم الموت وسيقفون بين يدي الله لذلك فإن الفرصة سانحة لهم للوقوف على وجه الحيقية وقبل فوات الأوان، ويجب الإذعان الى إرادة الرب في أمر توحيده وعبادته.

قال تعالى: -  " إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ " سورة الحج الآية 17.

جاء في تفسير تقريب القرآن الى الأذهان: -

بعد ما ذكر في الآيات السابقة اختلاف الناس و اختصامهم في الله سبحانه بين تابع ضال يجادل في الله بغير علم، و متبوع مضل يجادل في الله بغير علم و مذبذب يعبد الله على حرف، و الذين آمنوا بالله و عملوا الصالحات، ذكر في هذه الآيات أن الله شهيد عليهم و سيفصل بينهم يوم القيامة و هم خاضعون مقهورون له ساجدون قبال عظمته و كبريائه حقيقة و إن كان بعضهم يأبى عن السجود له ظاهرا و هم الذين حق عليهم العذاب.

ثم ذكر أجر المؤمنين و جزاء غيرهم بعد فصل القضاء يوم القيامة.

قوله تعالى: «إن الذين آمنوا و الذين هادوا و الصابئين و النصارى و المجوس و الذين أشركوا إن الله يفصل بينهم يوم القيامة» إلخ.

المراد بالذين آمنوا بقرينة المقابلة هم الذين آمنوا بمحمد (صلى الله عليه وآله وسلم) و كتابهم القرآن.

و الذين هادوا هم المؤمنين بموسى من قبله من الرسل الواقفون فيه و كتابهم التوراة و قد أحرقها بخت نصر ملك بابل حينما استولى عليهم في أواسط القرن السابع قبل المسيح فافتقدوها برهة ثم جدد كتابتها لهم عزراء الكاهن في أوائل القرن السادس قبل المسيح حينما فتح كوروش ملك إيران بابل و تخلص بنو إسرائيل من الإسارة و رجعوا إلى الأرض المقدسة.

و الصابئون ليس المراد بهم عبدة الكواكب من الوثنية بدليل ما في الآية من المقابلة بينهم و بين الذين أشركوا بل هم - على ما قيل - قوم متوسطون بين اليهودية و المجوسية و لهم كتاب ينسبونه إلى يحيى بن زكريا النبي و يسمى الواحد منهم اليوم عند العامة «صبي» و قد تقدم لهم ذكر في ذيل قوله: «إن الذين آمنوا و الذين هادوا و النصارى و الصابئين:» البقرة: 62.

و النصارى هم المؤمنون بالمسيح عيسى بن مريم (عليهما السلام) و من قبله من الأنبياء و كتبهم المقدسة الأناجيل الأربعة للوقا و مرقس و متى و يوحنا و كتب العهد القديم على ما اعتبرته و قدسته الكنيسة لكن القرآن يذكر أن كتابهم الإنجيل النازل على عيسى (عليه السلام).

و المجوس المعروف أنهم المؤمنون بزرتشت و كتابهم المقدس «أوستا» غير أن تاريخ حياته و زمان ظهوره مبهم جدا كالمنقطع خبره و قد افتقدوا الكتاب باستيلاء إسكندر على إيران ثم جددت كتابته في زمن ملوك ساسان فأشكل بذلك الحصول على حاق مذهبهم و المسلم أنهم يثبتون لتدبير العالم مبدأين مبدأ الخير و مبدأ الشر يزدان و أهريمن أو النور و الظلمة - و يقدسون الملائكة و يتقربون إليهم من غير أن يتخذوا لهم أصناما كالوثنية، و يقدسون البسائط العنصرية و خاصة النار و كانت لهم بيوت نيران بإيران و الصين و الهند و غيرها و ينهون الجميع إلى «أهورامزدا» موجد الكل.

و الذين أشركوا هم الوثنية عبدة الأصنام و أصول مذاهبهم ثلاثة: الوثنية الصابئة، و البرهمانية، و البوذية، و قد كان هناك أقوام آخرون يعبدون من الأصنام ما شاءوا كما شاءوا من غير أن يبنوه على أصل منظم كعرب الحجاز و طوائف في أطراف المعمورة و قد تقدم تفصيل القول فيهم في الجزء العاشر من الكتاب.

و قوله: «إن ربك يفصل بينهم يوم القيامة» المراد به فصل القضاء فيما اختلف فيه أصحاب هذه المذاهب و اختصموا فينفصل المحق منهم و يتميز من المبطل انفصالا و تميزا لا يستره ساتر و لا يحجبه حاجب.

و تكرار إن في الآية للتأكيد دعى إلى ذلك طول الفصل بين «إن» في صدر الآية و بين خبرها و نظيره ما في قوله: «ثم إن ربك للذين هاجروا من بعد ما فتنوا ثم جاهدوا و صبروا إن ربك من بعدها لغفور رحيم:» النحل: 110، و قوله «ثم إن ربك للذين عملوا السوء بجهالة ثم تابوا من بعد ذلك و أصلحوا إن ربك من بعدها لغفور رحيم:» النحل: 119.

و قوله: «إن الله على كل شيء شهيد» تعليل للفصل إنه فصل بالحق.

 

آل عمران والحواريون في القرآن والسنة المحمدية

 

وجوب الدفاع عن الحق

بعد إلقاء الحجة وتوصيل المعلومة الصادقة الى الطرف الآخر يختار كل طرف طريقه ومساره دون أن يهتم بتداعيات الإختلاف أو إختلال معادلة موازين القوة.

 

" فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسَى مِنْهُمُ الْكُفْرَ قَالَ مَنْ أَنصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنصَارُ اللَّهِ آمَنَّا بِاللَّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ " سورة  آل عمران 3 الآية 52.

ومن تفسير تقريب القرآن الى الأذهان جاء فيه: -  وبعد هذه الحجج لم يزدد بني إسرائيل إلا عناداً وإستكباراً ((فَلَمَّا أَحَسَّ )) من الحس، أي وجد ((عِيسَى )) (عليه السلام) ((مِنْهُمُ الْكُفْرَ )) وأنه لم تنفعهم الحجة والدليل ((قَالَ مَنْ أَنصَارِي إِلَى اللّهِ )) الذين ينصرون ديني للوصول إلى ثواب الله تعالى إذ المسلم يقطع طريق الوصول إلى الله لينتهي إلى ثوابه ((قَالَ الْحَوَارِيُّونَ )) هو جمع حواري من الحور بمعنى شدة البياض وسمّي خاصة الإنسان بالحواري لنقاء قلبه وصفاء باطنه ((نَحْنُ أَنصَارُ اللّهِ )) الذين ننصر دينه ونتابعك على ما أنت عليه ((آمَنَّا بِاللّهِ )) إيماناً لا يشوبه شرك ((وَاشْهَدْ )) ياعيسى ((بِأَنَّا مُسْلِمُونَ)) في أدياننا.

 

مراقبة الله للقوى المختلفة

لاشك أن القوة الأكبر وهي قوة الرب إنما تراقب القوى المختلفة فيما بينها وهي بلا شك تنحاز بالنتيجة الى القوة التي تمتلك الحقيقة والتي تحمل فلسفة الحق والتي تؤمن بالله وبرسوله وبكتابه وباليوم الآخر.

قال تعالى: - " وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّينَ أَنْ آمِنُواْ بِي وَبِرَسُولِي قَالُواْ آمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنَا مُسْلِمُونَ " سورة 5 المائدة الآية 111.

وجاء في تفسير تقريب القرآن الى الأذهان مانصه: -  ((وَ)) اذكُر نعمتي عليكَ ياعيسى بن مريم (عليه السلام) ((إِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّينَ )) الوحي هنا بمعنى الإلقاء إليهم ولو كان ذلك بواسطة نفس عيسى أو يحيى (عليهما السلام)، أو المراد الإلهام إلى قلوبهم بواسطة العقل الذي هو حُجّة باطنة، والمراد بالحواريّين أصحابه الخاصون به، وسَبَقَ وجه تسميتهم بالحواري ((أَنْ آمِنُواْ بِي وَبِرَسُولِي )) المسيح، فإنّ الإيمان بالله نعمة على المسيح، كما إنّ تصديقه (عليه السلام) نعمة عليه، إذ الأمران موجبان لقُربه (عليه السلام) إلى الله سبحانه حيث تمكّن من إهدائهم بالإضافة إلى لزوم الإحترام الظاهري ((قَالُوَاْ ))، أي قال الحواريون ((آمَنَّا ))، أي بالله ورسوله ((وَاشْهَدْ )) ياربنا، أو المراد الإستشهاد بعيسى (عليه السلام) ((بِأَنَّنَا مُسْلِمُونَ)) لله فيما يأمر وينهي .

 

عيسى عليه السلام يوجه حواريه ليكونوا محلصين

حاول عيسى عليه السلام أن يقود حواريه الى الوعي العقائدي السليم الذي يتماشى مع الإيمان وأن لايكونوا ضعفاء في تفكيرهم وعقيدتهم.

قال تعالى: - " إِذْ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَن يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِّنَ السَّمَاء قَالَ اتَّقُواْ اللَّهَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ " سورة 5 الآية 112.

ومن تفسير تقريب القرآن الى الأذهان جاء مانصه: -  واذكر نعمتي عليك ياعيسى بن مريم (عليه السلام) حينما جرى الحوار بينك وبين الحواريّين حول إنزال الله المائدة فطلبتَ من الله فاستجاب لك وأنزل المائدة ((إِذْ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ )) ولعلّهم ذكروا اللفظ بتأديب وإنما نَقَلَ سبحانه المعنى، أو كان مثل هذا الخطاب من دستور عيسى (عليه السلام) نفسه، أو كان لديهم متعارفاً ((هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَن يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَآئِدَةً مِّنَ السَّمَاء )) أما المراد الإستطاعة بحسب القدرة، وكان ذلك حين عدم كمال إيمانهم، وأما المراد الإستطاعة بحسب الإرادة، أي هل يريد ؟ ، وكان سؤال إستعطاف، والمائدة مشتقّة من ماد يميد إذا تحرّك، فهي فاعلة سمي بها الخوان لأنه يميد ويتحرك من مكان لمكان آخر وقت البسط والجمع، وقد أرادوا إتيان عيسى بهذه المعجزة ليروها ويلمسوها ويأكلوها، فلا يبقى محل ريب لهم في صدق الدعوة، ولعلّ ذلك كان قبل سائر الآيات من إبراء الأكمه والأبرص، ولذا ((قَالَ )) لهم عيسى (عليه السلام) ((اتَّقُواْ اللّهَ ))، أي خافوه فلا تسئلوا سؤال جاهل ذي ريب ((إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ)) بالله بماله من صفات الكمال التي منها الإستطاعة على مثل هذا الأمر المهين .

 

التواصل مع التاريخ

لابد لأهل الكتاب من التواصل مع المرحلة التاريخية التالية لمرحلة أنبياءهم الذين يعتقدون بنبوتهم وأن يتحلوا بالتواضع والتسامح والإنفتاح ليصلوا الى الحقائق الثابتة.

قال تعالى: - " يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا أَنصَارَ اللَّهِ كَمَا قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوَارِيِّينَ مَنْ أَنصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنصَارُ اللَّهِ فَآمَنَت طَّائِفَةٌ مِّن بَنِي إِسْرَائِيلَ وَكَفَرَت طَّائِفَةٌ فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظَاهِرِينَ " سور 61 الصف الآية 14.

جاء في تفسير الميزان مانصه: -  قوله تعالى: «يا أيها الذين آمنوا كونوا أنصار الله» إلخ، أي اتسموا بهذه السمة و دوموا و اثبتوا عليها فالآية في معنى الترقي بالنسبة إلى قوله السابق: «هل أدلكم على تجارة تنجيكم من عذاب أليم» و مآل المعنى: اتجروا بأنفسكم و أموالكم فانصروا الله بالإيمان و الجهاد في سبيله و دوموا و اثبتوا على نصره.

و المراد بنصرتهم لله أن ينصروا نبيه في سلوك السبيل الذي يسلكه إلى الله على بصيرة كما قال: «قل هذه سبيلي أدعوا إلى الله على بصيرة أنا و من اتبعني»: يوسف: 108.

و الدليل على هذا المعنى تنظيره تعالى قوله: «كونوا أنصار الله» بقوله بعده: «كما قال عيسى بن مريم للحواريين من أنصاري إلى الله قال الحواريون نحن أنصار الله» فكون الحواريين أنصار الله معناه كونهم أنصارا لعيسى بن مريم (عليهما السلام) في سلوكه سبيل الله و توجهه إلى الله و هو التوحيد و إخلاص العبادة لله سبحانه فمحاذاة قولهم: «نحن أنصار الله» لقوله: «من أنصاري إلى الله» و مطابقته له تقتضي اتحاد معنى الكلمتين بحسب المراد فكون هؤلاء المخاطبين بقوله: «يا أيها الذين آمنوا كونوا أنصار الله» أنصارا لله معناه كونهم أنصارا للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في نشر الدعوة و إعلاء كلمة الحق بالجهاد، و هو الإيمان بالنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و طاعته فيما يأمر و ينهى عن قول جازم و عمل صادق - كما هو مؤدى سياق آيات السورة.

و قوله: «فآمنت طائفة من بني إسرائيل و كفرت طائفة فأيدنا الذين آمنوا على عدوهم فأصبحوا ظاهرين» إشارة إلى ما جرى عليه و انتهى إليه أمر استنصار عيسى و تلبية الحواريين حيث تفرق الناس إلى طائفة مؤمنة و أخرى كافرة فأيد الله المؤمنين على عدوهم و هم الكفار فأصبحوا ظاهرين بعد ما كانوا مستخفين مضطهدين.

و فيه تلويح إلى أن أمة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) يجري فيهم ما جرى في أمة عيسى (عليه السلام) تؤمن منهم طائفة و تكفر طائفة فإن أجاب المؤمنون استنصاره - و قد قام هو تعالى مقامه في الاستنصار إعظاما لأمره و إعزازا له - أيدهم الله على عدوهم فيصبحون ظاهرين كما ظهر أنصار عيسى و المؤمنون به.

و قد أشار تعالى إلى هذه القصة في آخر قصص عيسى (عليه السلام) من سورة آل عمران حيث قال: «فلما أحس عيسى منهم الكفر قال من أنصاري إلى الله قال الحواريون نحن أنصار الله»: آل عمران: 52، إلى تمام ست آيات، و بالتدبر فيها يتضح معنى الآية المبحوث عنها.

 

عبد الله عيسى في القرآن والسنة المحمدية

إتسم عيسى عليه السلام بالتواضع والتقوى ونكران الذات وتقرير عبادة الله الواحد الأحد الذي يعبده ولايشرك به شيئا.

قال تعالى: - " قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا " سورة 19 مريم آية 30.

جاء في محمع البيان في تفسير القرآن للطبرسي: « قال » عيسى (عليه السلام) « إني عبد الله » قدم إقراره بالعبودية ليبطل به قول من يدعي له الربوبية و كان الله سبحانه أنطقه بذلك لعلمه بما يقوله الغالون فيه ثم قال « آتاني الكتاب و جعلني نبيا » أي حكم لي بإتيان الكتاب و النبوة و قيل إن الله تعالى أكمل عقله في صغره و أرسله إلى عباده و كان نبيا مبعوثا إلى الناس في ذلك الوقت مكلفا عاقلا و لذلك كانت له

تلك المعجزة عن الحسن و الجبائي و قيل إنه كلمهم و هو ابن أربعين يوما عن وهب و قيل يوم ولد عن ابن عباس و أكثر المفسرين هو الظاهر و قيل إن معناه أني عبد الله سيؤتيني الكتاب و سيجعلني نبيا و كان ذلك معجزة لمريم (عليهاالسلام) على براءة ساحتها.

 

خاتمة

إن الضرورة تقتضي نزع لباس الغرور عند أهل الكتاب من أجل البحث والوقوف على الحقائق الثابتة ومنها التوحيد.

 

المصادر

1 -  تفسير تقريب القرآن الى الأذهان: وقد قام كاتب مسلم من أصل بريطاني بترجمة تفسير (تقريب القرآن إلى الأذهان للإمام الراحل السيد محمد الحسيني الشيرازي أعلى الله درجاته) إلا أنه لم يطبع وقد اطلع على هذه الترجمة خبراء في أكثر من بلد عربي وابدو إعجابهم واستحسانهم الكبيرين في دقة ومتانة الترجمة. موقع الإمام الشيرازي http://alshirazi.com/index.htm

http://alshirazi.com/roaa/publication/15.htm

2 -  الميزان في تفسير القرآن للعلامة الطباطبائي

3 -  محمع البيان في تفسير القرآن للطبرسي

4 –  موقع السراج في الطريق الى الله – الشيخ حبيب الكاظمي

www.alseraj.net

المواضيع التي سبق نشرها والمرتبطة بهذا المقال: -

أولاً: -  الفصل في قضاء قضية الإساءة الى نبي المسلمين -  نداء الى العالم المسيحي والغربي.

ثانياً: -  ضرورة حث المسيحيين على قراءة القرآن -  نداء الى العالم الإسلامي والعربي.

ثالثاً: -  محمد وعيسى في القرآن والسنة المحمدية - بين الجهل والحقيقة.

رابعاً: -  مريم المقدسة في القرآن والسنة المحمدية - مريم المقدسة عند المسيحيين هي مقدسة عند المسلمين وأقدس.

 

 

‏30‏/01‏/2013


قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat


محمود الربيعي
 (للدخول لصفحة الكاتب إضغط هنا)

    طباعة   ||   أخبر صديقك عن الموضوع   ||   إضافة تعليق   ||   التاريخ : 2013/01/31



كتابة تعليق لموضوع : اهل الكتاب والنصارى وآل عمران والحواريون في القرآن والسنة المحمدية
الإسم * :
بريدك الالكتروني :
نص التعليق * :
 



حمل تطبيق (كتابات في الميزان) من Google Play



اعلان هام من قبل موقع كتابات في الميزان

البحث :





الكتّاب :

الملفات :

مقالات مهمة :



 إنسانية الإمام السيستاني

 بعد إحراجهم بكشف عصيانها وخيانتهم للشعب: المرجعية الدينية العليا تـُحرج الحكومة بمخالفة كلام المعصومين.. والعاصفة تقترب!!!

 كلام موجه الى العقلاء من ابناء شعبي ( 1 )

 حقيقة الادعياء .. متمرجعون وسفراء

 قراءة في خطبة المرجعية : هل اقترب أَجلُ الحكومةِ الحالية؟!

 خطر البترية على بعض اتباع المرجعية قراءة في تاثيرات الادعياء على اتباع العلماء

 إلى دعاة المرجعية العربية العراقية ..مع كل الاحترام

 مهزلة بيان الصرخي حول سوريا

 قراءة في خطبة الجمعة ( 4 / رمضان/ 1437هـ الموافق 10/6/2016 )

 المؤسسة الدينية بين الواقع والافتراء : سلسلة مقالات للشيخ محمد مهدي الاصفي ردا على حسن الكشميري وكتابيه (جولة في دهاليز مظلمة) و(محنة الهروب من الواقع)

 الى الحميداوي ( لانتوقع منكم غير الفتنة )

 السيستاني .. رسالة مهدوية عاجلة

 من عطاء المرجعية العليا

 قراءة في فتوى الدفاع المقدس وتحصين فكر الأمة

 فتوى السيد السيستاني بالجهاد الكفائي وصداها في الصحافة العالمية

 ما هو رأي أستاذ فقهاء النجف وقم المشرّفتَين السيد الخوئي بمن غصب الخلافة ؟

 مواقف شديدة الحساسية/٢ "بانوراما" الحشد..

أحدث مقالات الكتّاب :


مقالات متنوعة :





 لنشر مقالاتكم يمكنكم مراسلتنا على info@kitabat.info

تم تأسيس الموقع بتاريخ 1/4/2010 © محمد البغدادي 

 لا تتحمل الإدارة مسؤولية ما ينشر في الموقع من الناحيتين القانونية والأخلاقية.

  Designed , Hosted & Programmed By : King 4 Host . Net