صفحة الكاتب : د . محمد تقي جون

الحلقة الخامسة بناء الإنسان الفيلي
د . محمد تقي جون

المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الموقع، وإنما تعبر عن رأي الكاتب.

 

مدخل

أنت ألصق بآبائك من أي قضية أخرى؛ فالمرء يقدر أن يغيِّر معتقده اذا وجد معتقداً أصلح منه، وهو دائب التغيير واختيار الأفضل في الأمور الحياتية كلها، ولكنه لا يستطيع أن يغير أباه إذا وجد أباًً أحسن منه. والقاعدة أن ينتمي الابن بكل فخر لأبيه ولا يجحده. وإذا طلب الله (I) من الإنسان أن يذكره أكثر من أبيه فلتأكده من حبه الفطري وهوسه الطبيعي بأبيه، وذلك في قوله تعالى (فَاذْكُرُواْ اللّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا)(1)، وعن الرسول (r): يقول الله (U): أنا الرحيم، وإنما خلقت الرحم وشققت لها اسما من اسمي، فمن وصلها وصلته ومن قطعها بتتّه)(2).. ولهذا كان واجباً الانتساب الصحيح وتعلم وتعليم النسب لتحقيق ذلك، وهو ما جسده قول الرسول والصحابة وعلماء الأمة كقوله (r) " تَعلَّموا من النَّسَب ما تَعْرِفون به أحسابَكم وتَصِلون به أرحامَكم" وقول الخليفة عمر ابن الخطاب (t): " تَعلّموا النَّسَب ولا تَكونوا كَنبِيط السَّواد إذا سُئِل أحدُهم عن أَصْله قال: من قَرْية كذا وكذا" " وقول ابن عبد ربه: " من لم يعرف النسب لم يعرف الناس، ومن لم يعرف الناس لم يعدَّ من الناس"(3).

والله والرسول لم يتجاوزا مقدار معرفة القوم والانتماء إليه بوصفه حقاً طبيعياً وضرورة قصوى لا يمكن التخلي عنها مع الحالة الإيمانية والدينية التي تعمل بكل جد لصنع امة متماسكة، فتكون القوميات المصرّ عليها مصهورة في هذه الأمة بشكل تكاملي.. ويوضح الجانب الآخر الذي يريده الله إطاراً شاملاً ومحتوياً للقومية التي حددت في الأقوال السابقة، أقوال أخرى من مثل: " إن نبيكم واحد، وإن أباكم واحد، وإنه لا فضل لعربي على عجمي ولا لأحمر على أسود إلا بالتقوى"(4). و" يا أيها الناس! إن الرب رب واحد، وان الأب أب واحد، وان الدين دين واحد، وليست العربية بأحدكم من أب ولا أم فإنما هي اللسان، فمن تكلم العربية فهو عربي"(5).

     وعلى هذا الاساس فالفيلي الذي ينكر أصله ويدعي أصلاً آخر انما يسيئ الى آبائه وأجداده، وكان عليه أن لا يختار على أبيه أباً آخر فيصم نفسه، ولو كان هذا الاب المدعى مقدساً؛ لأنه بكل بساطة ليس أباه. وان الله (Y) ساوى في الاصول وجعل التفاضل بالايمان والعمل الصالح.


 

 

 

 

تهدم الإنسان الفيلي

 

حددنا فيما تقدم حقيقة عراقية الفيليين بوصفهم سكان مدن الحدود العراقية الى ضفاف دجلة. فهم عراقيون أصالة، وجزء من فسيفساء المجتمع العراقي المتشكل عبر التاريخ الطويل، متآلف منسجم يؤكد منطوقه الحضاري والاجتماعي معيته لمجتمعه بشكل نهائي، واستحالة الخروج منه أو عليه، او الانفصال بكل أشكاله. وهو لُوَين وليس لوناً قومياً مميزاً كأخوانه الكردستانيين .

وعلى هذا الاساس فإن الفيليين الذين سكنوا العراق وحصلوا على الجنسية العراقية أو التجنس، عراقيون طبقاً للقوانين الدولية ويجب أن يعاملوا كباقي العراقيين سواء بسواء. ولكن ما مدى تطابق: (الفيلي العراقي) مع (العراقي غير الفيلي)؟ وما قوة عراقية الفيلي؟ 

إن الفيلي بالمواصفات المعروفة وكما يحمله مدلول اسمه ومن خلال مراجعة تاريخه شخصية قوية، مفكرة، فاعلة، تتنافس على الصدارة وتأبى حياة القاع. واغلب شبابهم اليوم في وظائف حكومية محترمة منهم الصيدلي والأستاذ الجامعي والتاجر والطبيب والضابط والمدرس والمحامي وغير ذلك.

ولسنا بصدد ذكر أمثلة على ذلك فهي تفوق العد وتأبى الجحْد، إلا أن الإنسان الفيلي منذ العهد الملكي ووصولا للبعثيين وصدام وبعد زمن سقوطه في نزول وتنازل مطرد عن فيليته. وكانت بداية الخلخلة عندما عدوه (دخيلاً لا أصيلاً) و(مشكوكاً في وطنيته) و(غير منتمٍٍ للشعب العراقي). وتبع ذلك اضطهاده بأقسى الوسائل وأبشع الصور بسبب النظرة العمياء تلك. وكان التهجير القسري بمثابة اقتلاع من الجذور وخسئ فشلاً ذريعاً وخبثاً غبياً مارسوه فأضروا الناس ولم يهدموا الأساس. وكان أكبر المآسي تهديد انتماء الفيلي للعراق والعراقيين وهذه أكثر مناطق التهجير ايلاماً، فأصبح العراق ذكرى دامعة دامية في عين ونفس الفيلي في مخيمات الحدود أو المدن الغريبة القصية.

ولا يختلف الأمر سوءاً لدى الفيليين غير المهجرين، فقد عاشوا التهجير نفسياً وتغصصوا الغصص كلها، ذلك لان التهجير ليس إخراج أناس معينين إلى خارج البلد، بل هو رفض انتمائهم، والرفض ليس بالتهجير الفعلي فقط، فالباقون بفعل هذا (الرفض) صار عليهم أن يتحملوا آلام (الذوبان) في العرب وقتل الفيلية في (الإنسان الفيلي) أي قتل شعب دون قتل، وإبادة من نوع أحقر من الإبادة التقليدية.

لقد تغصص الفيليون موت الأصل كما تغصصه العرب المسلمون في اسبانيا (المورسيكيون) بعد زوال دولتهم، فصار الفيليون كرداً مستعربين متدرجين إلى عرب أقحاح، فنسيت لغتهم وصاروا يتكلمون في بيوتهم العربية، ويرون أحلامهم بالعربية، ولا يجيدون من الكردية إلا كلمات قلائل لا ينطقونها بشكل صحيح.

وبسبب الخوف سُلِبوا (قوة الشخصية) مما اضطرهم إلى الانشداد إلى القبائل العربية أكثر من (الموالاة = ذب الجرش) إلى درجة ادعائها أصلاً حقيقياً ونكران أصلهم أو ترك خيوط واهنة تربطهم به.  ولو قارنا بين (فيلي) و(عربي) في زمن صدام سنجد الفرق شاسعاً من الناحية النفسية والعملية؛ فالفيلي شخص قلق كالحمامة المتأهبة للطيران دائماً كما وصفها (همنگواي)، بينما يتمتع أخوه العربي بالاستقرار النفسي التام.

وتبعاً لذلك صار الفيليون لا يمثلون لدى العرب لوناً قومياً حاداً بل لويناً متدرجاً، لكونهم خُففوا إلى أقصى درجة من القومية الفاصلة بينهما؛ فاللغة الكردية منسية والعادات والتقاليد مشتركة، ولم تبق عادات وتقاليد خاصة بالفيليين حتى عيد النوروز أكبر المناسبات الكردية لا يعدو أن يكون عطلة يستريح فيها، ويعنيه بقدر ما يعني العربي الذي يسميه (عيد الشجرة) فالمناسبة لا تميز فيها عند الاثنين، بينما في إيران وشمالي العراق يكون للنوروز أهمية وقدسية خاصة وتقام له احتفالات كبيرة وخاصة، وكذلك بقية العادات والتقاليد.

لقد جاء على الفيليين حينٌ طويل من الدهر لا تنغص عراقيتهم أو يشكك فيها، وعاشوا كالشيء الواحد مع باقي العراقيين. وقد احترمهم العرب احتراماً كاملاً فلم يضايقوهم في شيء أو يفرضوا عليهم شيئاً؛ ومارسوا عاداتهم وتقاليدهم ومناسباتهم الخاصة وأهم ذلك (لغتهم الكردية) التي مارسوها في البيت والشارع والعمل. وقد فقدوا ذلك بالتدريج بسبب ضعف شعورهم القومي وعدم تقديرهم أهمية اللغة رباطاً بينهم وبين أجدادهم وقومهم وامتداداً لهم في أبنائهم وأجيالهم القادمة؛ فما يمر جيل واحد أو جيلان حتى تصبح اللغة نسياً منسياً، فراضي الطباطبائي يقول عن جيل الثلاثينات والأربعينات "واغلب شبابهم قد نسوا اللغة الكردية ولم يفهموها بتاتاً"(6) ولكنهم لم ينكروا أصولهم في ذلك الوقت.

وقد وجدتُ أن الذي يجيد العربية منهم من عاش في مناطق حدودية كخانقين وبدرة وزرباطية أو تجمعات فيلية كما في مناطق بغداد: باب الشيخ، أبو سيفين، الفضل..الخ وهي أشبه بالجالية في المجتمع العربي، أما من عاش مباشرة مع العرب منتمياً إليهم ومتماساً معهم، فالجد القادم من پشتكو يعلِّم ابنه وعند هذا تنتهي الكردية فلا تصل إلى الحفيد فهو لا يجيدها أو قد يلم ببعضها، وتبقى اللغة حية في النساء إلى مدة أطول ثم تموت.

فممارسة الكردية تعود إلى قرب العهد بالنزوح من ﭙشتكو، ووجود الفيليين في تجمعات فيلية أو عيشهم في مناطق حدودية. واذكر في السبعينات كان مزعل (رحمه الله) بمقهاه في سوق الكوت (السوق المسقوف المفضي الى ساحة العامل)، يردد جملة كردية اقتضتها مهنته (چايچي) وهي: (يه‌کي بخه‌ وه‌ري) أي (ضع واحداً أمامه) (يقصد استكان شاي)، فصارت جملة شهيرة يتداولها السوق كله عرباً وكرداً.

ولا يحتاج الفيلي إلى تعلم العربية قسراً وإنما يتعلمها بقدر تعلق الأمر بالضرورة ولاسيما الحاجة إليها في التعامل والعمل، وكثير من الكرد عاشوا وماتوا وهم لا يجيدون تشكيل جملة عربية صحيحة مثل جدي (رحمه الله)(7). وغالبية الذين يجيدون العربية تميزهم بلكنة واضحة بنطقهم للجملة أو بعض الحروف كالحاء والطاء والضاد والظاء، وهو دليل عدم منعهم أو محاربتهم في لغتهم حتى مجيء البعثيين ولاسيما زمن المقبور صدام، إذ صار الآباء يخافون أن يعلموا أبناءهم لغتهم كما أنهم صاروا يتكلمون بها سراً بينهم لا علانية بين الناس.

وبتأثير صدام اقتنع بعض العرب العراقيين بتميزهم عن الفيليين وأنهم أعلى درجة وقدراً منهم وعاملوهم بهذه العقلية وهذا الفهم فكانت استعلائية، ونـُظِر إليهم من وجهة نظر عشائرية بأنهم (مـگطمين) على أساس عدم وجود عمق عشائري لديهم، لان عشائرهم إيرانية لا جذور لها في العراق (وهو جهل تاريخي عقيم). وكثير من العرب أنف من تزويج بناتهم من فيليين وهذه مشكلة اجتماعية مؤشرة.

وفي أثناء التهجير القسري ظهرت من بعض العرب شماتة واظهروا فرحهم بنكبة الفيليين، واقتنعوا بالدعاية الصدامية بان الفيليين يسرقون قوت العراقيين، وقد سمعت بنفسي احدهم يقول (خلي يولون مصَّوا دمنا). واشترى الجار الملاصق أغراض الفيلي المهجّر بثمن بخس دراهم معدودة بدل إنصافه في ثمن حاجاته التي اشتراها بدم قلبه وجهد سنواته، وقد أوصى الله الناس بتقدير ما عند الآخر بقوله (U) (وَلاَ تَبْخَسُواْ النَّاسَ أَشْيَاءهُمْ)(8).

ولكن هؤلاء ضخَّم فيهم صدام عقدة الجشع وأعمى ضميرهم الوطني فتنكروا لإخوان لهم منذ وعوا على الحياة كانوا إلى جنبهم في السراء والضراء. وقد حدثت في التهجيرات قصص تقطر حسرات ؛ ففي (عگد الجديدة) في الكوت اختبأ احد الفيليين بعدما ابلغه الأمن بشموله بالتهجير، ولم يكن يعلم بمكان اختبائه غير واحد فقط هو أعز أصدقائه، وفي يوم من تلك الأيام السود دخل بيته (جاره المخلص) ونادى عليه بعبارة مزاح فخرج الفيلي المطلوب من الأمن فإذا به يرى صديقه وحوله مجموعة من رجال الأمن! فألقوا القبض عليه. وكنا في زمن الحرب على إيران، كلما جاءت طائرة إلى الكوت تقصف يرسل الأمن الصدامي في طلب والدي للاستجواب. وكانوا يقولون له عبارة واحدة: (أنتو تنطون إشارة للطيارة)، وبعد تحقيق وخضِّ يعود أبي إلى البيت. وفي مرة قال لهم أبي: اذا شاهد الطيار ضوءاً ماذا يفعل؟ قالوا له يضرب مكان الضوء، فقال أبي: وكيف أعطي إشارة ضوئية للطيار من بيتي اذا كان سيقصفه؟ فأجابه الأمني: (والله حجي اسأل جارك اللي يشتكي عليك كل مرة)!!!

إلا إن هذه الحالات تبقى قليلة، فالعلاقة بين الكردي الفيلي والعربي (بوصفهما عراقيين) تعظُم مشرِّفاتها على خسيساتها.

 

 

 

الكرد المستعربون

 

لقد مرَّ أن الفيليين فقدوا تدريجياً لغتهم وصارت اللغة العربية بديلة منها في التحدث والكتابة، وهذا جعلهم يفقدون بمرور الزمن الكثير من معالم كرديتهم. ومثلما تأثرت الكردية الفيلية، تأثر الكردي الفيلي؛ فانه بسبب ضعف شعوره القومي ورغبته الطبيعية في الاندماج والعيش مع الأقوام الأخرى ولاسيما العرب، جعله يفقد الكثير من كرديته، فضلا عن ضعف أو موت اللغة الكردية في اسرته، واضطهاد البعثيين له، كل ذلك جعله مستعرباً بكل معنى الكلمة. بل خرج من الكرد أفذاذ في اللغة العربية بزوا العرب الأقحاح كابن قتيبة وبديع الزمان الهمذاني قديماً والدكتور مصطفى جواد والشاعر زاهد محمد حديثاً.

وكان نظام العشائر العربية يسهِّل تذويب الجماعات غير العربية المنتمية إليه بلابدِّية، فالنظام العشائري يوفر الحماية لأبناء العشيرة ومواليهم (ذبَّابة الجرش)، ولابدَّ من الانضمام بقوة إلى العشيرة لضمان الحماية.

ومع مجيء البعثيين ولاسيما زمن الطاغوت صدام حسين، أصبح كثير من الفيليين وبتصاعد مخيف يلغون أصولهم الفيلية وينتسبون إلى قبائل عربية. بل صار غالبيتهم يغير اسم عشيرته الفيلية إلى اسم عشيرة عربية قريبة في التسمية من عشيرته، كما في الجدول أدناه:

العشيرة الكردية

اسمها العربي المبدل

جايرون

الـﭽادر، الجادري

گلگلي، ﮔلني

الوردي

بيري 

البدري

نوروزوند

النوروزي

الشادلوند

الشادلي

ماسپي، ماسي 

الربيعي

زرﮔوش

الزرﮔاني، آل ازيرج، الازرقي

كاوري

ماهر خضوري

قيتول

القاتلي

نوكر نازر

الطائي

ملك شاهي

المالكي

خزڵ

الخزعلي

خطاوي، ملخطاوي

الكناني

ماموسي

آل موسى

قيسواني

القيسي

ﭙاﭙـي روان

البياتي

ميمي

المياحي

باكيروان

البكري

دينوري

العباسي

وكان يُنتظر أن تعود مياه الفيليين إلى مجاريها الكردية بعد السقوط وتبدل العهد، فيقول الفيلي بكل فخر وثقة (أنا كردي فيلي)، ولكن حصل العكس فترسخت تلك الأفعال السابقة وأصر الفيليون على الاستعراب، وقد رأيت أحدهم من عشيرة (نوكر نازر) يقف بوجه الدبابات الأمريكية وعندما سأله أحد أصدقائه عن أصله قال: أنا من (بني لام)؛ أي انه لم يخف من الموت الحقيقي وخاف من إظهار (فيليته)!! ورسم جماعة من عشيرة (قدْبَي= قطبي) شجرة نسب ترجعهم إلى الخليفة الراشد عثمان بن عفان(y)، وذكر الطباطبائي أن عشيرة نوكر نازر تؤكد أنها من طي(9). ومن الأساليب الأخرى الأكثر توهاناً الانتساب إلى الدوحة العلوية (السيادة)، فزعم بعضهم انه (حسني) و(حسيني) و(عباسي) و(موسوي). واليوم نجد كثيرين ولاسيما الشباب يعرف انه فيلي ولا يعرف اسم عشيرته معتقداً أن الفيليين لا عشائر عندهم بل هم قوم واحد! بينما عليهم شرعاً ومروءة أن يحافظوا على أصولهم توارثاً وتوريثاً فالناس مأمونون على أحسابهم. 


 

 

 

الفيليون والكردستانيون والشيعة

 

إن طرح (الكرد الفيليين) بوصفهم شيعة فقط يفقدهم خصوصيتهم وهي أنهم (كرد)، وبالتالي سيشتركون مع العرب والتركمان الشيعة، اذاً ليس من الصواب أن يعاملوا بأنهم شيعة فقط. فقد يغيِّر شخص واحد أو مجموعة أفراد مذهبهم إلى مذهب آخر لأسباب أقواها المساكنة بينما لا يستطيع هذا الفرد أو هذه المجموعة تغيير أصلها؛ فالأصل حبل النسب الذي يبدأ بالشخص وينتهي بالعشيرة الكبيرة الجامعة. وقد غيَّر مذهبه كثير من الأفراد والجماعات، ومن الأمثلة المعروفة في تغيير المذهب من قبل مجموعات أن قسماً من عشيرة (ألبو علوان) وهم (دليم) غيروا مذهبهم السني إلى المذهب الشيعي وصار يضرب بهم المثل. وهناك فيليون تحولوا إلى مذاهب السنة لعيشهم في اماكن سنية.

كما أن طرحهم (كرداً) بلا إضافة فيه حيف كبير عليهم؛ فمعروف أن الكرد في العراق لهم مكونان: كرد كردستان وكرد فيليون. وهما مختلفان في ما عدا الاصل المشترك القديم. فلكل منهما تاريخه المستقل، وثقافته المميزة، وجغرافيته المختلفة. فقد عاش الفيليون في ارض مشتركة هي امتداد للسهل الرسوبي، بينما عاش الكردستانيون في ارضهم الجبلية المستلقة جغرافياً، بحيث ان الفتح الاسلامي استمر بكل يسر متقدماً من الجنوب الى مناطق الفيليين في معركة القادسية. وحين اراد الفاتحون دخول كردستان جاؤوها من الشمال، فكان بين اراضي الفيليين والكردستانيين حاجز طبيعي.

 وهما مختلفان في المعاملة من الحكومات العراقية المتتابعة في مسألة الانتماء وما ترتب عليه، فقد عومل كرد كردستان بوصفهم عراقيين بشكل كامل، وبالتالي لم يهجروا إلى الخارج بل خضعوا لتهجير تعريبي محدود وليس لتهجير إقصائي، ولم تسقط عنهم الجنسية العراقية، وان اضطهادهم من الحكومة سببه معارضتهم البطولية لها وليس لعدم تقديرها واعترافها بمواطنتهم كما هي حال الكرد الفيليين.

وبالمحصلة فالكرد الفيليون مضطهدون اضطهاداً عاماً مع كرد الشمال وشيعة الجنوب، واضطهاداً خاصاً بجعلهم (تبعية إيرانية)، لذا يجب أن يكون الفيليون حالة خاصة ومميزة عن (كرد) الشمال و(شيعة) الجنوب، ليكونوا تحت عنوان ومسمى (الكرد الفيليين) وهو إنصافهم الحقيقي وبداية منحهم وجودهم وحقوقهم الكاملة، على أن يكونوا ضمن الشعب العراقي بلا تحديد أو تمييز. وقد وجدتُ أروع ما في الفيليين عدم تحديد أنفسهم داخل المجتمع العراقي، ومن الضروري جداً عند طرح القضية الفيلية والقومية الكردية أن يوضع في الحسبان عدم وضع خطط مستقبلية أو بدائية قابلة للتطور من شأنها أن تحدد الفيليين داخل هذا المجتمع. ومن المنطلق الإسلامي نرى أن على الفيليين أن يتعاملوا مع كرديتهم بلا قومچية، ومع شيعيتهم بلا طائفية. وأهيب بهذه الشريحة أن لا تغالي في (التقَيوم) مستقبلاً وأن تجعل العراق والمواطنة الصالحة أغلى طموحاتها وهويتها الرئيسة، ومثلما كان ضميرهم التاريخي مرتاحاً، عليهم الحفاظ على راحة الضمير بعدم مشاركة الجاحدين في دم العراق بتقطيعه وتمزيقه إلى (عراقات وأبغدة)، وعليهم أن يحافظوا على التاريخ الطيب الذي سطره أسلافهم الفيليون العراقيون.

 

 

 

الحركات والأحزاب والمنظمات الفيلية

 

     أنشئت حركات وأحزاب ومنظمات فيلية قبل سقوط صدام وبعده، وهذه الكيانات تمثل مشاركة قومية من الفيليين وان جاءت متأخرة، وكان إنشاؤها بجهود فيليين وغيرهم لغرض طرح القضية الفيلية على الساحة، وهي:

أولا- قبل السقوط

1- حركة المسلمين الأكراد الفيليين، وهي أول حركة سياسية فيلية في تاريخ الكرد الفيليين، تأسست في 15/3/1983 في المهجر بإيران. سكرتير الحركة: من عام 1983 إلى عام 1992 السيد عبد الجليل فيلي، ومن عام 1992 إلى عام 2005 السيد عبد الواحد فيلي. ثم غيِّرت الحركة إلى حزب وتغير اسمها إلى (حزب الوحدة الديمقراطي الكردي الفيلي) وأمينها العام السيد عبد الواحد فيلي. أصدرت حركة المسلمين الأكراد الفيليين أول جريدة مركزية ناطقة باسم التنظيم باسم (البندقية) وصدر منها (60) عدداً، وأضيف ملحق للجريدة باللغة الكردية الفيلية باسم (تفه‌نگ). وكان للحركة جناح عسكري (پيشمرگه) تأسس عام 1986 ومقره في الأراضي المحررة خلف جبل (مامنده) المعروف.

2- الحركة الإسلامية للأكراد الفيلية، تأسست عام 1987 في طهران، والأمين العام لها السيد طارق الشوهاني.

3- الحركة الديمقراطية الفيلية، تأسست علم 1990 في أربيل، والأمين العام لها السيد زيد محمود علي.

4- الحركة الإسلامية للأكراد للكرد الفيليين تأسست عام 1997 في دمشق، والأمين العام لها السيد أسد الحسيني المعروف بالشيخ أسد فيلي.

ثانياً- بعد السقوط

1- منظمة السلام للكرد الشيعة، تأسست عام 2003، ثم أبدل اسمها إلى منظمة السلام للكرد الفيلية. الأمين العام الأول لها الدكتور إحسان محمد جعفر، والأمين العام الحالي السيد حيدر البغدادي.

2- التجمع الفيلي الإسلامي، تأسس عام 2004 في السويد، والأمين العام له الشيخ مقداد البغدادي.

3- الاتحاد الإسلامي لكرد العراق الفيليين، تأسس عام 2003 في بغداد، والأمين العام له السيد ثائر فيلي.

4- منظمة الكرد الفيليين الأحرار، تأسست عام 2004، والأمين العام لها السيد مظهر احمد.

5- التجمع الفيلي العراقي، تأسس عام 2006 في بغداد، وأمينه العام السيد طارق المندلاوي.

6- الحزب الكردي الفيلي العراقي، تأسس عام 2005 في المانيا، وامينه العام السيد برهان الشاوي.

7- حركة الإخاء الكردي الفيلي، تأسس عام (2003) وأمين عامها السيد عادل شوهاني.

8- تجمع المستقلين الكرد الفيليين، أمينه العام الشيخ صلاح المندلاوي.

9- الاتحاد الديمقراطي الكردي الفيلي، تأسس عام 2005 في السويد.

 

 

 

المنظمات وبث الحس القومي

 

بدا واضحاً اليوم أن الحس القومي الفيلي أخذ بالنهوض بعد زوال حاجز الخوف، وبوصفه ردّ فعل عنيفاً عن كبت طويل ضد حقهم القومي، وصار البسطاء يلمحون أو يصرحون بقدر ما بفيليتهم، كما ساعدت الأحزاب والمنظمات الفيلية على تطوير هذا الحس، فضلا عن فرض مراجعتها شرطاً للحصول على الشهادة الجنسية الممنوحة للفيليين العائدين، او الحصول على كتاب تأييد وعير ذلك.

وقد شعرتُ من كلام الذين التقيتهم من العاملين فيها بأنهم بدؤوا يفكرون بأهمية إظهار وممارسة قوميتهم. ومن ذلك قول الأستاذ (علي ﮔوراني) من حزب الإخاء " الأهداف التي دفعتني للانخراط بالعمل السياسي تحت خيمة حركة الإخاء الكردي الفيلي العراقي، نصرة قضية الكرد الفيليين وإعادتهم إلى الواجهة في موقعهم الطبيعي والريادي في المجتمع، والمشاركة في صنع القرار المحلي والدولي، وإعادة جميع ما فقدوه في زمن اللقيط صدام، ومعاملة الكرد الفيليين بوصفهم قومية كالقوميات الأخرى في العراق إذ لا قومية بلا قوميات". وقوله أيضاً:" علينا أن ننفتح على العالم من غير أن نفقد مقومات شخصيتنا، وهويتنا. تلك هي المعادلة الصعبة والخطيرة في مسيرة الأفراد والشعوب. وان تحقيق هذه المعادلة يحتاج إلى قدر كبير من الوعي بالذات والآخر، والى القدرة على تحديد وتشخيص طبيعة العلاقة بين الذات والآخر".

وهذه الفكرة ترددها الشخصيات والأحزاب الفيلية كلها، وأرى أن هذا الشعور المتنامي يجب أن لا يتعدى خطوط الإحساس بالذات والتكافؤ مع الآخر، وممارسة النسب كما رخص به الرسول (r) فالفيليون العراقيون لا يملكون إلا أن يكونوا مع العرب معاً بلا تفريق أو تمزيق، وهذا يقتضي فهم الذات وإفهام الآخر بهذه الحقيقة، وعدم التطلع إلى استقلال تام في حدود اليوم أو أقصى الغد. وان التفكير في غد يصبح فيه الفيليون بلا عرب هو خارج تفكير الطبيعة الفيلية التي اقتضت من فجر التاريخ ومنذ الفتح الإسلامي أن يعيش الكردي الفيلي مع العربي ضمن المجتمع الواحد.

وكنت قد جعلت من أولويات تأليف هذا الكتاب تنبيه الحكومة والشعب العراقي بفئاته كافة على ضرورة التعاون مع الكرد الفيليين لممارسة شعورهم وتشجيعهم على التصريح بفيليتهم، مع تنبيه الفيليين على ضرورة عدم الانجراف كثيراً وراء الحلم السرابي القومي فلا يجعلون طموحاتهم متناقضة مع طموحات مساكنيهم وقد عاشوا معاً في السراء والضراء وما أكثر الضراء وأقل السراء.

وكان الموقف من الفيليين- شعبياً- على الضد من موقف الحكومات العراقية قبل السقوط، على الرغم من أن صداماً كان يدفع باتجاه رفض الفيليين شعبياً بمختلف الوسائل ليجعلهم طبقة دون بقية طبقات المجتمع العراقي وغير مقبولة أو محترمة منه، وقد سخَّر قانونه الجائر لتحقيق هذا الغاية؛ فمنع الفيليين من التعليم العالي والتدريس والقضاء والمؤسسة العسكرية والمناصب الكبيرة والوظائف المهمة، مما جعل الفيلي في وضع مادي واجتماعي محرج ومهين، وجعل الزواج المتبادل معه ذا عواقب لا تحمد، بل إن بعض الفيليين الذين أنكروا أصلهم واستطاعوا إخفاءه - بسبب الظروف طبعاً - لم يتزاوجوا مع فيليين معروفين وهم قومهم.

 

 

 

معاناة ومشكلات

 

ان الاضطهاد الفيلي انتهى حالة، وبقي شعوراً ولكنه مترسخ ويحتاج الى وقت لإزالته تماماً. على أن المشكلة الفيلية ليست اضطهاداً فقط، وانما تراكمات وتركات من الظلم الخارجي والتصرفات الخاطئة من الفيليين انفسهم، وهذا يعني ان مشكلتهم لم تشخص بعد بدقة لتوضع لها الحلول الناجعة. وكانت الحكومات بعد سقوط الصنم حسنة النية في حل قضيتهم إلا أنها تحتاج إلى تنظير وتدبير كثير. وقد حملت أسئلتي إلى المنظمات الفيلية لأجد ماذا يقولون في هذه القضية وما اقتراحاتهم لأضمنها كتابي وأضمها إلى أفكاري للخروج بحل متكامل.

 

منظمة الإخاء

تكلم الأستاذ علي گوراني قائلا: "إن القضية الفيلية بعد نحو عقد من الزمن لا تزال بكراً، ولم يتم حسم مشاكلها بشكل قانوني بحيث ترجع حقوق الفيليين بالشكل المطلوب والمرضي". وأضاف "إن المشكلة تتعلق بست وزارات: الداخلية والخارجية والهجرة والعدل وحقوق الإنسان والتربية؛ فوزارة الداخلية لم تحسم موضوع الجنسية العراقية، بأن تصدر بطاقة موحدة هي نفسها للعربي والفيلي والتركماني..، وكذلك الغاء شعبة الاجانب التي تجعل الفيليين ضمنهم. ووزارة الخارجية عليها ابلاغ السفارة العراقية في طهران بتسهيل أمر عودة المهجرين اذ يحدث تلكؤ كبير في هذا المجال، كما يُستغل القادمون بانكار وجود اصول لهم الا بعد دفع رشاوى. ووزارة الهجرة والمهجرين عليها الاتصال بالمهجرين وتسهيل رجوعهم. وما يخص وزارة العدل، لا يزال الفيليون في مشاكل مع الذين اشتروا او استحوذوا على بيوتهم اذ توجد معاملات كثيرة لم يبت فيها. ووزارة حقوق الإنسان عليها إعادة رفات الشهداء الفيليين الذين أعدمهم صدام المقبور. ونريد من وزارة التربية أن تضع اللهجة الفيلية في مناهجها لترويج الفيلية وإعادتها الى الحياة.

وطلب علي گوراني من رئاسة مجلس الوزراء أن تأخذ على عاتقها حل جميع المشاكل ومتابعة ذلك. وطلب أن يتحقق اتصال بشكل قانوني بالأمم المتحدة لتزويد شرطة الانتربول الدولية بأسماء الجناة بحق الفيليين لملاحقتهم وإلقاء القبض عليهم ثم محاكمتهم محاكمة عادلة.

 

منظمة السلام

من ضمن أسئلة قدمناها للسيد علي فليح خطاوي مسؤول منظمة السلام في الكوت كانت (قضية الجنسية) فأجاب بالقول:" موضوع الجنسية محل ابتلاء هذه الشريحة العراقية. نحن لا ننكر صدور قرار وزارة الداخلية ذي الرقم (6466) في 19/3/ 2007 المعمم على مديريات الجنسية في العراق القاضي بمنح الكرد الفيليين شهادة الجنسية العراقية، ولكن يوجد تمييز في المادة القانونية بين العراقي الفيلي والعراقي العربي، فضلا عن إصدار شهاد الجنسية للفيليين من قسم التبعيات الأجنبية في مديرية الجنسية العامة. وفي كتاب الى المركز العام أوضح السيد علي خطاوي ان مديرية الجنسية في الكوت أبلغته بشرط إضافي أثقل عملية منح الفيليين شهادة الجنسية هو: المطالبة بشهود ثلاثة من عشيرة المستدعي نفسه ويكونون مقاربين من عمره، وتكمن الصعوبة في أن اغلب الفيلية ملقبون بألقاب عربية في جناسيهم. وتمنى السيد علي خطاوي على دولة رئيس الوزراء ومعالي وزير الداخلية رفع الحيف عن الفيليين في موضوع الجنسية وغيره.

وقد نشر في العدد (174) كانون الثاني الأسبوع الثاني ص2 من جريدة (الموطن الدافئ- ﮔرمسير) التي تصدرها منظمة السلام المركزية لقاء وفد المنظمة برئيس لجنة إزالة الآثار السلبية لقرارات النظام المباد بحق الكرد الفيلية، وقد أوضحت اللجنة إصدارها توصيات وقرارات عدة لإزالة الحيف عن هذه الشريحة ومنها ما يخص الجنسية بإعادة الجنسية إلى الفيليين بسهولة تامة والتسريع بإصدار البطاقة الوطنية وإلغاء نظام شهادة الجنسية ومبدأ الرعوية على أساس التبعية وتوحيد سجلات القيود والجنسية والنفوس والأحوال المدنية كافة وحفظها وعدم المساس بها.

 

 

 

 

وجهة نظر سياسية

 

وعلى المستوى السياسي، تسعى الكيانات والأحزاب الشيعية والكردستانية إلى ضمّ الفيليين إليهم مركزة على مشتركها معهم، بفتحها لهم منظمات ومكاتب تحت إشرافها. وقد ساعدت هذه المنظمات الفيليين - بالتنسيق مع مؤسسات الحكومة وأحزابها- في تمشية أمورهم ورد حقوقهم المسلوبة زمن النظام البائد. إلا أن هذه المنظمات تشكو وتعاني، فثمة أمور كثيرة وكبيرة لم تتحقق. ويبقى تكوين تجمع فيلي مستقل عن الأحزاب طموحاً صعب التحقيق للحاجة إلى الدعم الذي لا يوفره غير الاحزاب، وهو ما يتحدث به الفيليون ويطرحه مثقفوهم مؤكدين أن وجود نواب فيليين مباشرين يدعم القضية الفيلية أكثر ويوصلها إلى الحل أسرع من صعود نواب فيليين يعملون في الأحزاب.

وفي هذا الجانب أستعرضُ بعض الآراء، فقد جاء في النشرة الفصلية (أضواء الفيليين) الصادرة عن منظمة السلام للكرد الفيليين، تحت عنوان (نحو قيادة فيلية موحدة) " المعروف سياسياً أن الطبقة التي عانت من ضغط أكبر وأعظم تكون أكثر وعياً من سواها، مثال ذلك أن العمال في روسيا والفلاحين في الصين بسبب حجم الضغط عليهما قاموا بالثورة العمالية في روسيا والثورة الفلاحية في الصين. هذا ينطبق على الكرد الفيلية الأكثر وعياً، فمتى تصبح لهم قيادة قوية فإنهم سيوحدون ويشكلون مصدر قوة وتأثير. وليس هذا في معناه الدعوة إلى القيام بثورة، بل التوحد ورفع مستوى الوعي السياسي والثقافي والعلمي، فالكرد الفيلية تشظوا وأصبحوا متوزعين بين الأحزاب السياسية والدينية بسبب عدم وجود (حزب فيلي كبير) يجمعهم ويوحدهم ليأخذوا مكانتهم في المجتمع العراقي... إن الدعوة إلى الوحدة الكردية الفيلية هي خطوة لبناء المجتمع الإنساني. واليوم نحن بحاجة إلى دراسات وخطط علمية وقادة تكنو- قراط لنصبح كتلة كبيرة لها دور فاعل في البرلمان العراقي، وفي المجتمع، وفي الدولة"(10).

وللدكتور زهير عبد الملك مقال موسع في هذا الموضوع أقتطفُ منه الآتي ملخصاً: " يدرك الفيليون أن قضاياهم لا تتصدر بالضرورة  قائمة الأولويات لدى جميع الأطراف السياسية في الحركة الوطنية والكردستانية العراقية، لا إهمالا وإنما بسبب ترتيب الأولويات في عراق دمره الاستبداد السياسي والعنصري زمنا طويلا. ولذلك يرون عن واقعية برغماتية صرفة أن تشكيل حزب سياسي عراقي للكرد الفيليين، قوي وشفاف ومتماسك ويمثل أوسع فئات الشريحة الفيلية ، يتمكن من رفع عدد كاف من نوابهم إلى البرلمان العراقي كفيل ضامن لدخول الكرد الفيليين في العملية الديمقراطية لإدارة شؤونهم جنبا إلى جنب مع إدارة شؤون العراقيين عربا وكردا... إن الكرد الفيليين أحوج ما يكونون اليوم إلى الارتقاء بمستويات نشاطهم من مستويات التنظيم الاجتماعي (الخيري) إلى التنظيم السياسي. ولهذه الحاجة جذور تمتد إلى أواخر الثمانينات على هيئة أفكار كان الفيليون يتبادلونها في ما بينهم في مواجهة المحن التي تعرضوا لها وشعورهم بضرورات المشاركة الفعلية في حماية أبناء جلدتهم في إطار مجتمعاتهم ومن خلال الربط العضوي بين الانتماء القومي للأمة الكردية والانتماء للوطن العراقي. 

والكرد الفيليون المخلصون في مشاعرهم والمدركون لدورهم الوطني يرون اليوم ضرورة تنظيم قواهم السياسية من أجل تمثيلهم في الجمعية الوطنية (البرلمان العراقي) وتعبئة جهودهم الاقتصادية والاجتماعية من أجل النهوض بالشريحة العراقية من الفيليين الواقعة جغرافيا خارج إقليم كردستان العراق. وهو شعور نما وتبلور بفعل نمو المجتمع الفيلي وتكوين نخب من المثقفين الذين جعلوا لأنفسهم دورا إلى جانب أخوتهم الكرد في إقليم كردستان وأشقائهم من العرب والقوميات الأخرى في العراق الديمقراطي المتحرر من الديكتاتورية والإرهاب السياسي. وهم يجسدون هذه الحاجة من خلال العمل على تأسيس حزب سياسيي يحظى بالترحيب والدعم من جانب الأحزاب الوطنية العراقية الكردية والعربية التي تسعى إلى قيام نظام ديمقراطي اتحادي في العراق"(11).

وذكر الأستاذ شاكر فيلي مدير مكتب واسط للمؤتمر الوطني العام للكرد الفيليين: أن تأسيس (المؤتمر الوطني العام للكرد الفيليين) جاء لجمع الكتل الفيلية وكان الغرض منه اجتماعياً ثم تحول سياسياً فتم اشتراك المؤتمر في انتخابات 2005، وان إنشاء حزب أو تكتل فيلي خاص بالفيليين طموح مشروع لأننا الآن عندنا فيليون برلمانيون وفيليون في مجالس المحافظات إلا أنهم لم يقدموا إلى الآن ما يحسم القضية الفيلية التي بقيت تنتظر فيليين برلمانيين يجعلون القضية الفيلية من أولوياتهم.

 

 

 

برنامج إعادة الإنسان الفيلي

 

إن الطموح السياسي بمفرده لا يحسم القضية الفيلية، فصعود برلمانيين فيليين يكسب شريحتهم احترام الشعب لأنهم سيصبحون جزءاً من الدولة ويتساوون بمكونات الشعب التي تمتلك صوتاً برلمانياً، إلا أن ذلك لا يحل المشكلة من جوانبها كلها، بل يكون الحل الجذري في تحقيق برنامج ذي نظرة مستقبلية سلمية تعمل على إعادة بناء أو خلق الأمة الفيلية المتداعية واستعادة كل خطوط شخصيتها المستقلة من: لغة وعادات وتقاليد وفلكلور شعبي وأدب وثقافة.

وهنا نؤكد أن محنة الفيليين هي (الانتماء)؛ فبسبب عدم اعتراف الحكومات السابقة (1921- 2003) بعراقيتهم حدثت معاناتهم في التهجير والتحقير والمصادرات المختلفة، وانه ليس ثمة معاناة ميزتهم عن باقي العراقيين غير محنة الانتماء. فهم يختصون بمعاناة الانتماء ويشتركون مع باقي العراقيين في معاناتهم، فقد بدا واضحاً ومدركاً أن صدام حسين كان يكره الشعب العراقي برمته، وانه سلبهم جميعاً حقوقهم البسيطة في الحياة بزجهم بحروب مميتة وفاشلة، وفي الحياة الكريمة بإجاعتهم في الحصار وحرمانهم من الأكلات البسيطة والعراق (مطبخ العالم) الهنيء المريء.

إن الفيلي اليوم خائف من إعلان فيليته، وقد يعذر بخوفه فثمة أشياء كثيرة توجب استمرار خوفه. فمن جهة هو يعتقد أن الحكومة لا تزال تمنحه شهادة جنسية مؤشرة وتابع لشعبة الجانب، ولا تزال حقوقه لم تسترد بالكامل، ومن جهة أخرى يرى الواقع العشائري يفرض عليه الانتماء الى قبيلة عربية لحمايته وربما زيادة في الحذر يحول الانتماء إلى (ادعاء) لكي تحميه العشيرة العربية أكثر.

وان وضع حلول ناجعة أو برنامج إعادة الإنسان الفيلي يقتضي مراجعة جوانب الموضوع كله وتقديم اقتراحات شاملة لا تبقي منطقة غير مضاءة. بناء على ذلك نجد أن أركان الحل ثلاثة هي: (الدولة، الفيلي نفسه، والمجتمع).

 

الأول- الدولة:

على الدولة تحقيق الآتي:

·  التعجيل بإصدار البطاقة الوطنية الموحدة وإلغاء نظام شهادة الجنسية، وتكون البطاقة بلا تأشيرات بارزة أو خفية، وابعاد الفيليين من شعبة الاجانب واقتصارها على الاجانب فعلا.

·  إعادة حقوقهم كاملة من هجر منهم ومن لم يهجّر فحرم من حقوق المواطنة، بيسر ودون تعقيدات حتى يرفع الحيف عنهم تماماً ويتم تعويضهم عن كل حرمان بشكل كامل.

·   تكون الدولة سانداً معوضاً لهم عن ضعف موقفهم العشائري لتحقيق الاستقرار النفسي والمظلة الواقية. ويعوض عن العشائرية برمتها قوة الدولة وترك الامور الاجتماعية فقط للعشائر، وهذا يسهل رجوع الفيليين الى قبائلهم الكردية لان الثقل العشائري الذي يستدعي تمسك الفيليين بعشائهم العربية سيتحول الى الدولة.

·     المساواة بين الفيليين في الداخل وبين الفيليين الحدوديين الذين عرَّقهم صدام بدرجة العرب لكونهم خطاً حدوديا فاصلا وهم سكان بدرة وزرباطية وسواهما، وعدهم جميعاً عراقيين بالدرجة نفسها.

·  اعطاء الفيليين استثناءات في الميادين كافة كشروط التعيين واحتساب الخدمة والقبول في الدراسات العليا وغيرها، وتقدير التعسف والمنع والظلم الذي حال دون منحهم تلك الحقوق، وتعويضهم ماديا ومعنوياً..

·  انشاء فضائية فيلية تجعل وكدها اعادة الهوية الفيلية بإحياء اللغة الكردية الفيلية والفلكلور الشعبي والعادات والتقاليد مما يعيد الشخصية الفيلية بكل اجزائها. فضلا عن إدراج اللغة الفيلية مادة في المقررات الدراسية، والسماح بفتح مدارس فيلية خاصة.

 

الثاني- الإنسان الفيلي:

يتطلب من الفيلي نفسه:    

·     أن يمنح نفسه الثقة والقدرة على إعلان فيليته والتعامل بها بين الناس.

·  إعادة بناء ذاته الفيلية المنسية أو الضائعة، بممارسته تقاليده وعاداته الخاصة وأعياده وفلكلوره الخاص، فضلا عن تمسكه بالعادات المشتركة بينه وبين شرائح العراقيين الباقية. والحرص الشديد على تعلم اللغة الكردية الفيلية لانها هويته الفيلية ولسان آبائه واجداده.

·  موازنته بين شعوره القومي الجديد وبين الحفاظ على وحدته مع باقي العراقيين ضمن العراق الوطن الواحد، وإعلاء المواطنة على القومية.

 

 


الثالث- المجتمع:

يقع على كاهل المجتمع:

·     تشجيع الفيليين على إعلان فيليتهم، واحترامهم بوصفهم شريحة عراقية صميمية.

·  تقبلهم كرداً وليس مستعربين في إطار الموالاة (ذب الجرش)، وعدم التحسس من كرديتهم في حال استعادتهم اياها بعد نسيان، وعدم التشكيك بوطنيتهم العراقية او الظن بان وعيهم الكردي ممكن توجيهه الى المطالبة بحكم ذاتي او دولة، فان المنطق والمنطوق الفيلي لا يسمحان بانفصال جزئي او تام، ومن تكلم به فهو خارج هذا المنطوق ولا يمثل الفيلية والفيليين.

وقد بدأت بالفعل الخطوات الواعدة إلى تحقيق هذا البرناج؛ فالدولة وعدت باصدار الهوية الوطنية الموحدة، وحلت مشاكل كثيرة فيما يتعلق باعادة الحقوق للفيليين وان بقي منها كثير، وعلى المستوى الفردي فالفيليون بدؤوا تدريجياً يتشجعون على اعلان فيليتهم وبقي ايضاً كثير منهم تمنعه منزلته وعلاقاته العشائرية او وضعه الخاص من ذلك الاعلان. وعلى المستوى العشائري تم في حسينية الاحمدي ببغداد يوم الجمعة 25/11/2011 الإعلان عن تأسيس (مجلس عشائر الكرد الفيليين)، وهو تجمع عشائري غير سياسي ولا حزبي يهدف الى توحيد الفيليين تحت خيمة اجتماعية عشائرية. وجاء في البيان التأسيسي: (نحن أبناء عشائر الكرد الفيليين، وايماناً منا بأن عشائرنا الأصيلة جزء حيوي من الشعب  العراقي وشريحة أصبحت غريبة في بلادها وضحية ضياع القانون لعقود طويلة من تاريخ العراق الحديث فقد تعرضت لأبشع كارثة إنسانية من خلال عمليات التهجير القسري وسلب ومصادرة للأموال والممتلكات وإبادة للأبناء وإسقاط للجنسية عنها، فكانت النتيجة الطبيعية لتلك الأسباب حصول التشتت في صفوف عشائرنا الأصيلة، وعليه فقد أجمعت مجموعة من أبناء الكرد الفيليين على لمِّ الشتات وتوحيد الصف من بعد الفرقة ، وقد آلت على أنفسها تحقيق الأهداف الآتية:

1-    توحيد عشائر الكرد الفيليين بتشكيل مجلس شيوخ عشائر الكرد الفيليين.

2-    اختيار رئيس للتجمع يعدّ الشيخ العام لعشائر الكرد الفيليين واختيار نائب للشيخ العام.

3-  يمثل الشيخ العام أو نائبه أو مجلس الشيوخ أو بعض أعضائه عشائر الكرد الفيليين في المحافل العشائرية وفقاً للأعراف والتقاليد.

وتم الاتفاق على اختيار (الحاج صفاء حافظ فيلي) شيخاً عاماً على عشائر الكرد  الفيليين في بغداد والسيد (سمير محمد ربكي فيلي) نائباً للشيخ العام وتم الاتفاق على أن تضم العشائر الفيلية احد عشرا فخذاً (قابلة للزيادة) ويكون السادة المدرجة أسماؤهم أدناه رؤساءً لهذه الافخاذ، وهم: (عبد الأمير أبو زيد فيلي، صالح عيدان فيلي، سعيد غلام فيلي، عبد الكريم أحمد فيلي، كنعان جعفر فيلي، عباس جاسم فيلي، حسين محمد علي فيلي، فخري إسماعيل فيلي، زاهد أسد فيلي، طالب بيك فيلي).

وفي الكوت توجد مشيخة فيلية كما اخبرني السيد (حسين جاني) (احد شيوخ الملكشاهية)، اذ أكد انهم يمتلكون ثقلا عشائرياً محترماً من العرب. واخبرني الأستاذ علي ﮔوراني أن الشيخ طغوان اقترح عليه اختيار ممثل للفيليين يكون سادس ممثلي العشائر العربية الخمسة في الكوت، يقضي في أمورهم العشائرية، شرط أن يختار الفيليون شيخهم ولا يقوم الشيوخ العرب بتشييخه، ليتم بعدها اخذ الموافقات الرسمية من الداخلية. وممثلو العشائر العربية في الكوت الخمسة هم:  الشيخ طغوان عن إمارة ربيعة، الشيخ مهند مهدي بلاسم عن إمارة عشائر مياح، الشيخ معد السمرمد عن إمارة عشائر زبيد، الشيخ جمال البطيخ عن إمارة عشائر شمَّر، والشيخ محسن حسن خيون عن إمارة عشائر السراي.

وعموماً فإن تحقيق هذا البرنامج الثلاثي البنائي يحتاج إلى الوقت والصبر والثقة، وبتعاون الدولة والمجتمع والفيليين سيتحقق حتماً، وإذا تحقق فستنتهي المشكلة الفيلية بشكل تام، وعدا ذلك فستكون كل الحلول جزئية، والحلول الجزئية لن تكوِّن أو تكون حلاً للقضية الفيلية.


 

الهوامش

(1) سورة البقرة، الآية: 200.

(2) المبسوط، الشيخ الطوسي ج3، ص307.

(3) العقد الفريد، ج3، ص265.

(4) مسند أحمد، ج5، ص411.

(5) كنز العمال، ج12، ص47.

(6) الكوت في التاريخ، ج1، ص54.

(7) مات جدِّي (المولود في العمارة) وهو لا يعرف كيف يركب جملة عربية صحيحة، وما ركبه يصلح للتندر أكثر مما يصلح للإفهام. أما المرحوم والدي- مواليد علي الغربي 1910 وشهد حفلة تتويج الملك فيصل 1921- فكان يجيد اللغتين بالدرجة نفسها، وكان حريصاً على تنشئتي تنشئة عربية فصيحة، وقد حملني على قراءة ديوان المتنبي في الأول المتوسط. وسألته: لماذا لم تعلمني الكردية واجتهدتَ في أن أتقن العربية بتميز، فقال: أردت للسانك أن يكون فصيحاً تماماً، وتعليمك الكردية قبل ذلك يجعل فيه لكنة. وهذه وجهة نظر قال بها الجاحظ (واللُّغتانِ إذا التَقتَا في اللَّسان الواحد أدخلت كلُّ واحدةٍ منهما الضّيمَ على صاحبتها (البيان والتبيين، الجاحظ ج1، ص368)، إلا أن ما قاله والدي (رحمه الله) لا يعدو تبريراً لتصرف وقع فيه الفيليون أجمع، أبسط ما يقال فيه أنه على السجية ويخلو من المبادرة والنظرة المستقبلية.  

(8) سورة الشعراء، الآية: 183.

(9) تاريخ الكوت، ج1، ص54.

(10) نشرة أضواء الفيليين، العدد الأول لسنة 2009 ص5.

(11) مراجعة سريعة للحركة السياسية في أوساط الكرد الفيليين،د. زهير عبد الملك، نت.

 


قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat


د . محمد تقي جون
 (للدخول لصفحة الكاتب إضغط هنا)

    طباعة   ||   أخبر صديقك عن الموضوع   ||   إضافة تعليق   ||   التاريخ : 2012/12/14



كتابة تعليق لموضوع : الحلقة الخامسة بناء الإنسان الفيلي
الإسم * :
بريدك الالكتروني :
نص التعليق * :
 



حمل تطبيق (كتابات في الميزان) من Google Play



اعلان هام من قبل موقع كتابات في الميزان

البحث :





الكتّاب :

الملفات :

مقالات مهمة :



 إنسانية الإمام السيستاني

 بعد إحراجهم بكشف عصيانها وخيانتهم للشعب: المرجعية الدينية العليا تـُحرج الحكومة بمخالفة كلام المعصومين.. والعاصفة تقترب!!!

 كلام موجه الى العقلاء من ابناء شعبي ( 1 )

 حقيقة الادعياء .. متمرجعون وسفراء

 قراءة في خطبة المرجعية : هل اقترب أَجلُ الحكومةِ الحالية؟!

 خطر البترية على بعض اتباع المرجعية قراءة في تاثيرات الادعياء على اتباع العلماء

 إلى دعاة المرجعية العربية العراقية ..مع كل الاحترام

 مهزلة بيان الصرخي حول سوريا

 قراءة في خطبة الجمعة ( 4 / رمضان/ 1437هـ الموافق 10/6/2016 )

 المؤسسة الدينية بين الواقع والافتراء : سلسلة مقالات للشيخ محمد مهدي الاصفي ردا على حسن الكشميري وكتابيه (جولة في دهاليز مظلمة) و(محنة الهروب من الواقع)

 الى الحميداوي ( لانتوقع منكم غير الفتنة )

 السيستاني .. رسالة مهدوية عاجلة

 من عطاء المرجعية العليا

 قراءة في فتوى الدفاع المقدس وتحصين فكر الأمة

 فتوى السيد السيستاني بالجهاد الكفائي وصداها في الصحافة العالمية

 ما هو رأي أستاذ فقهاء النجف وقم المشرّفتَين السيد الخوئي بمن غصب الخلافة ؟

 مواقف شديدة الحساسية/٢ "بانوراما" الحشد..

أحدث مقالات الكتّاب :


مقالات متنوعة :





 لنشر مقالاتكم يمكنكم مراسلتنا على info@kitabat.info

تم تأسيس الموقع بتاريخ 1/4/2010 © محمد البغدادي 

 لا تتحمل الإدارة مسؤولية ما ينشر في الموقع من الناحيتين القانونية والأخلاقية.

  Designed , Hosted & Programmed By : King 4 Host . Net