صفحة الكاتب : نزار حيدر

الحسين..عاشوراء..كربلاء ... ثلاثية الكرامة الانسانية
نزار حيدر

المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الموقع، وإنما تعبر عن رأي الكاتب.

مجموعة مقالات كتبت خلال العقد الاخير، وهي محاولة:
*من اجل قراءة عاشوراء بعقلية عصرية تساهم في خلق فرص حقيقية لحياة افضل تسودها الحرية والكرامة والعدل
*من اجل استحضار سيد الشهداء الحسين السبط عليه السلام، عبرة وعبرة، عقل وعاطفة، قول حسن وعمل صالح
*من اجل وعي كربلاء دروس للحياة ضد العنف والارهاب والفتك وسحق حقوق الانسان والاستبداد والديكتاتورية والاستئثار

عاشوراء..جوهر الديمقراطية
      هذا العنوان استقيته من فكرة جوهرية تتمحور حولها الرسالات السماوية جمعاء.
      فبقراءة متأنية لآيات القرآن الكريم، نلحظ أن الهدف النهائي للرسالات السماوية، ولرسالة نبينا محمد بن عبد الله (ص)، يتجلى في تحقيق كرامة الإنسان، كانسان، بغض النظر عن لونه أو جنسه أو اثنيته، والى هذا المعنى تشير الآية الكريمة رقم (70) من سورة الإسراء {ولقد كرمنا بني آدم وحملناهم في البر والبحر ورزقناهم من الطيبات وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلا} وهي إشارة واضحة إلى أن الهدف هو كرامة الإنسان، وليس المسلم فحسب أو الشيعي على سبيل الفرض، إنما الهدف هو كرامة(بني آدم) وهي عبارة تعني كل البشر بغض النظر عن انتماءاتهم وأصولهم ومعتقداتهم، والى ذلك أشار الرسول الكريم بقوله(ص) {من آذى ذميا فقد آذاني} و{من ظلم معاهدا أو انتقصه حقه أو كلفه فوق طاقته أو أخذ منه شيئا بغير طيب نفس، فأنا حجيجه يوم القيامة} أو في قوله عليه وعلى آله أفضل التحية والسلام {من آذى ذميا فأنا خصمه، ومن كنت أنا خصمه، خصمته يوم القيامة}.
      السؤال الذي يلح هنا للإجابة عليه هو؛
      أين تتجلى كرامة الإنسان؟ وكيف؟.
      برأيي، فان كرامة الإنسان تتجلى في ثلاث قيم أساسية واستراتيجية، هي اليوم محور الديمقراطية التي يكتب ويتحدث عنها ويبشر بها العالم، تلك القيم الثلاث هي:
      أولا؛ الحرية، والتي تتمثل في حرية العقيدة والرأي والاختيار، وكذلك في حرية التعبير عن الذات.
      ثانيا؛ المساواة بين الناس، وعدم التمييز بينهم على أساس خلق الله سبحانه وتعالى، كالتمييز على أساس اللون والجنس والانتماء القومي أو الجغرافي، كما تتجلى المساواة في مبدأ تكافؤ الفرص، إذ لا يحق الاستئثار بالفرص لجماعة وحرمان أخرى منها، إذ لا بد أن يتمتع الجميع بنفس الفرص وعلى كل الأصعدة وفي كل المجالات.
      ثالثا؛ الشراكة الحقيقية والواقعية بين الناس في الشأن العام، فلا يجوز احتكار فئة للشأن العام، وحرمان الآخرين منه، بأية ذريعة، ولذلك، ليست الملكية من الإسلام في شئ، وان أي سلطة تقوم على أساس النظام الملكي الذي يفاضل بين الناس في الشأن العام على أساس القبيلة أو العائلة، التي يولد مولودها أميرا يتمتع بامتيازات خاصة على حساب سائر المواطنين، فهي باطلة لا أساس لها من واقع الدين أو الإنسانية أو حتى العقل، في شئ.
      إن أي انتقاص من أي واحدة من هذه القيم، يعد بمثابة الانتقاص من كرامة الإنسان.
      فتحديد حرية الإنسان، أو سلبها منه، بمثابة اعتداء على كرامة الإنسان، لأن العبودية ضد الكرامة، وان الإنسان إما أن يكون حرا أو أن يكون عبدا، ولا وجود لمنطقة وسط بين الحرية والعبودية، وان السلطة التي تنتقص، ولو ذرة من حرية الإنسان، إنما هي في حقيقة الأمر، تسلب كل حريته وليس بعضها، وبالتالي فهي تسلب كل كرامة الإنسان، لأن الكرامة كالحرية، وحدة واحدة لا تتجزأ، فإما أن يكون الإنسان كريما، أو أن يكون ذليلا.
      كما أن التمييز بين الناس على أساس اللغة أو اللون أو الجنس أو ما أشبه، يعد بمثابة انتهاك صارخ لكرامة الإنسان، لأنك، في هذه الحالة، تفاضل بين إنسان وآخر في أمر ليس له رأي فيه، إنما هي فطرة الله التي فطر الناس عليها، لا تبديل لخلق الله عز وجل.
      نعم، يمكنك أن تميز بين الناس على أساس العلم والعمل وحسن الأداء والتقوى والصدق والأمانة والنزاهة والخبرة والتفاني والشجاعة، فتلك جميعا قيم وصفات يمكن للإنسان الحر، أي إنسان، أن يجتهد ليكسبها، وبالتالي ليتفاضل بها مع الآخرين، لأنها قيم قابلة للاكتساب، بامكان أي أحد أن يكتسبها، ولذلك لا يجوز لأحد أن يمنع أي إنسان من السعي لاكتسابها، والا فسنقع في المحذور مرة أخرى، ولارتكبنا خطأ التمييز بين الناس مرة أخرى، لأننا لم نفسح المجال أمام الجميع، وبالتساوي، لاكتساب هذه الصفات الحسنة والمهارات الايجابية، على أساس قاعدة مبدأ تكافؤ الفرص، لنفاضل، بعد ذلك، بينهم، فالفرصة أولا ثم التفاضل.
      كما أن تكريس الطبقية السياسية في المجتمع، من خلال احتكار الشأن العام من قبل زمر معينة وحرمان الآخرين منه، يعد بمثابة العدوان على كرامة الإنسان، الذي يعبر عن نفسه عادة من خلال المشاركة في الشأن العام، ولذلك فان سلطة الحزب الواحد، تتناقض مع كرامة الإنسان، لأنها تسلبه حق المشاركة في الشأن العام بحرية، كما أن الاستبداد والديكتاتورية، أنظمة حكم تصادر كرامة الإنسان، لأنها تسلبه حق المشاركة في الشأن العام، كما أن الأنظمة الملكية، تتناقض مع كرامة الإنسان، لأنها تبني سقفا سياسيا فوق رؤوس الناس، لا تسمح لأحد تجاوزه، فتقمعه، أو تقتله إذا أصر على تجاوز السقف السياسي المحدد للشعب.
      لقد استهدف السبط الشهيد بثورته الإصلاحية في العاشر من المحرم عام 61 للهجرة، إعادة الكرامة التي سلبتها السلطة الغاشمة من الإنسان، من خلال الممارسات المنحرفة التالية:
      أولا؛ إنها تعمدت إذلال الإنسان، كما قال شاعرهم معبرا عن ذلك؛
فدع عنك ادكارك آل سعدى             فنحن الاكثرون حصى ومالا
ونحن المالكون الناس قسرا             نســـومهم المذلـــــــة والنكالا
ونوردهم حياض الخسف ذلا           ومــــــا نالـــوهم إلا خبـــــالا
      ثانيا؛ التمييز بين الناس، في العطاء أولا، ومن ثم في كل الأمور، تاليا.
      ثالثا؛ الاستحواذ على مقدرات الأمة، كما يشير إلى ذلك أحد ولاة السلطة بقوله(سواد العراق بستان لقريش، ما شئنا أخذنا منه، وما شئنا تركناه)، أو كما في قول الآخر(لنأخذن حاجتنا من هذا الفئ، وان رغمت أنوف أقوام).
      رابعا؛ قمع المعارضة، والحيلولة دون الإعراب عن رأيها في أية قضية تخص المسلمين عامة، بل وصل حد القمع إلى أن منعت السلطة كبار الصحابة من ترك منازلهم إلا بأذن خاص، وهو أول قرار يقضي بفرض الإقامة الجبرية على المعارضين، للحيلولة دون لقاءهم بالناس والإعراب عن آرائهم، التي كانت تخشاها السلطة.
      خامسا؛ الجبر والقهر والفرض، وسلب الناس حرية الاختيار التي تعد جوهر كرامة الإنسان.
      ففرضت السلطات البيعة على الناس بالإكراه، كما يعبر عن ذلك نص الرسالة التالية التي بعث بها الطاغية يزيد إلى واليه على المدينة المنورة، الوليد بن عتبة(أما بعد فخذ حسينا وعبد الله بن عمر وابن الزبير بالبيعة أخذا ليس فيه رخصة حتى يبايعوا، والسلام)، ومن المعلوم جيدا فان فرض البيعة يسلب الإنسان حريته وبالتالي ينتقص من كرامته.
      سادسا؛ محاربة المعارضة في لقمة العيش حتى ترضخ لقرارات السلطة الغاشمة، فلقد صدرت الأوامر المشددة لحكام الأقاليم، أن(انظروا من قامت عليه البينة أنه يحب عليا وأهل بيته فامحوه من الديوان، واسقطوا عطاءه ورزقه) وفي قرار آخر(من اتهمتموه بموالاة هؤلاء القوم، فنكلوا به واهدموا داره).
      سابعا؛ إشغال المعارضة والهاء الناس، لإبعادهم عن التفكير بشؤون الأمة، وقضايا السلطة، والى ذلك تشير نصيحة أحد مستشاري السلطة، والتي أخذت بها لسنوات طويلة، بقوله(رأيي يا أمير المؤمنين، أن تأمرهم بجهاد يشغلهم عنك، وان تجمرهم في المغازي، أي تحبسهم في أرض العدو ببعوث عسكرية طويلة الأمد، حتى يذلوا لك، فلا يكون همة أحدهم إلا نفسه، وما هو فيه من دبرة دابته وقمل فروه).
      وان أكبر تجاوز على كرامة الإنسان، تجلت يوم أن نزا على السلطة من لا يستحقها، ومن دون تفويض أو استشارة من الناس، وكأن السلطة ملك خاص لهذه الأسرة أو تلك القبيلة، فعندما حول الطاغية يزيد بن معاوية، الخلافة إلى ملك عضوض، يكون بذلك قد اعتدى على حرية الناس وكرامتهم، وقبل ذلك، يكون قد اعتدى على ابرز نص سياسي من نصوص القرآن الكريم، والذي يقول فيه الله عز وجل{وأمرهم شورى بينهم} فألغى، بالملكية، حرية الناس في الاختيار، وحال بينهم وبين الشراكة الحقيقة في الشأن العام، ولقد عبر السبط الشهيد عن هذه الظاهرة بقوله{على الإسلام السلام، إذا ابتليت الأمة براع مثل يزيد، ولقد سمعت جدي رسول الله (ص) يقول، الخلافة محرمة على آل أبي سفيان}، أو كما في قول الإمام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام{ولكني آسي أن يلي أمر هذه الأمة سفهاؤها وفجارها، فيتخذوا مال الله دولا وعباده خولا والصالحين حربا والفاسقين حزبا، فان منهم من شرب فيكم الحرام، وجلد حدا في الإسلام، وأن منهم من لم يسلم حتى رضخت له في الإسلام الرضائخ} وتلك هي حالة الأمة والسلطة في ظل حكومة الطاغية يزيد بن معاوية، ولذلك كان لا بد للسبط أن يتحرك لتصحيح الأوضاع مهما كان الثمن، فهو{أحق من غير} على حد قوله عليه السلام.
      لقد اعتدت السلطة بكل هذه الممارسات، وأكثر، على كرامة الإنسان التي بعث الرسول الكريم من أجل تحقيقها، ولذلك كان لابد للإمام الحسين بن علي السبط، أن يتحرك من أجل إصلاح الأوضاع لإعادة الكرامة المسلوبة للإنسان في ظل السلطة الجائرة.
      وأن أول ما استهدفه الإمام الحسين عليه السلام، في ثورته، هو محاولة استثارة حرية الإنسان الذي غررت به السلطة، فخرج لقتال ابن بنت رسول الله (ص)، ولذلك تركزت أقواله حول قيمة الحرية التي إن تذكرها الإنسان وسعى إلى صيانتها، لم يفقد كرامته، وبالتالي لم يجرؤ على ارتكاب جريمة بشعة كتلك التي ارتكبها الأمويون وجيش البغي في كربلاء.
      تعالوا نقرأ ما قاله الإمام الحسين بن علي في هذا الصدد؛
     {إن لم يكن لكم دين، وكنتم لا تخافون المعاد، فكونوا أحرارا في دنياكم} {لا والله لا أعطيكم بيدي إعطاء الذليل، ولا أفر فرار العبيد} {موت في عز خير من حياة في ذل} {إنا أهل بيت النبوة ومعدن الرسالة ومختلف الملائكة، بنا فتح الله وبنا يختم، ويزيد فاسق فاجر شارب الخمر، قاتل النفس المحترمة، معلن بالفسق والفجور، ومثلي لا يبايع مثله} {ألا وأن الدعي قد ركز بين اثنتين، بين السلة والذلة، وهيهات منا الذلة، يأبى الله لنا ذلك ورسوله والمؤمنون، وجدود طابت وحجور طهرت وأنوف حمية ونفوس أبية، لا تؤثر طاعة اللئام على مصارع الكرام}.
      لقد حاول الحسين الشهيد عليه السلام، استثارة حرية الناس وغيرتهم وكرامتهم، ليعودوا إلى صوابهم فيفكروا بعقولهم دون أهوائهم، وبضمائرهم الحية دون الاستسلام إلى الشيطان الذي أغراهم فأغواهم فأنساهم ذكر الله عز وجل، لأن الإنسان الحر هو الذي يمتلك كرامته، والكرامة عقل سليم يفكر فيه الإنسان فيهتدي به إلى طريق الخير والصواب، وان الحر لا يرتكب جريمة بشعة يندى لها جبين الإنسانية، كجريمة قتل السبط الشهيد ابن بنت رسول الله(ص).
      لقد اعتدى الحكم الأموي على كرامة الإنسان فسلب حريته وميز بينه واستولى على السلطة بالقوة، وعندما قرر الإمام الحسين عليه السلام الثورة على هذا الواقع الفاسد، إنما استهدف إعادة الكرامة المسلوبة للإنسان أولا، من خلال إثارة قيم الحرية والمساواة والشراكة الحقيقية في نفوس الناس، لإشعارهم بآدميتهم، لأن إنسان بلا حرية، هو إنسان بلا كرامة، وأن إنسان بلا كرامة، هو إنسان بلا آدمية، لأن آدمية الإنسان بحريته وكرامته، كما أن إنسان لا يمتلك حق التعبير عن نفسه ورأيه وما يعتقد به، لهو إنسان مسلوب الإرادة، أي مسلوب الحرية والكرامة، انه إنسان ميت الأحياء، ولذلك، فان أول ما تستهدفه كل الدعوات التي تدعو إلى تشييد الأنظمة الديمقراطية في أي بلد من البلدان، إنما تدعو، أولا، إلى تحرير حرية الإنسان، وتحرير إرادته، لتحرير كرامته التي يسلبها النظام الاستبدادي والديكتاتوري، ولذلك جاء في القرآن الكريم متحدثا عن فلسفة بعث الرسول الكريم{ليضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم} لأن أول خطوة في طريق تبليغ الرسالة تتجلى في تحرير الإنسان، ليتمكن من اتخاذ قرار الهدى والرشاد بكامل حريته بعيدا عن الفرض والإكراه والجبر من قبل القوى المتسلطة بغير حق.
      من هنا نفهم، أن ثورة الإمام الحسين عليه السلام، لم تكن ثورة طائفية أو أنها تنحصر، في أهدافها، بفئة معينة من الناس دون غيرهم، أبدا، بل أنها ثورة إنسانية أولا وقبل كل شئ، لأنها استهدفت (كما هو الإسلام) كرامة الإنسان كانسان بغض النظر عن أي شئ، لأن الحسين عليه السلام، وهو ترجمان القرآن الكريم، يؤمن بأن للإنسان كرامته التي فطر الله الناس عليها، ولذلك لا يجوز لأحد أن يعبث بها أبدا.
      إنها ثورة من أجل الإنسان، وأن من يحاول أن يحصرها بفئة معينة إنما يظلم نفسه أولا، ويظلم الثورة وصاحبها ثانيا.
      إن من الجريمة بمكان التعامل مع ثورة الحسين عليه السلام بطائفية، فنقول إنها ثورة شيعية أو أنها تخص الشيعة فقط، كما أن من الجريمة بمكان التعامل معها بأنها ثورة إسلامية أو أنها تخص المسلمين فحسب، إنها في الحقيقة ثورة إنسانية، على البشرية أن تحيي ذكرها كل عام، بل في كل يوم، فلولاها لما بقي شئ من كرامة الإنسان التي سحقتها السلطة الغاشمة، أو كادت، بسياساتها اللاانسانية المتعجرفة.
      الحقيقة التي يلزم أن نتذكرها بهذه المناسبة، هي أن كل حركة أو ثورة أو سلطة لا تأخذ في حساباتها كرامة الإنسان، فتسعى لتحقيقها من خلال تكريس حرية الإنسان والمساواة بين الناس والحث والسعي على إشراكهم في الشأن العام، لهي حركة لا تمت إلى الحسين عليه السلام بصلة، وان تزيت بزي الحسين(ع) أو رفعت شعارات حركته الإصلاحية، لأن السبط عنوان كرامة الإنسان، فأية حركة إصلاحية (حسينية) هذه التي تتجاوز على كرامة الإنسان؟ وأية سلطة صالحة تلك التي تسحق حرية الإنسان؟ وأية ثورة إنسانية تلك التي تميز بين الناس وتسلبهم الفرص ولا تمنحهم حق المشاركة في الشأن السياسي العام؟.
      إن الحركة الإصلاحية، أية حركة، هي تلك التي تبذل قصارى جهدها من أجل تكريس كرامة الإنسان من خلال احترام حريته وعدم التجاوز على حقوقه في المساواة وحرية الاختيار والمشاركة الحقيقية في الشأن العام، والا فهي حركة أموية مهما تجملت بالشعارات البراقة، وتغنت بالأهداف الحلوة والمعسولة، لأن الفرض والإكراه ليس من وسائل الحركة الإصلاحية الحقيقية، أبدا، وأن الذبح والقتل والتفجير والسيارات الملغومة والأحزمة الناسفة ليست الوسيلة لبناء مجتمع الكرامة الإنسانية، أبدا.
      إن الحسين عليه السلام، لم يفرض نفسه وأهدافه على أحد أبدا، إنما حاول إقناع الناس وسعى لكسب إيمانهم به طوعا وليس كرها، ولذلك فهو بذل جهودا جبارة من أجل توضيح وتحديد أهداف حركته الإصلاحية كما في أقواله التالية؛
      {فلعمري ما الإمام إلا الحاكم بالكتاب، القائم بالقسط، والدائن بدين الله، الحابس نفسه على ذات الله} في إشارة منه إلى أن السلطة القائمة ليست شرعية أبدا {ألا واني لم أخرج أشرا ولا بطرا ولا مفسدا ولا ظالما، وإنما خرجت لطلب الإصلاح في أمة جدي، أريد أن آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر، فمن قبلني بقبول الحق فالله أولى بالحق، ومن رد علي هذا، أصبر حتى يحكم الله بيني وبين القوم بالحق، وهو خير الحاكمين} في إشارة منه إلى أن المطلوب هو قبول الحق فيه وليس قبول شخصه {أما بعد، فاني ادعوكم إلى إحياء معالم الحق وإماتة البدع، فان تجيبوا تهتدوا سبل الرشاد}في إشارة إلى الهدف الأسمى لحركته الإصلاحية {وأنا ادعوكم إلى كتاب الله وسنة نبيه، فان سمعتم قولي واتبعتم أمري، أهديكم إلى سبيل الرشاد} وفيه تخيير بلا فرض أو إكراه أبدا {أيها الناس، إن رسول الله (ص) قال، من رأى منكم سلطانا جائرا مستحلا لحرام الله ناكثا لعهد الله مخالفا لسنة رسول الله، يعمل في عباد الله بالإثم والعدوان، فلم يغير ما عليه بفعل ولا قول، كان حقا على الله أن يدخله مدخله، ألا وأن هؤلاء القوم قد لزموا طاعة الشيطان وتركوا طاعة الرحمن وأظهروا الفساد وعطلوا الحدود واستأثروا بالفئ واحلوا حرام الله وحرموا حلاله، وأنا أحق من غير، وقد أتتني كتبكم وقدمت علي رسلكم ببيعتكم، وأنكم لا تسلموني ولا تخذلوني، فان تممتم علي بيعتكم تصيبوا رشدكم، فاني الحسين بن علي وابن فاطمة بنت رسول الله(ص) نفسي مع أنفسكم وأهلي مع أهليكم، فلكم في أسوة} وهي إشارة واضحة إلى أن بيعتكم لي، هي التي أقامت الحجة علي وعليكم.
      هذا من جانب، ومن جانب آخر، لم يكن الإمام عليه السلام، متهالكا على سلطة أبدا، فكان يقول بهذا الصدد؛
      {اللهم انك تعلم أنه لم يكن ما كان منا، تنافسا في سلطان ولا التماسا من فضول الحطام، ولكن لنري المعالم من دينك ونظهر الإصلاح في بلادك، ويأمن المظلومون من عبادك، ويعمل بفرائضك وأحكامك} وهو نفس الخطاب الرسالي الذي نطق به أبوه الإمام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام، عندما انثال عليه الناس يطلبون البيعة للخلافة، فقال{أما والذي فلق الحبة وبرأ النسمة، لولا حضور الحاضر، وقيام الحجة بوجود الناصر، وما أخذ الله على العلماء ألا يقاروا على كظة ظالم، ولا سغب مظلوم، لألقيت حابلها على غاربها، ولسقيت آخرها بكأس أولها، ولألفيتم دنياكم هذه أزهد عندي من عفطة عنز} لماذا؟ لأن السلطة بالنسبة للإمام حق يسترد لمظلوم أو باطل يسقطه عن ظالم، والا فلا خير في سلطة أبدا، والى هذا المعنى يشير الإمام عليه السلام بقوله{الذليل عندي عزيز حتى آخذ الحق له، والقوي عندي ضعيف حتى آخذ الحق منه} فلا محاباة، في قاموس الإمام، ولا أثرة ولا محسوبية ولا رشاوى ولا فساد إداري أو مالي ولا تمييز بين قوي وضعيف، أبدا.
      بل أن الإمام السبط عليه السلام، لم يشأ أن يقتتل المسلمون بسببه، ولم يشأ أن تراق الدماء بسببه، ولذلك، عندما وصله خبر استشهاد سفيره إلى الكوفة ابن عمه مسلم بن عقيل عليه السلام، في منطقة بين مكة والعراق تسمى (الزبالة) لم يشأ أن يخفي الخبر على من التحق به في مسيره من المدينة إلى الكوفة، ولذلك جمعهم وأخبرهم بالأنباء غير السارة، وأذن لمن شاء بالانصراف حتى لا يقولن أحد أن الحسين أجبره على مسير أو بيعة أو قتال أبدا، فقال لهم عليه السلام{أما بعد فانه قد أتاني خبر فضيع، قتل مسلم بن عقيل وهاني بن عروة وعبد الله بن يقطر، وقد خذلنا شيعتنا، فمن أحب منكم الانصراف فلينصرف في غير حرج، ليس عليه منا ذمام} لأن الإمام كان واضحا في أهدافه، طاهرا في وسائله وأدواته، ولذلك كانت ثورته رسالية وربانية وإنسانية.
      فعل ذلك عدة مرات، وكرره في آخر لحظة سبقت قرار الحرب في يوم العاشر من المحرم، بل أنه بادر إلى عقد عدة اجتماعات سرية وعلنية مع قائد جيش البغي لثنيه عن القتال، ولقد نجح في ذلك، إلا أن الأوامر المشددة التي صدرت عن الدعي بن الدعي عبيد الله بن زياد بن أبيه، والقاضية بقتل الحسين أو استسلامه، وهيهات، هي التي أفشلت كل جهود السلام.
      لنقرأ المقطع التاريخي التالي الذي يرسم لنا الصورة التي كانت عليه الأوضاع في كربلاء قبيل بدء الحرب؛
   {   حتى إذا قدم عمر بن سعد قائد الجيش الأموي، فاوضه الحسين طويلا وأقنعه بأن يمسك الطرفان عن القتال ويرجع الحسين من حيث أتى أو يذهب إلى حيث يريد من بلاد الله، وكتب عمر بن سعد بذلك إلى عبيد الله بن زياد فأبى وكتب إليه: أما بعد فاني لم أبعثك إلى الحسين لتكف عنه ولا لتطاوله ولا لتمنيه السلامة والبقاء ولا لتقعد له عندي شافعا، أنظر فان نزل حسين وأصحابه على الحكم واستسلموا فابعث بهم إلي سلما، وان أبوا فازحف إليهم حتى تقتلهم وتمثل بهم، فإنهم لذلك مستحقون، فان قتل الحسين فأوطئ الخيل صدره وظهره فانه عاق شاق قاطع ظلوم، وليس في هذا أن يضر بعد الموت شيئا، ولكن علي قول، عهد للخليفة يزيد، لو قد قتلته فعلت هذا به}.
      لقد حاول السبط الشهيد عليه السلام، أن يلقي الحجة بكل وسائل الحوار والمنطق السليم والحق الواضح، إلا أن القوم قد استحوذ عليهم الشيطان، فأنساهم ذكر الله عز وجل، فارتكبوا جريمة هي من أبشع الجرائم في تاريخ البشرية.
      وأن من يريد أن يثأر لكرامته التي اعتدت عليها الإساءات التي تعرض لها الرسول الكريم (ص) في الإعلام الغربي، عليه أولا أن يحيي قيم الثورة الحسينية في نفسه ومشاعره وأحاسيسه، لتتحول إلى كرامة حقيقية تتشبع بها شخصيته، ولا يكون ذلك إلا بإعلان الولاء، أولا، لآل الرسول الكرام الذين قتلوا في كربلاء في العاشر من المحرم عام 61 للهجرة، إلى جانب إعلان البراءة ممن قتلهم واعتدى عليهم، ولولا تلك الإساءة الكبيرة التي تعرض لها الرسول الكريم (ص) بقتل سبطه وسيد شباب أهل الجنة، على يد السلطان الجائر الذي تلبس بلبوس الإسلام، وأمام مرأى ومسمع المسلمين، لما تحولت الطريقة البشعة تلك إلى (ثقافة) تتوارثها أجيال الأمويين، بالانتماء السياسي وليس بالنسب، لتصل إلينا اليوم طرق وأساليب يعتمدونها الورثة في قتل الإنسان على الهوية، كما يجري اليوم في العراق، فيقتل الإنسان العراقي على الهوية والانتماء، وبنفس الطرق والأدوات التي استخدمتها الفئة الضالة التي قتلت السبط الرسول(ص).
      وأقولها بصراحة، فلولا استباحة الإرهابيين، الذين يتلفعون بالدين لتنفيذ جرائمهم وتحقيق مآربهم، لدماء الأبرياء، ولولا سكوت (علماء الإسلام) على هذه الجرائم، لما تجرأ أحد على الإساءة إلى مقدساتنا أبدا.
      إن تجاوز الإرهابيين على كرامة الإنسان، هو الذي جرأ الآخرين على التجاوز على مقدساتنا، والإساءة للرسول الكريم(ص).
      إن اكبر إساءة تعرض لها الرسول الكريم(ص) على الإطلاق، تمثلت في قتل سبطه الشهيد على يد حاكم جائر أساء للرسول عندما نزا على منبره، وهو الذي يعبد الله على حرف.
      استغرب حقا، كيف تثور غيرة (المسلم) لكرامة دينه ونبيه عندما يسئ (إعلام الكفار) لنبيه برسم، وهو أمر مرفوض جملة وتفصيلا، ولا تتحرك في جسده شعرة، وهو يمر على ذكرى السبط الشهيد ابن بنت رسول الله (ص)، والذي قتل بتلك الصورة الشنيعة في رمضاء كربلاء، محاولا نسيانها أو تجاهلها، كما هو حال الإعلام (العربي) الذي يوصل الليل بالنهار، في أيام الذكرى، طربا ومجونا وخلاعة؟ ألا يرى (المسلم) في ذلك تناقضا صارخا يا ترى؟ أم ماذا؟ أم أنه لا يرى في قتل السبط أية إساءة للرسول الكريم(ص)، ولذلك لا يعير ذكراها أهمية تذكر؟.
كل يوم عاشوراء..رؤية مغايرة
      ترى، هل عنى الشاعر بقوله؛
كل يوم عــــــــــــــــــــاشوراء            وكل ارض كــــــــــــــــــــــربلاء
      والذي تحول الى أنشودة وشعار في وعي ولا وعي الاجيال على مر الزمن، هل عنى به أن نرى الحسين مقتولا كل يوم؟ وأن نرى دماء السبط مراقة كل يوم على كل شبر من وجه البسيطة؟.
      هل هي دعوة لقتل الحسين وأهل بيته وأصحابه الميامين، كل يوم وفي كل أرض؟ اينما وجدناه، واينما حل وارتحل؟.
      هل هي دعوة لفسح المجال امام يزيد بن معاوية ليحكم الناس في كل عصر ومصر؟ ليعيد الكرة فيقتل ريحانة رسول الله (ص) السبط الشهيد؟.
      شخصيا، لا ادري بالضبط ماذا عنى الشاعر في بيت الشعر هذا، ولكن دعوني هنا ان افترض ما عناه، من خلال رؤيتي للحدث المهول الذي شهدته ارض كربلاء الطاهرة ظهيرة يوم العاشر من المحرم عام (61) للهجرة، من خلال ما يمكنني ان استقرأه من قول الشاعر الآنف الذكر.
      دعونا نبدا من دمعة الحسين في ذلك اليوم، وهي الدمعة التي تختلف بمعانيها كليا عن دمعة العقيلة زينب في نفس اليوم، بفارق ساعات من الزمن فقط.
      فالحسين بكى قاتليه، اما زينب فقد بكت الحسين.  
      لكل دمعة، اذن، رسالة تختلف عن الاخرى.
      فلماذا بكى الحسين اعداءه؟ وما هي الرسالة التي اراد ان يبعث بها، عبر التاريخ، الى كل الاجيال التي سترث الارض من بعده؟.
      ولماذا بكت زينب اخيها الحسين؟ وهل من رسالة في دمعتها؟.
      لقد بكى الحسين عليه السلام أعداءه لأنهم (مظلومون) ظلموا انفسهم، فباؤوا بالخزي في الدنيا واشد العذاب في الآخرة، فالحسين لم يبك ظالما ابدا، والى هذا المعنى تشير الآية القرآنية الكريمة {واذ قال موسى لقومه، يا قوم انكم ظلمتم انفسكم، باتخاذكم العجل، فتوبوا الى بارئكم، فاقتلوا انفسكم، ذلكم خير لكم عند بارئكم}.
      لقد اختار لهم ربهم الدنيا والآخرة، فخسروا الاثنين، واختار لهم الحياة فاختاروا الموت، واختار لهم السعادة فاختاروا الشقاء، واختار لهم الحرية والعزة والكرامة، فاختاروا العبودية والذل والمهانة، ولكل ذلك باؤوا بغضب من الله تعالى، اولئك الذين يلعنهم الله ويلعنهم اللاعنون، بظلمهم انفسهم، فكانت دمعة الحسين عليهم من اجل تنبيههم الى ذلك، ولالفات وعيهم الى الحقيقة.
      لقد سعى الامام كثيرا وطويلا لردع اعداءه عن ارتكاب فعلتهم الشنعاء، وبذل جهدا كبيرا من اجل ذلك، من خلال الحوار المباشر تارة وعقد الاجتماعات السرية والعلنية، والخطب العامة، والجدال بالتي هي احسن، تارة أخرى، حتى لا يعتذر احد منهم يوم القيامة بالجهل بالامور، او انه لم يكن على علم بحقيقة الاحداث.
      لقد حاول الحسين عليه السلام رفع الغشاوة عن بصائر الناس، واطلاعهم عن الحقيقة كاملة، كما حاول ان يضعهم امام الامر الواقع، بكامل وعيهم ومعرفتهم، لماذا؟ لأنه يحب الانسان الذي كرمه الخالق جل وعلا، فكان يكره ان يكون سببا لشقاء الانسان مهما كانت هويته وديانته وانتماءه وعنصره وجنسه، ولذلك قاتله (عربا) اقحاحا، و(مسلمين تعرفهم بسيماهم) و(رجالا اشداء) فيما استشهد معه وبين يديه (مسيحيين) ونساء وأطفال، لأن القضية لم تكن قضية سلطة يتقاتل عليها الفريقان، ابدا، كما انها لم تكن قضية قومية او مذهبية او عنصرية او حتى دينية، وانما كانت قضية انسانية مقدسة تجلى فيها معسكران، احدهما يمثل الحق فيما يمثل الآخر الباطل، احدهما يمثل الانسان وقوى الخير التي اودعها الله فيه، والثاني يمثل كل قوى الشر التي في داخل الانسان، كما في الآية المباركة {ونفس وما سواها، فالهمها فجورها وتقواها، قد افلح من زكاها، وقد خاب من دساها} ولذلك لم يغلق الحسين بابه بوجه احد من الناس ابدا، بغض النظر عن دينه او قوميته او جنسه، فكان باب الله تعالى وسفينة النجاة لمن شاء واحب ان يركبها ليحيا حياة طيبة في الدنيا وينجو بها يوم الفزع الاكبر.
      لقد بكى الحسين قاتليه، قبل ان يتورطوا بدمه الزكي، وهو يرى فشل كل محاولاته الانسانية والدينية التي بذلها من اجل انقاذهم من النار بسببه، وهم الذين تمثلوا بقول الله عز وجل {أفأنت تنقذ من في النار}.
      كانت دمعة الحسين انسانية، حاول بها انقاذ الانسان من الجهل والظلالة وسوء المنقلب والعاقبة، الا ان القوم فهموا الرسالة بالمقلوب، وفسروها خطأ، عندما تصوروا بانه يبكي نفسه، لأنه قريبا سيغدو مقتولا.
      ان دمعة الحسين على قاتليه في عاشوراء، هي تجلي البعد الانساني في ثورته المباركة وحركته الخالدة في ابهى صوره، والا بالله عليكم، هل رايتم او سمعتم قتيلا يبكي قاتليه؟.
      ولأن ثورة الحسين انسانية ورسالية، فهو لم يستعجل القتال، اذ لم يكن هدفه القتال لذاته، وانما من اجل الانسان، فاذا كان المنطق والحوار والخطاب، طريق الى حماية الانسان من نفسه الامارة بالسوء، فلماذا اللجوء، اذن، الى السيف؟.
      لقد حاول الحسين استفراغ كل طاقته في الحوار قبل ان يرد على رسل القوم (النبال) التي صوبوها باتجاه معسكره ليستعجلوه القتال، ولو كان الامام لا يحب الانسان، لاستعجل القتال ليعجل بقاتليه الى النار، كما يفعل من يكرهون الانسان، ويحبون توريطه من خلال استدراجه الى مكامن الخطا والجريمة، اما الحسين فقد سعى الى تنبيه الانسان الى خطئه وجريمته، في محاولة انسانية منه لانقاذه من براثن الجريمة.
      انه فعل ازاء قاتليه، ما فعله ابوه الامام امير المؤمنين علي بن ابي طالب عليه السلام، الذي ظل يحاور (الخوارج) حتى عدل عن مقاتلته عشرات الآلاف منهم، كما تذكر ذلك كتب التاريخ، فبالكلمة حقن الامام دماء مغفلين، وبها حاول الحسين ذلك، وبها يحاول المصلحون الانسانيون.
      فالمصلح، يوفر على الناس دمائهم، والمصلح لا يحب الولوغ في دماء الناس، ولذلك فهو لا يوفر جهدا لتحريم دم الانسان وصونه من الهدر لا زال هناك متسع من الوقت والجهد والوسائل غير السيف والقتل.
      على العكس من الطغاة والمجرمين الذين يبدأون خطوتهم الاولى نحو الهدف، بهدر الدم الحرام وازهاق الروح المحترمة، وهنا يكمن الفارق الكبير بين المصلح والمجرم، فالاول هدفه حياة الانسان، اما الثاني فهدفه ممات الانسان، الاول يموت هو ليحيا الانسان، والثاني يموت الانسان ليحيا هو، وشتان بين الاثنين.
      فالمصلح يبدا بالكلمة وقد ينتهي الى السيف، اذا اضطر الى ذلك، اما الظالم فيبدا بالسيف وينتهي اليه، انه يبدا بالدم وينتهي اليه، يبدا بارواح الناس وينتهي اليها.
      قد يقول قائل، ويسأل سائل:
      ألم يكن الامام على علم بعنادهم وغيهم وضلالتهم؟ فلماذا، اذن، حاول وعظهم ونصيحتهم؟.
      وياتي الجواب من القرآن الكريم {معذرة الى الله} كما اجاب المؤمنون الذين استنكر عليهم بعض قومهم وعظهم للكافرين، بقولهم مستنكرين {لم تعظون قوما الله مهلكهم}.
      هذا من جانب، ومن جانب آخر، فهي رسالة الى الاجيال والتاريخ، ودرس للجميع، ليمارسوا الوعظ والارشاد حتى مع اعدى اعدائهم واشدهم ضراوة، فما بالك بالمغفلين الذين يعادون المرء عن جهل، قبل ان يقع السيف بين الطرفين، من اجل القاء الحجة اولا ومن اجل انقاذ ما يمكن انقاذه من الجهل والتورط بالدم الحرام، من جانب آخر.   
      لعل من هذا المعنى، يمكن ان نستنبط المفهوم الذي عناه الشاعر في قوله الانف الذكر.
      فهو دعوة متكررة، لك جيل وعصر، للحيلولة دون قتل الحسين كل يوم، ودون تكرار الحدث الذي شهدته كربلاء، على كل ارض، من اجل انقاذ الانسان من التورط في الجريمة، انها دعوة صادقة من الامام لمنع أعدائنا، وقبل ذلك أعداء أنفسهم، من المغرر بهم الذين غسلت ماكينة الدعاية الاموية المضللة عقولهم واماتت ضمائرهم وحطمت تفكيرهم، من ارتكاب مثل هذه الجريمة المروعة التي سيحجزون بسببها مقعدهم في قعر جهنم، لأن الامام، وهو الرحمة الربانية للبشر، يكره أن يكون سببا لدخول انسان واحد النار، لجريمة يرتكبها بحقه، فكيف يمكن ذلك؟.                                                    
   كيف يمكن ان نحول دون تكرار الحدث المأساوي؟ وكيف يمكننا ان نمنع من تكرار الجريمة؟ وكيف يمكننا ان نكون ممن يحفظ الحسين من القتل ويصون الدماء من ان تراق ظلما على الارض؟ وكيف لنا ان نكون ممن ينتصر للحسين قبل ان يقتل، ولكربلاء قبل ان يسيل عليها دم السبط، وللآل والاصحاب قبل ان يقتلوا بسيف البغي، وللهاشميين والهاشميات قبل ان يأخذونهم سبايا الى الشام؟.
      الجواب في معرفة اسباب وقوع الحدث المهول، فمن خلال ازالتها، بعد معرفتها، نحول دون تكرار الحدث.
      فعندما تساس الامة براعي مثل يزيد، الذي قال عنه الامام الحسين عليه السلام مخاطبا الوليد بن عتبة والي المدينة، عندما رفض اعطاءه البيعة (... ويزيد فاسق، فاجر شارب الخمر، قاتل النفس المحترمة، معلن بالفسق والفجور) عندما تساس الامة بمثل هذا، فعلى الاسلام السلام، وعندما ينزو على منبر رسول الله (ص) رجل كمعاوية بن ابي سفيان، فعلى الانسان السلام، وعندما يتسلل الاعلام الاموي الى كل مكان، الى البيت والمدرسة والمسجد والسوق والى مخادع الناس، فعلى الحرية والكرامة والعزة السلام.
      دعونا اولا نمنع من انعقاد سقيفة في الامة، ثم نجاهد للحيلولة دون ان ينزو على السلطة حاكم كمعاوية بن ابي سفيان يحول الناس الى عبيد والمال الى دولة بين الاغنياء فيحرم منه فقراء الامة ويتخم آخرين، ويسخر خزينة البلاد لتحقيق رغباته الذاتية ونزواته الشخصية، فيصرفها لشراء الذمم وصناعة الدعاية السوداء المضللة واختلاق الاحاديث والروايات الباطلة على لسان رسول الله (ص) كل ذلك من اجل تحويل الحكم الاسلامي الى ملك عضوض يتوارثه الطلقاء وابناء الطلقاء، فيحكم الامة باسم الاسلام، مثلا، رجل كيزيد الذي يشرب الخمر ويلعب بالقرود ويقتل النفس المحترمة، ثم يدعو له ائمة المسلمين من على منابر الجمعة، كخليفة.
      أية مهزلة في التاريخ هذه؟ بل أية مهزلة على مر التاريخ هذه؟ ففي كل يوم لنا يزيد حاكما وفي كل يوم لنا معاوية خليفة للمسلمين وفي كل يوم لنا سقيفة وفي كل يوم لنا فتاوى تكفيرية ودعاية سوداء تضلل الناس وتغسل الادمغة واخيرا تقتل الحسين؟.
      هنا مربط الفرس، اذن، فاذا حكم البلاد رجل كيزيد علينا ان نستعد لسماع نبأ قتل الحسين، واذا اعتلى منبر رسول الله رجل كمعاوية الذي قال للمسلمين في اول خطبة جامعة في مسجد الكوفة{ يا اهل الكوفة، اتروني قاتلتكم على الصلاة والزكاة والحج؟ وقد علمت انكم تصلون وتزكون وتحجون، ولكني قاتلتكم لأأتمر عليكم وألي رقابكم، وقد آتاني الله ذلك وأنتم كارهون، الا ان كل دم اصيب في هذه مطلول، وكل شرط شرطته فتحت قدمي هاتين}اذا اعتلى منبر الرسول رجل كهذا، فعلى الامة ان تتوقع قتل الحسين بين لحظة واخرى.
      لذلك، اذا اردنا ان لا يتكرر المشهد الكربلائي في كل يوم وفي كل ارض، علينا اولا ان نمنع سقيفة ولا نقبل بمعاوية خليفة او يزيد حاكما، وان نقاطع الاعلام الاموي ولا نصغ الى اقوال المرجفين في المدينة، ونسير بركب الحسين، مهما غلا الثمن وكبرت التضحيات، فالحياة بلا كرامة موت في الدارين، والموت بعز حياة في الدارين، اليس كذلك؟.
      كذلك، على الامة ان تقف مع الحسين حيا، ولا تنتظر ان يقتل فتبكيه ميتا، وهذا يتطلب منها ان تنصره وتنتصر له فارسا، قبل ان يترجل من على صهوة جواده، كيف؟.
      ان الحسين عليه السلام قيم ومبادئ وافكار ومناقبيات ورسالة، انه ليس مجرد ثائر من اجل سلطة، او مغامر من اجل حكم، ابدا، والى هذا المعنى اشار عليه السلام بقوله {الا واني لم اخرج اشرا ولا بطرا ولا مفسدا ولا ظالما، وانما خرجت لطلب الاصلاح في امة جدي رسول الله (ص) وابي علي بن ابي طالب عليه السلام، اريد ان آمر بالمعروف وانهى عن المنكر، فمن قبلني بقبول الحق فالله اولى بالحق، ومن رد علي هذا، اصبر حتى يحكم الله بيني وبين القوم بالحق وهو خير الحاكمين}.
      هدف الحسين، اذن، كان الاصلاح اولا واخيرا، اصلاح ما فسد من حال الامة على يد الحكومات والانظمة التي تعاقبت على الحكم من بعد وفاة رسول الله (ص) واصلاح ما افسدته القوى الاجتماعية التي ملكت المال والاعلام وتاليا السلطة.
      لقد جاد الحسين عليه السلام باغلى ما عنده من اجل تصحيح مسار الامة، واعادتها الى جادة الصواب والحق والعدل والانصاف، من اجل ان تحيا حرة كريمة وسعيدة بين امم الارض.
      ان نتيجة حكم السلطات الظالمة للامة، يمكن تلخيصه بما يلي؛
      اولا؛ تغيير مسار النظام السياسي، من نظام يعتمد الشورى والانتخاب والبيعة والتداول السلمي للسلطة، الى نظام يعتمد الوراثة في اعتلاء السلطة، واخذ البيعة بالعنف والاكراه، وتاليا القتل والاغتيال والتآمر كأدوات يعتمدها المتصارعون على السلطة للفوز بها، وبقراءة سريعة لتاريخ المسلمين، والنماذج الكثيرة التي ترويها كتب السيرة والخلفاء والسلاطين، يتضح لنا هذا المعنى جليا، لدرجة انه يزكم الانوف بفضائحه، ويخجل منه المرء الذي يكره الانتساب الى مثل هذا التاريخ، المهزلة.
      ثانيا؛ محو القيم الانسانية التي اعتمدها الاسلام في العلاقة بين الحاكم والمحكوم، وبين الناس انفسهم، صغيرهم وكبيرهم، غنيهم وفقيرهم، عالمهم ومتعلمهم، نساءهم ورجالهم، وبين اركان الحكم انفسهم، كقيم المساواة والرأفة ومبدأ تكافؤ الفرص، والتكافل الاجتماعي والحرية والكرامة والصدق والتسامح والتعاون على البر والتقوى والايثار وغير ذلك من المعاني والقيم السامية التي جاء بها الاسلام العظيم، لتحل محلها، في ظل الانظمة الفاسدة والمستبدة، سياسات الأثرة والاقصاء والتمييز العنصري والطائفي والعشائري والعبودية والاكراه وروح الانتقام والذلة وغيرها من السياسات التي دمرت الامة، فتقهقرت الى الوراء لتصبح في آخر القافلة الانسانية وفي نهاية مسيرة البشرية.
      لقد عنى الشاعر، اذن، ان كل يوم هو زمن مفتوح للصراع بين الحق والباطل، وان كل ارض هي ساحة مفتوحة لهذا الصراع، وان على اهل الحق ان يواجهوا الظلم صغيرا قبل ان ينمو ويكبر فيتمكن من قتل الحسين، وبذلك فقط يمكنهم ان يحولوا دون تكرار تراجيديا كربلاء بكل فصولها المهولة وتفاصيلها المرعبة والاليمة.
      اما دمعة زينب عليها السلام، فقد حملت رسالة أخرى، انها رسالة الرفض الابدي للظلم، وصرخة المظلوم في قصور الظالمين، لتهدم أواوينها، وتدمر قلاعها.
      انها رسالة الاحتجاج على القتل، وسلاح المستضعفين في مواجهة سلاح التضليل، ووسيلة المظلوم لاستنكار الظلم، واداة المقهور لاستنهاض الامة الغافلة والناس النيام والرعاع المغفلين والعامة الجاهلة والصفوة التي اعماها الطمع واسال لعابها المال الحرام والحضوة الزائفة عند السلطان، انها الرسالة التي لا يمكن لظالم، مهما اوتي من قوة وجبروت، ان يحجبها عن الفضاء الخارجي، ولذلك امتدت هذه الرسالة الزينبية عبر التاريخ وستظل ممتدة الى قيام الساعة، اذ سيفشل الظالمون في اخماد اوارها مهما فعلوا، ولنا في التاريخ اكبر دليل وانصع برهان، ولقد صدقت ابنة علي العقيلة زينب عندما خاطبت الطاغية يزيد في مجلسه بالشام قائلة {فكد كيدك واسع سعيك وناصب جهدك، فوالله لا تمحو ذكرنا ولا تميت وحينا ولا تدرك امدنا ولا تدحض عنك عارها، وهل رايك الا فند وايامك الا عدد وجمعك الا بدد}.
      انها الرسالة التي فضحت زيف الحاكم الجائر، وكشفت عن حقيقة الامور التي بذل الظالم من اجل التستر عليها الشئ الكثير، وسخر لها جيوش (المثقفين) و(الاعلاميين) و(فقهاء البلاط) و(وعاظ السلاطين) من المأجورين والموتورين، من الذين يتبعون المطامع.
      انها شجاعة الرسالة وبطولة أهل الحق وصمود الثائرين وقدرة المظلومين.
      من هنا افهم؛
      اذا اردنا ان نحول دون تكرار الحدث المأساوي، علينا ان نحتفظ بالدمعتين ساخنتين، فهما رسالتان تكمل الواحدة الاخرى، وهما جناحا ثورة السبط الشهيد سيد شباب اهل الجنة الامام الحسين بن علي بن ابي طالب عليهم السلام.
      ينبغي علينا ان لا ننخدع بما يقوله المشككون، الذين يحاولون انتزاع حب الحسين من قلوبنا، فالدمعة رسالة وليست عواطف فحسب، وانها معاني سامية وقيم عظيمة ومناقبيات خلاقة، من يتنازل عنها سيتنازل عن الحسين، ومن يفرط بها سيفرط بكربلاء، ومن يغفل عنها سيغفل عن الهدف والوسيلة في آن واحد.
      لنحذر من نسيان الدمعتين، وما حملتا من رسالتين تاريخيتين عظيمتين، من اجل ان لا ننسى الحسين وثورته الانسانية، وبالتالي، من اجل ان نتذكر انفسنا، فلا ننسى حالنا وواقعنا وما نحن عليه من وضع لا يحسد عليه، فالحسين عليه السلام عبرة (بفتح العين) وعبرة (بكسر العين) فلا يمكن ان نعيش الحسين بواحدة ابدا، فالعبرة (بفتح) جزء من العبرة (بكسر) والعكس هو الصحيح، وهما متلازمتان لا تفترقان ابدا ما دامت السماوات والارض.
رسالة عاشوراء
      عاشوراء، ليست حدثا آنيا.
      وكربلاء، ليست جغرافيا محددة بقطعة ارض.
      انها رسالة السماء باسلوب آخر، على الكرة الارضية التي مثلتها كربلاء، تلك البقعة الطاهرة المقدسة، فهي، اذن، خالدة ما خلد الدهر، وممتدة ما امتد الزمان والمكان، فــ {كل ارض كربلاء....وكل يوم عاشوراء}.
      انها عنوان الصراع بين الخير والشر، بين الحب والكراهية، بين الحق والباطل، بين الايمان والكفر، بين العقل والعاطفة، بين العلم والجهل، بين الدين واللادين، بين الحقيقة والدجل، بين الوعي والتضليل.
      واذا كانت المعركة المسلحة بين الحق والباطل، قد بدات وانتهت في يوم عاشوراء عام (61) للهجرة، فان الحرب بينهما لا زالت ، وستبقى، قائمة، لم ولن تنتهي.
      قد تتبدل الوسائل، وتتغير الاسماء والعناوين والوجوه والازياء، الا ان الهدف يبقى هو الهدف لا يتغير
   الحق واهله هدفهم انصاف المظلوم واخذ الظالم من خزامته، اما الباطل واهله، فهدفهم التجبر في الارض والاستعلاء على الناس والعدوان على حقوق الاخرين، تارة باسم الدين واخرى باسم الانسانية وثالثة باسم الديمقراطية والحضارة ، ورابعة وخامسة، وهكذا، تتبدل العناوين ويبقى الجوهر واحد.
      فما هي رسالة عاشوراء، اذن؟ وماذا اراد سبط رسول الله (ص) الحسين بن علي بن ابي طالب عليه السلام بثورته؟ وهل من سبيل الى نصرة ثورة الحسين وحركته الرسالية، بعد مرور قرابة اربعة عشر قرنا على ذاك الحدث المهول الذي شهدته كربلاء في العاشر من المحرم عام (61) للهجرة؟.
   اولا: الاصلاح
   عندما تنحرف الامة عن مسارها، والسلطان عن منهج الحق، والنظام السياسي عن الطريق السوي، يكون لا بد على الانسان (المسؤول) ان ينهض بواجبه ليصحح الانحراف ويدعو الامة الى الصراط المستقيم.
      وان من اخطر انواع الانحراف الذي يصيب الامة، هو عندما ينزو على السلطة امام جائر يعمل بعباد الله بالظلم والعدوان، ويتصرف بالمال العام وكأنه مال ابيه.
      المهم هنا، هو ان تتم المبادرة للتغيير منذ بداية الانحراف وعدم ترك الخطأ يكبر وينمو ويتضخم، اذ كلما بكر (المسؤولون) في عملية التغيير، كلما كانت التضحيات اقل والخسائر بسيطة والثمن زهيدا، والعكس هو الصحيح، فعندما تترك الامة حابل الامر على غاربه، فتقف تتفرج على ما يحدث، وتمنح الانحراف فرصة اكبر ليتجذر ويتكرس ويستحكم وينتشر أثره، كلما كان التغيير اصعب، والثمن الذي يجب ان تدفعه من اجل الاصلاح اكبر وابهض.
      حدث هذا في العاشر من المحرم من عام (61) للهجرة، ويحدث ويتكرر المشهد كلما نزا على السلطة رجل ارعن منحرف فاسف فاجر شارب للخمر لاعب بالقرود والكلاب، لا يرعى الا ولا ذمة، كالطاغية يزيد بن معاوية، ومن على شاكلته.
      وحدث هذا في العراق في التاسع من نيسان عام (2003) عندما سكت الناس على ما يفعله الطاغية الذليل المقبور صدام حسين، منذ ان نزا على السلطة، بمعية الحثالة الساقطة من السراق المسلحين الذين نفذوا عملية السطو المسلح على السلطة بانقلاب عسكري اطلقوا عليه اسم (الثورة البيضاء) {وان كان الطاغية لم يؤمن بشئ اسمه الثورة البيضاء، على حد قول الكاتب المصري محمد حسنين هيكل الذي نقل عنه قوله، ان صدام قال له مرة بانه يختلف مع الرئيس جمال عبد الناصر بتسمية الثورة بالبيضاء، فليس هناك ثورة بيضاء ابدا، فكل الثورات يجب ان تكون حمراء، اي دموية}.
      فلو كان الناس قد واجهوا الانحراف لحظة وقوعه، لما تفرعن النظام السياسي ولما تجبر الطاغوت لدرجة انه استعصى على التغيير الا بثمن باهض وباهض جدا {في الحالة الاولى كان الثمن تراجيديا كربلاء واستشهاد سبط الرسول (ص)، وفي الحالة الثانية كان الثمن احتلال العراق وانزلاقه في دوامة العنف والارهاب}.
      لا بد من تغيير الانحراف لحظة حدوثه، او فليأت الطوفان باغلى الاثمان، وتلك هي سنة الله تعالى في عباده، وفي التاريخ، وكربلاء تحديدا، اكبر تجربة وبرهان، لمن القى السمع وهو شهيد.
      ان الامراض التي تصيب المجتمع، تشبه الى حد بعيد، بطبيعتها وطريقة علاجها، تلك الامراض التي تصيب الانسان، فكما يحتاج المرء الى تشخيص نوعية المرض والمبادرة الى اخذ الدواء اللازم في الوقت المحدد، اذ سيتضاعف ويستفحل اذا ما تهاون فيه او رفض اخذ الجرعة اللازمة او كابر فلم يعترف به، لاي سبب كان، وتاليا قد يقضي عليه ويقتله، كذلك فان المرض الذي يتعرض له اي مجتمع من المجتمعات، قد ينمو ويستفحل ويزداد خطره حتى يقضي على المجتمع، او يكون بحاجة الى الكي على طريقة الحكمة التي تقول {آخر الدواء الكي} اذا كابر المجتمع، فرفض الاعتراف به او استرسل معه او رفض اصلاحه، او تماهل وسوف في أخذ المبادرة، او خاف من الاصلاح.
      ولذلك قيل بان لكل عملية اصلاح ثمن، يجب ان يستعد المجتمع لتقديمه، في الزمان المعين والمحدد، وان الثمن يكبر ويكبر كلما تأخر المجتمع في عملية الاصلاح، حتى يصل الامر، في احيان كثيرة، الى استحالة الاصلاح لياتي دور الثورة او الحرب المسلحة او الفوضى او كل ما من شانه ان يعرض المجتمع لمخاطر جمة.
      تاسيسا على هذه الحقيقة، يجب ان يكون شعار المجتمع للاصلاح {قبل فوات الاوان} من خلال الاسراع في تحديد الانحراف لحظة وقوعه، والمبادرة الى ايجاد الحلول والعلاجات المناسبة، وتاليا المبادرة الى ممارسة الاصلاح على ارض الواقع حتى لا تستفحل الامور فتنفلت من عقالها، فيكون الثمن باهضا جدا، حدث ذلك في عاشوراء عام (61) للهجرة، وفي التاسع من نيسان عام (2003) ويحدث في كل آن ومكان يكابر فيه المجتمع، وتأخذه العزة بالاثم، فيرفض الاعتراف بالخطا والانحراف والمرض الذي يصيبه، لاي سبب كان.
      ومن اجل ان لا يتكرر المشهد فينزو على السلطة طاغية مثل يزيد ويقتل رجل مثل الحسين(ع)، لا بد من المبادرة الى الاصلاح حال وقوع الانحراف، بغض النظر عن سببه او المتسبب فيه.
   ثانيا: العار أم النار؟.
     لقد كتب الحسين بن علي (ع) في كربلاء اروع معادلة حياتية.
      انها تقول ان {الموت اولى من ركوب العار، والعار اولى من دخول النار} فماذا تعني هذه المعادلة؟.
      قد يخير المرء بين الموت والعار، فعليه ان يختار الموت، وذلك هو الاختيار الطبيعي الذي يبادر اليه كل انسان ذي مروءة وشرف ودين ووطنية.
      لا يناقش في النصف الاول من المعادلة، اذن، عاقل، انما النقاش والجدال في الشق الثاني منها، الا وهو عندما يخير الانسان بين العار والنار، فهنا يكمن الخطر ويبدا التحدي، اذ كثيرا ما يختار الناس النار على العار، لان النار شئ مؤجل الى الاخرة، اما العار فشئ معجل في الدنيا يتلمسه المرء في كل يوم، بل وفي كل لحظة، وان من طبيعة الانسان انه يختار العاجل على الاجل، لان الانسان {خلق عجولا) كما يصفه القران الكريم، ولان العاجل هو قرار العاطفة اما الآجل فهو قرار العقل والحكمة، ولان الانسان الذي يتنازعه العقل والعاطفة، كثيرا ما تتغلب الثانية على الاول، لذلك فانه يختار النار اذا ما خير بينها وبين العار، وهنا تكمن المصيبة.
      وتبدا قصة الاختيار المعقدة والصعبة هذه كما يلي:
      عندما يشعر المرء بانه على خطا، او انه في طريقه لارتكاب خطا، يبدا الصراع الداخلي، من خلال التساؤل التالي؛
      ترى هل لي من توبة؟ وهل لي من محاولة لتصحيح الخطا والعودة بنفسي الى جادة الصواب؟ ام انه قضي الامر الذي اتساءل فيه ومر الزمن ولم يعد بدا من مواصلة المشوار، وليكن ما يكون، اذ ليس هناك متسع من الوقت لتصحيح المسار والعودة به الى النقطة التي بدا منها الخطا والانحراف؟.
      ويتساءل:
      ترى، ماذا سيقول الناس عني اذا تراجعت قليلا الى الوراء؟ الا يتهمونني بالجبن والضعف والتردد والخوف؟ اذن لا بد من الاستمرار في الطريق مهما بلغ الخطا واستفحل الانحراف.
      في هذه النقطة بالذات يبدا الاختيار، فترى الانسان يختار طريق الاستمرار في الخطا على ان يتراجع فيوصم بالجبن مثلا.
      اما الحسين عليه السلام، فلقد علمنا ان لا نفكر بهذه الطريقة، علمنا ان نتحلى بالشجاعة فنقف فورا عند نقطة الانحراف حال الشعور بها، لتصحيح المسار، وليتهمنا الناس بما يشاؤون، ففي اليوم الاخر لا احد يدافع عن احد الا عمل الانسان، فماذا ينفعني الناس في ذلك اليوم اذا كنت قد كابرت في الحياة الدنيا لحظة شعوري بالخطا، ولم اقف في لحظة شجاعة وقفة مسؤولة لأحاسب بها نفسي فاعود الى المسار الصحيح؟.
      ايها الانسان:
      ادفع ثمن تراجعك عن الخطا في الدنيا، تهمة او صفة سيئة، قبل الآخرة، النار وغضب الجبار، واليوم قبل الغد، اذ مهما كان الثمن غاليا في الدنيا، فانه يهون ازاء الثمن الذي يدفعه الانسان في الاخرة.
      في كربلاء، تراجع الحر بن يزيد الرياحي عن خطئه في آخر لحظة، ولقد كان في ظنه بان الفرصة قد مرت ولا مجال للتراجع، وان من غير المعقول ان الله تعالى يقبل التوبة في اللحظة الاخيرة، الا ان جواب الامام الحسين بن علي (عليهما السلام) على سؤال الحر جاء مغايرا لتوقعاته، فعندما ساله {هل لي من توبة؟} قال له الامام {ان تبت تاب الله عليك}.
      القرار، اذن، بيد الانسان، فهو الذي عليه ان يقرر تصحيح المسار من دون ياس او قنوط او اصرار على الخطا.
      كم من انسان خسر الدنيا والاخرة لانه تاخر في ايقاف الخطا عند حده خوف التهمة بالجبن مثلا او ما اشبه؟ وكم من انسان كابر واخذته العزة بالاثم ورفض الاصغاء الى نصيحة الناصحين، فقط لانه لا يريد ان يقول عنه الناس انه متردد او انه يغير رايه وموقفه؟.
      لقد حاول الحسين بن علي عليهما السلام، ان ينصح جيش الغي ليرده عن ارتكاب الجريمة المنكرة، الا ان خوفهم من الفضيحة او تهمة الناس لهم بالجبن والخوف، حال بينهم وبين الاصغاء الى نصيحة العاقل المشفق، فاخذتهم العزة بالاثم، فاختاروا النار على العار، وتلك هي المصيبة الكبرى، ولو كان القرار لعقلهم لما اختاروا قتال السبط، الا انهم اسلموا قيادهم في تلك اللحظة الى المصالح الضيقة والانانية المقيتة، الى الشيطان الرجيم، فلم يروا الا الباطل سبيلا، فقدموا العاجل على الاجل وساء مصيرا.
      حتى قائد جيش الضلال، عمر بن سعد، حاول الحسين عليه السلام ان يثنيه عن عزمه، الا انه ابى الاصغاء الى لغة العقل والدين خوف الاقالة عن قيادة الجيش، او فقدانه لملك الري، منيته، فجاء تحقيق المنى الزائلة على حساب ارتكاب فعلة نكراء وجريمة شنعاء سيظل التاريخ والاجيال تلعنها ما بقي الدهر، وفي الآخرة النار وغضب الجبار.
      اولم يقل ابن سعد، عندما حدثه الحسين عليه السلام بالحقيقة طالبا منه الانصراف عنه وعدم مقاتلته؛
فوالله ما ادري واني لحــــــــائر           افكر في امري على خطريـــــن
أأترك ملك الري والري منيتـي            ام ارجع مأثوما بقتل حـــــــسين
حسين بن عمي والحوادث جمة            لعمري ولي في الري قرة عيني
ان اله العرش يغفر زلتـــــــــي            ولو كنت فيها اظلم الثقليــــــــــن
الا انما الدنيا بخير معجـــــــــل            وما عاقل باع الوجود بديــــــــن
يقولون ان الله خالق جنــــــــــة            ونار وتعذيب وغل يديــــــــــــن
فان صدقوا فيما يقولون اننــــي            اتوب الى الرحمن من سنتيـــــن
وان كذبوا فزنا بدنيا عظيمـــــة            وملك عقيم دائم الحجليــــــــــــن
      علينا ان نحذر من ان نسترسل مع الخطأ، فنصل الى نقطة اللاعودة، والى نهاية المطاف، او خط النهاية، من خلال شعورنا باليأس وكون ان الفرصة قد مرت فلا مجال للتوبة او العودة والعدول عن الخطأ، انها وساوس الشيطان الذي يسول لابن آدم، بعدم جدوائية التوبة، وان الفرصة للعودة الى جادة الصواب قد ولت من غير رجعة، انه هو الذي يغلق ابواب العودة امام الانسان، وهو الذي يرسم خطوط النهاية لاصحاب النفوس الضعيفة، ولذلك يجب ان نحذره، فلا نصدق وسواسه او وعوده او تخيلاته واكاذيبه.
      لنحذر كل ذلك، ولنتذكر دائما، بان كل نفس، بل كل شهيق لنا هو فرصة متجددة للتوبة وللاقلاع عن الخطا، فلا نيأس من رحمة الله تعالى، فنتردد في التوبة ونتشبث بالمعصية والخطأ، فمهما عظمت خطايانا، تبقى رحمة الله بعباده اوسع واشمل.
      ان واحدة من اكبر مصائب الخطائين، يأسهم من التوبة، وظنهم بان وقتها قد فات اوانه، وكان التوبة محددة بوقت معين، ولذلك يواصلون طريق الخطا، بعد ان انقطع املهم بالتوبة والتراجع، فيكملون مشوارهم المنحرف بخطا اكبر وجريمة اعظم، كما هو حال عدو الله ابن ملجم الذي رد على سؤال امير المؤمنين علي بن ابي طالب عليه السلام، بعد ان ضربه تلك الضربة المسمومة القاتلة في محراب الصلاة في مدينة الكوفة المقدسة، وما اذا لم يكن له خير امام، في سالف الايام، اذ أجابة المجرم بقوله {افأنت تنقذ من في النار} وهو جواب اليائس من رحمة الله تعالى المستسلم لقدره، القانط من امكانية التراجع عن الذنب بالتوبة.
      حدث ذلك في رمضان عام اربعين للهجرة، وتكرر المشهد مع الطاغية الارعن والذليل صدام حسين اذله الله في الدنيا واخزاه في الاخرة.
      ومن اجل ان لا يتكرر المشهد مع اي منا، علينا ان نتذكر بان باب الرحمة واسعة، وان رحمة الله تعالى عظيمة تسع ذنوب العباد، شريطة ان يتوبوا اليه توبة نصوحة، فلا يياسوا او يقنطوا او يترددوا في العودة اليه تعالى، ولا يظنون بانهم في نهاية المطاف، وقد فات الاوان عليهم، ابدا.
   ثالثا: باب رحمة.
      في كربلاء، كان الحسين عليه السلام، باب رحمة، ليس لاصحابه فقط، فذلك امر مفروغ منه، وانما حتى لمن لم يكن منهم، بل حتى لاولئك الذين حاربوه وجعجعوا به الى الطف ليواجه حتفه ويكتب التاريخ.
      لم يفكر الحسين عليه السلام  بالانتقام ممن ظلمه عندما قدر على العفو، فكان مصداق المنقبة النبوية التي تقول {العفو عند المقدرة} ولم يحمل ضغينة ضد من حاصره ومنعه المنافذ وحال بينه وبين ارض الله الواسعة، ولم يحقد على من اسرج والجم وتهيأ وتنقب اخباره واسراره خدمة للطاغية يزيد بن معاوية، عندما لمس في مثلهم التوبة والعدول عن الخطأ والتراجع عن ارتكاب الجريمة، كما هو حال الحر بن يزيد الرياحي مثلا.
      درس كربلاء، اذن، ان يكون الانسان للانسان باب رحمة، فلا يغلق امامه باب الخير.
      ان على الانسان ان يتعايش مع الانسان حتى اذا اختلف معه بالدين او المذهب او القومية او الراي، فالاختلاف سنة ورحمة وتكامل، لا ينبغي ان يتحول الى حافز للانتقام والقطيعة والعدوان والاعتداء والتخلف والتراجع، في لحظة تجلي الحقيقة.
      ايها الانسان؛
      لا تمنع الخير عن اخيك الانسان، اذا كان الخير بيدل.
      لا تفرض عليه امرا او تجبره على تبني راي تعتقد به ولا يراه هو.
      لا تحاصره بالخيار الاوحد، كما يفعل الطغاة، يزيد مثلا، عندما خير الحسين عليه السلام بين السلة والذلة فقط، بل حاول ان تضع امامه خيارات عدة لتساعده على حسن الاختيار، فباب الرحمة واسعة، وسعها الله تعالى، فلماذا تضيقها على الانسان، وتاليا على نفسك؟.
      لا تكن سببا لفشله، بل كن له بابا للنجاح والتقدم والغنى ما وسعك ذلك، خاصة اذا ما احسن الظن بك، ووجد فيك مثل هذه الباب، فالناس لبعضها، كما يقول المثل.
      وفي كربلاء، كذلك، لم يفرح الحسين لانه يقتل اعداء الله، ولم يضحك لانه يراهم يدخلون النار بسببه، ولم تنفتح اساريره لانه شهد تمزق الامة التي انقسمت آنئذ بين الحق والباطل، بل بكى اعداءه لانهم اما جهلة واما ظالمون لانفسهم بسبب عدوانهم على كتاب الله الناطق وعدل القرآن وسبط رسول الله (ص).
أن تكون حسينيا
      الانتماء الى الحسين عليه السلام، ليس لقلقة لسان، كما ان الانتماء الى كربلاء، ليس ادعاء فارغ من المحتوى والمضمون، انه تبني لرسالة وتحمل لمسؤولية وولاء لمنهج.
     اما ان ننتمي الى الحسين بن علي عليه السلام، ويحكمنا طاغوت كـ (صدام حسين) فهذا يعني ان هنالك خلل كبيرفي الفهم والوعي والادراك لمعنى الولاء والانتماء، وان هنالك اشكال في الاستيعاب، فكيف يمكن ان يجتمع الخير والشر في آن واحد؟.
      ان في كل نصوص زيارات المعصومين والائمة عليهم السلام، عبارات عميقة المعنى مثل العبارات {عارفا بحقكم} و {مستبصرا بشانك وبالهدى الذي انت عليه} و {المعترف بحقكم} و {مستبصرا بالهدى الذي انت عليه} و {عارفا بضلالة من خالفك} و {اشهد ان من اتبعك على الحق والهدى} و {اشهد انك كلمة التقوى وباب الهدى والعروة الوثقى} و {اشهد الله واشهدكم اني بكم مؤمن ولكم تابع} و {اني سلم لمن سالمكم، وحرب لمن حاربكم} و {جئتك وافدا اليكم، وقلبي مسلم لكم، وانا لكم تابع} و {نصرتي لكم معدة، حتى يحكم الله وهو خير الحاكمين، فمعكم معكم لا مع عدوكم} ما يعني ان شروط الانتماء الى الحسين (ع) كما يلي:
      1ــ المعرفة والاستبصار بالحق والهدى الذي عليه الامام.
      2ــ الاعتراف واليقين بالباطل الذي عليه اعداءه، الى جانب الاعتراف بحق الامام.
      3ــ الشهادة على ما نخاطب به الامام، وعلى ما نعتقده ونعقده في قلوبنا.
      4ــ الاتباع الحقيقي والعملي، الى جانب القلبي، لما سار عليه الامام وللنهج الذي خطه في حياته.
      5ــ تولي الامام وانصاره، والتبري من اعدائه.
      6ــ اعداد العدة دائما لنصرة الامام ونهجه عندما يتطلب الامر ذلك.
      فكيف نعرف الحسين الشهيد؟ وما الذي يجب ان نعرفه منه؟ وتاليا، كيف يمكن ان نكون حسينيين حقا وليس مجاملة او ثرثرة او ترديد لكلمات لا تعني لنا شيئا؟.
      ان اصل الحب هو المعرفة، كما ان اصل الولاء هو المعرفة، ولذلك يجب اولا ان نعرف الحسين عليه السلام لنواليه ونحبه وننتمي الى نهجه الرسالي الوضاء، بصدق ووعي.
      فمن اجل ان تكون حسينيا، عليك؛
      اولا؛ ان تقرا الحسين بعقلك قبل عواطفك، وبوعيك قبل احاسيسك، فالحسين ليس عبرة فقط (بفتح العين) انه عبرة (بكسر العين) وفكرة.
      ان ما يؤسف له حقا، هو اننا حولنا الحسين الى تراجيديا نبكي عليها فقط، من دون ان نبذل الجهد اللازم من اجل ان نقراه فنستوعبه فنتمثله نهجا للحياة، قبل ان يكون طريقة للاستشهاد.
     اننا ننفق الكثير على الجانب العاطفي لقضية الحسين عليه السلام، ولكننا ننفق اليسير جدا على الجانب الاخر لهذه القصة، ولذلك تحول الحسين الى عاطفة تغلبت على جانب العقل والوعي والمنطق.
      فاذا تساءلنا، مثلا، كم من الاموال الطائلة ننفقها سنويا لحشد مواكب العزاء والتطبير والزنجير؟ وكم من الاموال والجهد نصرفه على بناء الحسينيات وتشييد التماثيل والاعلام والرايات؟ وفي مقابل ذلك، كم من الاموال خصصناها لطباعة الكتب وتاليف المسرحيات وانتاج المسلسلات والافلام العالمية، للتعريف بالحسين واهدافه ومنطلقاته؟ وما هي الميزانية السنوية التي خصصناها للدراسات الجامعية العليا باسم الحسين عليه السلام، وللكراسي التعليمية في الجامعات العالمية الراقية، وللزمالات الدراسية للاذكياء من ابنائنا؟.
      لا شك ان الفارق كبير جدا، وان النسبة غير عادلة ابدا.
      نحن لا نريد ان نلغي الجانب العاطفي من قصة كربلاء، ابدا، فالعاطفة، كما نعرف جميعا، تلعب دورا كبيرا ومؤثرا في احياء المنهج، ولكننا في نفس الوقت، لا نريد ان تطغى العاطفة على العقل، والاحاسيس على الوعي، بل ان العاطفة يجب ان تكون طريقا الى الوعي وليس سببا لالغاء الوعي كما هو الحاصل اليوم بشان قصة الحسين عليه السلام.
      من جانب آخر، فان الحسين عليه السلام لا زال مشروع طائفي او اقليمي محصور في اهتماماتنا، لاننا، وللاسف الشديد، لم نبذل الجهد اللازم من اجل التعريف به وباهداف ثورته عالميا، في الوقت الذي نعرف فيه انه مشروع انساني عالمي وليس مشروعا شيعيا او عربيا او حتى اسلاميا، انه كمشروع رسول الله (ص) لكل البشرية، فهو مدرسة لكل الاحرار ومنهج لكل من يسعى لنيل الحرية ويكافح ضد الاستبداد والتسلط غير المشروع، انه مشروع اصلاح عالمي، ولذلك يجب ان يكون اهتمامنا به عالميا للتعريف به لكل العالم، ولو كنا قد فعلنا ذلك، لما جهلته البشرية، ولما نظرت الى الاسلام كما تنظر اليه اليوم، كونه دين القتل والعنف والكراهية، ولعرفت ان الحسين عليه السلام، مشروع مودة ولين ومحبة وسلام، حمله من كربلاء، وانطلق به الى كل البشرية.
      من هذا المنطلق، ارى ان من اللازم، اذا اردنا ان نكون حسينيين حقا، ان نقرا الحسين وكربلاء وعاشوراء بعقولنا، لنستوعب المنهج ونهضم الاهداف في حركتنا الاجتماعية.
      ثانيا؛ ومن اجل ان ننجح في استيعاب الحسين بعقولنا، يلزم ان يكون المنطلق ربانيا،  والى هذا المعنى اشار الامام عليه السلام بقوله {فمن قبلني بقبول الحق} اي ان من يريد ان يستوعب حركة الامام الحسين عليه السلام، عليه ان يقبل بحركة الخالق في عباده، لان حركة الحسين هي جزء من الحركة العامة التي خلقها الله تعالى وارادها لعباده.
      مشكلة البعض منا، انه يفصل بين حركتين، الاولى هي حركة الخالق جل وعلا، والثانية هي حركة الحسين عليه السلام، وكانهما حركتان متوازيتان، او متقاطعتان، ولذلك لم يستطع ابدا ان يفهم حركة الحسين عليه السلام.
      اذا اردنا ان نكون حسينيين، علينا ان نقرا حركة الحسين في كربلاء، بعقول ربانية، لنعي اهدافها ومنطلقاتها ونستوعب نتائجها بشكل سليم.
      ثالثا؛ ان ندرس منطلقات واهداف ونتائج الثورة الحسينية، كحزمة واحدة، من جانب، وبعقل منفتح لا تسيطر عليه العاطفة او المصالح الانانية، او البعد الطائفي، من جانب آخر.
      اما اننا نريد ان نكون حسينيين في العزاء، يزيديين في الالتزام  بالفرائض، او ان نكون حسينيين في البكاء وامويين في الالتزام باخلاقيات الاسلام، فهذا تناقض يرفضه الدين والعقل والحسين عليه السلام.
      ان السبط حزمة واحدة، فهو الدين كله، فاما ان نكون حسينيين حقا فنلتزم بكل الدين وقيمه واخلاقياته، او نخادع انفسنا عندما ندعي الانتماء للحسين ونحن لا نلتزم بما امرنا الله تعالى به، فهذا هو النفاق بعينه والتناقض بذاته، فالحسين ليس تجارة وهو ليس سلعة، انه الدين الذي جاء به جده رسول الله (ص).
      هذا يتطلب ان نلتزم بالدين كمنهج وليس كـ (تجارة) او اداة دنيوية لتحقيق مصلحة آنية، كما يفعل الكثيرون ممن اشار اليهم الامام الحسين عليه السلام بقوله {الناس عبيد الدنيا والدين لعق على السنتهم}.
      ولم يقصد الامام بقوله {الناس} عامة الناس فحسب، ابدا، وانما قصد كل الشرائح الاجتماعية التي من الممكن ان يكون فيها من ينطبق عليه قول الامام.
      فكم من العلماء والفقهاء تحول الدين عندهم الى اداة ارتزاق، ومصدر عيش، فتراهم على اتم الاستعداد، وفي كل آن، لبيع دينهم والتنازل عما يدعون اليه من قيم، بسعر بخس، كأن يكون حفنة من المال او منصب ما او جاه معين؟.
      وكم من القادة والسياسيين الذين تحول الدين عندهم الى سلعة تباع وتشترى، والى اداة يتاجر بها، للوصول الى السلطة، فاذا ما حقق غايته الدنيوية، خاطب كتاب الله العزيز ، بما خاطب به الوليد بن عبد الملك القرآن الكريم عندما اخبر بان الخلافة وصلت اليه، بقوله (هذا فراق بيني وبينك}.
      انه يقرا القران الكريم تظاهرا، ويصلي في المسجد رياءا، ويصوم ويحج تكلفا، مثله في ذلك، مثل من كان يصلي في المسجد بكل خشوع وتذلل الى الله تعالى، وبذلك الصوت الجهوري الذي يحبه الله ورسوله والمؤمنون.
      في الاثناء دخل عليه شخصان يريدان الصلاة في المسجد، فسمعهما يتباهيان بخشوعه وقراءته الدقيقة للايات وتذلـله بين يدي الله عز وجل.
      قطع صاحبنا صلاته، والتفت اليهما قائلا (يا جماعة، انا صائم كذلك).
      رابعا؛ نحن نقرا في دعاء قنوت صلاة العيدين ما يلي:
      {اللهم ادخلني في كل خير ادخلت فيه محمدا وآل محمد، واخرجني من كل سوء اخرجت منه محمدا وآل محمد} فكيف السبيل الى ذلك؟ وكيف يمكن تحقيق هذه الامنية العظيمة؟.
      في البدء، يجب ان نعرف بان مثل هذا الهدف لا يتحقق بالدعاء فقط، ولا بالتمني فحسب، وانما بالعمل والاجتهاد وبذل الجهد لتحقيقه، خاصة وانه هدف استراتيجي كبير.
      ثم، اذا اردنا تحقيق ذلك، علينا ان نعرف الخير الذي دخل فيه اهل بيت النبوة، لنسير في هداه حتى الوصول اليه، كما ان علينا ان نعرف السوء الذي لم يدخل فيه اهل البيت عليهم السلام، لنتجنبه ونتحاشاه.
      ومن خلال قراءة سيرة اهل البيت عليهم السلام يتضح لنا ان الخير الذي هم فيه، اخلاصهم لله تعالى، وحبهم الخير للناس من دون تمييز، فهم باب رحمة الله الواسعة لكل بني البشر، كما انهم الجادة التي ما سار عليها امرء الا هدي الى الصراط المستقيم.
      من يريد ان يكوم حسينيا، عليه، اذن، ان يحب الخير لكل الناس من دون تمييز على اساس الدين او العرق او العشيرة او الانتماء الجغرافي.
      كذلك، عليه ان يكون بابا للخير لهم، فلا يمنعهم الخير اذا وقف على بابه.
      خامسا؛ لنعرف ماذا فعل الحسين عليه السلام، لنفعل مثله، فنكون حسينيين.
      لقد لخصت الزيارة المعروفة، بزيارة {وارث} الافعال التي انجزها السبط الشهيد، وهي كالتالي:
      الف: اشهد انك قد اقمت الصلاة.
      باء: وآتيت الزكاة.
      جيم: وأمرت بالمعروف.
      دال: ونهيت عن المنكر.
      هاء: وأطعت الله.
      واو: ورسوله.
      من هنا تتضح معالم الرجال الحسينيين.
      فالحسيني، هو من يذوب في ذات الله تعالى ويطيع رسوله، ويلتزم بما امر به، فليس حسينيا من لا يصلي، مهما كثر بكاؤه عليه او زادت تعزيته، وليس حسينيا من لا يطع الله ورسوله، وليس حسينيا من يتفرج على المنكر فلا ينهى عنه، او يعرف المعروف ولا يامر به او يدل عليه.
      ولان الحسين عليه السلام كان ربانيا بكل معنى الكلمة، لذلك قال لمن دعاهم لنصرته {فمن قبلني بقبول الحق، فالله اولى بالحق} اي انه لم يكن يريد النصرة لنفسه، كما انه لم يطلب طاعة الناس لذاته، كما يفعل الطغاة والجبابرة، وانما طلبها لدين الله تعالى ولقيمه السمحاء التي كادت ان تندرس لولا تضحيته السخية.
      الحسينيون، اذن، لهم مواصفاتهم الحقيقية، وما عدا ذلك، يبقى كلاما فارغا واحيانا معسولا، قد يخدع الناس ولكن لن يخدع الله تعالى العالم بسرائر الامور وما تخفي القلوب، اولم يقل رسول الله (ص) {لا يخدع الله عن جنته}؟.
      سادسا، واخيرا؛ فان الحسيني حقا هو الذي لا يوالي من هو عدو للحسين، ولا يعادي من يحب الحسين ابدا، ولذلك نقرا في الزيارة المشار اليها {اني سلم لمن سالمكم، وحرب لمن حاربكم} بمعنى آخر، فان الحسينيين يشكلون بمنهجهم وبطريقتهم وبمجموعهم جبهة واحدة لا تهزها العواصف، ولا يخترقها اليزيديون، مهما كانت اشكالهم ووسائلهم التضليلية.
      الحسينيون، وحدة واحدة منسجمة ومتآلفة ومتعاونة، واذا وجدنا يوما انهم متخاصمون او متفرقون، يضعف بعضهم بعضا، ومتقاتلون على حطام الدنيا، فذلك يعني انهم تركوا الانتماء الى الحسين عليه السلام، وارتموا في حضن الشيطان، وانهم انقلبوا على اعقابهم وارتدوا على منهجهم، ليستبدلوا الولاء للحسين بالطاعة ليزيد واشباهه.
      في مثل هذه اللحظة على وجه التحديد، عليهم ان يعيدوا حساباتهم، فيرجعوا الى صوابهم قبل فوات الاوان، فان من لم يكن حسينيا في المنهج والوعي والانتماء والعمل والمشاعر والممارسة اليومية، فهو يزيدي في كل ذلك، وان لم يعلن هويته على الملأ بصراحة ووضوح.
من قتل الحسين؟
      هذا السؤال يتردد كثيرا في ذهن القاصي والداني، خاصة في ايام محرم الحرام وعاشوراء من كل عام، ذكرى فاجعة كربلاء، واستشهاد سبط رسول الله (ص) سيد الشهداء الامام الحسين بن علي بن ابي طالب ابن فاطمة الزهراء بنت رسول الله (ص).
      ولقد اختلف القوم في تحديد هوية الجاني، فمنهم من يجيب على السؤال بقوله، ان من قتل الحسين، هم اهل الكوفة، وآخرون يقولون بل ان من قتله هم الشيعة، وثالث يقول بان من قتل السبط هم من كتب له ان اقدم الى الكوفة فقد اينعت الثمار واخضر الجناب، ثم غيروا رايهم وانقلبوا على الامام لصالح السلطان، وآخرون يقولون ان من قتله هم (العرب) اذ لم يشترك في قتله غيرهم، الفرس مثلا، ومنهم من يتهم المسلمين بقتله، مدللا على ذلك بان غيرهم لم يشترك في قتله، وهكذا دواليك.
      فمن، يا ترى، قتل الحسين عليه السلام؟.
      لا اريد هنا ان ادافع عن احد، بقدر ما ساسعى الى تحديد هوية المجرم الذي ارتكب الجريمة النكراء في عاشوراء عام (61) للهجرة.
      كذلك، لا اريد ان ادخل في متاهات السفسطة التي لها اول وليس لها آخر، فاتهم هذا وابرئ ذاك، كما يفعل البعض، تهربا من المسؤولية، او محاولة منه للتخلص من العقدة التاريخية التي تلاحقه ليل نهار، وهربا من عيون الناس التي تلاحقه في كل آن ومكان وكأنها تحمله المسؤولية المباشرة في قتل الحسين بن علي عليهما السلام، على طريقة ذاك العراقي الذي عاش فترة في ايران، وذات مرة علمت جارته العجوز بانه عراقي الاصل، فراحت توجه له السؤال المعهود من (الايرانيين) يوميا، والذي يقول {لماذا، انتم العرب او العراقيين او اهل الكوفة، قتلتم الحسين؟} حتى ضاق بها ذرعا، فبادر الى حيلة يتخلص من سؤالها الممجوج، فأجابها مرة لحظة تكرارها للسؤال عليه، نحن لم نقتل الحسين، انما الذي قتله هم الايرانيون، الفرس.
      صدمت العجوز بالجواب، لانها لم تسمع بمثل هذه التهمة من قبل، فقالت له، وكيف؟.
      اجابها بقوله؛
      الا تعلمين بان يزيد بن معاوية من مدينة يزد (الايرانية) وان شمر بن ذي الجوشن من منطقة شميرانات (شمال العاصمة طهران) وان عمر بن سعد من مدينة سعد آباد (الايرانية)؟.
      لم تجد العجوز بدا من تصديق الرجل، فلطمت على خديها المهترئين وهي تندب وتقول؛
   نحن (الايرانيون) اذن من قتل الحسين، الويل لنا من عذاب الله تعالى، باي وجه ساواجه الزهراء البتول يوم القيامة؟.
      وبهذه الطريقة الماكرة تخلص صاحبنا من سؤال العجوز المكرر، بعد ان رمى بالكرة في سلتها، كما يقولون.
      لا نريد ان نناقش الامر بهذه الطريقة، فالامر ليس بالتهمة، لنمارس ازاءها عملية جلد الذات، كلما مرت الذكرى، او ليرميها كل واحد منا على الاخر، بل انها حدث مضى في الزمن الغابر، لا احد منا يتحمل مسؤوليته المباشرة، انما نحاول معرفة الحقائق، من اجل ان لا يقتل الحسين مرة اخرى، ومن اجل ان نعرف حقائق التاريخ بشكل افضل وبصورة ادق، فلا نكن ضحايا لعملية تزوير تاريخية ضخمة، وتلك هي فلسفة قراءة التاريخ، وتلك هي فلسفة تكرار القرآن الكريم لقصص الامم الغابرة.
      فمن قتل الحسين، اذن؟.
      لنعرف اولا لماذا اختار الحسين عليه السلام، الكوفة مقصدا لهجرته من مكة المكرمة التي وصلها مهاجرا من مدينة جده المدينة المنورة، مرورا بمدينة مكة المكرمة التي قلب فيها حجته الى عمرة مفردة، خشية ان يقتله الطاغية يزيد عند البيت العتيق فينتهك حرمته، وهو الذي كان قد اصدر اوامره بهذا الشان (وان وجد الحسين متعلقا باستار الكعبة) كما اخبر بذلك الحسين عليه السلام، من لامه على ترك بيت الله الحرام في موسم الحج، وهو امير الحاج عامها، ممن يتشبث بالقشور وينسى او يتناسى الاصول والجوهر.
      برايي، فان هنالك ثلاثة اسباب دعته الى ذلك؛
      الاول: كون الكوفة كانت آنذاك حاضرة بلاد المسلمين، فهي معسكر المسلمين واكبر حواضرهم، اذ كان عدد نفوسها آنئذ اكثر من (4) ملايين نسمة، فعندما كان الناس يذكرون الكوفة واهلها، آنئذ، انما كانوا يعنون بها الامة، اي المسلمين.
      الثاني: كون الكوفة كانت معقل شيعة ابيه امير المؤمنين علي بن ابي طالب عليه السلام، فهم اقرب من يمكن ان يثق بهم الامام الحسين.
      ففي الكوفة كان يقطن حواريو الامام امير المؤمنين عليه السلام، وقادة جنده وجيشه وحروبه، كما كان يقطنها زعماء القبائل الشيعة الخلص، ممن لم يشك في امير المؤمنين طرفة عين، منهم، برير بن خضير المشرقي الهمداني، وهو من اشراف اهل الكوفة، وجبلة بن علي الشيباني الكوفي، وكان من شجعان الكوفة، والحلاس بن عمرو الراسبي، وزهير بن القين البجلي الكوفي، وزاهر بن عمرو، وهو ممن بايع الرسول الكريم (ص) تحت الشجرة، في بيعة الشجرة المعروفة، وسعد بن الحرث الخزاعي، وكان صحابيا ورئيس شرطة الامام علي (ع) في خلافته، ثم ولاه على اذربيجان مدة، وشوذب بن عبد الله الهمداني الشاكري الكوفي، وكان صحابيا، اشترك مع امير المؤمنين عليه السلام في حروبه الثلاثة، وغيرهم (وهؤلاء كلهم التحقوا بالحسين في كربلاء واستشهدوا بين يديه).
      الثالث والاهم: فلكون الكوفة بلد المسلمين الوحيد الذي بادر لدعوة الحسين للمجئ اليها لاقامة الدولة الاسلامية من جديد، بعد ان رفض اهلها البيعة للطاغية الذي نزا على سلطة المسلمين في الشام بغير حق، فكانت الكوفة السباقة، بل الوحيدة التي تفاعلت مع حركة الرفض التي اعلنها الحسين عليه السلام ضد تسلم الطاغية يزيد بن معاوية لخلافة المسلمين.
      ولقد انسجم قرار الحسين (ع) بالتوجه الى الكوفة مع المبدا الرسالي الذي حدد معالمه وخطوطه العريضة ابوه الامام امير المؤمنين علي بن ابي طالب عليه السلام بقوله {والله، لولا حظور الحاضر، وقيام الحجة بوجود الناصر، وما أخذ الله على العلماء ان لا يقاروا على كظة ظالم ولا سغب مظلوم، لالقيت حبلها على غاربها}.
      نعود للاجابة على السؤال المحوري، من قتل الحسين عليه السلام؟.
      اولا:
      ان حركة التواقيع على كتب البيعة التي ارسلها اهل الكوفة الى الحسين وهو في مكة المكرمة، تنقسم الى قسمين:
      القسم الاول، تلك التي وقعها صحابة ابيه امير المؤمنين عليه السلام، وهم ممن اطلق الفكرة وعمل عليها من اجل أخذ البيعة للحسين لاقناعه بوجود الناصر في الكوفة.
      وان اول كتاب بالبيعة وصل من اهل الكوفة الى الحسين وهو في مكة المكرمة كان قد وقع عليه خمسة من اشهر صحابة ابيه امير المؤمنين عليه السلام، وهم:
      سليمان بن صرد الخزاعي، والمسيب بن نجبة، ورفاعة بن شداد البجلي، وحبيب بن مظاهر الاسدي، وعبد الله بن وائل.
      وهؤلاء الخمسة، الذين بادروا بالكتابة للحسين بن علي عليهما السلام، استشهد بعضهم ابان حركة مسلم بن عقيل، اي حتى قبل ان يصل الحسين الى كربلاء، وهو بعد في الطريق الى الكوفة، او بين يدي الحسين في كربلاء، كما هو الحال بالنسبة الى الصحابي الجليل حبيب بن مظاهر، او انه كان قد القي عليه القبض، فكان في السجن عندما وصل الحسين الى كربلاء، فلم يكن باستطاعته ان يلتحق بركب الامام، وانما انتقم لمصرع السبط في احدى الثورات العديدة التي انطلقت بعد كربلاء وشعارها (يا لثارات الحسين) كما هو الحال بالنسبة الى الصحابي الجليل سليمان بن صرد، والذي قاد، بعد خروجه من السجن، احد ابرز هذه الثورات الحسينية التي استمرت تترى حتى اسقاط الدولة الاموية الجائرة، ولم يذكر التاريخ ان واحدا من هؤلاء كان قد انقلب على الحسين وقاتل ضده مع جيش الضلال.
      اما القسم الثاني، فهم جماعات غفيرة من المنافقين والنفعيين والمصلحيين والجبناء، ممن خاف على موقعه الاجتماعي مثلا او فكر في غنيمة اذا ما حكم الحسين في الكوفة، او خشي القتل على يد اصحاب الامام، ظنا منه بانهم سيتعاملون مع خصومهم كما يتعامل الامويون مع خصومهم عندما يخيرونهم بين البيعة او القتل.
      ولقد نظم او وقع هذا القسم على كتب البيعة للحسين بعد ان راوا حركة التواقيع قد تحولت الى تيار هادر لا يمكن تجاهله، فقرروا الانحناء امام العاصفة، كما يقولون، بعد ان لم يكن امامهم بدا الا ان يختاروا اللحاق بالشارع اما خوفا او طمعا، كما اسلفنا، حالهم في ذلك حال اهل مكة الذين اضطروا لاعلان اسلامهم بعد الفتح اما خوفا او طمعا، ومن بين هؤلاء الناس عدد ممن كان قد بايع ليزيد بالحكم اثر موت ابيه معاوية مباشرة، وهم الذين كتبوا ليزيد بامر وصول سفير الحسين الى الكوفة مسلم بن عقيل، منهم على سبيل المثال لا الحصر، شبث بن ربعي وحجار بن ابجر وعمر بن سعد بن ابي وقاص الزهري ومحمد بن الاشعث الكندي، وكل هؤلاء لم يكونوا، في يوم من الايام، من شيعة علي ابدا، وهؤلاء كان الحسين عليه السلام قد وجه لهم اللوم في كربلاء وذكرهم بكتبهم، ليكشف حقيقتهم ويفضحهم امام الملأ ويميط اللثام عن تسترهم ونفاقهم، بالرغم من انهم انكروا معرفتهم بشئ من هذا القبيل خوف سوط الجلاد الذي كانت عيونه ترقب كل شاردة وواردة في كربلاء وفي غير كربلاء، وهؤلاء، بالمناسبة، هم آخر من كتب للحسين، وهو دليل واضح على انهم لم يكتبوا له ابتداءا وعن قناعة، وانما عن خوف او طمع، او من باب (حشر مع الناس عيد).
      الحقيقة التي يجب ان لا نغفل عنها هنا، هي، ان الحسين لم يلب دعوة امثال هؤلاء عندما قرر الذهاب الى الكوفة، وانما كان قد اعتمد على دعوة شيعته من الرجال المؤمنين المخلصين، امثال النفر الخمسة الذين اول من كتب له، كما اسلفنا قبل قليل، بالاضافة الى اعتماده على كتاب سفيره المعتمد مسلم بن عقيل.
      وبعودة سريعة الى مصادر التاريخ المعتبرة، يتضح لنا ان الذي اشترك في القتال ضد  الحسين في كربلاء هم القسم الثاني، فيما لم يشترك في القتال ضده اي واحد من القسم الاول، الذين كانوا اما استشهدوا مع مسلم بن عقيل في الكوفة، او ممن القت عليه القبض اجهزة السلطان الجائر، فكان يقبع في السجون عند وصول الحسين عليه السلام الى كربلاء، او كان متخفيا في الكوفة، وعندما سمع بخبر وصول الحسين الى كربلاء سعى جاهدا ليصل اليها ويلتحق بركب الحسين، وان مصادر التاريخ تذكر بان اكثر من (70) واحدا منهم، على الاقل، كان قد تمكن بالفعل من الوصول الى كربلاء والالتحاق بركب الحسين والقتال الى جانبه والاستشهاد بين يديه.
      وفي عملية حسابية رياضية بسيطة، يتبين لنا بان كل القسم الاول من الموقعين على كتب البيعة للحسين، قد اشتركوا في نصرته في كربلاء اما بالوصول اليها والاستشهاد بين يديه، او استشهد صبرا في الكوفة او كان يقبع في السجن صابرا محتسبا، ما يعني ان اي واحد منهم لم يشارك في القتال ضد الحسين ابدا، خاصة اذا ما اخذنا في الحسبان بان عدد من بقي مع الحسين ممن سار معه عند حركته من مكة المكرمة وحتى وصوله الى كربلاء يساوي (صفرا) اذ لم يبق منهم سوى اهل بيته وعدد محدود من الموالي، فيما التحق به في الطريق ثلاثة او اربعة، فقط حسب اختلاف المصادر التاريخية، وان واحدا فقط كان قد التحق به في كربلاء قادما من البصرة واسمه (عامر بن مسلم العبدي البصري) ما يعني بان عمدة انصاره من اهل الكوفة والكوفة فقط، ومنه نستنتج بان انصار الحسين في كربلاء هم اهل بيته والكوفيون فقط، ولا وجود لاهل الامصار الاخرى معه ابدا باستثناء البصري الوحيد الذي مر ذكره، طبعا الى جانب الحر بن يزيد الرياحي الذي التحق بالحسين عليه السلام في كربلاء وهو الوحيد من قادة جيش البغي الذي التحق به في ارض المعركة، وهو بالمناسبة من اهل الكوفة كذلك، ولا ننسى ان نذكر هنا عدد من انقلب الى معسكر الحسين عليه السلام من معسكر العدوفي ارض المعركة، وهم (7) كانوا قد تاثروا بخطب الامام وعرفوا بانه على الحق وان اعداءه على الباطل، منهم، الحارث بن امرؤ القيس الكندي وابو الحتوف سلمة بن الحرث الانصاري العجلاني الكوفي واخوه وعمرو بن بضعة الضبعي وقاسم بن حبيب الازدي وآخرون، هؤلاء النفر من الشهداء، اكتشفوا الحقيقة، فقرروا نصرة الحق ومحاربة الباطل، بعد ان اتخذوا القرار الصحيح في الوقت الصحيح، وهؤلاء، كذلك، من اهل الكوفة وليس من خارجها.
      النقطة المهمة جدا التي يجب ان لا نغفل عنها هنا، هي، ان شيعة علي عليه السلام الحقيقيون لم يقاتلوا الحسين ابدا، واتحدى من يجد في اي مصدر من مصادر التاريخ ذكر لاي واحد منهم.
      نعم، ربما اشترك في القتال ضده، من كان يدعي تشيعه لعلي، لحاجة في نفس يعقوب، اما حقيقته فكانت تنتمي الى الامويين اعداء علي وشيعته.
      هذا من جانب، ومن جانب آخر فان عمدة الجيش الذي قاتل الحسين في كربلاء تالف من شيعة آل ابي سفيان، كما سماهم الامام في احدى نداءاته لهم في ارض المعركة، اي انهم امويون جملة وتفصيلا، وليس فيهم من شيعة آل البيت ابدا، والا للامهم الحسين ولسماهم وخاطبهم في نداءاته العديدة التي القاها في كربلاء، قبل انطلاق المعركة المسلحة.
      وبمطالعة سريعة لاسماء قادة جيش العدو، تتضح الحقيقة بيضاء ناصعة، وهم؛
      عمر بن سعد، وكان على راس (6000) آلاف مقاتل.
      سنان، ومعه (4000) آلاف.
      عروة بن قيس، ومعه (4000).
      شمر بن ذي الجوشن، ومعه (4000).
      شبث بن ربعي، ومعه (4000).
      ثم التحق بهم في المرحلة الثانية القادة التالية اسماؤهم:
      يزيد بن ركاب الكلبي، ومعه (2000).
      الحصين بن نمير، ومعه (2000).
      المازني، ومعه (3000).
      نصر المازني، ومعه (2000).
      والارقام الواردة هنا، هي الحد الادنى التي اوردتها كتب التاريخ.
      اما قادة الجيش عند المعركة في كربلاء، فهم على التوالي:
      عمر بن سعد، قائد الجيش.
      عمر بن الحجاج الوبيدي، على ميمنة الجيش.
      شمر بن ذي الجوشن، على ميسرة الجيش.
      عمرو بن قيس، على الخيل.
      شبث بن ربعي، على الرجالة.
      وكان قائد الجيش، عمر بن سعد، قد اعطى الراية دريدا غلامه.
      هؤلاء هم قادة جيش البغي، فاي منهم كان علويا شيعيا حسينيا؟.
      كلهم اصحاب سوابق في البغض والكراهية ومحاربة اهل بيت رسول الله (ص) فكانت كربلاء الفرصة الذهبية السانحة التي اغتنموها للانتقام من اهل البيت والتشفي بهم، ولذلك لم يكتفوا بقتل الحسين واهل بيته واصحابه، بل مارسوا ضد الضحايا ابشع انواع الجرائم التي انتهكوا بها حقوق الانسان وحرمة الاسلام، ولقد اعلن عدد منهم عن الخفايا التي في الصدور عندما سالهم الحسين عن سبب قتلهم اياه، قالوا، بغضا بابيك، انها روح الانتقام التي تشتعل نارا في النفوس المريضة.
      اما جيش الحق الذي قاده الحسين في كربلاء، فكان يتالف من التالية اسماؤهم وصفاتهم:
       (17) من اهل بيت العصمة والنبوة، منهم الامام الحسين بن علي عليهما السلام، والعباس بن امير المؤمنين والقاسم بن الامام الحسن المجتبى وعلي الاكبر بن الامام الحسين ومحمد وعون ابنا عبد الله بن جعفر الطيار (ابناء العقيلة زينب بنت الامام امير المؤمنين علي بن ابي طالب عليهم السلام) وآخرون.
       (14) صحابيا و(3) ابناء صحابة، منهم اسلم بن كثير الاعرج الازدي الكوفي، وجندب بن حجير الخولاني الكوفي، والحرث بن نبهان مولى حمزة بن عبد المطلب، وحبيب بن مظاهر الاسدي، وزهير بن القين البجلي الكوفي.
       (20) تابعيا، منهم امية بن سعد الطائي الكوفي، جبلة بن علي الشيباني الكوفي، الحلاس بن عمرو الراسبي وهؤلاء، كما اسلفنا، شهدوا صفين وغيرها مع امير المؤمنين عليه السلام.
      عدد من رواة الحديث عن رسول الله (ص) منهم انس بن الحرث الكاهلي الاسدي.
      عدد من قراء القرآن الكريم منهم حنظلة بن اسعد الشبامي الهمداني الكوفي.
      عدد ممن بايع رسول الله (ص) منهم زاهر بن عمرو وهو ممن بايع الرسول تحت الشجرة (بيعة الشجرة).  
      وفي كربلاء كان الحسين قد قسم الجيش وقادته بالشكل التالي:
      زهير بن القين البجلي على الميمنة، وهو كما اسلفنا ممن التحق بالامام في كربلاء قادما من الكوفة، وهو من صحابة رسول الله (ص).
      حبيب بن مظاهر الاسدي على الميسرة، وهو كذلك ممن التحق بالحسين في كربلاء قادما من الكوفة، وهو الاخر من صحابة رسول الله (ص).
      واعطى الراية اخاه العباس بن امير المؤمنين عليهم السلام، وهو من هو.
      من كل ما تقدم نستنتج الجواب الشافي والوافي والصحيح على السؤال الذي اخترناه ان يكون عنوانا للمقال، وهو، من قتل الحسين عليه السلام؟.
      ان الذي قتل الحسين بن علي سبط رسول الله (ص) في كربلاء، هو النظام السياسي الذي كان يحكم بلاد المسلمين آنئذ، نظام الطلقاء وابناء الطلقاء، فهو الذي حرض على قتل الحسين وجيش الجيوش واعد العدة واشترى الضمائر ونشر العيون ووزع العطايا  واثار الخوف والرعب في نفوس المسلمين.
      انه النظام الملكي الاستبدادي الشمولي الذي قام بالضد من ارادة الله تعالى وارادة نبيه الكريم الذي اراد ان يكون الامر شورى بين المسلمين بنص القران الكريم {وامرهم شورى بينهم} الا ان بني امية ابوا الا ان يكون ملكا عضوضا يتداوله صبيانهم تداول الكرة، على حد وصف ابا سفيان للامر، واضاف (والذي يحلف به ابا سفيان، فانه لا جنة ولا نار) لماذا؟ لان الدين في مفهوم زوج آكلة الاكباد، سلطة وسلطان وحكم، وليس قيم سماوية، فكان باعتقاده الراسخ ان الرسول الكريم نازعه سلطانه باسم الاسلام، ولذلك، عندما استولى بنو امية على السلطة واحكموا قبضتهم عليها ابان حكم الخليفة الثالث، زار ابا سفيان ذات مرة قبر سيد الشهداء، عم رسول الله (ص) الحمزة بن عبد المطلب، وركله برجله وهو يخاطبه (قم يا ابا عمارة، وانظر، فان الذي نازعتنا فيه، ها هو اليوم بيد صبياننا).
      ان النظام السياسي الحاكم لم يكن شيعيا، بل وليس فيه شيعي واحد، حتى نقول بان من قتل الحسين هم الشيعة، وان كل المتنفذين آنئذ كانوا من اشد اعداء آل بيت الرسالة المحمدية، وهم اما من ابناء الطلقاء، او ممن كان يكن العداوة والبغضاء والكراهية للدين والرسول واهل البيت عليهم السلام، منهم على سبيل المثال لا الحصر؛
      يزيد بن معاوية، عبيد الله بن زياد، عمر بن سعد، شمر بن ذي الجوشن، قيس بن الاشعث بن قيس، عمرو بن الحجاج الزبيدي، عبد الله بن زهير الازدي، عروة بن قيس الاحمسي، شبث بن ربعي اليربوعي، عبد الرحمن بن ابي سبرة الجعفي، الحصين بن نمير، حجار بن ابجر، سنان بن انس النخعي، حرملة الكاهلي، منقذ بن مرة العبدي، ابي الحتوف الجعفي، مالك بن نسر الكندي، عبد الرحمن الجعفي، القشعم بن نذير الجعفي، بحر بن كعب بن تميم الله، زرعة بن شريك التميمي، صالح بن وهب المري، خولي بن يزيد الاصبحي، حصين بن تميم.
      فمن من هؤلاء كان شيعيا لفاطمة او لعلي او للحسن او للحسين عليهم السلام؟.
      ثم، ان ما فعله القوم بالحسين واهل بيته واصحابه، يدلل على انهم لا ينتمون الى دين، فضلا عن الاسلام، فكيف بتشيعهم؟ فالدين كان لعقا على السنتهم، يحوطونه ما درت معائشهم، ولقد راينا كيف قل الديانون، عندما محصوا بالبلاء، وخيروا بين فقدانهم لغنيمة الدنيا الزائلة او قتل سبط رسول الله (ص).  
      لقد حاول كثيرون، ولا زالوا، تبرئة الحكم الاموي من جريمة قتل الحسين عليه السلام، تارة بحجة  ان يزيد لم يكن يرغب في ان تصل الامور الى الحد الذي يقتل فيها السبط، واخرى بانه لم يصدر امرا صريحا بهذا المعنى، وانما اراده اسيرا في اسوأ الحالات، وثالثة ورابعة، الا ان الحقيقة التي يجب ان يعرفها الجميع هي ان النظام الاموي هو المسؤول الاول والاخير عن جريمة قتل سبط رسول الله (ص) اما اهل الكوفة فانهم عماد جيش الحسين عليه السلام، وان شيعة علي الحقيقيين استشهدوا بين يدي ابنه السبط سواء في كربلاء او في الكوفة، او ما بعد كربلاء، عندما خرجوا من السجون والمعتقلات.
عاشوراء..مائز بين مدرستين
      ان عاشوراء، يوم ميز بين مدرستين، الاولى مثلها الامام الحسين عليه السلام واولاده واهل بيته واصحابه، والثانية، مثلها النظام الاموي الجاهلي الذي كان على راسه الطاغية يزيد بن معاوية، وكل الذين شاركوا بقتل السبط عليه السلام.
      فان ما حدث في كربلاء في العاشر من المحرم عام (61) للهجرة، لم يكن وليد اللحظة، كما انه لم يكن صدفة او من دون تخطيط مسبق من قبل النظام الاموي الذي ورث الحقد والكراهية والبغضاء ضد الاسلام والرسول واهل بيته، بل انه نتيجة طبيعية لما يسمونها الصحابة بـ (رزية الخميس) والتي يثبتها البخاري في صحيحه {كتاب المغازي، 85 ــ باب مرض النبي (ص) ووفاته، الحديثين رقم (4475) و (4476)} ومسلم في صحيحه {كتاب الوصية، 6 ــ باب ترك الوصية لمن ليس له شئ يوصي فيه، الاحاديث رقم، (4319) و (4320) و (4321) و (4322)} واحمد في مسنده (المجلد الاول، حديث رقم (2835)} والعشرات من اصحاب الحديث والسير والتاريخ، وبقراءة متمعنة لنص الحديث يتضح لنا بان الامة انحرفت عن الصراط المستقيم منذ تلك اللحظة، عندما رفض القوم ان يناولوا رسول الله (ص) الكتف والدواة، وفي رواية، اللوح والدواة، ليكتب ما يكون سبب لعدم ضلالهم.
      لقد رفض البعض مبدا الولاية بحجة انها تؤسس لنظام الوراثة، ولكن، ماذا كانت النتيجة؟ لقد اجتمعت الوراثة والظلم على الامة منذ ذلك التاريخ والى اليوم، ما يعني ان ما احتج به القوم وقعوا فيه فكانوا مصداقا للاية الكريمة {الا في الفتنة سقطوا}.
      ان عاشوراء ميزت بين مدرستين، مدرسة الدين ومدرسة السلطة، وبمعنى آخر، ميزت بين مدرسة سخرت السلطة من اجل الدين، واخرى سخرت الدين من اجل السلطة، الاولى مثلها اهل بيت النبوة والوحي عليهم السلام، وعلى راسهم اخو رسول الله (ص) ونفسه التي بين جنبيه الامام امير المؤمنين علي بن ابي طالب عليه السلام، الذي يقول محددا معالم هذه المدرسة الطاهرة {اللهم انك تعلم انه لم يكن الذي كان منا منافسة في سلطان، ولا التماس شئ من فضول الحطام، ولكن لنرد المعالم من دينك، ونظهر الاصلاح في بلادك، فيامن المظلومون من عبادك، وتقام المعطلة من حدودك} وفي قول آخر حدد فيه صفات الحاكم العادل {وقد علمتم انه لا ينبغي ان يكون على الفروج والدماء والمغانم والاحكام وامامة المسلمين، البخيل فتكون في اموالهم نهمته، ولا الجاهل فيضلهم بجهله، ولا الجافي فيقطعهم بجفائه، ولا الجائف للدول فيتخذ قوما دون قوم، ولا المرتشي في الحكم فيذهب بالحقوق ويقف بها دون المقاطع، ولا المعطل للسنة فيهلك الامة} ولذلك سال عليه السلام مرة عبد الله بن عباس عندما دخل عليه وهو يخصف نعله، التي يقول عنها {والله لقد رقعتها حتى استحييت من راقعها} بكم تساوي هذه النعل؟ فاجابه ابن عباس، لا قيمة لها يا امير المؤمنين، فرد عليه الامام {والله لهي احب الي من امرتكم، الا ان اقيم حقا او ادفع باطلا} وكان عليه السلام يرفض ان يطلب السلطة بالجور، فكان يقول {ان في العدل سعة ومن ضاق عليه العدل فالجور عليه اضيق} وكان يتبرم من سيطرة المنحرفين على رقاب الناس فكان يقول {ولكني آسى ان يلي امر هذه الامة سفهاؤها وفجارها فيتخذوا مال الله دولا وعباده خولا والصالحين حربا والفاسقين حزبا، فان منهم الذي قد شرب فيكم الحرام وجلد حدا في الاسلام وان منهم من لم يسلم حتى رضخت له على الاسلام الرضائخ}.
   هذه معالم المدرسة الاولى، مدرسة الدين التي سخرت السلطة من اجل الله ومصلحة الناس، اما المدرسة الثانية، مدرسة السلطة، التي سخرت الدين من اجل مصالحها الدنيوية، فقد مثلتها الشجرة الخبيثة الملعونة في القرآن الكريم، واقصد بها بني امية، التي قال زعيمهم عندما وصلت الخلافة الى الخليفة الثالث (تلاقفوها يا آل ابي سفيان، ويقصد الخلافة والسلطة، والذي يحلف به ابو سفيان انه لا جنة ولا نار) اي ان (الوحي) عنده سلطة وليس دين ابدا، او كما قال الاخر عندما وضعوا امامه راس السبط الشهيد في مجلسه في الشام؛
لعبت هاشم بالملك فـــــــــــلا                     خبر جاء ولا وحـــــــي نزل
      وسيتواصل منهج هتين المدرستين الى يوم يبعثون، اذ لا زال اليوم من يسعى لتسخير الدين من اجل السلطة، وهي جل الانظمة الشمولية الاستبدادية التي تحكم بلاد المسلمين، خاصة الانظمة الملكية الوراثية، كالنظام في الجزيرة العربية والاردن وغيرها، والتي تتشبه بالنظام الملكي الوراثي الذي اسسه الطليق ابن الطليق معاوية بن ابي سفيان عندما ولى ابنه الطاغية يزيد بن معاوية خليفة على المسلمين، وهو الذي تقول عنه كتب التاريخ (كان يزيد صاحب شراب، فاحب معاوية ان يعضه في رفق، فقال، يابني، ما اقدرك على ان تصل حاجتك من غير تهتك يذهب بمروءتك وقدرك ويشمت بك عدوك ويسئ بك صديقك، ثم قال؛ يا بني اني منشدك ابياتا فتادب بها، واحفظها، فانشده؛
انصب نهارك في طلاب العلا           واصبر على هجر الحبيب القريب
حتى اذا الليل اتى بالدجـــــــى           واكتحلت بالغــــمض عين الرقيب
فباشر الليل بما تشتهـــــــــــي           فانما الليل نهــــــــــــــــار الاريب
كم فاسق تحسبه ناسكـــــــــــا           قد باشر الليل بامـــــــــــــر عجيب
غطى عليه الليـــــــــل استاره           فبات فــــــــي امن وعيش خصيب
ولذة الاحمـــــــــــــق مكشوفة          يسعى لها كل عدو مـــــــــــــــريب
   .(راجع فصل، يزيد في افعاله واقواله، في تاريخ ابن كثير)  
      وروى صاحب الاغاني عن يزيد، وقال؛ كان يزيد بن معاوية اول من سن الملاهي في الاسلام في الخلفاء، وآوى المغنين واظهر الفتك وشرب الخمر، وكان ينادم عليها سرجون النصراني مولاه، والاخطل ــ الشاعر النصراني ــ وكان ياتيه من المغنين سائب خاثر، فيقيم عنده فيخلع عليه.
      هؤلاء هم رموز المدرسة الثانية، وقس على ذلك، ولذلك، فعندما التقى مروان بن الحكم الامام الحسين بن علي عليهما السلام، وهو خارج من مكة المكرمة، فقال له؛ (اطعني ترشد) فقال له الامام {قل} قال له مروان (بايع امير المؤمنين يزيد فهو خير لك في الدارين) اجابه الامام الحسين عليه السلام {انا لله وانا اليه راجعون، وعلى الاسلام السلام اذ قد بليت الامة براع مثل يزيد} فالحسين كان يرى في نزو طاغية مثل يزيد على منبر رسول الله (ص) وسلطة المسلمين، بمثابة المصيبة الكبرى التي لا يجوز السكوت عنها ابدا، وان تطلب ذلك اراقة الدم، وهذا ما فعله الامام السبط الشهيد في كربلاء في عاشوراء عام (61) للهجرة، قائلا {ان كان دين محمد لم يستقم الا بقتلي، فياسيوف خذيني}.   
      كما ان هناك الكثير حتى من التنظيمات الارهابية التي تسعى لتسخير الدين لاعراضها الدنيئة، فتقتل وتذبح وتفجر وتنتقم من الابرياء باسم الدين والدين منهم براء، وهم بذلك يتشبهون بقتلة السبط الشهيد الذي قال قائد جيشهم ايذانا ببدء قتل ريحانة رسول الله (يا خيل الله اركبي وبالجنة ابشري) في اخطر عملية تضليل وتشويه للحقيقة شهدها تاريخ  البشرية.
      ولا ننسى هنا، الدور الخطير الذي يلعبه وعاظ السلاطين في دعم وتاييد مدرسة السلطة، فبفتاواهم يبررون للحاكم الظالم افعاله الشنيعة باسم الاسلام، وبمواقفهم المتخاذلة يحرضون على تاييد الانظمة الشمولية الاستبدادية، من خلال اضفاء الصبغة الشرعية على ممارساتها واعمالها التي تخالف الاسلام ونهج رسوله الكريم جملة وتفصيلا.
      ان ابرز (علماء وفقهاء المسلمين) يعيشون في ظل انظمة ملكية وراثية، وهما قطر والمملكة العربية السعودية، ما يعني ان الهواء الذي يتنفسونه ملوث بالنظام السياسي الفاسد الذي لم يرتضيه الله تعالى ورسوله للمسلمين، الا اننا لم نسمع منهم كلمة شجب او استنكار، وهذا يدل على انهم ليسوا فقهاء وعلماء حقيقيون للدين واهله، وانما هم مجرد وعاظ سلاطين وهم ليسوا الا فقهاء السلطة والبلاط، ولذلك تراهم يصدرون فتاوى التكفير والقتل والتدمير التي يرسلونها للعراق الابي بحجة الجهاد في سبيل الله تعالى، دفاعا عن العراق الذي يقولون ان عناصر من الموساد يسرحون فيه ويمرحون، الا انهم لم يروا الرئيس الاسرائيلي عندما زار قطر في العام الماضي ونزل في فندق بالقرب من منزل كبير(الفقهاء) ومن ثم تجول في مدارس قطر والتقى بطلبتها وتجول في اسواق قطر والتقى الناس واصحاب المحال، كما انهم لم يروا الفتاة الصحفية الاسرائيلية التي صحبت الرئيس الاميركي جورج بوش في زيارته الاخيرة الى ارض الحرمين، وهي تتجول في شوارع الرياض، والتي قالت بانها تلقت معاملة هذه المرة افضل مما تلقته في زياراتها السابقة، فاين (فقهاء الامة) من كل ذلك؟ ام انهم يرون مصلحة في هذا ولا يرون مصلحة في غيره؟.
      ان وعاظ السلاطين شاركوا في قتل الحسين عليه السلام، ويشتركون اليوم في تضليل الامة وقتل الابرياء، تارة بسكوتهم عن الباطل، وتارة بفتاوى التكفير التي يصدرونها، ولذلك فهم المصداق البارز لقول رسول الله (ص) الذي يقول فيه {الظالم والساكت عن الظلم والمعين عليه، شركاء ثلاثة} فهم {الساكت عن الحق شيطان اخرس} انهم شياطين الامة، وليس فقهاؤها، مهما طالت لحاهم وقصرت ملابسهم وكبرت عمائمهم.
عاشوراء..للناس كافة
      عاشوراء حركة من اجل الانسان، وهي لكل زمان ومكان، وان من يجتهد ليحصر نهضة الامام الحسين السبط عليه السلام بطائفة معينة او حتى بدين معين، انما يظلم الناس والبشرية، ويظلم نفسه قبل ان يظلم الحسين عليه السلام.
      ان عاشوراء ثورة المظلوم ضد الظالم، وتحدي الاحرار الذين يرفضون العبودية لغير الله عز وجل، للعبيد الذين يخضعون اما الى الدنيا وزبارجها واما الى الطاغوت المتجبر وحكمه التعسفي، ولذلك فان عاشوراء ليست لطائفة من المسلمين دون غيرهم، او لفئة من الناس دون سواهم، بل انها للناس كافة، فكل انسان يتحدى الطاغوت، وكل انسان يرفض الظلم ولا يقبل بالضيم، وكل انسان يتحدى القهر من اجل ان يحتفظ بحريته وخياراته، لهو حسيني وان لم ينتم، وهو عاشورائي الولاء والمنهج وان لم ينتم.
      ان عاشوراء قيم انسانية، وان كربلاء مدرسة انسانية، وان كل من يحاول ان يحصر عاشوراء وكربلاء بالشيعة انما هو ظالم لنفسه مبين.
      ان عاشوراء فضحت الزيف والخداع والدجل، كما انها عرت شعارات الطاغوت، فاسقطت عن سوأته ورقة التوت التي حاول ان يتستر بها ليحكم الامة باسم الدين، وهو الذي لم يدخل الدين في قلبه طرفة عين ابدا، وستظل عاشوراء تلاحق الدجالين من الحكام الظالمين وفقهاء السلطان الذين يوظفون قيم الدين الحنيف لتحقيق اهداف غير شريفة، اولئك الذين يتحكمون برقاب الناس فيصادرون حريتهم ويسحقون كرامتهم ويتجاوزون على حقوقهم، ويقتلون الابرياء وينتهكون الاعراض ويلاحقون الاحرار، باسم الدين وباسم قيم السماء التي بعثها الله تعالى مع انبيائه عليهم وعلى نبينا محمد بن عبد الله (ص) آلاف التحية والسلام، الى الناس كافة من اجل اسعادهم وليعيشوا بعز وكرامة.
      لقد بلور الامام الشهيد عليه السلام هذه الفلسفة في نص وصيته التي تركها للبشرية كافة عند اخيه محمد بن الحنفية، لما عزم الخروج من مدينة جده رسول الله (ص) الى مكة المكرمة، قائلا:
      {اني لم اخرج اشرا ولا بطرا ولا مفسدا ولا ظالما، وانما خرجت لطلب الاصلاح في امة جدي، اريد ان آمر بالمعروف وانهى عن المنكر، واسير بسيرة جدي رسول الله (ص) وابي علي بن ابي طالب عليه السلام، فمن قبلني بقبول الحق فالله اولى بالحق، ومن رد علي هذا اصبر حتى يحكم الله بيني وبين القوم بالحق، وهو خير الحاكمين}.
      فالثورة من اجل فضح الظالم والكشف عن وجه الحقيقة، من خلال تعرية زيف السلطة الجائرة، التي تحاول ان تتستر بالدين او بشعارات الصلاح من اجل خداع الناس ليرضخوا لها.
      كما انها من اجل اصلاح احوال الناس، لان الانسان الذي يرى الانحراف ويسكت عنه، او يتلمس الظلم ولا يحرك ساكنا، بقول على الاقل، لهو شيطان اخرس، ولذلك علمتنا عاشوراء كيف نكتشف الزيف، لنفضحه، وكيف نعرف الظلم لنواجهه، وكيف نتعرف على الحاكم الجائر من خلال صفاته وسلوكياته الخطيرة، لنقف بوجهه، او نثور عليه اذا اقتضت الضرورة، وكل ذلك من اجل الناس ومصالحهم، والتي هي محور جوهر كل الرسالات السماوية، ففي قول السبط عليه السلام {مثلي لا يبايع مثله} دلالة واضحة جدا على هذه الحقيقة، فهو لم يقل {انا لا ابايع} وانما قال {مثلي لا يبايع} اي انه النموذج في رفض الظلم والقدوة في رفض البيعة لمن لا يستحق، وان كان الثمن رقابا تقطع واجسادا ترضها حوافر الخيل، وحرائر تسبى، وخياما تحرق.
      لقد تحملت عاشوراء المسؤولية ازاءنا، وبقي ان نتحمل مسؤوليتنا ازاءها، بنقل جوهر رسالتها الى الناس كافة، لتعريفهم بقيمها ووسائلها واهدافها وابعادها الحقيقية، فلو عرف الناس عاشوراء على حقيقتها لانتموا اليها بلا شروط، لانهم سيجدون فيها المنهل الذي لا يجف عطاءه والمعين الذي لا ينضب ماءه والتجربة الانسانية التي لا تتوقف عطاءاتها.
      علينا ان نحدث الناس عن عاشوراء بعقولهم، ليفهموا الحسين عليه السلام، ويعوا اهداف نهضته، وعلينا ان نقدمها لهم بلغتهم وبفهمهم للامور، ليستوعوا السبط على احسن وجه.
      لا يكفي ان نذرف الدموع على الحسين السبط عليه السلام، ولا يكفي ان نطلق العنان لعواطفنا مع بزوغ هلال المحرم من كل عام، بل يجب ان نهتم بالجانب الاخر من عاشوراء، فالحسين عليه السلام حركة وعي تثير العقل عند الانسان، ليظل يتساءل عن حريته التي اغتصبتها الانظمة الجائرة، وعن كرامته التي سحقها الظلمة، ووعيه الذي صادره فقهاء البلاط وجيش المثقفين الماجورين الذين يبررون للحاكم المستبد جرائمه، وعن دوره وموقعه الذي صادرته سلطات الامن والقمع في البلاد التي يعيشها.
      ان الحسين السبط عليه السلام، مدرسة لكل الاعمار والاجناس والالوان، ولكل اصحاب الديانات بلا تمييز، لانه للناس كافة، فلقد كانت تضحيته عليه السلام من اجل الناس، كل الناس، وليس من اجل طائفة دون اخرى، او امة دون سواها، لانه اراد ان يعلم الانسان كيف يحيا كما خلقه الله عز وجل بحرية وكرامة وعزة واباء، ليس لاحد عليه سلطان ظلم او قهر او جبروت، ولذلك شارك الى جانبه كل من عرف منه معنى الحياة الحرة الكريمة، وهكذا يجب ان يبقى الحسين عليه السلام نبراس لكل الناس يستلهمون منه الدروس والعبر، ويتعلمون منه العيش بكرامة، او الموت بعز وشرف واباء.
      لقد فضحت عاشوراء دناءة الظالم، وعرت وسائله وادواته غير الشريفة، التي يتعامل بها مع الاخر بمجرد ان يختلف معه، او يواجهه بالحقيقة، كما انها عرت اليوم كل من يدافع عن الظالم تحت مسميات قدسية التاريخ ورجاله، خوف الفضيحة.
      ان شعوب الارض تفتخر بمن يضحي بقلامة اظفر من اجلها، ومن اجل حياتها وكرامتها وحريتها وحاضرها ومستقبلها، فكيف بالحسين السبط عليه السلام الذي ضحى بكل شئ من اجل الانسان؟ ثم ياتي اليوم من يحاول ان يحجم التضحية ويتهم كربلاء بالطائفية وعاشوراء بانها تثير الفتنة؟ اي جهل هذا الذي ابتليت به الامة؟ فمتى كان الحسين مثير فتنة؟ ومتى كانت كربلاء طائفية؟ ومتى كانت عاشوراء ماض انقضى ليس من وراء استذكاره طائل؟.
      ان الحسين حاضر في كل يوم، انه صرخة بوجه كل ظالم، ونداء حرية وكرامة لكل انسان، وان كربلاء مدرسة خالدة لا توصد ابوابها، وان صفوفها مفتحة لكل من يريد ان يحضرها ليتعلم كيف يحيا بكرامة، وكيف يعيش مالكا خياراته، وان عاشوراء تضحية من اجل الحياة وليس من اجل الموت.
      ولكل ذلك يجب ان نفخر بالحسين عليه السلام، وبكربلاء وعاشوراء.
      ان من الجريمة بمكان، بحق الاهداف والقيم الحسينية النبيلة، ان تتحول عاشوراء الى عادة، لان كل امر يتحول الى عادة يفقد قيمته ويذهب بريقه ويخفت نوره ويقل تاثيره ويضيع جوهره، ولذلك علينا ان نحتفظ بعاشوراء كقضية استراتيجية نهتم بها كحركة وعي نرتب عليه اثرا مباشرا على حياتنا اليومية، وعلى طريقة تفكيرنا.
      لتكن عاشوراء مناسبة لاعادة النظر بكل ما يخص حياتنا اليومية، علاقاتنا، وعينا، ثقافتنا، حركتنا، فهمنا للامور، حواراتنا، معيشتنا، وكل شئ آخر.
      انها مناسبة مهمة لاعادة صياغة انفسنا بما يساعدنا على انجاز التحول نحو الافضل، فلا نظل تحكمنا الانظمة المستبدة، او نبقى ضحية تضليل فقهاء التكفير والاعلام الطائفي الحاقد، او اسرى التاريخ المزور، او يظل الجهل والتخلف والامية تلف مجتمعاتنا.
      يجب ان تكون عاشوراء مناسبة لاحداث الصدمة في نفوسنا وفي عقولنا وشخصيتنا ووعينا، بما يساهم في تحقيق التقدم والنهوض الحضاري، اما ان تمر علينا عاشوراء كعادة تاريخية، نحتفي بها كما نحتفي باية مناسبة اخرى، لا تترك اثرا ولا تلامس وعيا او تحرض على التفكير بالواقع المرير، هذا يعني اننا نصر على التخلف، ونرفض ان تطرق مثل هذه المناسبة ابوابنا بطريقة سليمة وفاعلة.
      ان الشعوب المتحضرة، هي التي تستغل كل مناسبة تاريخية من اجل حياة افضل، وتوظف كل حدث تاريخي من اجل اعادة النظر في يومها، فتكرس الصحيح وتصحح الخطا والانحراف، وهي تسير باتجاه الكمال الانساني، وانا اجزم لو ان امة اخرى غيرنا ملكت الحسين عليه السلام لما عاشت الضيم ولرفضت القهر والعبودية والذل والتخلف والجهل طوال حياتها، ولكن، شاء الله تعالى ان تكون عاشوراء من نصيب امة تنعت اعظم حدث في حياتها بالطائفية، لانه عرى الطاغوت، وتاليا عرى الانظمة التي تتخذ منه اسوة.
   تعالوا نصلح حالنا بالحسين (ع) فنصلح اخلاقنا باخلاقه وعلاقات بعضنا بالبعض الاخر بعلاقاته، ومناهجنا بمناهجه ووسائلنا وادواتنا بوسائله، وثقافتنا بثقافته، ووعينا وفهمنا وادراكنا للامور بوعيه وفهمه وادراكه.
      تعالوا نصلح انظمتنا السياسية الفاسدة، بمبادئ ثورة الحسين عليه السلام، ونصلح حركاتنا السياسية واحزابنا وتنظيماتنا، بحركة السبط عليه السلام، ونصلح صراعاتنا الحزبية وتنافسنا الانتخابي، بطريقة السبط الشهيد (ع) في تعامله مع الاخر، صديقا كان ام عدوا، في السلطة كان ام في صفوف المعارضة، ونصلح حال النساء في مجتمعاتنا بمواقف زينب الكبرى (ع) ودورها العظيم والمشرف، وحضورها الانساني العفيف والطاهر في ساحة المواجهة مع الظالم، ونصلح شبابنا بمواقف علي الاكبر والقاسم، وتحملهم للمسؤولية، وشجاعتهم في تحدي الموت من اجل العزة والكرامة.
      ثم بعد ذلك، تعالوا نصلح العالم بعاشوراء، ليس بالدماء والدموع، وانما بالمعرفة والفكر والاخلاق والنموذج.
      تعالوا نطلق حملة عالمية لترجمة خطب الحسين عليه السلام واقواله وافعاله، الى كل اللغات العالمية الحية، ليعرف الناس من هو السبط؟ وما هي اهدافه؟ ولماذا ضحى؟ ومن اجل من؟ عندها سيقول كل العالم ما قاله الزعيم الهندي الماهاتما غاندي {تعلمت من الحسين كيف اكون مظلوما فانتصر}.
      لنؤسس جامعات باسم الحسين عليه السلام، ومعاهد باسم كربلاء، ومراكز بحثية ومعرفية باسم عاشوراء.
      لننتقل بالحسين عليه السلام من الواقع الضيق الى الفضاء الاوسع والارحب، فحرام علينا ان نعتقل عاشوراء في مدننا الصغيرة وازقتنا الضيقة، فلننطلق بالحسين (ع) الى الدنيا، وصدقت عقيلة بني هاشم زينب بنت علي بن ابي طالب عليهم السلام، عندما قالت لابن اخيها الامام السجاد علي بن الحسين بن علي بن ابي طالب عليهم السلام {لا يجزعنك ما ترى، فوالله ان ذلك لعهد من رسول الله (ص) الى جدك وابيك وعمك، ولقد اخذ الله الميثاق من اناس، من هذه الامة، لا تعرفهم فراعنة هذه الامة، وهم معروفون في اهل السماوات، انهم يجمعون هذه الاعضاء المتفرقة فيوارونها، وهذه الجسوم المضرجة، وينصبون لهذا الطف علما لقبر ابيك سيد الشهداء، لا يدرس اثره، ولا يعفو رسمه، على كرور الليالي والايام، وليجتهدن ائمة الكفر واشياع الظلالة في محوه وتطميسه، فلا يزداد اثره الا ظهورا، وامره الا علوا}.
      فلو علم العالم جوهر معاني رسالة الحسين السبط عليه السلام يوم عاشوراء في كربلاء، لثار على نفسه ليصلحها، فلم يبق ــ بضم الياء ــ على ظالم، ولم يترك مظلوما يئن تحت سياط المتجبرين الا ونصره وانتصر له من ظالميه.
الحسين (ع) ..دروس الحياة
      للوهلة الاولى، يظن المرء، ان تضحية السبط الشهيد الامام الحسين بن علي بن ابي طالب بن فاطمة الزهراء بنت رسول الله (ص) في عاشوراء عام 61 للهجرة في كربلاء، هي من اجل الموت، لانها اصطبغت بلون الدم الاحمر الذي يعبر عادة عن القتل، والقتل هو الموت والموت هو نهاية حياة الانسان.
      ولكن...
      بقليل من التمعن والتفكر والتدبر، سنكتشف بان الحسين عليه السلام للحياة وليس للموت، فهو دروس للحياة وليس تجربة للموت، او لم يقل عز من قائل في محكم كتابه الكريم {يا ايها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول اذا دعاكم لما يحييكم واعلموا ان الله يحول بين المرء وقلبه وانه اليه تحشرون} والحسين السبط هو نفس رسول الله (ص)، كما ورد في حديثه (ص) {حسين مني وانا من حسين} اي ان دعوة السبط وثورته ونهضته وحركته وتضحيته كانت للحياة وليس للموت، كيف؟.
   السبط..كرامة الامة
      ان امرءا بلا كرامة، لهو ميت الاحياء، وان امة بلا كرامة، لهي امة ميتة.
      والسؤال هو؛
      ما هي مصاديق الكرامة؟.
      برايي، فان الكرامة تتجلى بثلاث قيم:
      القيمة الاولى، هي الحرية.
      القيمة الثانية، هي المساواة.
      اما القيمة الثالثة، فهي الاختيار.
      فالانسان الذي لا يمتلك حريته، ويعيش في ظل التمييز باي شكل من اشكاله، لهو انسان بلا كرامة، وان الانسان الذي لا يمتلك حرية الاختيار، لهو انسان بلا كرامة.
      ولقد مرت الامة (الاسلامية) في لحظة تولي الطاغية يزيد بن معاوية للسلطة، بمرحلة تاريخية فقدت فيها كرامتها، لانها فقدت حريتها وظلت تعاني من التمييز باشكال مختلفة، الى جانب انها فقدت قدرتها على الاختيار، وهي القيمة التي تميز الانسان عن غيره من الدواب.
      فالامة التي يحكمها ظالم مستبد، لهي امة بلا كرامة، والامة التي يحكمها اللصوص (قادة الانقلابات العسكرية) لهي امة بلا كرامة، والامة التي يحكمها زعيم لم يصل الى السلطة برضاها او بتفويض منها (بالبيعة العامة مثلا او عن طريق صندوق الاقتراع) لهي امة بلا كرامة، واذا حكم الامة نظام وراثي، فانها امة بلا كرامة، واذا حكمتها حفنة من اللصوص استولوا على السلطة بانقلاب عسكري في جوف الليل، فهي امة بلا كرامة، لان كرامة الامة تتجلى اولا وقبل كل شئ باختيارها للنظام السياسي، ولذلك فقدت الامة كرامتها عندما حول الامويون الحكم الى ملك عضوض، حمل حاكم فاسق كيزيد الى سدة الحكم بعنوان (امير المؤمنين) وصدق الحسين السبط عندما قال {وعلى الاسلام السلام اذا ولي امر الامة حاكم مثل يزيد}.
      وصدق قبله ابوه امير المؤمنين على بن ابي طالب عليه السلام، عندما وصف حال الامة اذا حكمها فاسق بقوله {ولكني آسى ان يلي امر هذه الامة سفهائها، وفجارها، فيتخذوا مال الله دولا، وعباده خولا، والصالحين حربا، والفاسقين حزبا}.
      اما الحسين السبط عليه السلام، فقد بذل كل ما في وسعه من اجل تنبيه الامة الى الخطر العظيم الذي عاشته في ظل سلطة سياسية منحرفة وظالمة.
    انه سعى لان ينبه الامة الى كرامتها، من خلال تذكيرها بالقيم الثلاث الانفة الذكر.
      ومن اجل ان يصوغ نموذجا لها، فلا يكرر صورة الحاكم الظالم والسلطة المنحرفة، لذلك:
      اولا: لم يجبر الحسين عليه السلام احدا على رفض البيعة للسلطة الجديدة، كما انه لم يكره احدا على بيعته، ابدا.
      انه عليه السلام سعى الى تبيين الصورة فقط، وتوضيح الحقائق فحسب، من دون ارهاب احد او اكراهه على اتخاذ موقف معين بذاته، فقال عليه السلام {الا ترون الى الحق لا يعمل به والى الباطل لا يتناهى عنه، ليرغب المؤمن في لقاء الله، فاني لا ارى الموت الا سعادة، والحياة مع الظالمين الا برما}.
      ثانيا: لقد منح اقرب الناس اليه، وهم اهل بيته الذين رافقوه من المدينة الى مكة المكرمة الى كربلاء، حق الاختيار بكامل حريتهم، فلم يجبرهم، مثلا، على المكوث معه، ولم يغصبهم على اتخاذ موقف لم يقتنعوا به، ناهيك عن بقية (المسلمين) الذي التحقوا به عند خروجه من مكة المكرمة شطر الكوفة، والذين كان يخبرهم بادق تفاصيل الموقف العسكري والامني كلما تناهى الى مسامعه خبر عن مسيره، وكل ذلك من اجل ان يمنحهم فرصة التفكير بحرية تامة قبل اتخاذ الموقف وقبل الاختيار، لانه لم يشا ان يصطحب معه متردد او خائف او طامع او جاهل بامره لا يدري من اين هو والى اين ولماذا؟.
      فعندما وصل اليه خبر استشهاد سفيره الى الكوفة مسلم بن عقيل وهو في طريقه الى العراق، في منطقة تسمى بالزبالة، جمع الحسين عليه السلام من كان معه واخبرهم بالامر، فورا، من دون ان يخشى ان مثل هذا الخبر قد يدفعهم لتركه لوحده، لانه كان يريد من يبقى معه ان يكون على بصيرة من امره، فهو لم يكن بحاجة الى الطامعين بدنيا بلا آخرة، او خائف او مهزوز العقيدة.
      جمعهم وقال لهم:
      {بسم الله الرحمن الرحيم، اما بعد، فانه قد اتانا خبر فضيع، قتل مسلم بن عقيل وهانئ بن عروة وعبد الله بن يقطر، وقد خذلتنا شيعتنا، فمن احب منكم الانصراف فلينصرف ليس عليه منا ذمام}.
      وفي ليلة العاشر من المحرم، جمع الحسين عليه السلام اصحابه مرة اخرى ليخيرهم بين البقاء معه استعدادا للموت او تركه والذهاب الى حيث يريدون فينقذوا انفسهم من خطر القتل والموت.
      قال لهم الحسين عليه السلام:
      {اثني على الله تبارك وتعالى احسن الثناء واحمده على السراء والضراء، اللهم اني احمدك على ان اكرمتنا بالنبوة وعلمتنا القران، وفقهتنا في الدين، وجعلت لنا اسماعا وابصارا وافئدة، ولم تجعلنا من المشركين، اما بعد فاني لا اعلم اصحابا اولى ولا خيرا من اصحابي، ولا اهل بيت ابر ولا اوصل من اهل بيتي، فجزاكم الله عني جميعا خيرا، الا واني اظن يومنا من هؤلاء الاعداء غدا، الا واني قد رايت لكم، فانطلقوا جميعا في حل، ليس عليكم مني ذمام، هذا الليل قد غشيكم فاتخذوه جملا، ثم لياخذ كل رجل منكم بيد رجل من اهل بيتي، ثم تفرقوا في سوادكم ومدائنكم حتى يفرج الله، فان القوم انما يطلبونني، ولو قد اصابوني، لهوا عن طلب غيري}.
      ثالثا: لم يبادر الحسين السبط عليه السلام الى مكاتبة احد من المسلمين في اي مصر من الامصار، وانما اكتفى في بادئ الامر بان يرفض اعطاء البيعة من دون ان يؤلب الشارع على السلطة المنحرفة الجديدة، حتى جاءت المبادرة من المسلمين في الكوفة الذي بادروا الى الكتابة اليه ودعوته ليكون لهم اماما في طريق الحق والصواب.
      لم يشأ الحسين بن علي عليهما السلام ان يغصب احدا على اتخاذ موقف ضد او مع السلطة او المعارضة قبل ان يلقي عليه الحجة، ولذلك اكتفى عليه السلام بتبيين الحقائق وتوضيح العلل التي من اجلها يرفض البيعة لطاغية منحرف كيزيد بن معاوية.
      ففي المدينة قال الحسين عليه السلام {انا اهل بيت النبوة، ومعدن الرسالة، ومختلف الملائكة، بنا فتح الله وبنا ختم، ويزيد فاسق، فاجر شارب الخمر، قاتل النفس المحترمة، معلن بالفسق والفجور، ومثلي لا يبايع مثله}.
      وكان عليه السلام قد حدد معالم نهضته لتكون اهدافه واضحة وغير خافية على احد، فكتب في وصيته الى اخيه محمد بن الحنفية، يقول؛
      {اني لم اخرج اشرا ولا بطرا ولا مفسدا ولا ظالما، وانما خرجت لطلب الاصلاح في امة جدي، اريد ان آمر بالمعروف وانهى عن المنكر، فمن قبلني بقبول الحق فالله اولى بالحق، ومن رد علي هذا اصبر حتى يقضي الله بيني وبين القوم بالحق، وهو خير الحاكمين}.
      وقبيل وصوله الى كربلاء، خطب الجيش الذي كان مع الحر بن يزيد الرياحي، موضحا له سر حركته ورفضه اعطاء البيعة لطاغية، فقال:
      {ايها الناس، ان رسول الله (ص) قال: من راى سلطانا جائرا مستحلا لحرام الله ناكثا لعهد الله مخالفا لسنة رسول الله يعمل في عباد الله بالاثم والعدوان فلم يغير ما عليه بفعل ولا قول كان حقا على الله ان يدخله مدخله، الا وان هؤلاء، ويقصد السلطة الظالمة الجديدة، قد لزموا طاعة الشيطان وتركوا طاعة الرحمن واظهروا الفساد وعطلوا الحدود واستاثروا بالفئ واحلوا حرام الله وحرموا حلاله، وانا احق من غير}.
      ومن اجل طمأنة الناس، والحيلولة دون التشكيك في صدقية ما يقول، كخوفهم من ان يتحولوا الى حطب حرب يستفيد منها الامام بعد زجهم فيها ثم يذهب الى السلطة ليفاوضها، كما يفعل الكثير من الزعماء والقادة، ممن لا دين لهم ولا ضمير، قال لهم الحسين عليه السلام:
   .{نفسي مع انفسكم، واهلي مع اهليكم، فلكم في اسوة}   
      رابعا: كذلك، فان الحسين الشهيد عليه السلام، لم يمارس الترهيب والترغيب عندما عرض بضاعته على الناس، فهو لم يمارس الارهاب الديني لتخويف (المسلمين) من مغبة عدم بيعته، كما انه لم يقتل او يغتال احدا لانه اعطى البيعة للسلطة الجديدة.
      فقد خطب مرة بالقوم قائلا:
      {الا وان الدعي بن الدعي قد ركز بين اثنتين، بين السلة والذلة، وهيهات منا الذلة، يابى الله لنا ذلك ورسوله والمؤمنون، وجدود طابت، وحجور طهرت، وانوف حمية، ونفوس ابية، لا تؤثر طاعة اللئام على مصارع الكرام، الا واني قد اعذرت وانذرت}.
      ففي وعي الامام، ان اعطاء البيعة مكرها تحت حد السيف لسلطة جائرة ظالمة، يناقض مبدا الكرامة، بل انه الذل بعينه، لذلك آثر الموت بعز على الحياة بذل. 
      خامسا: وعندما تحول الحسين عليه السلام الى باب من ابواب الجنة في عاشوراء عام 61 للهجرة في صحراء كربلاء، لم يميز بين اهل بيته واصحابه، اذ كان الجميع عنده سواسية يتعامل معهم بمساواة قل نظيرها، بل انه لم يشا ان يرفض التحاق الد (اعدائه) بركب الشهادة واقصد به الحر بن يزيد الرياحي الذي قرر ان يختار القتل بعز وشرف وكرامة، على الحياة بذل ومهانة، فلم يمنعه الامام من اللحاق به، بل احترم قراره الجديد، ومنحه فرصة الخلود الابدي في الدنيا والاخرة، من دون ان يفكر بالانتقام منه، كونه احد اعمدة الحاكم الظالم، ممن اضروا بالحسين كثيرا، فالعبرة بالنتائج كما تقول الحكمة، والاعمال بخواتيمها.
      لقد اراد الحسين السبط عليه السلام، من كل ذلك وغيره، ان يعلم الامة معنى الكرامة، وكيف يمكن تحقيقها في هذه الحياة الدنيا، بل اراد ان يعلمها بان امة بلا كرامة هي امة ميتة، وان البيعة بالاكراه لحاكم ظالم دليل صارخ على ان الامة بلا كرامة، وان امة لا تمتلك حق الاختيار، لهي امة ميتة.
      لكل ذلك فان الحسين عليه السلام هو عنوان كرامة الامة.
      علينا ان نتعلم من الحسين كيف نصون حريتنا وكيف نحافظ على خياراتنا، فلا نعطي البيعة لكل من هب ودب.
      سادسا: كان السبط يلزم كل ذي عهد بعهده، فلم يحمله اكثر من طاقته، وذلك على قاعدة (الزموهم بما الزموا به انفسهم) من اجل ان لا يظلم احدا بتحميله ما لا يطيق، ومن اجل ان تكون حجته قوية عليهم، انه عليه السلام  لم يشا ان يلزم الانسان الا بما اختار بارادته، فلقد اوصى امير المؤمنين عليه السلام مالكا الاشتر عندما ولاه مصر بهذه القاعدة، بقوله {والزم كلا منهم ما الزم نفسه} وهي القاعدة الذهبية في علم الاجتماع اذا كان النظام السياسي ديمقراطيا، يحترم الانسان ويصون حقوقه ويحافظ على كرامته، واذا كان القانون فوق الجميع.
      انه اسمعهم وذكرهم بعهودهم اكثر من مرة، كان آخرها صبيحة يوم العاشر من المحرم، اذ وقف فيهم خطيبا، فقال:
      {ايها الناس، اسمعوا قولي ولا تعجلوني حتى اعظكم بما الحق لكم علي، وحتى اعتذر اليكم من مقدمي عليكم، فان قبلتم عذري وصدقتم قولي واعطيتموني النصف كنتم بذلك اسعد، ولم يكن لكم علي سبيل، وان لم تقبلوا مني العذر ولم تعطوا النصف من انفسكم، فاجمعوا امركم وشركاءكم، ثم لا يكن عليكم امركم غمة، ثم اقضوا الي ولا تنظرون، ان وليي الله الذي نزل الكتاب، وهو يتولى الصالحين}.
      ثم اضاف عليه السلام، مخاطبا (علية) القوم:
      {يا شبث بن ربعي، ويا حجار بن ابجر، ويا قيس بن الاشعث، ويا يزيد بن الحارث، الم تكتبوا الي ان قد اينعت الثمار، واخضر الجناب، وطمت الجمام، وانما تقدم على جند لك مجندة، فاقبل؟}.   
   البيعة..عهد ومسؤولية
      حاول يزيد بن معاوية، لحظة توليه السلطة بعد هلاك ابيه معاوية بن ابي سفيان، ان ياخذ البيعة من الحسين بن علي عليهما السلام، غصبا وبالقوة، لانه كان يعرف وزنه في المجتمع المسلم آنئذ، وكان يعرف ماذا يعني ان يتخلف السبط عن بيعته، اذ سيدفع جمهور المسلمين للاقتداء به والتزام موقفه فيمتنع عن البيعة، ما يؤلب الناس على السلطة الجديدة، وهو الامر الذي لم يكن مرغوبا عندها لانها حديثة عهد لا تتحمل اية مشكلة من هذا النوع، خاصة وانها اول سلطة غير شرعية في الدولة الاسلامية، اعتمدت الوراثة التي حرمها الله تعالى ورفضها الرسول الكريم ولم يستسيغها المسلمون، الى جانب ان المورث واحد من اسوأ (الحكام) سواء على الصعيد الديني او الاخلاقي او حتى السياسي.
      لذلك، صدرت اوامر الطاغية الجديد يزيد الى عامله في المدينة المنورة (الوليد بن عتبة) مشددة باخذ البيعة من الحسين السبط، ليس فيها اي تهاون او ليونة، او حتى رخصة.
      ولان الامام عليه السلام كان يريد ان يعلمنا كيف نحيا، لذلك رفض البيعة، لانها في وعي الامام ليست لقلقة لسان او كلمات ينطقها المرء اليوم ويتملص منها غدا، ابدا، بل ان البيعة عهد ومسؤولية، عهد يقطعه المرء مع من يبايعه بالالتزام بخطه ونهجه، والسير على هدى مبادئه وتحت قيادته، ومسؤولية يعلقها المعاهد في رقبته يلزم تحملها والالتزام بها، وعدم الانقلاب عليها، بكل الظروف، او خيانة من يعاهده ويبايعه، الا ان يغير، فعندها {لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق}.
      ولان البيعة كذلك في قاموس الامام، لذلك رفض البيعة سرا، في محاولة من الامام لايصال هذه الرسالة الى المسلمين ممن يريدون ان يحيون حياة طيبة، فاراد ان يقف امام الجميع ليقول لهم ماذا تعني البيعة؟ ولماذا يرفض اعطائها لحاكم مثل يزيد، ليبلغ بذلك رسالته ويلقي حجته، لئلا تكون عند المسلمين من حجة الجهل او عدم المعرفة والوعي بحقيقة امر البيعة، عندما يختارون غدا البيعة ليزيد او رفضها.
      لقد حاول السبط ان يعلم الناس معنى الحياة الكريمة المقترنة بالبيعة الكريمة، والتي لا تتحقق الا بعهد صحيح لحاكم سوي مستقيم.
      اما الاموات من الاحياء، فهم الذين يسارعون الى اعطاء البيعة لكل من هب ودب من الحكام والسلاطين، فالمهم عندهم ان يحكمهم حاكم، برا كان ام فاجرا، لانهم يظنون ان البيعة ستنقذ رقابهم من مقصلة الظالم، او انها ستسقط المسؤولية عن انفسهم، او ان البيعة، مجرد البيعة للحاكم، ستؤمن لهم الحياة الكريمة، ناسين او متناسين ان مثل هذه البيعة هي بداية الموت وليس الحياة ابدا، ولقد قرانا وراينا مصير الناس الذين بادروا الى بيعة (ظالم) بحجة التهرب من المسؤولية على قاعدة (بايع لتكفي نفسك شر الحاكم) فلقد تحولت مثل هذه البيعة الى كابوس يلاحقهم فلم يهنأوا بعيش ولم يكفوا انفسهم شر الحاكم الظالم، فكانت نهايتهم القتل بسيف الحاكم الذي بايعوه.
      لقد اجاب الامام السبط الحسين بن علي عليهما السلام والي يزيد على المدينة بقوله عليه السلام {مثلي لا يبايع سرا، ولا يجتزئ بها مني سرا، فاذا خرجت للناس ودعوتهم للبيعة، ودعوتنا معهم كان الامر واحدا}.
      ولما هددته السلطة بالقتل ان لم يبايع، كان لابد للامام ان يضع النقاط على الحروف ليوضح الموقف بالكامل، فقال عليه السلام {ايها الامير، انا اهل بيت النبوة، ومعدن الرسالة، ومختلف الملائكة، بنا فتح الله، وبنا ختم، ويزيد فاسق، فاجر، شارب الخمر، قاتل النفس المحترمة، معلن بالفسق والفجور، ومثلي لا يبايع مثله}.
      بذلك، يكون الامام الحسين عليه السلام قد حدد معالم البيعة الصحيحة، والمقاس العلمي والديني والسياسي الصحيح للحاكم الذي يستحق ان يمنح البيعة، طبعا هذا لمن اراد ان يحيا حياة طيبة، اما من يريد ان يحيا حياة الاموات، بلا حرية وبلا كرامة وبلا حقوق، فيعطي بيعته لمن يشاء، وان كان يزيدا واشباهه.
   الحياة..ان لا تتهرب من المسؤولية
      عندما عزم الحسين السبط عليه السلام، الخروج الى العراق، والى الكوفة تحديدا، حاول اكثر من واحد ثنيه عن قراره، فحاولوا ان يقنعوه بـ (الهرب) من المواجهة، فلا يصطدم بالانحراف، كأن يذهب الى اليمن، مثلا، او ان يهيم بوجهه في الصحراء فيضيع نفسه على السلطة الحاكمة.
      ولو كان الحسين يبحث عن الموت، لاقتنع بمثل هذه النصائح، فلقد كانت الارض مفتوحة امامه، وخيارات الهرب كثيرة جدا، يتمناها اكثر من مصر، ولكن، لانه كان يطلب الحياة للامة، فلذلك كان لابد له ان يختار المواجهة ليعلمها كيف تحيا كريمة، وكيف تختار الحياة عندما تفرض عليها المواجهة فرضا.
      لقد علمنا الحسين السبط، ان مواجهة الظلم وتحدي الانحراف هو اقصر الطرق لنيل الحياة الحرة الكريمة، وان الهروب من المواجهة موت بطئ لا يختاره الشرفاء.
      فالذين نصحوه بالهرب من المواجهة، كانت حجتهم ان من كتب له ودعاه لينصره، ليسوا اهل عهد او ذمة، اذ كان آباءهم واجدادهم قد نكثوا بيعات مماثلة مع جده الرسول الكريم (ص) وابيه امير المؤمنين عليه السلام.
      الا ان الحسين السبط لم يحسب الامور بهذه الطريقة، فلو ان كل موقف يحاسب على ما سبقه، لما تحمل احد مسؤولية، ولو ان كل امرئ يؤاخذ بجريرة ابيه او جده، لما بادر احد الى شئ، ولهذا المعنى اشار القران الكريم بقول الله عز وجل {ولا تزروا وازرة وزر اخرى}.
      في منهجية الحسين عليه السلام، ان المسؤولية تقع على عاتق الانسان حالما تشخص امام عينيه وتتهيا لها الاسباب، وسيأثم قلبه اذا لم يبادر اليها ويتحملها اذا تردد او هرب، ولذلك قال امير المؤمنين علي بن ابي طالب عليه السلام {اما والذي فلق الحبة، وبرا النسمة، لولا حضور الحاضر، وقيام الحجة بوجود الناصر، وما اخذ الله على العلماء الا يقاروا على كظة ظالم، ولا سغب مظلوم، لالقيت حبلها على غاربها، ولسقيت آخرها بكاس اولها، ولالفيتم دنياكم هذه ازهد عندي من عفطة عنز}.
   الماضي..دروس الحاضر
      والان، ما الذي نستفيده من كربلاء، ونحن على اعتاب انتخابات مجالس المحافظات في العراق؟.
      اولا: ان لا نضطر للتصويت لاحد، اذا لم نكن مقتنعين به، وببرنامجه الانتخابي وبسيرته الذاتية، وبرصيده الذاتي.
      ثانيا: الصوت مسؤولية، فهو يساهم في بناء البلد، اذا منحناه لمن يستحق، او يساهم في تدمير البلد اذا لم نحسن التصرف به، ولذلك يجب ان نتعامل مع صوتنا كمسؤولية، وليس كبضاعة نبيعها لمن يعطي اكثر.
      ثالثا: ولان الصوت مسؤولية، لذلك يجب ان نشارك في الانتخابات القادمة، فلا نصغ للمرجفين في المدينة ممن يثبط الناس عن المشاركة، فالصوت واجب ومسؤولية لا يجوز لاحد ان يفرط بها ابدا.
      ان البعض يسعى لتوظيف الفشل والتقاعس، الذي سبب التاخر في تحسين الوضع المعيشي للناس، لثني الناخب عن المشاركة في الانتخابات القادمة، وكأن المقاطعة هي الحل.
      انها ليست حلا ابدا، فعدم المشاركة ليست حلا، والخطا لا يصحح بخطا اعظم وافدح منه، والفشل لا يرمم بالتقاعس، والنجاح لا ياتي بالمقاطعة، وانما الحل في ان نشارك وندلي باصواتنا لمن نعتقد بانه افضل من الموجود الحالي، لنساهم في التغيير نحو الافضل، اما عن طريق التدقيق والبحث الذاتي اذا كان الناخب قادرا على القيام بمثل ذلك، او السؤال من اهل الخبرة والمعرفة لتشخيص الافضل والاحسن من المرشحين وقوائمهم.
      رابعا: حذار من الهروب من المسؤولية، فان ذلك يمنح الفرصة الذهبية من جديد للصوص والقتلة وايتام النظام البائد للعودة الى الحياة السياسية.
      ان الانتخابات ساحة مواجهة بوسائل الديمقراطية، فالصوت رصاصة، وصندوق الاقتراع مشجب، ولذلك يجب ان لا نترك ساحة المواجهة ابدا، لاننا اذا هربنا من المواجهة في ساحة الديمقراطية، فسنضطر لدفع ثمنها في ساحات الديكتاتورية والانظمة الشمولية والحروب العبثية والمقابر الجماعية.
      خامسا: اذا التزم المرء بعهد عليه ان يفي به، مرشحا كان قد فاز بالانتخابات، او ناخبا شارك فيها.
      اما المرشح، فعليه ان يلتزم ببرنامجه الذي اعلن عنه ايام الانتخابات، والذي فاز بموقع المسؤولية على اساسه.
      اما الناخب، فعليه ان يظل يطالب المرشح الفائز بالتزاماته، من خلال الرقابة والمحاسبة والمساءلة المستمرة.
      سادسا: على كل واحد منا ان يتحمل مسؤوليته الشرعية والوطنية والتاريخية، حال شخوصها امامه، ثم لا عليه ان تحملها الاخرون او تقاعسوا، او ان تصدى لها اقرانه او ترددوا، فالله تعالى يحاسبنا كلا على انفراد، فلا ياخذنا بجريرة غيرنا.
      نعم، فان من مسؤولية الانسان ان يذكر الاخرين بمسؤولياتهم، ويحثهم على العمل الصالح ويرغبهم بالتصدي لمهامهم، خاصة الاجتماعية، ولكن هذا لا يعني ان يربط تحمله للمسؤولية بتحمل الاخرين لها، فان بادروا بادر، وان تقاعسوا تقاعس، ابدا.
      سابعا: ان القضايا الكبيرة بحاجة الى همم كبار، فـ {المرء يطير بهمته، كما يطير الطائر بجناحيه}.
      هذا من جانب، ومن جانب آخر، فان الاهداف النظيفة الطاهرة، بحاجة الى وسائل نظيفة وطاهرة، فمثلا، لا يكفي ان تشرب الماء الطاهر، بل يجب عليه ان تشربه باناء طاهر كذلك، والصلاة كذلك، لا يكفي ان تنوي اقامتها، بل يجب عليك ان تؤديها في لباس طاهر، وهكذا.
      ولاننا في العراق نتحمل مسؤولية اهداف نظيفة وطاهرة، ولذلك يجب ان تكون وسائلنا لتحقيق هذه الاهداف نظيفة وطاهرة كذلك.
      فمثلا، ان من يرشح نفسه في الانتخابات للفوز بموقع المسؤولية، وهو هدف انساني ووطني مقدس ونظيف، عليه ان يحققه بوسائل نظيفة، فلا يستخدم الغش والتزوير وشراء الاصوات وتسقيط الاخر (المنافس) والكذب وربما الاغتيال والقتل، فان كل ذلك وسائل غير نظيفة وغير شريفة، لا يتقرب منها من يتحمل مسؤولية وطنية نظيفة وطاهرة.
      لقد رفض الحسين السبط عليه السلام ان يكذب على الناس او يزور الحقائق او يخفي عليهم الحقيقة، للحفاظ على معنوياتهم مثلا او ليمكثوا معه ولا ينقلبوا عليه، كما يفعل الكثير من القادة (المزيفين) كما انه رفض ان يشتري ضمائر الناس واصواتهم ومواقفهم، بل قال بصريح العبارة {فمن قبلني بقبول الحق، فالله اولى بالحق} بمعنى آخر، انه لم يكن يدعو الناس لنفسه وانما للحق، وما هو الا الوسيلة التي يتحقق بها الحق.
      ثامنا: واخيرا، فان كربلاء تعلمنا كيف نعيش بكرامة، من خلال القتال من اجل الحرية والمساوة والحفاظ بحقنا في الاختيار من دون ان يغصبنا احد على شئ لا نريده.
      يجب ان نودع عهد الفرض والاكراه من غير رجعة، لنقبض على خياراتنا بكامل الحرية.
الحسين(ع)..أحق من غير
      ان التعامل بنظرة طائفية مع نهضة سيد الشهداء سبط رسول الله الامام الحسين بن علي عليهما السلام، يعد من اعظم الظلم الذي يقترفه امرئ بحقه، وتاليا بحق الاسلام، فالحسين عليه السلام للناس كافة، فكيف بالمسلمين؟ اولم نسمع ونقرا احاديث رسول الله (ص) بحق الحسين عليه السلام منها قوله (ص) {حسين مني وانا من حسين، احب الله من احب حسينا، حسين سبط من الاسباط} و{الحسين احب اهل الارض الى اهل السماء} و {الحسن والحسين سيدا شباب اهل الجنة} و {الحسن والحسين ريحانتاي من الدنيا}؟ فلماذا يتعامل البعض الى الان بنفس طائفي مع نهضته المباركة واهدافها الرسالية التاريخية؟ وكأن السبط ثار من اجل تحقيق مصالح فئة معينة من الامة، او كأنه ينتمي الى طائفة دون اخرى؟.
      ان نهضة الحسين عليه السلام نتيجة طبيعية لموقف الاصلاح الذي كان يجب عليه ان يتخذه بعد ان تراكم الانحراف في الامة حتى وصل الى ان ينزو على السلطة رجل فاسق فاجر شارب الخمر قاتل النفس المحترمة معلن بالفسق والفجور يلعب بالقرود هو يزيد بن معاوية، ليتسمى بخليفة رسول الله وامير المؤمنين، في اول عملية لصوصية مسلحة (انقلاب عسكري) غير دستورية بكل معنى الكلمة يقودها بني امية، وهم الذين اضمروا العداء للاسلام ولرسوله الكريم واهل بيته الطاهرين منذ اللحظة الاولى لبزوع فجر دين الله الاسلام في الجزيرة العربية.
      لقد تمثل الخلاف بين اهل البيت عليهم السلام وبني امية في اصل الدين وليس على السلطة والحكم كما يحاول البعض تصويره والايحاء به، في محاولة منه لتشويه الحقيقة والتقليل من قيمة الخلاف وجوهره.
      ولذلك، فاذا اردنا ان نغور في عمق النهضة الحسينية ونقرا حقائقها كما هي وليس كما اراد بنو امية، علينا ان نعود قليلا الى الوراء، اي الى جوهر الخلاف وتاريخه، لان الحسين عليه السلام هو الامتداد الطبيعي لحركة الرسول الكريم (ص) ومواقفه، وكذلك لحركة ابيه امير المؤمنين عليه السلام وهو القائل في نص وصيته لاخيه محمد بن الحنفية (اني لم اخرج اشرا ولا بطرا ولا مفسدا ولا ظالما، وانما خرجت لطلب الاصلاح في امة جدي رسول الله وابي امير المؤمنين، اريد ان آمر بالمعروف وانهى عن المنكر، فمن قبلني بقبول الحق فالله اولى بالحق ومن رد علي هذا اصبر حتى يحكم الله بيني وبين القوم بالحق وهو خير الحاكمين}.
      لقد انقسم الموقف من الاسلام عند بعثة الرسول الكريم (ص) الى قسمين؛
      الاول، هو الذي آمن به كوحي منزل من السماء، فيما نظر اليه آخرون بانه من صنع البشر، فكان الخلاف في الجوهر من القضايا التالية:
      اولا: ان الاسلام وحي من الله وليس من صنع البشر، يقول تعالى {انا اوحينا اليك كما اوحينا الى نوح والنبيين من بعده، واوحينا الى ابراهيم واسماعيل واسحاق ويعقوب والاسباط وعيسى وايوب ويونس وهارون وسليمان وآتينا داوود زبورا}.
      وفي اخرى يقول تعالى {اتبع ما اوحي اليك من ربك لا اله الا هو واعرض عن المشركين}.
      وفي ثالثة {وكذلك اوحينا اليك روحا من امرنا ما كنت تدري ما الكتاب ولا الايمان ولكن جعلناه نورا نهدي به من نشاء من عبادنا وانك لتهدي الى صراط مستقيم}.
      ثانيا: ان هذا الوحي بلاغ وليس فرض او اكراه، يقول عز وجل {فان حاجوك فقل اسلمت وجهي لله ومن اتبعن وقل للذين اوتوا الكتاب والاميين ااسلمتم فان اسلموا فقد اهتدوا وان تولوا فانما عليك البلاغ والله بصير بالعباد}.
      وفي آية اخرى {واطيعوا الله واطيعوا الرسول واحذروا فان توليتم فاعلموا انما على رسولنا البلاغ المبين}.
   وفي ثالثة {ما على الرسول الا البلاغ والله يعلم ما تبدون وما تكتمون}.
      ثالثا: ان هذا البلاغ مخير الانسان في قبوله او رفضه، وان الله تعالى جعل بيده حق الاختيار بعد ان اوضح له الطريق، يقول تعالى {انا خلقنا الانسان من نطفة امشاج نبتليه فجعلناه سميعا بصيرا، انا هديناه السبيل اما شاكرا واما كفورا}.
      رابعا: وان هذا الوحي يدعو الى صناعة امة واحدة، ليس فيها تمييز على اساس الجنس او الاثنية او اللون او اللغة، يقول تعالى {ان هذه امتكم امة واحدة وانا ربكم فاعبدون} وان التنوع من صميم خلقة الله تعالى وفطرته التي فطر الناس عليها، يقول تعالى {يا ايها الناس انا خلقناكم من ذكر وانثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا ان اكرمكم عند الله اتقاكم ان الله عليم خبير} وفي آية اخرى {ومن آياته خلق السماوات والارض واختلاف السنتكم والوانكم ان في ذلك لآيات للعالمين}.
      خامسا: وان هذا الوحي يبذل كل جهده من اجل تاسيس مبدا الاخوة بين المؤمنين، وليس التناحر والاختلاف والتمزق والتشتت، يقول تعالى {انما المؤمنون اخوة فاصلحوا بين اخويكم واتقوا الله لعلكم ترحمون}.
      سادسا: كما انه ينظم العلاقة بين الناس في الدولة الاسلامية على اساس الشورى وليس على اساس اغتصاب السلطة والوصول الى الحكم بالقوة والاكراه والعنف، يقول عز وجل {والذين استجابوا لربهم واقاموا الصلاة وامرهم شورى بينهم ومما رزقناهم ينفقون} وفي قوله تعالى {فبما رحمة من الله لنت لهم ولو كنت فظا غليظ القلب لانفضوا من حولك فاعف عنهم واستغفر لهم وشاورهم في الامر فاذا عزمت فتوكل على الله ان الله يحب المتوكلين}.
      سابعا: والشورى لا تستقيم قبل ان يؤسس هذا الوحي لمبدا الحرية التي هي اقدس قيمة في حياة الناس، بدءا من؛
      الف؛ حرية المعتقد، يقول تعالى {ولو شاء ربك لآمن من في الارض كلهم افانت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين} ويقول تعالى {لا اكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي فمن يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله فقد استمسك بالعروة الوثقى لا انفصام لها والله سميع عليم}.
      باء؛ حرية التعبير، يقول تعالى {الذين يستمعون القول فيتبعون احسنه اولئك الذين هداهم الله واولئك هم اولوا الالباب}، وفي قوله تعالى {الذين يبلغون رسالات الله ويخشونه ولا يخشون احدا الا الله وكفى بالله حسيبا}.
      جيم؛ حق الاختلاف، واحترام الراي والراي الاخر، يقول تعالى {قل من يرزقكم من السماوات والارض قل الله وانا او اياكم لعلى هدى او في ظلال مبين}.
      ثامنا: وكل ذلك من اجل ان يمنع الوحي الاستبداد، ومصادرة الحرية وحق الاختيار، يقول تعالى {يا قوم لكم الملك اليوم ظاهرين في الارض فمن ينصرنا من باس الله ان جاءنا قال فرعون ما اريكم الا ما ارى وما اهديكم الا سبيل الرشاد} وفي آية اخرى {قال آمنتم له قبل ان آذن لكم انه لكبيركم الذي علمكم السحر لاقطعن ايديكم وارجلكم من خلاف ولاصلبنكم في جذوع النخل ولتعلمن اينا اشد عذابا وابقى}.
      تاسعا: واخيرا وليس آخرا، فان هذا الوحي يؤسس لدولة المواطنة، اي الدولة المدنية وليست الدولة الدينية كما يتوهم كثيرون، من خلال تحديد المعايير المدنية في التفاضل والحقوق والامتيازات والخصوصيات، ولذلك نلحظ ان كل الايات التي تتحدث عن هذه المعايير تعمم خطابها الى كل الناس وليس لفئة دون اخرى، كما في الايات القرآنية الكريمة التالية:
      *{ان في خلق السماوات والارض واختلاف الليل والنهار والفلك التي تجري في البحر بما ينفع الناس وما انزل الله من السماء من ماء فاحيا به الارض بعد موتها وبث فيها من كل دابة وتصريف الرياح والسحاب المسخر بين السماء والارض لايات لقوم يعقلون}.
      *{ولا تجعلوا الله عرضة لايمانكم ان تبروا وتتقوا وتصلحوا بين الناس والله سميع عليم}.  
      *{ان الله يامركم ان تؤدوا الامانات الى اهلها واذا حكمتم بين الناس ان تحكموا بالعدل ان الله نعما يعضكم به ان الله كان سميعا بصيرا}.
      *{واخذهم الربا وقد نهوا عنه واكلهم اموال الناس بالباطل واعتدنا للكافرين منهم عذابا اليم}.  
      *{من اجل ذلك كتبنا على بني اسرائيل انه من قتل نفسا بغير نفس او فساد في الارض فكانما قتل الناس جميعا ومن احياها فكانما احيا الناس جميعا ولقد جاءهم رسلنا بالبينات ثم ان كثيرا منهم بعد ذلك في الارض لمسرفون}.
      *{والى مدين اخاهم شعيبا قال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من اله غيره قد جاءتكم بينة من ربكم فاوفوا الكيل والميزان ولا تبخسوا الناس اشياءهم ولا تفسدوا في الارض بعد اصلاحها ذلكم خير لكم ان كنتم مؤمنين}.
      *{يا ايها الناس انا خلقناكم من ذكر وانثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا ان اكرمكم عند الله اتقاكم ان الله عليم خبير}.    
      ولقد استوعب الرسول الكريم (ص) كل هذا الخلاف في حياته، بمقومات وادوات عديدة، الا انه تفجر في لحظة وفاته (ص) وبسبب خطورة الموقف والتهديد الجدي الذي كان يتعرض له الاسلام كدين، كما يتضح ذلك من قول الامام علي بن ابي طالب عليه السلام، في كتاب له الى اهل مصر مع مالك الاشتر لما ولاه امارتها {اما بعد فان الله سبحانه بعث محمدا (ص) نذيرا للعالمين، ومهيمنا على المرسلين، فلما مضى عليه السلام تنازع المسلمون الامر من بعده، فوالله ما كان يلقى في روعي، ولا يخطر ببالي، ان العرب تزعج هذا الامر من بعده (ص) عن اهل بيته، ولا انهم منحوه عني من بعده، فما راعني الا انثيال الناس على فلان يبايعونه، فامسكت يدي حتى رايت راجعة الناس قد رجعت عن الاسلام، يدعون الى محق دين محمد (ص) فخشيت ان لم انصر الاسلام واهله ان ارى فيه ثلما او هدما، تكون المصيبة به علي اعظم من فوت ولايتكم التي انما هي متاع ايام قلائل، يزول منها ما كان، كما يزول السراب، او كما يتقشع السحاب، فنهضت في تلك الاحداث حتى زاح الباطل وزهق، واطمان الدين وتنهنه}  بسبب من ذلك، آثر اهل البيت وعلى راسهم امير المؤمنين عليه السلام ان يسلك طريق المعارضة السياسية السلمية بعد ان القى الحجة على الامة، وهو ما يتبين ويتضح في اكثر من موقف وخطبة ورسالة له عليه السلام، ولعل من ابرزها قوله في خطبة قالها لما عزموا على بيعة عثمان {لقد علمتم اني احق الناس بها من غيري، ووالله لاسلمن ما سلمت امور المسلمين، ولم يكن فيها جور الا علي، بتشديد الياء وفتحها، خاصة، التماسا لاجر ذلك وفضله، وزهدا فيما تنافستموه من زخرفه وزبرجه}.
      وانما كان غضب امير المؤمنين حرصا على الدين وشفقة على المسلمين، وهو القائل {ولكني آسى ان يلي امر هذه الامة سفهاؤها وفجارها، فيتخذوا مال الله دولا، وعباده خولا، والصالحين حربا، والفاسقين حزبا، فان منهم الذي قد شرب فيكم الحرام، وجلد حدا في الاسلام، وان منهم من لم يسلم حتى رضخت له على الاسلام الرضائخ} او كما في قوله عليه السلام {وقد علمتم انه لا ينبغي ان يكون الوالي على الفروج والدماء والمغانم والاحكام وامامة المسلمين البخيل، فتكون في اموالهم نهمته، ولا الجاهل فيضلهم بجهله، ولا الجافي فيقطعهم بجفائه، ولا الحائف للدول فيتخذ قوما دون قوم، ولا المرتشي في الحكم فيذهب بالحقوق، ويقف بها دون المقاطع، ولا المعطل للسنة فيهلك الامة}.
      الا ان هذا الدور انتهى وفقد فاعليته عندما نزى على السلطة يزيد بن معاوية، فاستبدل الامام الحسين عليه السلام هذا الدور بدور آخر اكثر فاعلية وتاثيرا واقرب الى الله تعالى ومرضاته، واامن على سنة رسوله الكريم (ص) انه دور النهضة الشاملة التي تهدف الى التغيير الجذري، على الاقل من اجل صناعة هزة عنيفة في ضمير ونفوس وواقع الامة التي كادت ان تتخدر بالاعلام المضلل وتبيع دينها بدنيا غيرها بالمال الحرام وتستسلم للسلطان الجائر وتنحني لجبروته بقوة السيف.
      فالموقف عند ائمة اهل البيت يفرضه الواقع والمصلحة العليا وطبيعة الظروف، وليس اي شئ آخر، وهذا ما اشار اليه امير المؤمنين عليه السلام بقوله {ايها المؤمنون، انه من راى عدوانا يعمل به ومنكرا يدعى اليه، فانكره بقلبه فقد سلم وبرئ، ومن انكره بلسانه فقد اجر، وهو افضل من صاحبه، ومن انكره بالسيف لتكون كلمة الله هي العليا وكلمة الظالمين هي السفلى، فذلك الذي اصاب سبيل الهدى، وقام على الطريق، ونور، بتشديد النون وفتحها، في قلبه اليقين}.
      ان وصول حالة الانحراف الى نهايتها بوصول يزيد الى الحكم بنظام الوراثة، هو الذي اغلق كل ابواب التغيير بوجه السبط الشهيد ما عدا باب واحد هو باب الجهاد والنهضة الحقيقية، فلم يعد الكلام ينفع، كما لم تعد المعارضة السياسية والدبلوماسية تنفع، والى هذا المعنى اشار الامام الحسين السبط عليه السلام بقوله في خطبة قالها في مسيره الى العراق {ايها الناس، ان رسول الله (ص) قال؛ من راى منكم سلطانا جائرا مستحلا لحرام الله ناكثا لعهد الله مخالفا لسنة رسول الله يعمل في عباد الله بالاثم والعدوان، فلم يغير ما عليه من فعل ولا قول كان حقا على الله ان يدخله مدخله، الا وان هؤلاء، ويقصد سلطة بني امية، قد لزموا طاعة الشيطان وتركوا طاعة الرحمن واظهروا الفساد وعطلوا الحدود واستاثروا بالفئ واحلوا حرام الله وحرموا حلاله، وانا احق من غير}.
      وفي قوله {انا احق من غير} اشارة واضحة الى ما كان يمثله الامام عليه السلام في واقع الامة، اذ لم يعد غيره قادرا على التغيير والتصدي للانحراف، فمن اجل ان لا يدخل ما دخل فيه الطاغوت وحزبه وسلطته الجائرة، قرر الامام التحرك وانجاز المهمة وباي ثمن، الا الدين.
      ولو كانت الامة قد تعاملت بايجابية مع نهضة الحسين عليه السلام لما استمر الانحراف في حياة الامة الى اليوم، ولما راينا اليوم كيف ان زمرة من (المسلمين) اغتالت قيم الاسلام الحنيف ومبادئه السامية واهدافه الانسانية، وحرفت وفرقت وغيرت من اجل ان تطوع الاسلام بين يديها تسخره كيف تشاء من اجل تحقيق مصالحها الذاتية ومآربها المشبوهة، ولما راينا كيف ان هذه الزمرة اختطفت الاسلام لتدعي انها الممثلة الوحيدة لرسالته وان على الاخرين الانصياع الى ما تعتقد به او الفناء من خلال فتاوى التكفير التي اباحت بها دم الاخر وماله وعرضه، مستغلة الدين وقلاعه (المساجد) لغسل ادمغة المغفلين وتحويلهم الى قنابل تتفجر هنا وهناك لقتل الابرياء من الناس، تحت شعارات ومسميات مقدسة كالمقاومة والجهاد والاصلاح وما اشبه.
      ولقد اشار امير المؤمنين عليه السلام الى مثل هذا اليوم الذي نعيشه بقوله {وانه سيأتي عليكم من بعدي زمان ليس فيه شئ اخفى من الحق، ولا اظهر من الباطل، ولا اكثر من الكذب على الله ورسوله، وليس عند اهل ذلك الزمان سلعة ابور من الكتاب اذا تلي حق تلاوته، ولا انفق منه اذا حرف، بضم الحاء وتشديد الراء وكسرها، عن مواضعه، ولا في البلاد شئ انكر من المعروف، ولا اعرف من المنكر}.
      كما اشار الى ذلك بقوله عليه السلام {ياتي على الناس زمان لا يبقى فيهم من القرآن الا رسمه، ومن الاسلام الا اسمه، ومساجدهم يومئذ عامرة من البناء، خراب من الهدى، سكانها وعمارها شر اهل الارض، منهم تخرج الفتنة، واليهم تاوي الخطيئة، يردون من شذ عنها فيها، ويسوقون من تاخر عنها اليها، يقول الله سبحانه؛ فبي حلفت لابعثن على اولئك فتنة تترك الحليم فيها حيران، وقد فعل، ونحن نستقيل الله عثرة الغفلة}.
لماذا يخافون عاشوراء؟
      لماذا ترتعد فرائص البعض فرقا كلما مرت ذكرى عاشوراء؟.
      لماذا يخافون التاريخ؟ فيحاولون، مثلا، تغيير مسار الحديث كلما جرى عن مقطع مفصلي من مقاطعه الحساسة؟.
      لماذا لا يحاولون قراءة التاريخ بشكل سليم؟ فتراهم يشوهون ويغيرون ويحرفون ويزيفون الوقائع كلما مروا على قصص التاريخ واحداثه؟.
      يقولون ان (التاريخ) يفرق الامة ولا يجمع كلمتها.
      ويدعون بانه يثير الحساسيات والنعرات الطائفية وغيرها، ولذلك يتجنبونه باي شكل من الاشكال.
      ويدعون بان التاريخ سبب من اسباب تخلف الامة، وعامل من عوامل تقهقرها وعدم تقدمها او تطورها.
      انهم يقولون بان الامة التي تريد ان تتقدم، عليها ان لا تنظر الى الوراء، بل يجب عليها ان تنظر الى الامام فقط.
      ويقولون بان الامة التي تنشد، بتشديد الدال، الى الماضي لا تعيش الحاضر ولا تعرف معنى المستقبل.
      ويقولون، كذلك، بان الامة التي يأسرها الماضي تموت، ان عاجلا ام آجلا.
      فهل صحيح كل ذلك؟.
      ان الحديث عن التاريخ (الحاضر) امر ليس بالهين، ولذلك تعال معي، عزيزي القارئ، ندرس الامر خطوة فخطوة، بلا استعجال او تجني او تبسيط كما يفعل الكثير، ممن ينطلق من جهل او حقد او رد فعل.
      ولاننا ضربنا (عاشوراء) مثلا في عنوان المقال، لذلك دعني ابدا منه كما يلي في حوار هادئ، وان كانت القضية ساخنة جدا.
      اولا: هل صحيح ان (عاشوراء) تثير الطائفية والحقد والكراهية وروح الانتقام عند من يستذكرها كل عام وبهذا الشكل المهول الذي يثير انتباه العالم اجمع؟.
      الجواب: لا اعتقد ذلك ابدا، ودليلي هو الواقع الذي نعيشه كل عام في ذكرى عاشوراء، فنحن وغيرنا لم نسمع في يوم من الايام ابدا ان (شيعيا) طعن (سنيا) في موكب من مواكب العزاء، وهو في اشد حالات التفاعل والغضب على سيد شباب اهل الجنة، بحجة انه يتحمل مسؤولية قتل السبط، في محاولة منه لنصرته عليه السلام.
      كما لم نسمع ابدا ان عائلة (شيعية) اعتدت على جيرانها (السنة) في ايام عاشوراء، مندفعة الى ذلك بدافع الكراهية او روح الانتقام او ما اشبه، ابدا.
      بل العكس هو الصحيح، فنحن وكل العالم، نسمع في ايام الذكرى انباءا متكررة عن استهداف عشاق الحسين عليه السلام من قبل (الاخر) بالقتل والتفجير والذبح والاغتيال، ما يعني ان (الاخر) هو المشحون بالكراهية والحقد والبغضاء وروح الانتقام، والذي توارثه كابرا عن كابر.
      ان الذكرى تحمل لنا في كل عام صور التعايش السلمي والاستذكار المشترك، ليس بين الشيعة والسنة فحسب، وانما بين المسلمين وغيرهم من ابناء الملل والنحل.
      طائفة واحدة فقط هي التي لا تقدر على تحمل الذكرى، وتكرهها اشد الكراهية فتتمنى لو تموت ولا تراها في كل عام، الا وهم الامويون الذين يتجددون في كل عام مع تجدد الذكرى، فهؤلاء هم الذين يقتلون ويذبحون ويفجرون، ولذلك فان ضحاياهم من كل الملل والنحل، بالضبط كما كانوا ضحاياهم من كل الملل والنحل في عاشوراء في كربلاء عام 61 للهجرة، فكانت آخر جرائمهم محاولة تفجير (عمر) للطائرة المدنية فوق سماء ولاية ميشيغن الاميركية، والتي كانت تحمل على متنها عدد من الركاب جلهم من المسلمين.
      ان الذكرى لا تثير مثل هذه الروح في نفوس اهلها لسبب بسيط ومهم في آن، وهو ان اتباع مدرسة عاشوراء يعتبرون ان المسلمين على نوعين، الاول هم ضحايا الارهاب الاموي الذي لازال ممتدا الى اليوم، بصور واشكال شتى، وهؤلاء هم الشيعة، والثاني هم ضحايا التضليل الاموي والذي لازال ممتدا الى اليوم كذلك، بصور واشكال شتى، وهؤلاء هم غيرهم.
      انهم يعتقدون بان الارهابي الذي يفجر نفسه في مواكب العزاء ضحية التضليل الاعلامي الذي لازال يبذل كل ما في وسعه من اجل غسل ادمغة الناس من خلال التضليل وقلب الحقائق وتحريف الكلم عن مواضعها.
      انه ضحية التضليل قبل ان يصيب بحقده وكراهيته ضحايا ارهابه.
      ولو سنحت الفرصة لامثاله ان يعيدوا قراءة التاريخ بشكل صحيح وسليم لما غسلت دماغه ماكينة التضليل الاعلامي الطائفي الحاقد، ولغير، بتشديد الياء، من طريقة تفكيره.
      ولذلك بكى الحسين السبط عليه السلام قاتليه في العاشر من المحرم، فبينما كان هو ضحية الارهاب الاموي كان قاتلوه ضحايا التضليل الاموي، طبعا من دون ان يسقط، بضم الياء، هذا الموقف المسؤولية عنهم، ابدا.
      من هذا المنطلق تحديدا يسعى احرار العالم الى استذكار التاريخ الحقيقي والصحيح لعاشوراء في كل عام من اجل مساعدة امثال هؤلاء على اعادة قراءة التاريخ بشكل صحيح وسليم، وتاليا مساعدتهم على اخراجهم من فخ التضليل الذي نصبه لهم اعداء البشرية.
      ان عاشوراء رحمة للعالمين، ورحمة لامثال هؤلاء تحديدا، فلولا عاشوراء لبقي المسلمون مضللين لا يعرفون الحق من الباطل، ولا يميزون العدل من الظلم، ولذلك فان استذكار عاشوراء هو محاولة جادة من قبل (الحسينيين) لمثل هؤلاء لاعادة النظر في متبنياتهم وثوابتهم، ودعوة مخلصة لهم لمساعدتهم على قراءة (الدين) بشكل صحيح بعيدا عن التضليل والتزييف والخداع.
      والحمد لله فان هذا المسعى اثبت نجاحه بشكل كبير جدا، اذ ان هناك الالاف المؤلفة من (الاحرار) الذين يستجيبون له فيغيرون واقعهم ويبدلون طريقة تفكيرهم فينأون بانفسهم عن الارهاب، بعد ان يعيدوا النظر بكل ما يقرؤونه ويسمعونه من دجل وكذب وتضليل تمارسه اجهزة التضليل الاموي.
      ولقد اثبت الواقع ان عاشوراء سبب مهم من اسباب تقليص مساحة (الطائفية) البغيضة في الامة، ولذلك يستذكرها الاحرار كل عام، لتقريب وجهات النظر على اعتبارها مناسبة لقراءة التاريخ من جديد وللوقوف على حقائق الماضي بشكل سليم، وبعودة سريعة الى كتابات الاحرار، من غير اتباع مدرسة اهل البيت عليهم السلام، التي تتجدد كل عام في ذكرى عاشوراء، نلحظ متى تاثير الاستذكار في اعادة صياغة طريقة تفكيرهم.
      ثانيا: هل صحيح ان عاشوراء تفرق الامة؟ وتمزق وحدتها؟.
      الجواب: ابدا، ودليلي على ذلك هو الواقع المعاش كذلك، كيف؟.
      في هذا العام خاصة فان الامة اجتمعت على عاشوراء، في العراق تحديدا، مهد الذكرى، ليس المسلمون فقط وانما كل الاديان والطوائف والملل والنحل، فلقد سمع العالم قصص الوحدة والاتحاد بين العراقيين في عاشوراء هذا العام بما ادهشهم، وان كان الاعلام الاموي لم يتطرق الى مثل هذه الصور الوطنية الرائعة، لانها جاءت بعكس ما يتمنونه، فهم يتمنون ان تتحول عاشوراء الى مجازر دموية رهيبة كتلك التي شهدتها كربلاء في العاشر من المحرم عام 61 للهجرة.
     هذا من جانب، ومن جانب آخر، فلنفترض ان عاشوراء تفرق الامة، حسنا، فلماذا لا تتحد البلاد (العربية) على الاقل؟ هل فرقتها عاشوراء لنلوم الذكرى؟ ام ماذا؟.
      لماذا لم يتحد الفلسطينيون مثلا؟ لماذا تفرقوا الى طرائق قددا، وهم الذين يواجهون عدوا واحدا ويعيشون مصيرا واحدا؟ ام ان عاشوراء هي الاخرى فرقتهم ومزقتهم وذهبت بريحهم؟.
      ولماذا لم يتحد المصريون والجزائريون الذين ضحكت عليهم الامم بسبب لعبة كرة قدم فاز فيها فريق وخسر آخر؟ ام ان عاشوراء هي التي فرقت بينهم ومزقت اوصالهم؟.
      شخصيا، لم اسمع الرئيس المصري يتحدث عن كرامة المواطن المصري طوال عمري، بالرغم من الدنس الذي اصابه جراء التطبيع (العربي- الصهيوني) وبسبب تدني الحالة المعيشية التي يعيشها المصريون والتي ذهبت بكرامتهم، ولكنني سمعته يتحدث عنها بعيد احداث الشغب التي شهدتها الملاعب الرياضية، وكانه يريد القول بانه سينتزع كرامة المواطن المصري من المواطن الجزائري الذي انتهكها في الملاعب، لماذا؟ ألانه استذكر عاشوراء ام ماذا؟.
      لماذا لم يتحد المصريون والفلسطينيون؟ فتتمزق اوصالهم لدرجة ان المصريين يبنون جدارا عازلا وانفاقا وسواتر للفصل بينهم وبين الفلسطينيين؟ ألانهم يخافون ان تهب عليهم رياح عاشوراء من فلسطين؟ ام ماذا؟.
      ان عاشوراء لا يمكن ان تكون في يوم من الايام سببا لتمزيق الامة ابدا، بل على العكس من ذلك.
      انها عامل وحدة واتحاد، بامكانها ان تجمع الامة على الحق والحرية والخير والعمل الصالح، ضد الظلم والظالمين والعتاة المردة من الانظمة البوليسية الشمولية التي تحكم بلاد المسلمين بالحديد والنار، ولذلك يخشاها الحكام والظالمين.
      واذا كانت حقائق عاشوراء تثير حفيظة البعض، فان عليهم ان يلوموا مصادرهم التاريخية حصرا والتي نقلت الحدث بهذا الشكل المهيب، ولا ذنب على من يستذكرها ابدا.
      ثالثا: لماذا عاشوراء تحديدا؟.
      لانها من اكثر فصول التاريخ التي تفضحهم وتفضح سياساتهم ونهجهم، وتميط اللثام عن الحقائق المغيبة.
      ان المتتبع لهجمات (الاخر) على التاريخ وذكرياته، يلحظ انه يستهدف لون خاص من التاريخ وليس كل التاريخ، انه يستهدف بحملته الظالمة كل مقطع من التاريخ يهدد شرعيته ويطعن بسلطته ويوجه سهام النقد والتساؤل ضد ممارساته المنحرفة، وهل غير عاشوراء من يفعل بهم كل ذلك واكثر؟.
      انه يخشى التاريخ الذي يثير عقل الانسان فيدفع به الى التفكير الصحيح، ولكنه في نفس الوقت يطرب للتاريخ الذي يبرر له سلطته الغاشمة وطريقة وصوله الى الحكم بغير ارادة الامة، كان تكون بالوراثة مثلا او بالانقلاب العسكري او بالقتل والفتك وما اشبه، ولذلك ترى الفضائيات العربية تحديدا دون غيرها من الفضائيات، تعج بالمسلسلات التاريخية التي تواصل عملية التضليل للعقل الجمعي للامة، لتبرير الواقع المزري الذي تعيشه الشعوب المغلوب على امرها.
      ان نسبة كبيرة جدا من هذه المسلسلات التاريخية تصور حياة الظلم والترف واللهو والمجون والخلاعة والعدوان والتحلل التي عاشها (خلفاء) بني امية وبني العباس، وهي دعوة في اللاوعي للامة لتتقمص شخصية هذا النوع من التاريخ، ولقد تركت اثرها وللاسف، ولذلك نجد الامة تبرر ظلم الحكام وتصفق للصوص والمعتدين من زعماء وملوك ومن لف لفهم. 
      اننا نستذكر في عاشوراء صور الثبات على الحق ومقارعة الباطل والظلم، وصور الكرامة والحرية والرجولة والبطولة والايثار والمواساة، وكل قيم السماء ومناقب الاخلاق التي ضحى من اجلها الحسين السبط عليه السلام والثلة المؤمنة من اهل بيته والصفوة الطاهرة من اصحابه الميامين.
      اما الاخر، فلا يستذكر من التاريخ الا صور الف ليلة وليلة، وصور المجون والسكر والعربدة والخمرة والفساد والانحراف والظلم واقتتال العائلة الواحدة من اجل السلطة، وذبح الاب لابنه والاخ لاخيه من اجل السلطان.
      اننا نستذكر من التاريخ كل ما يساهم في صناعة رجولة الامة، اما الاخر فلا يستذكر من التاريخ الا كل ما يساهم في اذلال الامة واستحضار عوامل ابقاءها خاضعة خانعة متخلفة.
      انهم يكذبون عندما يقولون مالنا والتاريخ؟ ولا يصدقون عندما يدعوننا الى ترك الماضي وراء ظهورنا
   انهم مثلنا، يستذكرون التاريخ ويعشقون فصوله ويحنون الى الماضي، الا ان الفرق فيما بيننا وبينهم هو اننا نستحضر التاريخ السليم الذي ينتهي بنا الى حاضر افضل والى مستقبل واعد جديد، اما هم فلا يستذكرون الا التاريخ الذي يبرر سلطتهم الظالمة.
      بمعنى آخر، انهم يفرضون على الامة لون خاص من التاريخ، ذلك الذي يخدرها ولا يدعها تنتفض على واقعها المريض، ولذلك يخشون عاشوراء لانها فرصة الامة في ان تنفض عن نفسها وواقعها غبار الخضوع والخنوع والاستسلام.
      اتدرون لماذا يخشى الشرقيون عموما التاريخ، ولا يخشونه الغربيون؟.
      لان الشرقيين لا يريدون ان يعترفوا باخطاء الماضي، وفي نفس الوقت فانهم اعجز من ان يغيروا حقائقه، ولذلك لا يقدرون على استذكار حقائقه، فيعمدون الى استحضار المزيف منه فقط، لماذا؟ من اجل ان يظلل سلطانهم المنحرف بظلال الشرعية، اما الغربيون فيعترفون بالخطا التاريخي ويسعون الى اصلاحه، فهم لا يغمضون عيونهم عن التاريخ، ابدا، لان الانسان ابن تاريخه وهو نتاج ماضيه شاء ام ابى، ومهما كانت هويته، ولذلك فهم يستحضرون كل الماضي من اجل اصلاح الواقع على ضوئه اذا كان خطا او تكراره اذا كان صحيحا وسليما.
        اجزم، لو كانت عاشوراء حاضرة في واقع الامة، لما توارث الابناء السلطة من آبائهم، ولما حكم الامة ظالم وجبار ومستبد، ولما سكتت الامة على الضيم وهضم حقوقها وسحق كرامتها.
      لو كانت عاشوراء حاضرة في وعي الامة، لاقامت النظام السياسي الديمقراطي القائم على اساس ارادة الامة وحسن خيارها وحرية ابناءها على قاعدة {ان لم يكن لكم دين وكنتم لا تخافون المعاد، فكونوا احرارا في دنياكم}.
     ان نصف المجتمع العربي لا يقرا ولا يكتب، امي، لماذا؟ لان الحاكم اراد ذلك لرعيته، من اجل ان تبقى جاهلة لا تميز بين الناقة والجمل، على طريقة النهج الاموي الذي استحكم في الشام.
      لقد فرض معاوية، وبمساعدة فقهاء السوء، حصارا ثقافيا واعلاميا ومعرفيا على اهل الشام، فلم يكن لهم الحق في ان يختاروا ما يقراوه او يسمعوه الا بعد ان يمر على الرقابة ، فليس من حقهم ان يختاروا، فان السلطة الاموية هي التي تحملت هذه المسؤولية عنهم، فهي التي تختار لهم ماذا يحق لهم ان يقرأوا وماذا يحق لهم ان يسمعوا، لماذا؟ من اجل تجهيلهم والاستخفاف بعقولهم ليسهل على الحاكم حكمهم والتسلط عليهم واتخاذهم خولا، عبيد واماء.
      ولذلك فان سياسة التجهيل التي تمارسها الانظمة الحاكمة اليوم بحق الامة، هو من اجل تسهيل مهمة التسلط عليها، لان الامة الواعية لا يسهل على كائن من كان حكمها، ولذلك فانهم يخافون عاشوراء، لانها فرصة ثمينة لتوعية الامة ولايقاظها من سباتها وغفوتها، وهذا ما تخشاه الانظمة الجاهلية التي تحكم اليوم بلاد المسلمين والعرب خاصة.
      انها فرصة لاطلاع الامة على علوم اهل البيت عليهم السلام، والتي لو اطلعت عليها لغيرت عقليتهم وحياتهم وطريقة تفكريهم نحو الافضل، وكل هذا تخشاه السلطات ولذلك يحاربون عاشوراء تحديدا.
      لقد بذل الامويون جهود مضنية من اجل طمس علوم اهل البيت عليهم السلام، وتحديدا علوم امير المؤمنين علي بن ابي طالب عليه السلام، وكلنا قرا او سمع عن الجهود الكبيرة التي بذلها الطليق معاوية بن ابي سفيان من اجل اخفاء عهد امير المؤمنين عليه السلام الى مالك الاشتر.
      فعندما اغتال صاحب خراج القلزم، مالك الاشتر رضوان الله تعالى عليه، وهو في طريقه الى مصر عندما ولاه امير المؤمنين عليه السلام عليها، وذلك بتحريض من معاوية، ارسل الى الاخير كتابا طويلا وجده في متاع الاشتر، كما كان قد ارسل اليه عمرو بن العاص من قبل، كل ما وجده عند محمد بن ابي بكر رضوان الله تعالى عليه بعد اغتياله.
      فلما نظر معاوية في هذه الكتب جميعا وجد فيها علما غزيرا، فابدى اعجابه بها وحرص عليها، وبصفة خاصة عهد الامام الى الاشتر.
      فاقترح عليه الوليد بن عقبة ان يحرق هذه الكتب جميعا، فقال معاوية: مه (مهلا) لا راي لك، فقال الوليد: امن الراي ان يعلم الناس ان احاديث ابي تراب (يعني علي امير المؤمنين) عندك تتعلم منها؟ فقال معاوية: ويحك، اتامرني ان احرق علما مثل هذا؟ والله ما سمعت بعلم هو اجمع منه ولا احكم، فقال الوليد: ان كنت تعجب من علمه وقضائه فعلام قاتلته؟.
      فتانى معاوية ولم يبادر بالاجابة، وبعد ان اعمل فكره، قال للوليد ومن معه من الخلصاء: انا لا نقول ان هذه من كتب علي بن ابي طالب، ولكن نقول هذه من كتب ابي بكر الصديق، كانت عند ابنه محمد، فنحن ننظر فيها وناخذ منها.
      ان عاشوراء فرصة ذهبية لتوعية الامة بالحقيقة والحق والعدل والكرامة، كما انها فرصة لتعريف الامة بالطريقة الفضلى لاخذ حقها من الحاكم، خاصة اذا كان ظالما.
      كما ان عاشوراء فرصة ذهبية لاثارة روح التحدي في نفوس الامة، فلو كانت عاشوراء حاضرة في واقع الامة لما استطاعت اسرائيل ان تذلها وتقلقها وتستنزفها، ولما استطاعت ان تحول الانظمة الحاكمة في البلاد العربية، خاصة في مصر والاردن والسعودية، الى سواتر متقدمة لحمايتها من شباب الامة وطاقاتها الخلاقة.
      فلو سال شاب في مقتبل العمر احدنا عن ماهية عاشوراء، فماذا عساه ان يجيبه؟.  
      انه امام ثلاثة خيارات لا رابع لها، فاما ان يسكته في الحال ويمنعه من تكرار مثل هذه الاسئلة، بحجة انها اكبر من حجمه وعمره، وبذلك سيزرع في وعيه رد فعل لا يحمد عقباه، لانه سيظل يلح على السؤال حتى يعرف حقيقة الجواب.
      او انه يرد عليه بجواب كذب، سيكتشف حقيقته الشاب ان عاجلا ام آجلا، وبذلك سيسقط اعتبار الرجل في عينيه بعد حين.
      او يخبره بالحقيقة، وهذا هو الخيار الذي يختاره العقلاء، لان الحقيقة قد يحجبها التضليل فترة من الزمن، ولكن ليس للابد ابدا.
      وهذا هو ما يفعله الاحرار في كل عام، فلماذا تلوموهم؟. 
     رابعا: وهل صحيح ان عاشوراء فتنة؟ واذا كانت كذلك فلماذا نستذكرها اذن؟.
      الجواب، نعم ان عاشوراء فتنة، بل انها اعظم فتنة، ولذلك نستذكرها ونستحضرها في كل عام، بل وفي كل يوم.
      لقد ابتلانا الله تعالى بالتاريخ، وامتحننا بالماضي، ليميز منا العاقل من غيره، والواعي من غيره، ولذلك كرر القرآن الكريم قصص الامم الماضية مرات وكرات، وبطرق مختلفة وسور متعددة واساليب متنوعة، وكل ذلك من اجل ان يبتلي الانسان فيميز العاقل من غيره.
      حتى (الاخر) يعتبر ان التاريخ جزء من كيانه الحاضر وجزء لا يتجزا عن مستقبله، والا فلماذا يدرسون الطلاب مادة التاريخ في كل مراحل التعليم؟.
      ولماذا تكتض المكتبة العربية، مثلا، بكتب التاريخ؟.
      انهم لو يصدقون بدعواهم، فلماذا لا يحرقوا ويتلفوا كل كتب التاريخ فلا يبقوا لها اثرا؟.  
      على العكس من ذلك، فانهم يجددون طباعة كتب التاريخ كلما نفدت نسخها من المكتبات، لماذا؟ اوليس من اجل ان نقراها ونتادولها ونتحادث فيها، ام ماذا؟ ام تريدوننا ان نقرا التاريخ على طريقتطم السيئة التي خلاصتها ان سيدنا زيد قتل سيدنا عمرو وان المبشر بالجنة (أ) قتل المبشر بالجنة (ب).
      هل تريدوننا ان نستخف بعقولنا فنقرا التاريخ على طريقتكم؟ ام تريدوننا ان نقبل بكل التاريخ على علاته؟ ام تريدوننا ان نضحك على انفسنا وعلى عقولنا فنصدق بكل ما يقوله التاريخ وان كان متناقضا؟.
      ان من حقكم ان تضحكوا على انفسكم وعلى عقولكم، فهذا شانكم، اما نحن فلا نقبل بذلك ابدا، لاننا، وبكل بساطة، نحترم انفسنا ونحترم عقولنا ونحترم وعينا، ولا نقبل ان يضحك علينا وعلى عقولنا احد.
      انهم يكتبون التاريخ بالشكل الذي يستهويهم، وبالتفاصيل التي تخدمهم ويفسرونه بالمعنى الذي يخدم مآربهم ومشاريعهم السلطوية، ولكننا لسنا على استعداد لان ننصاع الى ما يريدونه منا.
      انهم يعرفون اهمية التاريخ ولذلك لا يقدرون على الغائه من حياة الامة، لان:
      الدين..تاريخ.
      والقرآن..تاريخ.
      والسنة..تاريخ.
      فكيف يمكن لاحد ان يلغي التاريخ من حياة الامة؟.
      ولانهم لا يقدرون على ذلك، تراهم احتالوا عليه، فما يخدمهم من التاريخ يضخمونه ويستحضرونه ليل نهار، اما التاريخ الذي يرعبهم ويطعن في شرعيتهم ويوجه سهام النقد والمساءلة لسياساتهم، فتراهم يتجاهلونه، واذا اضطروا له وتمكنوا منه حرفوه وغيروه وبدلوه، وهي الطريقة التي سار عليها الامويون منذ عهد معاوية بن ابي سفيان، الذي بذل الكثير من بيت مال المسلمين من اجل ان يضع له الوضاعون من وعاظ السلاطين وفقهاء البلاط الاحاديث المكذوبة عن رسول الله (ص) او على الاقل تحريفها وتغييرها وتبديلها، ولذلك فليس غريبا ان يتساءل اهل الشام عن علة مقتل (الخليفة الرابع) امير المؤمنين علي بن ابي طالب عليه السلام في محراب الصلاة وهو الذي لا يصلي؟ بقولهم متسائلين بدهشة غريبة عندما وصلهم خبر مقتل الامام في محراب الصلاة {اويصلي علي بن ابي طالب}؟.
      لا احد ينسى التاريخ، ولا احد يسعى لالغائه، بل ان كل انسان يحاول ان يستذكر التاريخ، ولكن كل بطريقته وعلى شاكلته، ولاغراضه، فبينما تستذكر طائفة من الناس التاريخ كدروس وعبر من اجل الاصلاح وتحقيق الاحسن وانجاز الافضل، نرى طائفة اخرى من الناس تستذكر التاريخ للطعن والتشويه والتزوير والتحريف، وتاليا لتجهيل الامة وتخديرها والاستخفاف بعقولها وبتفكيرها لتدجينها، خدمة لاغراضها السياسية الباطلة، كما هو حال الانظمة الشمولية التي تحكم شعوبها بالحديد والنار، الا انها في نفس الوقت تتلفع بالشرعية التي تستجديها من التاريخ المزيف.
      انهم يريدوننا ان ننسى التاريخ الذي يفضحهم فقط والذي يعري شرعيتهم، اما التاريخ المتحلل من اي التزام، والذي لا يؤثر عليهم بشئ ولا يعلم الناس درسا او عبرة، فلا باس به، وليكرره الناس ليل نهار، لانه تاريخ عديم الطعم واللون والرائحة.
      انهم يتعاملون مع التاريخ على طريقة ذاك الجنرال البريطاني الذي كان يسير في احد طرقات بغداد ايام الاحتلال البريطاني الاول للعراق في العام 1917 للميلاد، فسمع الاذان يصدع من احدى مآذن مساجد بغداد، فسال، ماذا يقول هذا الصوت؟ قيل له انه يؤذن فيقول الله اكبر الله اكبر، فرد قائلا: لم اقصد ذلك انما قصدت هل انه يتعرض لسياسات حكومة صاحب الجلالة ملك بريطانيا العظمى في العراق؟ فقيل له لا انه لم يفعل ذلك، فاجابهم: اذن دعوه وشانه.
      انهم يشجعون ويشيعون التاريخ الذي بلا معنى، وهم لا يتحاشون ولا يبتعدون الا عن التاريخ الذي يضع الامة على المحك، والذي يميز بين الحق والباطل ويفرق بين الصح والخطا.
      ماذا نفعل اذا كان تاريخنا بهذا الشكل، يخجل منه المرء، ولا يفتخر به عاقل؟ ماذا نفعل بالتاريخ الذي كتب لنا ان امة قتلت ابن بنت نبيها بعد نصف قرن من رحيله الى الملأ الاعلى؟ وهو (ص) الذي اوصاهم به خيرا بامر السماء الذي ورد في القران الكريم بقوله عز وجل {قل لا اسالكم عليه اجرا الا المودة في القربى}؟.
      ماذا نعمل بالتاريخ الذي نقل لنا تفاصيل الجريمة المروعة، وقال لنا بانها ارتكبت باسم الدين وباسم القران وباسم الخلافة الاسلامية؟.
      ماذا نفعل وقد اخبرنا التاريخ ان (خليفة المسلمين) السكير القاتل والمتحلل قتل السيد المحجبا سبط الرسول الكريم (ص) بتلك الصورة البشعة ثم حز اتباعه راس الشهيد ليحملوه معهم الى قصر الامارة لينكته (الخليفة) بمخصرته، وهو يقرا شعرا، قائلا:
                                            ليت اشياخـــي ببدر شهدوا            جزع الخزرج من وقع الاسل
                                            لاهلوا واستهلوا فرحــــــــا            ثم قالوا يا يزيد لا تشــــــــــل
                                            قد قتلنا القرم مـــن ساداتهم            وعدلناه ببدر فاعتـــــــــــــدل   
                                            لعبت هاشم بالملك فــــــــلا           خبر جاء ولا وحــــــــي نزل
                                            لست من خندف ان لم انتقم            من بني احمـــــد ما كان فعل
      ما يشير الى ان (خليفة المسلمين) لم يكن يعترف بوحي ولا نبوة ولا باليوم الآخر، فيما كان يحكم باسم الاسلام وباسم الرسول الكريم وباسم السماء.
      ان من يدعونا الى نسيان الماضي وترك التاريخ جانبا، هو من اكثر الناس الذين يستذكرون هذا التاريخ ولكن بطريقتهم الخاصة، فمثلا، اذا اخطا (شيعي) في اي مكان في هذا العالم تراهم يستذكرون كل التاريخ بغثه وسمينه، فتراهم يستحضرون عبد الله بن سبا وابو لؤلؤة وابن العلقمي، وغيرهم، وهو الامر الذي يتكرر كل يوم في الاعلام سواء في الفضائيات الطائفية او في مواقع الانترنيت او في الاذاعات او في غيرها من وسائل الاعلام الاخرى.
      فلماذا يحق لكم ان تستحضروا (التاريخ) وان كان مزيفا، ولا يحق لنا ذلك، وهو التاريخ الصحيح؟.
      والظريف في الامر، هو انهم جميعا يفعلون ذلك، سواء اكانوا (اسلاميين) او (علمانيين) فعند مثل هذه الامور تراهم جميعا (طائفيون) بامتياز، يجمعهم ويوحدهم الحقد الاموي على عاشوراء واهلها.
      حسنا، تعالوا الى كلمة سواء فيما بيننا وبينكم، فاذا اردتم ان ننسى الماضي ونترك التاريخ جانبا، فان عليكم اولا:
      حرق كل كتب التاريخ ومنها الصحاح وكل تراث ابن تيمية وشيوخه وتلامذته لانها كفرت اهل القبلة.
      حرق كل الافلام والوثائق والمسلسلات التاريخية، لانها تاريخ في تاريخ.
      حذف كل الايات القرانية التي تتحدث عن التاريخ وعن قصص الانبياء والامم، كما اراد ان يفعل ذلك الرئيس المصري المقبور انور السادات عندما دعا علماء الازهر الى حذف مثل هذه الايات خاصة التي تذكر اليهود بسوء وذلك بعد زيارته الى اسرائيل والقائه ذلك الخطاب (التاريخي) المذل في الكنيست الاسرائيلي، بحجة ان مثل هذه الايات لا تساعد العرب على تحقيق التطبيع مع ابناء عمومتهم اليهود.
      الغاء مادة التاريخ من المدارس، والغاء قسم التاريخ من جميع كليات الحقوق وامثالها في كل الجامعات.
      كذلك، عليكم ان تبادروا الى الغاء كل النصوص التاريخية التي لا تساعد في تهدئة الاوضاع العالمية وتحقيق السلام العالمي، فلا تتحدثون من الان فصاعدا عن شئ اسمه وعد بلفور، فتقولوا بانه القاعدة التاريخية التي انتهت بقيام اسرائيل، ولا تتحدثوا عن صلاح الدين الايوبي، لانه تاريخ يثير الفتنة بين عرب فلسطين ويهودها، وعليكم ان تقبلوا من الاميركيين طريقتكم (المثلى) لحل مشكلة الشرق الاوسط واعني بها (القضية الفلسطينية) والتي تقوم على اساس الامر الواقع، من دون الاخذ بنظر الاعتبار البعد التاريخي لهذه القضية، فلا تقولوا للاميركان بانكم لا تقدروا على استيعاب اي حل لا ياخذ بنظر الاعتبار البعد التاريخي لها.
      ولا تطالبوا باعادة الفلسطينيين المهجرين الى بلادهم، لان هذا من التاريخ.
      ولا تطالبوا بتحرير الارض العربية التي وهبها (ابطال) الامة الى اليهود في اسرائيل بعد حروب استعراضية، لان ذلك من التاريخ.
      اخيرا، عليكم ان تنسوا الطاغية الذليل صدام حسين، زميلكم التاريخي، وتقبلوا بالامر الواقع الذي يعيشه العراق اليوم، فلا تقولوا نريد ان نعود الى الماضي لاننا لا يمكن ان نتجاوز عما حصل للنظام البائد، فتظلوا تقتلوا العراقيين وتفجروهم وتدمرون البنى التحتية بحجة السعي للعودة بالعراق الى تاريخ عريق حكمت فيه الاقلية طوال اكثر من الف عام.
      فهل ستقبلون بكل ذلك؟ بالتاكيد لا، لان كل هذا لا يهمكم بشئ، انما الذي يهمكم هو عاشوراء فحسب، ولكن هيهات.
      اخيرا:
      دعوني اقول لكم ما يلي:  
      ان التاريخ، وحدة واحدة لا يمكن تجزئتها، انما يمكن فقط تمحيصه، وهذا الامر لا يمكن ان يتحقق الا اذا خلعنا عن انفسنا ثوب التعصب واعترفنا بالحقائق، اما الخلط والقبول بالغث والسمين، او محاولة البعض في التزوير والتحريف، فهذا ما لا يقبله عاقل.
      اعرف ان ذلك شئ صعب جدا، لانه سيمس بالكثير من الثوابت ويطعن بالمقدسات، كونه سيميط اللثام عن حقيقة هذا الرمز او تلك المفردة المقدسة، ولكنه الطريق الاسلم والصحيح ولا طريق غيره، فلا تتعبوا انفسكم، فاذا كنتم لا تقبلون برفض خزعبلات التاريخ، فكيف تريدوننا ان نرفض حقائقه؟ خاصة ما يتعلق باهل بيت رسول الله (ص) الذين اذهب الله تعالى عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا، بنص الاية المباركة {انما يريد الله ليذهب عنكم الرجس اهل البيت ويطهركم تطهيرا}؟.
      ان عاشوراء من اشد مقاطع التاريخ التصاقا بواقع الامة في كل آن، ومن اكثرها تاثيرا عليه، ولذلك خلدتها السماء بالمعجزة، كما خلد القران الكريم قصة قابيل وهابيل، لماذا؟ لانهما قصة الصراع الازلي بين الحق والباطل، بين الظالم والمظلوم، ولذلك خلدت عاشوراء مهما تجدد الزمن، والى هذا المعنى يشير الشاعر بقوله:
                                          كذب الموت فالحسين مخلد        كلما اخلق الزمان تجـــدد
      ان عاشوراء معجزة، فلا تستعدوها، فلقد حاول ذلك من كان قبلكم، فماذا حصدوا غير الخسران المبين في الدنيا والاخرة، ولكم في الطاغية الذليل خير عبرة، فهل من معتبر؟.
      اولم يعلمكم التاريخ ان عاشوراء تزداد القا وشعاعا وانتشارا وتاثيرا في العالم، كلما نصب لها الطغاة عداءا؟ وذلك هو المصداق الواضح لقول عقيلة الهاشميين زينب الكبرى بنت امير المؤمنين علي بن ابي طالب عليهم السلام، تحدث فيه ابن اخيها الامام السجاد علي بن الحسين بن علي بن ابي طالب زين العابدين عليهم السلام {ينصبون لهذا الطف علما لقبر ابيك سيد الشهداء، لا يدرس اثره، ولا يمحى رسمه، على كرور الليالي والايام، وليجتهدن ائمة الكفر واتباع الضلال في محوه وتطميسه، فلا يزداد اثره الا ظهورا وامره الا علوا}.
      فلكم جميعا اقول:
      اما ان تقولوا خيرا في عاشوراء او دعوه لاهله والا {فكد كيدك واسع سعيك وناصب جهدك فوالله لا تمحو ذكرنا ولا تميت وحينا ولا يرحض عنك عارها، وهل رايك الا فند وايامك الا عدد وجمعك الا بدد، يوم ينادي المنادي، الا لعنة الله على الظالمين}.
      اذا اردتم ان لا تساهموا في توسيع رقعة الذكرى في العالم، فاوقفوا حربكم الضروس ضد العاشورائيين.
عاشوراء..لحكومة مدنية
      بناءا على بيعة المسلمين والمؤمنين له في حاضرة البلاد الاسلامية آنذاك، الكوفة، قرر الامام السبط الحسين بن علي بن ابي طالب عليهم السلام، ان يترك مكة المكرمة ومدينة جده رسول الله (ص) المدينة المنورة، مهاجرا الى العراق، من اجل اسقاط النظام الاموي الذي ابدع في الاسلام اخطر بدعة سياسية عندما ورث الطليق معاوية بن ابي سفيان بن هند آكلة الاكباد، السلطة، لابنه ابن الطليق يزيد، الفاسق الفاجر شارب الخمر قاتل النفس المحترمة، ليتحول النظام السياسي في ظل هذه العملية الوراثية الى ملك عضوض استمر قرون طويلة، ولحد الان في عدد من البلاد العربية والاسلامية.
      وبسبب ظروف معقدة، سياسية واجتماعية واخلاقية وامنية، انقلب الموقف ضد خطط الامام الحسين عليه السلام، لينتهي به المطاف الى ارض كربلاء ليقتل هناك مع الثلة المؤمنة من اهل بيته واصحابه الميامين، في اليوم العاشر من المحرم عام 61 للهجرة،  وبتلك الطريقة البشعة التي نفذها الحكم الاموي وعصاباته ليظهر بها حقده الدفين على الاسلام ورسوله واهل بيته الذين اذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا.
      السؤال الذي يشخص هنا، ونحن نعيش ذكرى ملحمة الطف الخالدة:
      ماذا لو لم تنقلب الامور على الحسين السبط؟ بمعنى آخر، ماذا لو كان الامام قد وصل الكوفة فاتحا، وقد التف الناس حوله وبايعوه كخليفة مفترض الطاعة، بعد ان يخلعوا عن رقابهم بيعة يزيد، والتي كانوا قد اجبروا عليها فاعطوها بالاكراه وبالترغيب والترهيب وبالتضليل والغش والخداع؟.
      للاجابة على هذا السؤال، يلزمنا العودة الى وصية الامام الحسين عليه السلام والتي تركها عند اخيه محمد بن الحنفية، والتي يقول فيها:
         بسم الله الرحمن الرحيم، هذا ما اوصى به الحسين بن علي بن ابي طالب الى اخيه محمد المعروف بابن الحنفية، ان الحسين يشهد ان لا اله الا الله وحده لا شريك له وان محمدا عبده ورسوله، جاء بالحق من عند الحق، وان الجنة والنار حق، وان الساعة آتية لا ريب فيها، وان الله يبعث من في القبور، واني لم اخرج اشرا ولا بطرا ولا مفسدا ولا ظالما وانما خرجت لطلب الاصلاح  في امة جدي (ص) اريد ان آمر بالمعروف وانهى عن المنكر، واسير بسيرة جدي وابي علي بن ابي طالب، فمن قبلني بقبول الحق فالله اولى بالحق، ومن رد علي هذا اصبر حتى يقضي الله بيني وبين القوم بالحق، وهو خير الحاكمين، وهذه وصيتي يا اخي اليك وما توفيقي الا بالله عليه توكلت واليه انيب.
      من هذا النص، يمكن ان نقرا ملامح الحكومة التي كان سيؤسسها الحسين السبط في الكوفة اولا وفي عموم بلاد المسلمين ثانيا.
      الف: انها حكومة لكل المواطنين، مدنية، ليس فيها اي تمييز بين مسلم وغير مسلم او بين عربي وغير عربي، او بين رجل وامراة، والدليل على ذلك هو ان حركة الامام عليه السلام كانت قد التحقت بها كل اصناف وشرائح المجتمع من دون تمييز، وتلك هي ميزة الحكومة التي اقامها جده رسول الله (ص) وابيه امير المؤمنين (ع) والتي وعد الحسين السبط في وصيته ان يسير على نهجهما.
      ان حركة الحسين السبط وثورته، مدنية، ولذلك فهي لكل الناس وليس لفئة دون اخرى، ولهذا السبب كان يوجه نداءاته الى الناس كافة، وليس الى فئة معينة، فيقول {ايها الناس، ان رسول الله (ص) قال....} و {اما بعد ايها الناس، فانكم ان تتقوا الله...} ولذلك، فلو كان الامام قد اقام حكومته لكانت مدنية كحركته، للناس كافة، لماذا؟ لان اهدافه انسانية وليست (دينية) بالمعنى الضيق للكلمة، كما يفهمها البعض.
      يقول امير المؤمنين عليه السلام في عهده الى مالك الاشتر عندما ولاه مصر {واشعر قلبك الرحمة للرعية، والمحبة لهم، واللطف بهم، ولا تكونن عليهم سبعا ضاريا تغتنم اكلهم، فانهم صنفان: اما اخ لك في الدين، او نظير لك في الخلق}.
      ولقد لخص امير المؤمنين عليه السلام فلسفة السلطة ومعناها بكلمة (الانصاف) والتي قال انها يجب ان تشمل كل الناس لتكون الحكومة صالحة وعادلة، وليس لصالح فئة دون اخرى، فيقول في عهده المذكور {انصف الله وانصف الناس من نفسك، ومن خاصة اهلك، ومن لك فيه هوى من رعيتك، فانك الا تفعل تظلم ومن ظلم عباد الله كان الله خصمه دون عباده، ومن خاصمه الله ادحض حجته، وكان لله حربا حتى ينزع او يتوب، وليس شئ ادعى الى تغيير نعمة الله وتعجيل نقمته من اقامة على ظلم، فان الله سميع دعوة المضطهدين، وهو للظالمين بالمرصاد}.
      ولقد اجاز امير المؤمنين عليه السلام للمرء ان يموت كمدا لان امراة مسلمة واخرى معاهدة، غير مسلمة، تعرضتا للظلم والعدوان في ظل حكومته، فيقول عليه السلام {ولقد بلغني ان الرجل منهم، من الذين اغاروا على الحدود واعتدوا على حقوق الناس، كان يدخل على المراة المسلمة، والاخرى المعاهدة، فينتزع حجلها وقلبها وقلائدها ورعثها، ما تمتنع منه الا بالاسترجاع والاسترحام، ثم انصرفوا وافرين، ما نال رجلا منهم كلم، ولا اريق لهم دم، فلو ان امرءا مسلما مات من بعد هذا اسفا ما كان به ملوما، بل كان به عندي جديرا} لان السلطة في الاسلام مسؤولة عن دم المواطن وعرضه وحياته وماله، فاذا فشلت في الحفاظ على كل ذلك، لم تكن جديرة بالاستمرار ابدا، فلا معنى للحكومة اذا فشلت في صيانة دم المواطنين واموالهم واعراضهم وحقوقهم. 
     باء: انها حكومة خالية من الفساد، وبكل اشكاله، فليس فيها فساد مالي كما انها تخلو من الفساد الاداري، لانها ستكون على غرار حكومة جده وابيه، فلا اثرة ولا تقديم للمفضول على الفاضل، ولا محاباة في تحمل المسؤوليات وشغل المواقع، كما انها حكومة لا يمد احد فيها يده على بيت المال بالحرام لان المال هو مال الله تعالى والناس عباده، فالعطاء يقسم بينهم بالتساوي وبلا تمييز.
      كذلك، فان حكومته عليه السلام خالية من الرشوة، التي يتعاطاها اليوم كثيرون وباسماء ومسميات مختلفة منها (الهدية) وغير ذلك، والرشوة في قاموس الامام، هي بالمعنى الذي نقله ابيه امير المؤمنين (ع) عن جده رسول الله (ص) بقوله {من استعملناه على عمل فرزقناه رزقا (راتبا) فاخذ اكثر من رزقه فهو غلول (رشوة)}.
      لقد حذر رسول الله (ص) عبادة بن الصامت من الرشوة حين جعله اميرا على الصدقات في بعض الامصار، فقال له:
      اتق الله، لا تاتي يوم القيامة ببعير تحمله له رغاء، او ببقرة لها خوار، او شاة لها ثؤاج، وهو صوت الشاة.
      واذا كان المرتشي ببقرة او بعير او شاة سيحمل ما ارتشى به على راسه يوم القيامة، فما بالك بمن يرتشي بعقار او اراضي او ضيعة او باكداس الذهب والفضة او بنسبة من مناقصات المشاريع؟.
      ان الفساد يبدا من راس السلطة قبل ان يستشري في مفاصل الدولة، ولذلك فان الحكومة العادلة تراقب نفسها قبل ان يراقبها المجتمع، من اجل قطع دابر المفسدين فور وقوع الفساد، فهذا امير المؤمنين عليه السلام رفض ان يعطي اخيه عقيلا صاعا من بر المسلمين، بضم الباء وهو القمح، لانه ان فعل هو ذلك، فما بال المسؤولين الاخرين في الدولة واجهزتها التنفيذية؟ وهم الذين يراقبون تصرفات اعلى مسؤول في الدولة، فاذا وجدوه لصا سارقا، كانوا مثله، واذا خبروه امينا على مال الناس، حريصا على حفظ حقوقهم تقمصوا شخصيته.
      يقول امير المؤمنين عليه السلام يصف الحالة بقوله {والله لقد رايت عقيلا وقد املق حتى استماحني من بركم صاعا، ورايت صبيانه شعث الشعور، غبر الالوان، من فقرهم، كانما سودت وجوههم بالعظلم، وعاودني مؤكدا، وكرر علي القول مرددا، فاصغيت اليه سمعي، فظن اني ابيعه ديني، واتبع قياده مفارقا طريقتي، فاحميت له حديدة، ثم ادنيتها من جسمه ليعتبر به، فضج ضجيج ذي دنف من المها، وكاد ان يحترق من ميسمها، فقلت له: ثكلتك الثواكل، يا عقيل، اتئن من حديدة احماها انسانها للعبه، وتجرني الى نار سجرها جبارها لغضبه؟ اتئن من الاذى ولا ائن من لظى}.
      وقد يتسائل المرء، ما قيمة الصاع لو ان امير المؤمنين عليه السلام قد تصدق به على اخيه؟ سرا من دون ان يعلم احد من المسلمين؟ اولم يوصي الله تعالى بالقربى حسنا؟.
      ابدا، فالسرقة لا تقاس بالحجم وانما بالفعل، صغرت ام كبرت، وان من يتجرا اليوم على سرقة فلس، بالسر، سيتجرا غدا على سرقة قنطار من ذهب، بالعلن، وهذا هو معنى الامانة عند امير المؤمنين عليه السلام، فهي لا تقاس بالكم او بالعدد وانما بما هي بنفسها، وان من يشرعن سرقته وعدوانه على حق الناس بآية او رواية، انما يخدع نفسه، اما الله تعالى فلا يخدع عن جنته ابدا، كما ان الناس لا يخدعون بمثل هذه التنظيرات التافهة، والحجج المكشوفة والمفضوحة. 
      جيم: حكومة لا معنى فيها للظلم، فلا الحاكم يظلم الرعية ولا الرعية تظلم الحاكم، ولا الفقير يظلم الغني ولا الغني يظلم الفقير، ولا الرجل يظلم المراة ولا المراة تظلم الرجل، ولا الصغير يظلم الكبير ولا الكبير يظلم الصغير.
      حكومة، يكون فيها القانون فوق الجميع وبلا تمييز بين حاكم ومحكوم، او بين غني وفقير، فالعدل لا يستقيم مع التمييز ابدا، والانصاف لا يتحقق الا اذا خضع الجميع للقانون.
      لقد شكا يهودي عليا الى عمر، فقال لعلي: ساو خصمك يا ابا الحسن، فوقف علي الى جوار اليهودي اما عمر، وعندما قضى الاخير وانصرف اليهودي، قال عمر: اكرهت يا علي ان تساوي خصمك؟ قال: لا، بل كرهت ان تميزني عنه فتناديني بكنيتي (ابو الحسن).
      ان تمييز الحاكم نفسه وعشيرته واقاربه ورفاق حزبه عن الاخرين اما القانون، اعظم مفسدة في الدولة، فالقانون الذي يجري على الضعيف ولا يجري على القوي المحمي يفسد المجتمع اكثر مما يصلح، ولذلك سعى رسول الله (ص) وامير المؤمنين عليه السلام الى بذل كل ما بوسعهما من اجل ان لا يشعر الضعيف في ظل حكومتهم بانه هدف سهل للقانون، وان الاخر القوي لا يصطاده القانون لانه محمي برئيس الحكومة او بوزير من وزرائه.
      لقد كتب امير المؤمنين عليه السلام مرة الى بعض عماله بشان مخالفات قانونية كانوا قد ارتكبوها، فختم كتابه بقوله عليه السلام {فاتق الله واردد الى هؤلاء القوم اموالهم، فانك ان لم تفعل ثم مكنني الله منك لاعذرن الى الله فيك، ولاضربنك بسيفي الذي ما ضربت به احدا الا دخل النار، ووالله لو ان الحسن والحسين فعلا مثل الذي فعلت، ما كانت لهما عندي هوادة، ولا ظفرا مني بارادة، حتى آخذ الحق منهما، وازيح الباطل عن مظلمتهما} حتى لا يظن احدا ان الامام ياخذ على يد الظالم بقوة القانون اذا كان بعيدا ويتساهل معه او يغض الطرف عنه اذا كان قريبا، ابنه مثلا، ابدا.
      ولقد قال رسول الله (ص) مرة يصف سبب هلاك الامم السالفة بقوله {ايها الناس، انما أهلك الذين قبلكم انهم كانوا اذا سرق فيهم الشريف، القوي المدعوم صاحب الجاه، تركوه، واذا سرق فيهم الضغيف اقاموا عليه الحد}.
      انه اليوم حالنا في البلاد العربية والاسلامية، ولذلك غاب القانون ويئس الضعيف من العدل، وتبختر القوي بظلمه وتجاوزه على حقوق الاخرين، خاصة اذا كان من الحزب الحاكم او من العائلة المالكة. 
      دال: وفي هذه الحكومة، يكون الاصلاح هو السمة العامة في المجتمع، ان على الصعيد الاجتماعي او الاقتصادي او السياسي او الامني او على اي صعيد آخر، فالعدل لا ينبت الا في بيئة صالحة، والاستقرار لا يتحقق الا في مجتمع صالح خال من التمييز، والامن لا يستشعره المواطن الا في اجواء الصلاح والاصلاح، والتنمية لا تتحقق الا على ارضية صالحة، لان الفساد يفسد الحياة، فتتحول الى موت بطئ.
      لقد لخص القران الكريم مهمة الانبياء بالاصلاح وذلك في قوله عز وجل على لسان نبي الله هود عليه السلام {قال يا قوم ارايتم ان كنت على بينة من ربي ورزقني منه رزقا حسنا وما اريد ان اخالفكم الى ما انهاكم عنه ان اريد الا الاصلاح ما استطعت وما توفيقي الا بالله عليه توكلت واليه انيب}.
      وان اول ما يجب اصلاحه هو الثقافة والفكر عندما تصاب الامة بالانحرافات الفكرية والثقافية التي تنتهي بسكوتها عن الظلم والحبف، فتتحول الى قطيع في حضرة الحاكم تصفق له على اي حال، وتستجدي منه الفضل من موائد اللئام.
      واذا تم اصلاح الفكر والثقافة، وتسلحت الامة بكل ما ينشط عقلها ويحسن من طريقة تفكيرها، ستصلح كنتيجة لذلك النظام السياسي، الذي اذا فسد وانحرف، انتج حياة تنتشر فيها كل سموم الانحراف والتخلف والتبعية والتقهقر.
      كما يجب، بعد ذلك، اصلاح نظم التعليم والصحة والبيئة والتربية والمرور، وكل ما يشكل عامل من عوامل تقدم الامة وازدهار حضارتها.
     هاء: كما ان الامر بالمعروف والنهي عن المنكر سيكون من سمات هذه الحكومة، هذا المبدا الذي يعني المشاركة الحقيقية والواقعية في الشان العام، بما يضمن للجميع حق المشاركة في العملية السياسية وفي الحركة الاقتصادية والتجارية الجارية في البلاد، من دون ان تحتكر ثلة من الناس مقاليد الامور وعلى مختلف المستويات، فيما يتم اقصاء الاخرين عن امكانيات الدولة، ما يصنع حالة مرفوضة من الاحتكار وتاليا الطبقية التي تسبب في كل توتر سياسي واجتماعي يمكن ان يشهده البلد.
      ولقد دعا القران الكريم الناس الى صناعة امة تامر بالمعروف وتنهى عن المنكر، وذلك في قوله عز وجل {ولتكن منكم امة يدعون الى الخير ويامرون بالمعروف وينهون عن المنكر واولئك هم المفلحون} لان مصدر قوة المجتمع، اي مجتمع، هو حضور مبدا المشاركة في الحياة العامة، والذي لا يمكن تحقيقه الا بتفعيل مبدا المسؤولية التضامنية بين ابناء كل المجتمع من دون تسلح شريحة منه بفكرة الهروب من المسؤولية واللاابالية، لان مثل هذه الفكرة تشل الانسان في المجتمع، وبالتالي تشل طاقته التي يمكن ان تكون عاملا مساعدا في بناء الامة.
      ولذلك كله، ربط القران الكريم فكرة الامر بالمعروف والنهي عن المنكر بقيم الايمان والخير والمعروف والاصلاح، كما في قوله تعالى في:
     {يؤمنون بالله واليوم الاخر ويامرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويسارعون في الخيرات واولئك من الصالحين}.
   ولقد وصف امير المؤمنين علي السلام الامر بالمعروف والنهي عن المنكر بقوله {وان الامر بالمعروف والنهي عن المنكر لخلقان من خلق الله سبحانه}.
      كما انه عليه السلام عزا سبب لعن الله تعالى للقرون الماضية بسبب تركهم لهذا المبدا، فيقول {فان الله سبحانه لم يلعن القرن الماضي بين ايديكم الا لتركهم الامر بالمعروف والنهي عن المنكر، فلعن الله السفهاء لركوب المعاصي والحلماء لترك التناهي}.
      وليس المقصود بالامر بالمعروف والنهي عن المنكر، نهي شارب الخمر مثلا او المرأة التي تظهر خصلة من شعرها، فان ذلك تشويه للمبدا العظيم، انما المقصود به قبل هذا وذاك، ما يتعلق بالامة وشانها العام، وعلى راس ذلك النظام السياسي، فلماذا ترانا نستذكر كل آيات التهديد والوعيد لنقذفها بوجه المراة اذا ما اظهرت خصلة من شعرها او بعض زينتها، ولا ننبس ببنت شفة ونصمت صمت اهل القبور ونحن ننظر الى الحاكم يسرق اموال الناس ويعتدي على حقوق المواطنين ويفسد في الارض ويرتشي ويكمم الافواه ويصادر الحريات ويزج بالابرياء في السجون والمعتقلات ويطارد الشرفاء ويمنع المفكرين والمثقفين الاحرار من ابداء رايهم؟ اوليس كل ذلك اخطر على الامة من خصلة شعر المراة وزينتها؟ فاين الامر بالمعروف والنهي عن المنكر من كل هذا؟.
      للاسف الشديد، فلقد تشبثت الامة بالامر والنهي (الفردي) وتركت الامر والنهي (الاجتماعي) فكان الذي نراه اليوم من حال الامة المتخلف وعلى كل الاصعدة.
      لقد استهدف الحسين السبط عليه السلام في حركته ونهضته المباركة، الامر بالمعروف والنهي عن المنكر (سياسيا) اولا وقبل اي شئ آخر، عندما نزا على السلطة بغير حق حاكم فاسق فاجر ظالم يعمل في عباد الله بالظلم والعدوان، ابن الطلقاء يزيد، لان مثل هذا المنكر اخطر من اي منكر فردي آخر. 
      واو: ولان الحسين السبط وعد بان يسير بسيرة جده وابيه في الحكم، لذلك فانه كان سيدعو الناس للبيعة العامة اولا وقبل ان يتخذ اية خطوة اخرى، لان شرعية السلطة في نظر الاسلام لا تستقيم الا برضى الناس، ولذلك دعا رسول الله (ص) الناس الى البيعة في اكثر من مرة لتوكيد شرعية سلطته الدنيوية، كما ان امير المؤمنين عليه السلام رفض السلطة قبل بيعة الناس له بيعة عامة، بالاضافة الى ان الحسن السبط هو الاخر رفض السلطة، قبل ان تؤول الى معاوية، قبل البيعة العامة التي دعا اليها في المسجد الجامع، مسجد الكوفة آنئذ.
      وان من بين الاسباب التي دعت الحسين السبط للذهاب الى الكوفة دون سواها من الامصار، هو ان جل الصحابة من المهاجرين والانصار وكذلك عدد كبير جدا من التابعين كانوا لازالوا يقيمون فيها بعد هجرتهم اليها مع ابيه امير المؤمنين عليه السلام الذي اتخذها عاصمة لخلافته، ولقد كانت البيعة آنئذ تستقيم اذا ما اخذها الحاكم منهم ليحتج بها على من سواهم من المسلمين، والى هذا المعنى اشار امير المؤمنين عليه السلام محاججا معاوية بن ابي سفيان عندما تمرد عليه بعد البيعة الاستثنائية التي اعطاها له كل المهاجرين والانصار باستثناء اثنين او ثلاثة.
      يقول عليه السلام في كتاب له الى معاوية المتمرد على السلطة الشرعية:
      انه بايعني القوم الذين بايعوا ابا بكر وعمر وعثمان على ما بايعوهم عليه، فلم يكن للشاهد ان يختار، ولا للغائب ان يرد، وانما الشورى للمهاجرين والانصار، فان اجتمعوا على رجل وسموه اماما كان ذلك لله رضى، فان خرج عن امرهم خارج بطعن او بدعة، ردوه الى ما خرج منه، فان ابى قاتلوه على اتباعه غير سبيل المؤمنين، وولاه الله ما تولى.
         فلو كان الحسين السبط عليه السلام قد وصل الكوفة سالما، لفعل الامر ذاته، اذ كان اولا قد دعا الناس الى البيعة العامة، لتوكيد شرعية سلطته الجديدة، طبعا من دون ان يكره احد عليها او يغصب احد عليها، لان الماخوذ غصبا لا اعتبار شرعيا له، في نظر الاسلام، وفي سيرة رسول الله (ص) وامير المؤمنين (ع).
      زاء: وفي حكومته عليه السلام، لا يذل مواطن لاي سبب كان، فمأكله وملبسه ومركبه وعمله وحياته المعيشية مضمونة وشانه، فلا فقير يستجدي ولا ضعيف يرمى على قارعة الطريق، ولا عجوز تسحقه قسوة الحياة عند هرمه، ولذلك رفض الحسين السبط الذلة، لتتحول العزة والكرامة الى ناموس اجتماعي يتحسسه ويعيشه كل المواطنين في ظل حكومته، اوليس هو القائل {هيهات منا الذلة} لان {العزة لله ولرسوله وللمؤمنين} كون الله تعالى خلق الانسان وكرمه، بنص قوله عز وجل {ولقد كرمنا بني آدم} والكرامة هي نتيجة توفر وسائل العيش الرغيد بعرق الجبين، او ببيت المال لاي سبب قاهر خارج عن ارادة الانسان، كان.
      مما تقدم يمكن القول وبضرس قاطع، ان هدف الامام الحسين عليه السلام من حركته هو اقامة سلطة العدل التي تعتمد قيم القران الكريم وسيرة جده وابيه، تلك السيرة العملية التي رسمت الصراط المستقيم لكل من يريد ان يقيم السلطة السياسية التي تضمن للناس حقوقهم فلا يتجاوز عليها احد.
      انها سلطة الانسان الذي خلقه الله تعالى في احسن تقويم، بغض النظر عن دينه ولونه واثنيته وجنسه، ولذلك فان كل آيات القران الكريم تشير بما لا يدع مجال للشك، الى ان سلطة الاسلام هي سلطة مدنية وليست دينية، بمعنى انها تنطلق من الانسان ومصالحه وحقوقه لتنتهي اليه، ولذلك نلحظ ان كل الايات التي تتحدث عن الحقوق والعدل والامن والخيرات التي وهبها الله تعالى، تخاطبنا بصيغة (الناس) وليس بصيغة المسلمين او المؤمنين، لان كل الناس لهم نفس الحقوق في ظل دولة الاسلام، بغض النظر عن اي شئ يميزهم عن بعض، كقوله تعالى في الايات التالية {ان في خلق السماوات والارض واختلاف الليل والنهار والفلك التي تجري في البحر بما ينفع الناس} {يا ايها الناس كلوا مما في الارض حلالا طيبا} {ولا تجعلوا الله عرضة لايمانكم ان تبروا وتتقوا وتصلحوا بين الناس} {ان الله يامركم ان تؤدوا الامانات الى اهلها واذا حكمتم بين الناس ان تحكموا بالعدل} {لا خير في كثير من نجواهم الا من امر بصدقة او معروف او اصلاح بين الناس} {واخذهم الربا وقد نهوا عنه واكلهم اموال الناس بالباطل} {من اجل ذلك كتبنا علي بني اسرائيل انه من قتل نفسا بغير نفس او فساد في الارض فكانما قتل الناس جميعا ومن احياها فكانما احيا الناس جميعا} {ويا قوم اوفوا المكيال والميزان بالقسط ولا تبخسوا الناس اشياءهم}.
      فالامن لكل الناس، وكل انواع الخيرات التي وهبها الله تعالى لعباده سواء تلك التي في البر والبحر أو تحت الارض وفوق الثرى، هي لمنفعة كل الناس، والعدل والاحسان لكل الناس، والمعروف والاصلاح لكل الناس، وحفظ الاموال وعدم التجاوز عليها لكل الناس، كما ان حفظ دماء الناس وحرمة حياتهم لكل الناس، والبر والتقوى لكل الناس كذلك، ما يعني بان مسؤولية الدولة (الاسلامية) وواجباتها يجب ان تشمل كل الناس وليس لفئة دون اخرى.
      حركة الحسين السبط في عاشوراء، اذن، كانت قرآنا ناطقا، لو ثنيت له الوسادة لغير اشياء واشياء.
      ولو لم يرفض الحسين السبط عليه السلام البيعة ليزيد بن معاوية، لكان قد منح الطلقاء وابناء الطلقاء شرعية اعتلاء السلطة باسم الاسلام، وهم الذين حرم الرسول الكريم (ص) وبامر الله عز وجل عليهم السلطة والخلافة والشورى، كما احتج بذلك امير المؤمنين عليه السلام عندما تمرد عليه معاوية بعد بيعة المسلمين، المهاجرين والانصار، له بقوله { واعلم انك من الطلقاء الذين لا تحل لهم الخلافة ولا تعرض فيهم الشورى}.
      ولكان قد شرعن توريث السلطة في الاسلام، وهما اخطر بدعتين ابتدعهما الحكم الاموي.
      ولكان قد شرعن نظرية (السبق) في الحكم، والتي تعني عند معتنقيها ان السلطة حق لمن سبق اليها، بغض النظر عن الطريقة التي يستولي فيها على السلطة، ابالتآمر او بالقتل او بالتضليل او حتى بالانقلاب العسكري، فالناس لا دخل لهم في شانها.
      وهذا هو جوهر الفرق بين الحكومة (الدينية) الكاذبة التي تسخر الدين من اجل السلطة، وبالتالي ترفع الدين سيفا مسلطا على من يحتج على ظلمها وعدوانها على حقوق الناس، وهي الحكومة التي اقامها بني امية وبني العباس وكل طاغوت يحاول خداع الناس باسم الاسلام، وبين الحكومة (المدنية) التي تنبع من الانسان لتنتهي اليه، من اجل حفظ حقوقه وتامين مصالحه، حكومة لا توظف الدين من اجل السياسية، وانما العكس هو الصحيح، فانها توظف كل شئ من اجل الدين، والدين هنا هو (مصالح العامة) أو لم يقل رسول الله (ص) {المسلم من سلم الناس من يده ولسانه} ؟ و {من لا انصاف له لا دين له}؟ وتلك هي الحكومة التي اقامها رسول الله (ص) وامير المؤمنين عليه السلام وحاول ان ينجزها الحسين السبط عليه السلام. 
      ان عاشوراء حفظت الاسلام من الانحرافات والبدع السياسية تحديدا، لان حركة الحسين السبط عليه السلام كانت سياسية بالدرجة الاولى، ولذلك قال في وصيته التي تركها عند اخيه محمد بن الحنفية {واسير بسيرة جدي وابي علي بن ابي طالب} في الحكم والسلطة، في اقامة العدل وانصاف المظلوم والاخذ على يد الظالم، واعادة الحق الى الناس في اختيار الحاكم، من دون فرض او اكراه.
      واذا اردنا ان نكون حسينيين حقا وصدقا، فان علينا ان نجسد قيم عاشوراء في السياسة والحكم كما اننا نسعى لتجسيدها في العلاقات العامة والاخلاق والتربية وفي كل شئ، فعاشوراء منظومة كاملة لا تقبل القسمة ابدا، فاما ان نكون حسينيين ابدا، او امويين ابدا.
الحسين (ع)..الخروج للسلطة
      يفسر البعض حركة السبط الشهيد الامام الحسين بن علي بن ابي طالب بن فاطمة الزهراء بنت رسول الله (ص) في عاشوراء عام 61 للهجرة، على انها (خروج على السلطة) والصحيح هي انها (خروج للسلطة) والفرق، كما هو واضح، كبير جدا، فالتفسير الاول يقصد منه الطعن بشرعية الحركة، اما الثاني فيعني بان الحركة تتمتع بالشرعية الذاتية، اي انها تحمل شرعيتها بذاتها وليس بعوامل خارجية او مساعدة.
      ولقد بثت السلطة الاموية الغاشمة، بعيد واقعة عاشوراء عام 61 للهجرة مباشرة، هذا التفسير بين الناس لاسقاط الشرعية عن حركة الامام وسلبها موقعها الرائد في نفوس الناس، باعتبارها حركة غير شرعية سعت الى الاطاحة بالنظام السياسي القائم، فوظفت من اجل ذلك كم هائل من الاحاديث المزورة وغير الصحيحة التي انبرى وعاظ السلاطين وفقهاء الجور الى وضعها ونسبتها الى رسول الله (ص) مقابل حفنة من الاموال او منصب دنيوي زائل.
      واستمر هذا النوع من التثقيف حتى شب عليه الطفل الرضيع ومات عليه العجوز والعجوزة.
      والغريب في الامر، ان هذا التفسير اضحى، بمرور الزمن، قاعدة فقهية عند الكثير من (العلماء والفقهاء) وعلى مر التاريخ والى يومنا هذا، يلجا اليه الطغاة والجبابرة والمستبدين من حكام الجور والظلم والظلال كلما سعت الشعوب الى ممارسة التغيير والتجديد في السلطة السياسية، وكأن الحكم الاموي الجائر تحول الى قاعدة فقهية عند امثال هؤلاء (الفقهاء) ليبرروا به ظلم الحكام الجبابرة، والقمع والسحق المنظم لحقوق الانسان والامتهان المستمر لكرامته المهدورة، والتي تمارسها الانظمة الجائرة ضد الشعوب المقهورة باسم الدين وباسم الاسلام.
      لقد ظل هذا النوع من التفسير والتثقيف، المبرر الاول لكل عملية استيلاء على السلطة بالاكراه والقوة، بعد ان تحولت السياسة عندهم الى عمل يخص من يطلقون عليه عبارة (الاصلح) وهو بمعنى الاستيلاء على السلطة بالقوة والمكر والخديعة، بعد ان احاطوا هذا المصطلح وامثاله بحشد من الاحاديث الاموية المكذوبة منها ما ترويه الصحاح عن رسول الله (ص) قوله {من راى من اميره شيئا فليصبر عليه فان من فارق الجماعة شبرا فمات مات ميتة جاهلية} ليغلقوا، بمثل هذا التنظير، كل الابواب التي قد تؤدي الى التغيير السياسي والقيام ضد حكام الجور والظلم.
      وهذا القاضي ابو يوسف صاحب الامام (ابي حنيفة) يقرر هذا المبدا في خطابه لـ (هارون الرشيد) العباسي، وهو الذي اعتلى السلطة بالقتل والفتك والتآمر، في مقدمة كتاب (الخراج) الذي الفه له، فيقول:
      يا امير المؤمنين، ان الله، وله الحمد، قد قلدك امرا عظيما، ثوابه اعظم الثواب وعقابه اشد العقاب، قلدك امر هذه الامة، وانت تبني لخلق كثير، ولاك امرهم، فلا تضيعن ما قلدك الله من امر هذه الامة والرعية، فاقم الحق فيما ولاك الله وقلدك، ولو ساعة من نهار، واني اوصيك يا امير المؤمنين بحفظ ما استحفظك الله، ورعاية ما استرعاك الله، وانما لك من عملك ما عملت فيمن ولاك الله امره، وعليك ما ضيعت منه، فلا تنس القيام بامر من ولاك الله امره.
      هذا النص يعني ان الخلافة عند (ابي يوسف) امر قلده الله للخليفة، وسلطة مكنه الله منها ليحكم بها عباده، وليس بعد ذلك كيف تقلدها أبالسيف ام بالتآمر ام بالقتل والفتك ام بالانقلاب العسكري، اذ ليس للامة دور في هذه السلطة.
      وبالعودة قليلا الى الوراء، نلحظ ان هذا الفهم توارثه (المسلمون) جيلا عن جيل حتى نصل الى الخليفة الثالث، الذي قال لمن طلب منه ان يستقيل من منصب الخلافة:
      لا انزع قميصا البسنيه الله عز وجل.
     ويقول ايضا:
      اما ان اتبرأ من خلافة الله، فالقتل احب الي من ذلك.  
      الى هنا ليس في الامر غرابة، اذ ان من الطبيعي ان يلجا الطاغوت، اي طاغوت ومن حوله من جيوش وعاظ السلاطين وفقهاء البلاط واصحاب الاقلام الماجورة والضمائر الميتة، وما اكثرهم في كل زمان ومكان، الى تشويه سمعة الحركة الثورية التي تنشد التصحيح والاصلاح في البلاد، خوفا على سلطته من الانهيار والزوال.
      الا ان الذي يبعث على الدهشة والغرابة حقا، هو طريقة تفكير بعض ممن يذوب في الحسين عليه السلام وثورته وحركته واهدافه ومبادئه، والتي تدفعه الى عدم الاعتقاد بتفسير حركة الامام عليه السلام على انها (خروج للسلطة) على اعتبار ان مثل هذا التفسير يعطي معنى (طلب الامام للسلطة) وهذا ما يقلل من قيمة الامام ويخدش بعصمته ومكانته في قلوب المؤمنين، ولذلك يكفر امثال هؤلاء بمثل هذا التفسير والمنطق ليحفظوا للامام منزلته وقدسيته في قلوبهم، على حد زعمهم، ثم تراهم يلجأون الى التفسيرات الغيبية لمجمل واقعة عاشوراء هربا من اعمال، بكسر الالف، العقل والمنطق السليم في تفسير حركة الامام الحسين عليه السلام التفسير الصحيح والصائب والمعقول.
      انهم يرفضون اي تفسير (مادي) لحركة الامام الحسين عليه السلام، ويحصرون وعيهم بالغيب والعواطف فحسب، فيعتقدون بان الحسين السبط خرج للشهادة اولا واخيرا، وليس قبلها او بعدها اي خطط او رؤية كان الحسين عليه السلام قد تبناها من اجل التغييروالاصلاح.
      انهم يعتقدون ان (طلب السلطة) امر حرام في كل الاحوال، لا ينبغي لمثل الحسين السبط ان يرتكبه، او يتورط فيه، فالسلطة لأصحابها والامامة لاهلها.
      في هذا المقال، ساحاول ان اثبت بان حركة الامام الحسين عليه السلام كانت خروجا من اجل السلطة وليست خروجا على السلطة، بمعنى آخر، انها كانت خروجا شرعيا طلبا للسلطة وليست خروجا غير شرعيا على السلطة.
      وفي البدء، دعونا نطرح السؤال التالي، وهو، هل يحق لاحد ان يطلب السلطة؟ ام ان ذلك حرام لا يجوز شرعا؟.
      القران الكريم يجيب على هذا السؤال بالايجاب في قوله تعالى على لسان النبي يوسف الصديق عليه السلام {اجعلني على خزائن الارض اني حفيظ عليم} وكذلك في قوله عز وجل على لسان نبي الله سليمان عليه السلام {قال رب اغفر لي وهب لي ملكا لا ينبغي لاحد من بعدي انك انت الوهاب} كما يذكرها القرآن الكريم في قصة النبي داوود عليه السلام مع جالوت بقوله عز وجل {فهزموهم باذن الله وقتل داوود جالوت وآتاه الله الملك والحكمة وعلمه مما يشاء ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الارض ولكن الله ذو فضل على العالمين} وفي اخرى متحدثا عن عدة انبياء {اولئك الذين آتاهم الكتاب والحكم والنبوة فان يكفر بها هؤلاء فقد وكلنا بها قوما ليسوا بها بكافرين} وفي قصة النبي يحيا {يا يحيى خذ الكتاب بقوة وآتيناه الحكم صبيا} ما يعني ان طلب السلطة أو ممارستها ليس عيبا كما انه ليس عملا مشينا ابدا، شريطة ان يكون طالبها على قدر المسؤولية، خاصة عندما يكون مثل هذا الطلب لتحقيق العدل وانصاف المظلومين، اذ يكون في مثل هذه الحالة واجب شرعي على القادر على تحمل مسؤوليته ان يتصدى له مهما كان الثمن، والى هذا المعنى اشار الامام امير المؤمنين علي بن ابي طالب عليه السلام الذي طلب السلطة اكثر من مرة منذ وفاة الرسول (ص) كما في قوله عليه السلام مثلا:
      {اما والذي فلق الحبة، وبرا النسمة، لولا حضور الحاضر، وقيام الحجة بوجود الناصر، وما اخذ الله على العلماء الا يقاروا على كظة ظالم، ولا سغب مظلوم، لالقيت حبلها على غاربها، ولسقيت آخرها بكاس اولها، ولالفيتم دنياكم هذه ازهد عندي من عفطة عنز}.
      وبهذا النص يحدد الامام عليه السلام الشروط التي يجب ان تتوفر لمن يطلب السلطة، والتي هي:
      اولا؛ البيعة، اي قبول الناس به، فلا يطلب السلطة او ينزو عليها بالقهر والقوة، لان ذلك بمثابة الاستيلاء على حق الناس والذي لا يجوز لا شرعا ولا عرفا.
      ثانيا؛ العلم بها والقدرة عليها والتمكن منها.
      ثالثا؛ ان يكون طلب السلطة من اجل ردع الظالم والانتصار للمظلوم، اي اقامة الحق والعدل.
      كما ان الامام الحسن السبط عليه السلام حدد شروط طلب السلطة في محاججة رائعة مع معاوية بن ابي سفيان بن هند آكلة الاكباد، حين قال له الاخير بعد الصلح، اذكر فضلنا، اي فضل بني امية، فخطب الحسن السبط قائلا، بعد ان حمد الله واثنى عليه وصلى على محمد النبي وآله، ثم قال:
      من عرفني فقد عرفني ومن لم يعرفني فانا الحسن بن رسول الله، انا ابن البشير النذير، انا ابن المصطفى بالرسالة، انا ابن من صلت عليه الملائكة، انا ابن من شرفت به الامة، انا ابن من كان جبرائيل السفير من الله اليه، انا ابن من بعث رحمة للعالمين صلى الله عليه وآله اجمعين، فلم يقدر معاوية ان يكتم عداوته وحسده، فقال: يا حسن، عليك بالرطب فانعته لنا، في محاولة منه لتغيير مسار الحديث خوف الفتنة اذا ما اطلع اهل الشام على الحقيقة التي ظل يخفيها عليهم معاوية عقود طوال بالتضليل الاعلامي والتزوير والتحريف وشراء الذمم، فقال الحسن السبط: نعم يا معاوية، الريح تلقحه والشمس تنفحه والقمر يلونه والحر ينضجه والليل يبرده، ثم اقبل عليه السلام على منطقه فقال:
      انا ابن المستجاب الدعوة، انا ابن من كان من ربه كقاب قوسين او ادنى، انا ابن الشفيع المطاع، انا ابن مكة ومنى، انا ابن من خضعت له قريش رغما، انا ابن من سعد تابعه وشقى خاذله، انا ابن من جعلت الارض له طهورا ومسجدا، انا ابن من كانت اخبار السماء اليه تترى، انا ابن من اذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا، فقال بن هند، اظن نفسك يا حسن تنازعك الى الخلافة؟ فقال السبط عليه السلام:
      ويلك يا معاوية انما الخليفة من سار بسيرة رسول الله (ص) وعمل بطاعة الله، ولعمري انا لاعلام الهدى، ومنار التقى، ولكنك يا معاوية ممن ابار السنن واحيا البدع واتخذ عباد الله خولا ودين الله لعبا فكان قد اخمل ما انت فيه، فعشت يسيرا وبقيت عليك تبعاته.
      وفي النص، كما هو واضح، تصريح بطلب الحسن عليه السلام للسلطة بعد ان ثبت مواصفات الحاكم الصالح الذي يستحقها، نافيا ان يكون معاوية ذلك الحاكم المامول لا من قريب ولا من بعيد. 
      وهنا يشخص الفارق بين طلاب السلطة، فبينما يطلبها المؤمن من اجل اقامة الحق والعدل وتحقيق المساواة بين الناس من خلال تمتعهم بالحرية والكرامة بلا تمييز لا على اساس الدين ولا على اساس المذهب او العنصر او الجنس، بالاضافة الى سعيه لانجاز مبدا تكافؤ الفرص، وحمايته لبيت المال وتحقيق الامن، ترى الاخر يطلبها من اجل السطوة وتمكين اهله وعشيرته من رقاب الناس واموالهم وكرامتهم، وباختصار، فانه يطلبها ليتخذ مال الله دولا وعباده خولا.
      ان المضحك المبكي حقا، هو ما نراه من حالنا التعيس ازاء السلطة، فبينا ترانا نرقص فرحا اذا ما نزى على السلطة جاهل او قاتل او لص او سكير او منافق او عميل، فنملا الشوارع بمسيرات التاييد ولافتات الترحيب، وتهتز الارض برقصات الطرب وتتمايل الاشجار باصوات قرع الطبول والمزامير، اذا بنا نتصرف عكس ذلك اذا ما سعى مصلح الى السلطة لتغيير الحال، وكأن السلطة حكر على كل متجبر ومستبد وهي ممنوعة على المؤمنين الصالحين؟.
      لماذا؟ لاننا بتنا نعتقد بان السلطة حلال زلال على قلوب اللصوص والخمارين والدجالين والقتلة، وحرام على الامام والعالم والمتدين والملتزم والعادل والذي يخاف الله في عباده.
      ان كل ذلك نتيجة تراكمات الثقافة السلبية التي تعودنا عليها وتعلمناها من التاريخ، لتصبح اليوم واقع الحال، اذا بشعوبنا تحكمها انظمة ظالمة وحكام مردة، لتتحول هي في ظلها الى قطيع من الاغنام يذبحها الطاهي متى يشاء ليقدمها لقمة سائغة على مائدة السلطان، وكل ذلك شئ طبيعي الفته الشعوب من دون ان ينبس احد ببنت شفة، وكأن الله تعالى خلق الناس صنفين، الاول للسلطة والثاني للخدمة، الاول للسيادة والثاني للعبودية.
      ان طلب السلطة امر مشروع، وان طموح المرء لنيلها امر مستحسن، شريطة ان لا تكون ادواتها الدم والقتل وجماجم الابرياء والغش والخداع والتضليل، كما هو حال الانظمة الشمولية الاستبدادية القائمة حاليا في جل بلادنا العربية والاسلامية، والتي لم يصل فيها الحاكم الى سدة الحكم الا بالتآمر والقتل والاغتيال ومطاردة الشرفاء وتكميم الافواه وسحق حقوق المواطنين، وحجته انه دون غيره الاكفا لهذه المسؤولية وان (الله تعالى) هو الذي البسه قميص الخلافة والامرة، وهو المصطلح الذي توارثه الطغاة منذ ما بعد صدر الاسلام ولحد الان.
      فضلا عن ذلك، فان السلطة آنئذ، كانت باسم الدين وباسم الاسلام وباسم رسول الله (ص) فكان كل من يستولي عليها يتسمى اما بالخلافة او بامرة المؤمنين، وبمرور العقود والقرون راح السلطان يتسمى باسم الله مباشرة من دون واسطة، فكيف يحق لسكير، مثلا، او طريد او طليق، ان يتسمى بالخلافة والامرة ورب العالمين، ولا يحق ذلك لمؤمن؟ ولسبط الرسول الكريم (ص)  تحديدا؟.
      ان العقل والمنطق وكذلك الواقع يحتم على الانسان ان يقبل بسلطة ما فلا يبقى من دونها فتعم الفوضى، والسلطة هي من اجل اقامة العدل بين الناس، وليس بعد ذلك كيف يجب ان تكون هويتها او زي من يتصدى لها، والى هذا المعنى اشار الامام علي عليه السلام بقوله {وانه لا بد للناس من امير بر او فاجر يعمل في امرته المؤمن، ويستمتع فيها الكافر، ويبلغ فيها الله الاجل، ويجمع به الفئ، ويقاتل به العدو، وتأمن به السبل، ويؤخذ به للضعيف من القوي، حتى يستريح بر، ويستراح من فاجر} الا ان العقل والمنطق وكذلك الواقع يحتم كذلك على الانسان ان يختار الامرة الخيرة والبارة من اجل اقامة العدل والقسط، اذا ما خير بين امرتين واحدة صالحة واخرى فاجرة، وان كان الهدف الذي يسعى الى تحقيقه واحد لا يختلف في جوهره، وهو، كما اسلفت، اقامة العدل بين الناس.
      نعود الان الى صلب الموضوع، لاعيد السؤال مرة اخرى، ولكن هذه المرة فيما يخص الحسين السبط عليه السلام، فنقول؛
      هل يحق للامام الحسين عليه السلام ان يطلب السلطة؟ ام انها شان غيره وانها حرام عليه وحلال لغيره؟ وان طلبه لها يقلل من شانه ويقدح بعصمته؟.
      وهل ان كل طلب للسلطة بمثابة الميل للدنيا وتعبير عن هوى النفس؟ فلماذا قال امير المؤمنين عليه السلام اذن:
      اللهم انك تعلم انه لم يكن الذي كان منا منافسة في سلطان، ولا التماس شئ من فضول الحطام، ولكن لنرد المعالم من دينك، ونظهر الاصلاح في بلادك، فيامن المظلومون من عبادك، وتقام المعطلة من حدودك.
      اليس في هذا النص دفاع معقول عن طلب السلطة بالحق؟ اوليس فيه ما يشير الى ان الامام كان قد طلبها بالحق فبرر بهذا النص ما بدر منه لتفسير طلبه بشكل سليم، من اجل ان لا يفسره من يشاء بما يشاء فيشوه الصورة ويقلب الحقيقة، ليحولها الى سيف مسلط على رقاب كل مؤمن قد يطلب السلطة في يوم من الايام؟.
      الجواب:
      اولا؛ من الناحية الشرعية، فان السلطة جزء لا يتجزا من كيان الامامة، والى هذا المعنى اشارت الصديقة فاطمة الزهراء بقولها في خطبتها المعروفة {وطاعتنا نظاما للملة، وامامتنا امانا للفرقة} ولذلك نحن نعتقد بان مشكلة الامة الاسلامية بدات منذ تلك اللحظة التي عطل فيها المسلمون مبدا الامامة، والذي هو براينا اصل من اصول الدين او على الاقل المذهب.
      ولهذا السبب ظل الامام امير المؤمنين علي بن ابي طالب عليه السلام يتحدث بالسلطة واهميتها وفلسفتها وجوهرها وخطورتها، والتي كان يجب ان تنتهي اليه بعد رحلة رسول الله (ص) الى العالم الاخر، مستغلا كل مناسبة وموظفا كل فرصة، من اجل تنبيه الامة الى الخطا الكبير الذي ارتكبته عندما تركته وذهبت الى غيره، كما هو واضح في قوله عليه السلام في خطبته المعروفة بالشقشقية، مثلا والتي يقول فيها {اما والله لقد تقمصها فلان وانه ليعلم ان محلي منها محل القطب من الرحا، ينحدر عني السيل، ولا يرقى الي الطير، فسدلت دونها ثوبا، وطويت عنها كشحا، وطفقت ارتئي بين ان اصول بيد جذاء، او اصبر على طخية عمياء، يهرم فيها الكبير، ويشيب فيها الصغير، ويكدح فيها مؤمن حتى يلقى ربه، فرايت ان الصبر على هاتا احجى، فصبرت وفي العين قذى، وفي الحلق شجا، ارى تراثي نهبا، حتى مضى الاول لسبيله، فادلى بها الى فلان بعده (ثم تمثل بقول الاعشى):
                                     شتان ما يومي على كورها                  ويوم حيان اخي جابر
      فياعجبا، بينا هو يستقيلها في حياته اذ عقدها لآخر بعد وفاته، لشد ما تشطرا ضرعيها، فصيرها في حوزة خشناء يغلظ كلمها ويخشن مسها، ويكثر العثار فيها، والاعتذار منها، فصاحبها كراكب الصعبة ان اشنق لها خرم، وان اسلس لها تقحم، فمني الناس، لعمر الله، بخبط وشماس، وتلون واعتراض، فصبرت على طول المدة، وشدة المحنة، حتى اذا مضى لسبيله جعلها في جماعة زعم اني احدهم، فيا لله وللشورى، متى اعترض الريب في مع الاول منهم، حتى صرت اقرن الى هذه النظائر؟ لكني اسففت اذ اسفوا، وطرت اذ طاروا، فصغا رجل منهم لضغنه، ومال الاخر لصهره، مع هن وهن، الى ان قام ثالث القوم نافخا حضنيه، بين نثيله ومعتلفه، وقام معه بنو ابيه يخضمون مال الله خضمة الابل نبتة الربيع، الى ان انتكث عليه فتله، واجهز عليه عمله، وكبت به بطنته}.
      بالنسبة للامام الحسين السبط عليه السلام، فان حديث رسول الله (ص) بحقه وبحق اخيه السبط الامام الحسن المجتبى عليهما السلام {الحسن والحسين امامان قاما او قعدا} دليل شرعي صريح على احقيته في السلطة، من الناحية النظرية على الاقل، بل على حقه في طلبها، نظريا اولا ثم عمليا وواقعيا اذا استوفى الطلب شروطه، لانه امام قام او قعد، ولان السلطة جزء لا يتجزا من الامامة، كما اسلفت قبل قليل، فلذلك فان طلبه للسلطة لا يخرج عن واجباته ومسؤولياته المنصوص عليها في اطار الامامة التي جعلها الله تعالى للامام بنص قوله عز وجل مخاطبا نبي الله ابراهيم عليه السلام {اني جاعلك للناس اماما}.
      ثانيا؛ من الناحية القانونية، فلقد نصت بنود (الصلح) التي تم التوقيع عليها بين الامام الحسن المجتبى عليه السلام ومعاوية بن ابي سفيان بن هند آكلة الاكباد، على ان يكون الخليفة بعد موت الاخير الامام الحسن فان مات فاخيه الامام الحسين.
         يقول النص:  
      ان يكون الامر، يعني السلطة، بعد معاوية للحسن، وان حدث بالحسن قبل معاوية حدث يكون الامر بعد معاوية للحسين.
      ولذلك فان طلب الحسين السبط للسلطة بعد هلاك معاوية كان مدعوما بقوة القانون، بلغة اليوم، اما اعتلاء يزيد للسلطة بعد ابيه الذي وطا له، بتشديد الطاء وفتحها، سبيلها بالترغيب والترهيب والقتل وشراء الذمم، واخيرا بالتوريث الذي اسس للملكية في الاسلام الى يومنا هذا، فلم يكن مدعوما بالقانون ابدا، بل انه كان خروجا عن القانون الذي ضربه معاوية عرض الحائط بتوريثه ابنه يزيد شارب الخمر واللاعب بالقرود للسلطة.
      ومن خلال هذا البند، يتضح لنا جليا بان الامام الحسين عليه السلام كان قد طلب السلطة قبل ان يعتلي يزيد الخلافة بعشرين عاما.
      اما من يستشكل على مثل هذا النص، ويورد نصا آخر يقول؛
      لقد اتفق الحسن بن علي ومعاوية بن ابي سفيان على ان يسلم له الحسن ولاية امر المسلمين على ان يعمل فيهم بكتاب الله وسنة نبيه وسيرة الخلفاء الصالحين، وليس لمعاوية ان يعهد بالامر الى احد من بعده بل يكون الامر شورى بين المسلمين.
      فان هذا النص، كذلك، يمنح الحسين السبط الحق في الاعتراض على سلطة يزيد لانها غير قانونية، كذلك، بقوة القانون ونص الوثيقة.
      ثالثا؛ من الناحية الواقعية، فان طريقة توريث معاوية للسلطة الى ابنه الفاجر يزيد انتجت اخطر بدعة سياسية في حياة الامة، وباسم الاسلام، الامر الذي كان يجب على الحسين السبط ان يتحرك لوءدها وهي بعد في المهد، كونه العالم المسؤول عن الامة، والامام المسؤول عن تصحيح مساراتها، من خلال التصدي والعمل على كشف البدع التي تظهر فيها، خاصة البدع السياسية التي تنتج انحرافات خطيرة لا تكتفي بان تترك اثرها السلبي في جيل او جيلين فحسب، وانما في اجيال قادمة، كما لو ان (الخليفة) قرر تحويل النظام السياسي من الشورى الى الملك العضوض، وكل ذلك باسم الاسلام وباسم الله وباسم الدين، وهذا ما حصل في عهد الامام الحسين عليه السلام، ولذلك كان يجب عليه ان يتحرك لتصحيح المسار، ودافعه في ذلك قول رسول الله (ص) {اذا ظهرت البدع، فعلى العالم ان يظهر علمه} وهل هناك اخطرمن البدعة السياسية؟ ليتركها الحسين السبط وشانها من دون تغيير؟.
      بالاضافة الى ان توريث معاوية السلطة (الدينية) ليزيد تعارض مع كل النصوص النبوية الشريفة التي تتحدث بل وحذرت المسلمين من تولية السلطة الى الطلقاء وابناء الطلقاء، وهو الامر الشرعي المتفق عليه بين المسلمين كافة، علماءهم وفساقهم.
      لقد احتج الامام امير المؤمنين عليه السلام بذلك في جواب له على احدى رسائل معاوية اليه، والتي حاول فيها تبرير تمرده على ولايته وخلافته بعد بيعة الناس له، بقوله:
      واعلم انك من الطلقاء الذين لا تحل لهم الخلافة ولا تعرض فيهم الشورى.
      كما احتج بها عبد الله بن عباس عندما كلم ابا موسى الاشعري وهو يهم بالذهاب الى لقاء عمرو بن العاص في قصة الحكمين المعروفة، مذكرا اياه بحال معاوية، بقوله:
      واعلم ان معاوية طليق الاسلام، وان اباه راس الاحزاب، وانه ادعى الخلافة من غير مشورة وليس فيه خصلة تقربه من الخلافة، فان صدقك فقد حل خلعه، وان كذبك فقد حرم عليك كلامه.
      هذا بشان معاوية الطليق، فما بالك بيزيد ابن الطليق؟.
      رابعا؛ لقد جاء طلب الحسين السبط للسلطة منسجما مع الواقع، فلم يكن تعسفيا، فالطلب، بمصطلح اليوم، كان ديمقراطيا، لم يفرضه على احد او يجبر احد عليه، ولذلك جاء طلبه للسلطة منسجما مع ادوات طلب جده رسول الله (ص) وابيه امير المؤمنين عليه السلام واخيه الامام الحسن السبط للسلطة، الا وهي البيعة العامة وعدم الاكراه، ورفض التسلط بقوة الحديد والنار، كما ان طلبه هذا جاء ليشكل الامتداد الطبيعي والحقيقي لسلطة جده وابيه واخيه، فهو، اولا، لم يطلبها في مصر لم يبايعه، فلم يذهب مثلا الى اليمن او مصر او حتى ان يبقى في مكة او المدينة، وهي مدينة جده رسول الله (ص) وانما طلبها عند اهل مصر بايعوه فالقوا عليه الحجة التي ذكرناها في قول ابيه امير المؤمنين عليه السلام {لولا حضور الحاضر، وقيام الحجة بوجود الناصر}.
      ان وجهة مسير حركة الامام الحسين كانت الكوفة تحديدا وليست كربلاء او اي مصر آخر، لان الحجة على التصدي للمسؤولية جاءت هذه المرة من المسلمين والمؤمنين في الكوفة وليست من غيرها، ولذلك فهو عليه السلام عزم التحرك من المدينة المنورة اليها حصرا.
      ولقد تحدث الحسين السبط عن هذه الحقائق في وصيته التي تركها عند اخيه محمد بن الحنفية قبل ان يغادر مكة المكرمة، بقوله {الا واني لم اخرج اشرا ولا بطرا ولا مفسدا ولا ظالما، وانما خرجت لطلب الاصلاح في امة جدي، اريد ان آمر بالمعروف وانهى عن المنكر، واسير بسيرة جدي وابي علي بن ابي طالب} ومن الواضح فان معنى السير بسيرة الرسول وامير المؤمنين، هو الالتزام اولا بادوات المسير، والتي تشخص في مقدمتها البيعة وعدم الفرض والاكراه.
      ولان طلب الامام للسلطة كان استجابة لبيعة الناس له، والتي وردت في اول كتاب بعثه اليه اهل الكوفة بقولهم (انه ليس علينا امام فاقبل) لذلك فانها تحولت الى مسؤولية شرعية ما كان له ان يختار الا ان يستجيب لها، بل انه بذل كل جهده من اجل تحقيقها على ارض الواقع، حاله حال ابيه الامام امير المؤمنين عليه السلام الذي تقبل السلطة بعد ان بايعه المسلمون ولم يتخلف عنها احد، في ظل تلك الظروف القاسية التي مرت عليهم وعلى الامام، والتي دافع عنها عليه السلام بكل ما يملك، ليس من باب تهالكه على السلطة ابدا، وهو القائل لعبد الله بن عباس الذي يروي انه دخل مرة على امير المؤمنين بذي قار وهو يخصف نعله، فقال لي: ما قيمة هذا النعل؟ فقلت، لا قيمة لها، قال (والله لهي احب الي من امرتكم، الا ان اقيم حقا، او ادفع باطلا) وانما بسبب كونها مسؤولية شرعية تقلدها بثقة الناس ولم يفرضها على احد، وهو القائل عليه السلام {والله ما كانت لي في الخلافة رغبة، ولا في الولاية اربة، ولكنكم دعوتموني اليها، وحملتموني عليها} فيما يصف في مكان آخر كيف ان الناس تهالكوا على بيعته بقوله {فما راعني الا والناس كعرف الضبع الي، ينثالون علي من كل جانب، حتى لقد وطئ الحسنان، وشق عطفاي، مجتمعين حولي كربيضة الغنم}.
      ذات الامر ونفس الظروف تكررت مع الحسين السبط، ولذلك تحرك صوب الكوفة من المدينة المنورة، متحملا المسؤولية بعد ان القت بنفسها عليه.
      وان اكبر دليل على هذه الحقيقة التي ترجمها الامام الحسين السبط عليه السلام، هو انه سعى، حال تغيير الموقف السياسي في الكوفة، الى الانسحاب من (المعركة) كاعظم حجة القاها على السلطة الغاشمة، ليثبت للجميع بانه انما قبل السلطة بعد بيعة الناس له، اما اذا تغير الموقف وانقلبت الامور راسا على عقب، ولاي سبب من الاسباب، فانه في حل من المسؤولية، ولذلك فعل الامام المستحيل من اجل ان لا يورط جيش البغي بدمه الطاهر، فقال لهم في اكثر من موقف (ان انتم كرهتمونا، وجهلتم حقنا، وكان رايكم غير ما اتتني به كتبكم، وقدمت به علي رسلكم، انصرفت عنكم) اما عقبة بن سمعان، فينقل المؤرخون عنه قوله (صحبت الحسين من المدينة الى مكة، ومن مكة الى العراق، ولم افارقه حتى قتل، وسمعت جميع مخاطباته الناس الى يوم مقتله، فوالله ما اعطاهم ما يتذاكر به الناس من انه يضع يده في يد يزيد، ولا ان يسيروه الى ثغر من ثغور المسلمين، ولكنه قال: دعوني ارجع الى المكان الذي اقبلت منه، او دعوني اذهب في هذه الارض العريضة حتى ننظر الى ما يصير اليه امر الناس، فلم يفعلوا) الا ان اصرارهم على قتله اثبت بما لا يدع مجالا للشك من ان النظام السياسي الاموي الحاكم كان قد اتخذ قرار التصفية بحق الامام السبط، مهما كانت الظروف، لانه شعر منذ اليوم الاول لهلاك معاوية ان السبط هو مصدر القلق الوحيد الذي يمكن ان يقض مضاجع الحكم المنحرف، فيفضحه ويكشف عوراته ويعريه عن اية شرعية قد يتقمصها لتضليل الامة، لانه صاحب الحق الوحيد بالسلطة (الدينية والدنيوية) لما يتمتع به من موقع في قلوب الناس، مشفوعا بالموقف الشرعي والقانوني والواقعي.
      والان، تعال معي عزيزي القارئ، لنقرا حقيقة كون حركة الامام الحسين عليه السلام (خروج للسلطة) وليس عليها، من خلال استنطاق خطب واقوال الامام عليه السلام منذ لحظة هلاك معاوية ولحد استشهاده عليه السلام في كربلاء المقدسة في اليوم العاشر من محرم الحرام عام 61 للهجرة.
      ان عاشوراء ثورة ضد السلطة من اجل السلطة.
      انها ضد سلطة الجور من اجل سلطة الحق والعدل.
      اولا: لقد رفض الامام الحسين عليه السلام البيعة ليزيد بقوله لواليه على المدينة الوليد بن عتبة {ايها الامير، انا اهل بيت النبوة، ومعدن الرسالة، ومختلف الملائكة، بنا فتح الله، وبنا ختم، ويزيد فاسق، فاجر، شارب الخمر، قاتل النفس المحترمة، معلن بالفسق والفجور، ومثلي لا يبايع مثله}.
      ان هذا الرفض كان له احد معنيين، لا ثالث لهما، فاما ان الامام رفض بيعة يزيد ليعطيها لغيره، او انه ارادها لنفسه، ولم يحدثنا التاريخ ابدا بان الامام همس في اذن احد بنيته في اعطاء بيعته لاحد من المسلمين، عدا يزيد، ما يعني انه ارادها لنفسه، الامر الذي يعني قطعا انه طلب السلطة وان طلبه هذا كان شرعيا مئة في المئة، لانه امام معصوم لا يمكن ان يطلب شيئا ليس له او ليس له فيه حق، وكلنا يعرف فان البيعة عملية سياسية وعقد سياسي اولا واخيرا، وهي ليست عملية اقتصادية او اجتماعية او اي شئ آخر، ولذلك فالبيعة هنا تعني السلطة فحسب.
      قد يقول قائل، بان الامام رفض البيعة ليعتزل الناس، فيجلس في بيته ويغلق الباب على نفسه، متفرغا للعبادة، كدرويش لا يتدخل بالشان العام، وليس كما اسلفت.
      الجواب:
      ان سيرة الامام الحسين عليه السلام منذ ولادته، لا تنتهي الى مثل هذا التصرف ابدا، وهو الذي عاش الاسلام وتحولاته بكل تفاصيلها، اولا في كنف جده رسول الله (ص) ومن ثم في كنف ابيه امير المؤمنين       عليه السلام واخيه الحسن السبط عليه السلام.
      لقد كان الحسين السبط الفارس المقدام الذي يدافع عن الاسلام منذ نعومة اظفاره، فكان الاول في الصفوف حروب ابيه الثلاثة، وكان المتصدي الشجاع لكل انحراف أصاب الامة، خاصة فترة تصديه لامامة المسلمين بعد استشهاد اخيه الحسن السبط، لم تكن تاخذه في الله لومة لائم وهو يرد على معاوية وعنجهيته.
      هذا من جانب، ومن جانب آخر، فان التاريخ يشير الى ان الحسين عليه السلام بدا بتهئة ظروف الثورة لحظة استشهاد اخيه الحسن السبط وتوليه امامة المسلمين، لدرجة ان جماعة من عيون معاوية ممن كانت السلطة الاموية قد نشرتهم كجواسيس يراقبون الامام، كانوا قد نقلوا عنه عليه السلام اخبارا لا تسر لمعاوية، فكتب الى الامام يحذره من اية حركة مناهضة ضد السلطة، فرد عليه الامام بكل شجاعة وبسالة، ساعيا الى التخفيف من هلع معاوية من مثل هذه التحركات التي يقودها الامام، لانه، كما هو معروف، كان يسعى لتاجيل المعركة الى ما بعد هلاك معاوية لاسباب عدة، ليس هنا محل ذكرها.
      فكتب مرة الى معاوية ردا على كتاب له:
      اما بعد فقد بلغني كتابك تذكر فيه انه انتهت اليك عني امور انت لي عنها راغب، وانا بغيرها عندك جدير، فان الحسنات لا يهدي اليها ولا يسدد اليها الا الله تعالى.
      واما ما ذكرت انه رقي اليك عني، فانما رقاه اليك الملاقون، المشاؤون بنميم، المفرقون بين الجمع، وكذب الغاوون.
      ما اردت لك حربا، ولا عليك خلافا، واني لاخشى الله في ترك ذلك منك، ومن الاعذار فيه اليك، والى اوليائك القاسطين الملحدين، حزب الظلمة واولياء الشيطان.
      ثم راح الامام عليه السلام يعدد جرائم معاوية ومثالبه واخطاءه التي لا تغتفر كقتله حجر بن عدي، وقتله ابن الحمق صاحب رسول الله (ص) وادعاءه زياد بن سمية والمسمى بابن ابيه، واصداره الاوامر بقتل الحضرميين بعد ان كتب فيهم زياد بانهم على دين علي (ع) وغير ذلك.
      من جانب ثالث، فان الامام نوه في اكثر من رسالة الى من ساله ان يعلن الثورة بوجود معاوية في السلطة، الى انه يعد لها العدة لما بعد هلاكه، فقال لهم مرة:
      اما اخي فارجو ان يكون الله قد وفقه وسدده فيما ياتي، واما انا فليس رايي اليوم ذلك، فالصقوا، رحمكم الله، بالارض، واكمنوا في البيوت، واحترسوا من الظنة ما دام معاوية حيا.
      ان هذا وغيره الكثير من الادلة والبراهين، تؤكد على ان نية الامام برفضه البيعة ليزيد لم يكن الهدف منها الاعتزال والجلوس في البيت، ابدا.
      ثانيا: لقد اعتبر الامام نفسه انه احق من غيره في ممارسة عملية التغيير المرجوة في الامة بعد الانحراف الخطير الذي اصابها جراء توريث معاوية ابنه يزيد السلطة، والتغيير المقصود في قول الامام بلا شك هو التغيير السياسي، وكلنا نعرف فان نهاية سعي المرء لتحقيق التغيير السياسي هو وصوله للسلطة، وبمعنى آخر السعي لطلب السلطة من اجل اجراء التغيير السياسي الذي يتحدث عنه ويبشر به، يقول الامام الحسين عليه السلام {ايها الناس ان رسول الله (ص) قال: من رأى سلطانا جائرا، مستحلا لحرام الله، ناكثا لعهد الله، مخالفا لسنة رسول الله، يعمل في عباد الله بالاثم والعدوان، فلم يغير ما عليه بفعل ولا قول كان حقا على الله ان يدخله مدخله، الا وان هؤلاء، ويعني السلطة الحاكمة، قد لزموا طاعة الشيطان وتركوا طاعة الرحمن واظهروا الفساد وعطلوا الحدود، واستاثروا بالفئ، واحلوا حرام الله، وحرموا حلاله، وانا احق من غير}.
      ان الفقرة الاخيرة في خطبة الامام، لخصت الهدف من حركته التي استندت على ما قدمه من شرح للوضع العام، وهو كله حديث عن السلطة الغاشمة التي انحرفت عن جادة الصواب فظلمت ونهبت وافسدت، ما يعني ان اصل حركته كانت سياسية من اجل تغيير السلطة، وتاليا من اجل طلب السلطة، اذ ليس من المعقول ان يطالب ويسعى الامام الى تغيير السلطة السياسية ثم يترك حبل الامور على غاربها عائدا الى منزله، من دون ان يقيم السلطة السياسية التي يعتقد بانها افضل من تلك التي سعى الى اسقاطها، اليس كذلك؟ لان مثل هذا العمل عبث لا يقدم عليه مبتدئ في العمل السياسي، فما بالك بالامام المعصوم وهو ربيب رسول الله (ص) وامير المؤمنين عليه السلام؟.
      كما ان حديث الامام مع الحر بن يزيد الرياحي، يشير الى ذات المعنى، فهو دعوة صريحة من الامام للحر ومن معه لنقض بيعتهم (السياسية) ليزيد واستبدالها ببيعة صحيحة مستقيمة للامام المعصوم، ما يعني ان الامام طلب من الحر ان يعينه على اسقاط السلطة الغاشمة ليقيم عوضا عنها سلطة الحق بقيادته وامامته وامرته، وان كل ذلك، طلب للسلطة بلا جدال.
      لقد خاطب الامام، الحر ومن معه، بقوله عليه السلام {اما بعد ايها الناس، فانكم ان تتقوا الله، وتعرفوا الحق لاهله، يكن ارضى لله، ونحن اهل البيت اولى بولاية هذا الامر عليكم، يعني السلطة السياسية، من هؤلاء المدعين ما ليس لهم، والسائرين فيكم بالجور والعدوان}.
      ثالثا: لقد تبادل الامام الكتب مع المسلمين في حاضرة البلاد الاسلامية، اعني بها الكوفة آنئذ، ولقد كان مدار نصوص احاديثها بشان السلطة الغاشمة وكيفية ازاحتها واستبدالها بالسلطة الحق، على اعتبار ان سلطة الطلقاء وابناء الطلقاء، ليست شرعية، كما ان النظام الوراثي الذي سنه معاوية في (الاسلام) ليس له اي اساس شرعي بالمطلق.
      فمن هذه الكتب، وهو اول كتاب ورد للامام من اهل الكوفة يعلنون فيه البيعة له والتسليم لقياده، كان نصه:
      اما بعد، فالحمد لله الذي قصم عدوك الجبار العنيد الذي انتزل على هذه الامة، فابتز امرها وتآمر عليها بغير رضى منها، فبعدا له كما بعدت ثمود، انه ليس علينا امام، فاقبل لعل الله ان يجمعنا بك على الحق، والنعمان بن بشير، الوالي، في قصر الامارة، لسنا نجتمع معه في جمعة ولا عيد، ولو قد بلغنا انك قد اقبلت، اخرجناه حتى نلحقه بالشام.
      وتوالت كتب البيعة على الامام، حتى قامت عليه الحجة بوجود الناصر على حد قول الامام امير المؤمنين عليه السلام، فكتب اليهم جميعا ما نصه:
      الى الملأ من المؤمنين والمسلمين، اما بعد.. قد فهمت كل الذي اقتصصتم وذكرتم ومقالة جلكم انه ليس علينا امام فاقبل لعل الله ان يجمعنا بك على الهدى والحق، وقد بعثت اليكم اخي وابن عمي وثقتي من اهل بيتي، وامرته ان يكتب الي بحالكم وامركم ورايكم، فان كتب الي انه قد اجتمع راي ملئكم وذوي الفضل والحجى منكم على مثل ما قدمت علي به رسلكم وقرات في كتبكم، اقدم عليكم وشيكا ان شاء الله، فلعمري ما الامام الا العامل بالكتاب والاخذ بالقسط والدائن بالحق والحابس نفسه على ذات الله، والسلام.
      بهذه النصوص يتبين لنا جليا بان الامام ومن كاتبه من المؤمنين والمسلمين كان هدفهم اسقاط السلطة الجائرة واقامة سلطة الحق محلها، ما يعني ان الحسين السبط طلب السلطة بالفعل من اجل الهدف الاسمى، الا وهو اقامة الحدود والعمل بكتاب الله وسنة نبيه وانصاف المظلوم والاخذ على يد الظالم، وهي القيم والمبادئ التي جاء بها جده رسول الاسلام (ص) واستقام عليها امير المؤمنين علي بن ابي طالب عليه السلام واخيه الحسن السبط عليه السلام.
      فعندما يحدد عليه السلام شروط الامام (الحاكم) والتي يعلم المخاطبين في كتابه، انها لا تنطبق الا عليه، يعني انه دعا الناس الى نفسه ليقيم سلطة الحق، ما يعني انه طلب السلطة بالفعل، فلم يكن مازحا او منظرا بعيدا عن الواقع ابدا، وهو الذي يعلم انه محاسب على كل كلمة يقولها، لما ستشكل من عوامل تخلق واقعا جديدا وخطيرا تذهب فيها نفوس وارواح.
      رابعا: ان كل خطب الامام تصب في امر استراتيجي واحد، الا وهو طلبه للسلطة من اجل الحق.
     ففي اول رد فعل له عليه السلام على محاولات معاوية لتوطئة الامور لابنه يزيد لتوليته السلطة بعد موته، كتب اليه الحسين السبط يقول:
      وفهمت ما ذكرت عن يزيد من اكتماله، وسياسته لامة محمد، تريد ان توهم الناس في يزيد، كانك تصف محجوبا، او تنعت غائبا، او تخبر عما كان مما احتويته بعلم خاص، وقد دل يزيد من نفسه على موضع رايه، فخذ ليزيد فيما اخذ فيه من استقرائه الكلاب المهارشة عند التهارش، والحمام السبق لاترابهن، والقيان ذوات المعازف، وصرب الملاهي، تجده باصرا، ودع عنك ما تحاول، فما اغناك ان تلقى الله من وزر هذا الخلق باكثر مما انت لاقيه، فوالله ما برحت تقدح باطلا في جور، وحنقا في ظلم، حتى ملأت الاسقية، وما بينك وبين الموت الا غمضة.
      ان هذا النص بمثابة فتح النار من قبل الامام على خطط معاوية ومحاولاته توريث السلطة لابنه يزيد، في اخطر بدعة سياسية يسنها في تاريخ الاسلام، ولذلك تصدى لها الامام بكل قوة وشجاعة دون سواه، كونه احق من غير على حد تعبيره.
      وفي نص آخر، يعتبر الامام ان بيعة يزيد ذلة لا ينبغي لمؤمن ان يعطيها ويقبل بها ابدا، لماذا؟ لان البيعة للحاكم الظالم المستبد لا تجوز باي شكل من الاشكال، وهي، البيعة، مسؤولية في عنق الانسان، عليه ان يمحص الامور قبل ان يختار لمن سيعطيها، فيمنحه ثقته، ويقلده دينه ودنياه.
      يقول عليه السلام:
      الا وان الدعي ابن الدعي قد ركز بين اثنتين بين السلة والذلة، وهيهات منا الذلة، يابى الله لنا ذلك ورسوله والمؤمنون، وجدود طابت، وحجور طهرت، وانوف حمية، ونفوس ابية، لا تؤثر طاعة اللئام على مصارع الكرام، الا واني قد اعذرت وانذرت، الا واني زاحف بهذه الاسرة، مع قلة العدد وكثرة العدو، وخذلان الناصر.
      ان ميزان الحق عند الامام ليس العدد، كثر او قل، وانما في قرب الموقف او بعده عن رضا الله تعالى، اولم يقل ابيه امير المؤمنين عليه السلام في معرض رده على من قال عنده بكثرة عدد العدو {انا لم نكن نقاتل فيما مضى بالكثرة، وانما كنا نقاتل بالنصر والمعونة} ولقد اكد الامام في اكثر من مناسبة من ان بيعة الطاغية يزيد لا ترضي الله ابدا، فهي ليست من حقه ولا تليق به ابدا، انما البيعة الحقيقية يجب ان تعطى لمن هو اهل لها الا وهو الامام نفسه دون سواه، كما قال ذلك بصراحة في اكثر من موقف.
      ان هذا الموقف جاء منسجما تماما مع راي امير المؤمنين عليه السلام عندما قال محددا صفة الامام الذي له الحق في تولية امور الناس، بقوله:
      وقد علمتم انه لا ينبغي ان يكون الوالي على الفروج والدماء والمغانم والاحكام وامامة المسلمين البخيل، فتكون في اموالهم نهمته، ولا الجاهل فيضلهم بجهله، ولا الجافي فيقطعهم بجفائه، ولا الحائف للدول فيتخذ قوما دون قوم، ولا المرتشي في الحكم فيذهب بالحقوق، ويقف بها دون المقاطع، ولا المعطل للسنة فيهلك الامة.
      كما انه جاء مترجما لقول امير المؤمنين عليه السلام، في وصفه للحاكم الظالم:
      وان شر الناس عند الله امام جائر ضل وضل به، فامات سنة ماخوذة، واحيا بدعة متروكة.
      وقوله عليه السلام:  
      ايها الناس، ان احق الناس بهذا الامر اقواهم عليه، واعلمهم بامر الله فيه.
      ولكل ذلك، صمم الامام على الخروج للسلطة لاسقاط سلطة الطاغوت واقامة سلطة العدل
   خامسا: لقد لخص الحسين السبط عليه السلام فلسفة حركته في نص وصيته التي تركها مع اخيه محمد بن الحنفية، والتي اشار فيها الى ان حركته هذه هي امتداد لحركة جده رسول الله (ص) وابيه امير المؤمنين، وبالتالي لحركة الاسلام العظيم، وان مما لا شك فيه هو ان جوهر حركة الاسلام هي (السلطة السياسية) القائمة على اساس رضا الناس من اجل اقامة الحق والعدل، بعيدا عن التعسف والظلم والقهر.
      وقبل ان نفصل في جوهر هذه الحركة، دعونا نقرا معا نص وصية الامام السبط، والتي يقول فيها:
      بسم الله الرحمن الرحيم، هذا ما اوصى به الحسين بن علي بن ابي طالب الى اخيه محمد المعروف بابن الحنفية ان الحسين يشهد ان لا اله الا الله وحده لا شريك له وان محمدا عبده ورسوله، جاء بالحق من عند الحق، وان الجنة والنار حق، وان الساعة آتية لا ريب فيها، وان الله يبعث من في القبور، واني لم اخرج اشرا ولا بطرا ولا مفسدا ولا ظالما وانما خرجت لطلب الاصلاح  في امة جدي (ص) اريد ان آمر بالمعروف وانهى عن المنكر، واسير بسيرة جدي وابي علي بن ابي طالب، فمن قبلني بقبول الحق فالله اولى بالحق، ومن رد علي هذا اصبر حتى يقضي الله بيني وبين القوم بالحق، وهو خير الحاكمين، وهذه وصيتي يا اخي اليك وما توفيقي الا بالله عليه توكلت واليه انيب.
      ان في النص ثلاثة مصطلحات دقيقة ذكرها الامام لتحديد هدفه من حركته ونهضته، وهو لم يوردها من باب الترادف اللغوي مثلا، وانما قصد كل واحدة منها على وجه الدقة، وهذه المصطلحات هي كالتالي:
      الاصلاح.
      الامر بالمعروف والنهي عن المنكر.
      السيرة المحمدية والعلوية.
      وكأن الامام اراد ان يتقدم بحركته بما يمكن تسميته بالمرحلية العلمية، فهو اولا، يبغي الاصلاح اذا وجد لذلك طريقا سهلة، من خلال الموقف الايجابي الذي يمكن ان تبديه الامة، برفضها البيعة ليزيد الطاغية، والقبول ببيعته كحاكم حق مفترض الطاعة.
      وهو، ثانيا، سيأمر بالمعروف وينهى عن المنكر اذا ما شعر بان موقف الامة لا زال متذبذبا بين الحق والباطل، اما خشية من سوط الحاكم الجديد، يزيد، او طمعا في دنياه.
      ثم تنتهي حركة الامام باقامة سلطة الحق السياسية على غرار سيرة جده وابيه، فالسيرة التي يقصدها هنا، بلا شك، تختلف عن الاصلاح والامر بالمعروف والنهي عن المنكر، فاذا كانت المرحلتين الاولى والثانية تاخذ الطابع النظري، من خلال الخطاب والقول والحديث والرسائل والكلام، لتوضيح المعاني والمفاهيم والرؤى، فان السيرة عادة تاخذ الطابع العملي، من خلال المشروع والمنهج الفعلي، بالضبط كما فعل رسول الله (ص) وامير المؤمنين (ع) فعندما يقول القران الكريم يصف لنا رسول الله (ص) بقوله {ولكم في رسول الله اسوة حسنة} لا يقصد بذلك في حديثه وقوله فحسب، وانما في فعله ومشروعه وممارساته، تلك التي خلفها للمسلمين كبرنامج عمل يمكن ان يكون سببا لاصلاح حالهم اذا ما اخذوا به، كما اننا اليوم عندما نسعى للالتزام بنهج امير المؤمنين عليه السلام، انما من خلال ما تركه لنا خلال فترة حكمه التي تعد نموذجا يحتذى في الممارسة، وليس في التنظير فقط.
      ومن اجل ان نفهم سيرة الاسلام وملامحها العامة التي قصدها الحسين السبط في وصيته والتي قال انه عازم على السير على نهجها والالتزام بها، تعالوا نقرأها من خلال النصوص التالية التي وردت على لسان امير المؤمنين عليه السلام.
      يقول عليه السلام {ولكني آسى ان يلي امر هذه الامة سفهاؤها وفجارها فيتخذوا مال الله دولا، وعباده خولا، والصالحين حربا، والفاسقين حزبا}.
      لذلك رفض الحسين السبط سلطة يزيد وطلبها لنفسه لانه احق من غير.
      ويقول (ع) {الذليل عندي عزيز حتى آخذ الحق له، والقوي عندي ضعيف حتى آخذ الحق منه}.
      لذلك صمم الحسين السبط على التغيير السياسي اولا، لان الحق لا يقام في ظل سلطة جائرة ابدا.
      ويقول عليه السلام {اما بعد، فان الجهاد باب من ابواب الجنة، فتحه الله لخاصة اوليائه، وهو لباس التقوى، ودرع الله الحصينة، وجنته الوثيقة، فمن تركه رغبة عنه، البسه الله ثوب الذل، وشمله البلاء، وديث بالصغار والقماءة، وضرب على قلبه بالاسهاب، واديل الحق منه بتضييع الجهاد، وسيم الخسف، ومنع النصف}.
      لذلك، فعندما صمم الحسين السبط على المقاومة من خلال رفضه البيعة وطلبه السلطة لاقامة الحق، اعتبر ذلك جهاد في سبيل الله يمكن ان ينتهي بالشهادة، ولذلك ظل يرحب بها طوال مسيره من مكة المكرمة وحتى استشهاده في كربلاء في عاشوراء عام 61 للهجرة.
      اخيرا، يقول امير المؤمنين عليه السلام {أأقنع من نفسي بان يقال: هذا امير المؤمنين، ولا اشاركهم في مكاره الدهر، او اكون اسوة لهم في جشوبة العيش، فما خلقت ليشغلني اكل الطيبات، كالبهيمة المربوطة، همها علفها، او المرسلة شغلها تقممها، تكترش من اعلافها، وتلهو عما يراد بها، او اترك سدى، او اهمل عابثا، او اجر حبل الظلالة، او اعتسف طريق المتاهة}.
      ولان هذا الشبل من ذاك الاسد، لذلك رفض الحسين عليه السلام ان يسكت عن الحق لانه سمع رسول الله (ص) يقول {الساكت عن الحق شيطان اخرس} فآثر الشهادة على الذل والقتل على السكوت على الظلم، رافضا ان يترك الطاغوت وشانه، والامة وما تعاني من ظلم وحيف من دون ان يواسيها محنتها، بل صمم على ان يعيش معاناة الامة ويتفاعل مع ما تتطلع اليه، من خلال تقديم النموذج السليم وتحديد معالم الجادة الصحيحة والمستقيمة، على ان يكون اولهم في الصف، حتى لا يظن احد من المسلمين انه يريدهم جسرا ليعبر عليهم الى السلطة، كما هو فعل الكثير من القادة والزعماء، فقال لهم {نفسي مع انفسكم، واهلي مع اهليكم، فلكم في اسوة}.
       فسلام على الحسين السبط، يوم ولد ويوم استشهد ويوم يبعث حيا في مقعد صدق عند مليك مقتدر.
معجزة اسمها زينب
      تعالوا، اولا، نتصور المشهد التالي:  
     حاكم ظالم متجبر يحمل سوطا يتوسط مجلسه في قصر الامارة في الشام، وقد التف حوله عدد كبير من الجلاوزة لحمايته وتقديم ما لذ وطاب من الطعام والشراب، له ولضيوفه من مندوبين اجانب ووزراء ومسؤولين في الدولة، بانتظار ان يستعرض انتصاراته العسكرية الباهرة التي حققها في العراق على فئة صغيرة من الرجال والشباب والصغار.
      في الاثناء، يدخل ركب من السبايا، يتالف من مجموعة من النساء والاطفال ومعهم رجل مريض انهكته (الجامعة) التي طوقت يديه ورجليه مشدودة الى رقبته النحيفة.
      في الركب (المهزوم) امراة تسمى زينب بنت علي بن ابي طالب بنت فاطمة الزهراء بنت محمد بن عبد الله، رسول الله (ص).
      فجاة، ومن دون سابق انذار، اذا بهذه المراة تنتفض واقفة بشموخ وهيبة امام (الحاكم) المنتصر، وجميع الحضور، تخاطبه من دون استئذان، قائلة: بعد ان ذكرت الله تعالى وحمدته وصلت على رسول الله وآل بيته الكرام الطيبين الطاهرين، وتلت الاية الكريمة {ثم كان عاقبة الذين اساؤوا السوءا ان كذبوا بايات الله وكانوا بها يستهزئون.
      اظننت يا يزيد، حين اخذت علينا اقطار الارض وآفاق السماء، فاصبحنا نساق كما تساق الاسارى ان بنا على الله هوانا، وبك عليه كرامة، وان ذلك لعظم خطرك عنده؟ فشمخت بانفك، ونظرت في عطفك، جذلان مسرورا، حين رايت الدنيا لك مستوسقة، والامور متسقة، وحين صفا لك ملكنا وسلطاننا، فمهلا مهلا، انسيت قول الله تعالى {ولا يحسبن الذين كفروا انهما نملي لهم خير لانفسهم، انما نملي لهم ليزدادوا اثما ولهم عذاب مهين} لتنزل هذه الكلمات، كالصاعقة التي احرقت عرش الظالم ودمرت كبرياءه.
      والى هنا تكون زينب قد تحدت الحاكم في عقر داره مرتين، وامام مراى ومسمع ضيوفه واركان دولته، المرة الاولى عندما تحدثت قبل ان تستاذنه، والثانية عندما خاطبته باسمه من دون ان تسبقه باية صفة من تلك الصفات التي يسطرها المتحدثون عادة في مجالس الحكام، خاصة مجالس الطغاة، وعلى وجه الخصوص عندما يكونون في موقف المنتصر عسكريا في معركة او حرب ما، لاستدرار نظرة عطف من الحاكم لهم، فيغدق عليهم بصرة من مال او منصب في الدولة، او ما اشبه.
      اما زينب المنتصرة، فليست من هذه النماذج ابدا، واقول منتصرة، ليس بالسيف او في ساحة المعركة ابدا، وانما تمثل انتصارها بقول كلمة حق عند سلطان جائر، وتلك هي قمة الانتصار.
      فعندما يتجلد المرء بالصبر عند الهزيمة المادية، ولا ينحني للظالم، او ينكسر امامه، ولا يخضع له، ويظل رابط الجاش شجاعا لا تهزه المحن، عندها سينزل بخصمه اشد الهزيمة، وان بدا منتصرا عليه، فالنصر لا يقاس بمساحة الارض التي يستولي عليها (المنتصر) كما ان الهزيمة لا تقاس بعدد الرؤوس التي تتطاير في ساحة المعركة، انما يقاس النصر والهزيمة بما تصيب المعركة من الارادة، فاذا ثبتت ولم تتزعزع، ظل المرء منتصرا حتى اذا خسر كل شئ في ساحة المعركة، وتلك هي هزيمة النظام السياسي الاموي على يد زينب بنت علي عليهما السلام حفيدة رسول الله (ص).
      وهل غير زينب شهد لها التاريخ بمثل هذا الموقف البطولي الرائع؟.
      هل سمعتم بامراة قتل اهل بيتها وانصارها في ساحة المعركة، ثم تساق اسيرة مكبلة بالسلاسل مع مجموعة من النساء والاطفال بالاضافة الى ابن اخ لها كان مريضا، ثم تقف في مجلس الحاكم المتجبر غير خائفة ولا مترددة ولا مرتعدة ولا متعتعة، لتخاطبه، من دون استئذان وبلا القاب، بلسان عربي فصيح وبلاغة لغوية ليس لها مثيل، وبشموخ واباء علويين؟.
      لقد لخصت زينب محتوى كلمتها، بمنطوق الاية التي افتتحت بها خطبتها البليغة، فلقد قالت للطاغوت بهذه الاية، بانك فعلت منكرا فكذبت بآيات الله تعالى واستهزأت بها.
      انها استنكرت فعلته الشنيعة بلا جدال، لان سلاحها كان اليقين اما سلاح الطاغوت فقد كان الكفر والاستهزاء.
      بعد ذلك، نبهته ومن يستمع لها او يقرا خطابها الى يوم الدين، الى حقيقة في غاية الاهمية، وهي ان (الانتصار) ليس دليلا على احقية صاحبه، كما ان الهزيمة ليست دليلا على بطلان دعوة صاحبها، وانما مقياس الحق والباطل هو العاقبة ومنقلب الانسان، فـ {الاعمال بخواتيمها} كما في الحديث النبوي الشريف.
      ان الناس عادة ما ينظرون الى الامور بشكل سطحي فلا يتعمقون بالعواقب وما تؤول اليه الامور، ولذلك نرى اكثرهم يقفون مع المنتصر والفائز بغض النظر عن جوهر الانتصار والفوز، ومن دون البحث في حقيقته، ولذلك فان الطغاة يشيعون دائما وراء كل فوز او انتصار بان ذلك دليل على انهم على حق، وان ما حققوه من انتصار على (العدو) كان من الله ليوهموا الناس بانهم يضربون بسيف الله ويحكمون بارادة الله، ولذلك فهم ظل الله في الارض، فهل يحق لاحد بعد كل هذه الادلة والبراهين ان يخرج عليهم بقول او فعل؟.
      انهم يحصنون سلطتهم الباطلة بمثل هذه التوصيفات لتخدير الناس ليناموا على طول اللدم، ليصل اليهم طالبهم.
      لقد خاطب (الرئيس العراقي) الاسبق احمد حسن البكر وفد اهالي مدينتي كربلاء المقدسة والنجف الاشرف عندما زاره في القصر الجمهوري في العاصمة بغداد بعيد انتفاضة صفر المظفرة في عام (1977) والتي كان النظام البائد قد قمعها بشكل تعسفي راح ضحيتها المئات من الشهداء والسجناء، خاطبهم بهذا المنطق عندما قال لهم (ان تمكننا من الغوغاء والسيطرة على الاوضاع العامة، دليل على اننا على حق وان الله تعالى معنا، فلماذا يحاول الناس بين الفترة والاخرى ازاحتنا عن السلطة)؟.
      لقد ظل الطاغية الذليل صدام حسين يسجل (الانتصارات) الواحد تلو الاخر، فتارة على شعبنا الكردي في الشمال، واخرى على شعبنا العربي في الوسط والجنوب، وثالثة على الشعب الايراني في الشرق ورابعة على الشعب الكويتي في اقصى الجنوب، ولقد ظل يخدع السذج والبسطاء من العراقيين، و المنتفعين والمنافقين من شعوب (امة العرب المجيدة) فماذا كانت المحصلة النهائية لكل تلك (الانتصارات)؟ الجواب اخراجه من بالوعة ضائعة وسط الصحراء خائف ذليل ترتعد فرائصه.
      ان الطاغوت يبذل عادة كل جهد ممكن من اجل خداع الناس وتضليلهم، من اجل اقناعهم باحقية موقفه وقراره في كل الاحوال، ولذلك تختلط المفاهيم والعبارات عند الناس وهم يستمعون الى اعلام الطاغوت، كما هو الحال اليوم مثلا مع نظام آل سعود وحزبه الوهابي الذي يصدر فقهاءه الفتاوى لخدمة اهدافه الضالة واجنداته المشبوهة، لقتل عقل الانسان قبل قتل جسده.
      ان دعاية الطاغوت تخلط الاوراق في عقول الناس، من اجل ان تقلب المفاهيم والمعاني، اذا بسبط الرسول الكريم (ص) يتحول الى خارجي وبنت الرسالة الى امة والحق باطلا، وشارب الخمر وقاتل النفس المحترمة واللاعب بالقرود الى امير للمؤمنين، ثم تقلب الدعاية الهزيمة الى نصر والنصر الى هزيمة وهكذا، وكل ذلك من اجل تضييع الحقائق، بعد الاستخفاف بعقول الناس.
      اذن، ليس كل منتصر، له كرامة عند الله تعالى، كما انه ليس كل مهزوم له هوانا عليه سبحانه وتعالى ابدا، فلقد قتل الانبياء والرسل والصالحين والاولياء على مدى تاريخ البشرية، وقتل قابيل هابيل، كما انتصر الطغاة الجبابرة والقتلة والمجرمين والحكام الظالمين، فماذا كانت النتيجة؟ هل يعقل ان نقول بان الضحايا كانوا دوما اهون على الله تعالى من الطغاة والجبابرة؟ بالتاكيد كلا والف كلا؟.
      ولو كان النصر دليل احقية صاحبه، فهذا يعني اننا يجب ان نسلم باحقية اسرائيل التي حققت الانتصار تلو الانتصار على العرب والمسلمين في كل حرب دخلتها معهم، منذ العام 1948 ولحد الان، فما رايكم ايها العرب والمسلمون؟ هل تسلمون بحقها؟ ام تغيرون طريقة تفكيركم، وتعيدون النظر في متبنياتكم ومسلماتكم؟.
      ثم تستمر زينب في خطبتها فتقول:
      امن العدل يا ابن الطلقاء، تخديرك حرائرك واماءك، وسوقك بنات رسول الله سبايا؟.
      لقد نبهت زينب الطاغية والمستمعين ممن غسلت عقولهم ماكينة الدعاية الاموية من ان هذا الذي تحدثه ليس الا طليق وابن طليق ولذلك لا يحق له ان يجلس في هذا المكان، وان وجوده الان على مقعد الرئاسة خلاف كل الاعراف والمواثيق الدينية والدنيوية، في محاولة منها للكشف عن الحقائق الدامغة التي يعنيها ان يكون طاغية مثل يزيد حاكما للمسلمين.
      ثم تكرر المفهوم بقولها:
      الا فالعجب كل العجب لقتل حزب الله النجباء، بحزب الشيطان الطلقاء.
      ثم تختتم خطبتها بقسم نطقت به على لسان الوحي، فظل خالدا ابد الدهر، وكانها تقرا المستقبل ليس المنظور ابدا، وانما الممتد الى يوم القيامة، بقولها:
      فكد كيدك، واسع سعيك، وناصب جهدك، فوالله لا تمحو ذكرنا، ولا تميت وحينا، ولا يرحض عنك عارها، وهل رايك الا فند؟ وايامك الا عدد؟ وجمعك الا بدد؟ يوم ينادي المنادي الا لعنة الله على الظالمين.
      انه كقسم ابيها امير المؤمنين علي بن ابي طالب عندما ضربه المجرم بسيفه المسموم في محراب الصلاة، في مسجد الكوفة قائلا {فوز ورب الكعبة} وهل تجرؤ غير زينب ابنة علي ان تقسم بهذا الشكل؟ الا تخاف ان يكذبها الزمن؟ الا تخشى ان يطمس الطغاة ذكر الحسين السبط فيفتضح قسمها؟ الا يعني انها كانت واثقة جدا مما تقول، من دون تردد او خوف او احتمال؟ الا يعني انها كانت في تلك اللحظة في قمة الثقة بالله تعالى واليقين بوعده، لدرجة لو كشف لها الغطاء في تلك اللحظة لما ازدادت يقينا؟.
      تعالوا الان نتعلم الدروس التالية من هذا الموقف الزينبي العظيم، خاصة النساء، فالمراة اولى من الرجل بزينب لتاخذ منها الدرس البليغ:
      اولا: التحلي بالشجاعة في المواقف الصعبة، فلا تاخذنا في قول الصدق لومة لائم.
      ثانيا: الحق يؤخذ ولا يعطى ابدا، ولذلك يجب ان لا نسكت عن حقوقنا التي ضيعها الطغاة والظالمين. 
      ثالثا: وضع المسؤول في حجمه الطبيعي فلا تاليه ولا عبادة للشخصية ولا هم يحزنون.
      رابعا: ان نكون مع الحق، في كل الحالات، وليس مع المنتصر على اية حال.
      فنكون مع الحق دائما، بغض النظر عن موقعه، افي السلطة ام خارجها، في السجن ام خارجه، منتصرا ام مهزوما، غنيا كان ام فقيرا، المهم ان نكون معه، ننصره ونقف معه وندعو له ونضحي من اجله، فلا نخذله او نتفرج عليه ونحن على نصره قادرون.
      اما ان نكون معه اذا كان حاكما ونتخلى عنه اذا خسر السلطة، او ان نؤيده اذا كان منتصرا ونخذله اذا كان مسجونا، او ان نكون معه اذا كان ثريا، ولا نعرفه اذا افتقر، فان ذلك عين الوصولية والانانية والنفاق.
      خامسا: ان نكون على يقين، فلا نتردد لكلمة نسمعها او خبر نقراه، خاصة في زمن الفتنة التي تزداد فيه الدعايات والشائعات والاكاذيب والاقاويل، وكل ذلك من اجل انتزاع الثقة واليقين من نفوسنا لتتلاعب بنا الاهواء فتتقاذفنا الشكوك لتغير او تبدل مسيرتنا وثوابتنا ومعتقداتنا.
      سادسا: وكل هذه الصفات العظيمة لا يكتسبها الانسان الا اذا كان على علاقة حسنة مع ربه، فهو الذي يخيف كل شئ من عبده اذا خافه في السراء والضراء.
      سابعا: ان اعظم طاغوت يتضاءل خطره ويتلاشى وجوده امام ارادة الانسان مهما كان ضعيفا اذا كان    على حق ومتيقن من انه على حق، اما اذا شك في حقه وتردد في موقفه، فليس بامكانه ان يحقق شيئا ابدا.
      ثامنا: انما يتغلب الانسان الضعيف المهزوم على الطاغوت المتجبر المنتصر، عندما لا يتوسم فيه خيرا، وعندما لا يمد يده الا الى الله، اما المرء الذي يتذلل لحاكم ويتودد لسلطان من اجل ما في يده، فليس بامكانه ان ينتزع منه حقا ابدا، فكيف يمكن لفقيه ان ياخذ الظالم على يديه اذا كان ينتظر مرتبه منه راس كل شهر؟.
      تاسعا: ان نعرف قدر انفسنا، فنقول الحق ولو عليها، خاصة امام سلطان جائر، اما الفقهاء الذين يستلمون مرتباتهم الشهرية من السلطان فتراهم اذلاء عند بابه، فليس بامكانهم ان يقولوا كلمة الحق ابدا، بل انك تراهم يفبركون الفتاوى خدمة للسلطان وارضاءا لشهواته، كما هو حال فقهاء التكفير من وعاظ السلاطين وفقهاء بلاط آل سعود مثلا.
      عاشرا: ان لا نسكت عن حق، ولا نخضع لباطل، ولا نتجاهل ظلم.
      ان الطاغوت الذي ينزو على السلطة من دون تفويض من الناس او اختيار منهم، كأن ينزو عليها بالوراثة  او بالانقلاب العسكري، او بالتآمر والقتل والفتك، كما هو شأن سلطة آل سعود الذين تمكنوا منها بالقتل والفتك عبر علاقة سفاح مع سلطة (الحزب الوهابي) الدينية، ان الطاغوت يبذل كل ما في وسعه من اجل تكميم الافواه ومنع الناس من الكلام والاعتراض والحديث عن الشان العام، انه يسخر سياسة النفي والابعاد للمعارضة، وكل ذلك، من اجل ان لا يفتضح امره، ولا تنكشف حقيقة الامور امام الملأ.
      اما نحن فيجب ان لا نسكت، فنرفض محاولات الطاغوت تكميم الافواه، بل ان علينا ان نصرخ بقضايانا العادلة، ونتحدث فيها وعنها بكل شكل من الاشكال.
      لقد سال رجل الامام السبط الحسن المجتبى عليه السلام عن السياسة فقال {السياسة ان ترعى حقوق الله وحقوق الاحياء وحقوق الاموات} ثم اضاف {وان تخلص لولي الامر ما اخلص لامته، وترفع عقيرتك في وجهه اذا ما حاد عن الطريق السوي}.
      حادي عشر: ان نبادر الى تبليغ الرسالة في كل الظروف والحالات.
      اننا اصحاب رسالة ينبغي ان لا نتباطا في تبليغها، او نتهاون في ايصالها الى اسماع العالم، فالى متى تظل شعوبنا ترزح تحت نير انظمة سياسية استبدادية شمولية تحكم بالحديد والنار وتكميم الافواه، تسحق حقوق المواطن سحقا، وتهين كرامته وتعتدي على حقوقه؟.
      الى متى تظل شعوبنا اغلبيتها جاهلة امية، تعاني من شتى الامراض، لا تجد قوت يومها، تحصدها الحروب العبثية، او الفتن الداخلية التي يغذيها البترو دولار وفتاوى فقهاء التكفير؟ فيما تنعم حفنة من الحكام وجلاوزتهم بخيراتها وما انعم الله تعالى عليها؟.
      الى متى تعاني شعوبنا من سياسات التجهيل والتمييز الاثني والطائفي وغير ذلك؟.
      لو اننا التزمنا بالنهج الزينبي، فتمسكنا بحقوقنا ونصرنا الحق وجانبنا الباطل، ووقفنا مع المظلوم ضد الظالم، لغيرنا اشياء، ولتبدل حالنا الى احسن حال، ولما بقينا نسير في نهاية ركب البشرية، وكاننا عبيد لحكام مستبدين جهلة انبطحوا امام القوي من اجل السلطة فحسب.، فقدموا البترول على طبق من ذهب مقابل تعهد بحماية سلطة العائلة، آل سعود نموذجا.
      لقد رسمت زينب عليها السلام معالم حقوق المراة، فلنبادر الى افراد فصول خاصة في مواد التاريخ والتربية والتعليم عن هذه المدرسة الحية التي جسدت في مواقفها كل معاني البطولة والشجاعة والحرية والارادة والحق، لنقدم بها انموذجا يحتذى لبناتنا بدلا عن النماذج المدمرة التي تقدمها الفضائيات. 
      والان:
      الا تتفقون معي كون زينب عليها السلام معجزة؟.
خطاب العمائم
      مع ولادة هلال شهر محرم الحرام من كل عام، يشخص (المنبر الحسيني) كواحد من اقدس الادوات التي تحمل رسالة خالدة على مر العصور، منذ ان ارتقى الامام علي بن الحسين زين العابدين السجاد عليه السلام اعواده في المسجد الجامع في مدينة دمشق عاصمة بلاد الشام، وذلك بعيد استشهاد ابيه الامام السبط الحسين بن علي عليهما السلام في كربلاء في العاشر من المحرم عام 61 للهجرة، وثلة من اهل بيته واصحابه الكرام الميامين على يد جيش البغي الذي حشد له بنو امية وخليفتهم آنئذ الطاغية يزيد بن معاوية، المشهور بالفسق والفجور والانحراف الخلقي والشذوذ بكل اشكاله، في محاولة منهم للقضاء على الدين وائمته.
      ولقد ظل (المنبر الحسيني) محافظا على اصالته واستقلاله واستقامته على مر التاريخ، على الرغم من كل الظروف القاسية التي مرت عليه والتي حاولت شراءه لصالح الطغاة، تارة، او تحريف مسار نهجه لينتهي الى غايات غير سليمة، تارة اخرى، او قولبته في اطر حزبية ضيقة، او ما الى ذلك من المحاولات، الا ان انتماء المنبر الى الحسين السبط عليه السلام، والى رسالته الخالدة والمقدسة، حالت دون ذلك كله، فبقي هذا المنبر عصيا على الانحراف والتهميش والحزبية الضيقة وكل ما لا يمت الى الاسلام والى رسالة الحسين السبط بصلة.
      ولقد ظلت ترتقي هذا المنبر عمائم في غاية النبل والانسانية، مملوءة علما ومعرفة واخلاقا وفنا، نجحت في ايصال الرسالة الى المتلقي على احسن وجه، فتربت تحت منابرها اجيال واجيال، فيهم العلماء وفيهم الفقهاء والمثقفين، وفيهم المجاهدين والشهداء والصديقين، كما ان فيهم من اولياء الله الصالحين الكثير جدا.
      وفي الاثناء، فقد ارتقت المنبر في بعض الاحيان، وللاسف الشديد، عمائم فاسدة تجهل رسالة المنبر الحسيني ولا تعي ما تقول ولا تفهم من فن الخطابة والبيان شيئا، ولذلك فقد اساءت مثل هذه العمائم لقدسية (المنبر الحسيني) وقبل ذلك اساءت للحسين السبط عليه السلام، ولرسالته الخالدة وثورته الانسانية.
      ولكم تمنى كثيرون ان يصار الى طريقة ما لمنع مثل هذه العمائم من ارتقاء المنبر الحسيني ليحافظ على القه ولا يفسده جهلها، الا ان كون المنبر حرا لا يمتلكه احد، فهو ليس شركة مساهمة مثلا، او حزبا معينا لا يرتقيه الا من ينتمي اليه من الحزبيين، لذلك اختلط احيانا الحابل بالنابل، فارتقته العمائم باشكال والوان مختلفة الاتجاهات والمستويات العلمية والفكرية والفنية، الخطابية.
      ان مسؤولية الحفاظ على كرامة وقدسية ومنزلة المنبر الحسيني هي مسؤولية تضامنية، تقع بالدرجة الاولى على عاتق المتلقين (الناس) الذين يجب عليهم ان يميزوا بين الصالح والطالح من العمائم التي ترتقيه، فاذا علم الناس ان هذه العمامة او تلك ليست اهلا لارتقاء المنبر، فان عليهم ان لا يشجعوها على المواصلة والاستمرار، وذلك من خلال مقاطعتها وعدم الحضور عندها، والعكس هو الصحيح، فعندما يعرف الناس ان هذه العمامة او تلك اهلا لارتقاء المنبر فان من واجبها ان تواصل الحضور الفاعل والمتفاعل، وتشجع الاخرين على الحضور والتواصل معها.
      كما تقع بعض المسؤولية على اصحاب المواكب والمجالس، من خلال حسن اختيار العمامة، فلا يسمحوا لمن هب ودب ان يرتقي منبر الحسين السبط، بحجة (ليس بالامكان افضل مما كان) او من باب (ملء الفراغ) فذلك ضرره اكثر من نفعه.
      ان بعض الناس، وللاسف الشديد، يحضرون المنبر على اية حال، بغض النظر عن نوعية العمامة التي ترتقيه ومدى حجم مستواها العلمي، وكانهم بذلك يمارسون قاعدة (اسقاط الواجب) في الحضور ليس الا، من دون ان يتعاملوا مع عملية الحضور كمسؤولية شرعية واخلاقية، او على الاقل لاحترام العقل والادراك والفهم، ولهذا السبب نلاحظ ان جل الاعداد الغفيرة التي تحضر المجالس الحسينية تقضي وقتها خارج المجلس، فبينما يتحدث الخطيب على المنبر، اذا بهم يقضون الوقت بالسمر واللهو واحاديث اللغو والغيبة والنميمة والبهتان، وغير ذلك.
      صحيح ان حضور المجالس، على اية حال، عمل فيه الكثير من الثواب، وهو احياء لشعيرة من شعائر الله تعالى امرنا يتعظيمها، فهي من تقوى القلوب حسب قول الله تعالى في محكم كتابه الكريم {ومن يعظم شعائر الله فانها من تقوى القلوب}  الا ان الثواب الاكبر والشعيرة الاعظم، هو ان نستفيد من المنبر ولا نساهم في تحويله الى ملتقى للعاطلين والبطالين الذين يحضرونه لقضاء الوقت وحديث اللهو.
      ان تعظيم شعائر الله لا يتم بحضور الجسد دون العقل والفكر، وان التقوى لا ينتجها التعظيم الاجوف الفارغ من العقل والفهم والوعي، فالحضور الذي لا يرتب اثرا على ما يسمعه المتلقي من العمامة، لهو حضور لهو ولعب نهانا الله تعالى عنه.
      يجب ان ينتبه المتلقي الى دوره في تطوير المنبر الحسيني، وتحسين اداء العمامة، فالملاحظ ان هناك تناسبا طرديا بين عقل المتلقي ووعيه مع عقل ووعي العمامة، فالمتلقي العاقل والواعي يحضر مجالس العمائم العاقلة والواعية، والعكس هو الصحيح، اليس كذلك؟.
      صحيح ان للعمامة قدسيتها ومنزلتها في مجتمعاتنا، ولكن هذه القدسية يجب ان لا تكون على حساب عقولنا وقدسية المنبر الحسيني، فالملاك يجب ان لا يكون بالعمامة، وانما بما تحت العمامة، من عقل وفكر ووعي واخلاق والتزام، والا، كم من عمامة تحملها لحية طويلة عشعش وبيض وفرخ فيها الشيطان؟ من تلك العمائم التي لا تعرف من الدين الا فتاوى التكفير والقتل والذبح والتدمير؟ وكم من عمامة ليس تحتها الا الجهل والتخلف والشعوذة؟ وكم من عمامة تخفي تحتها الفساد والغش والتزوير واللصوصية؟.
      انني اعتقد بان المنبر الحسيني بحاجة اليوم الى الكثير من اجل ان يعيد رونقه واصالته، ومن اجل ان تعيد العمامة التي ترتقيه موقعها الريادي في المجتمع، ليس الاسلامي فقط وانما في المجتمع بشكل عام، خاصة في بلاد الغرب وبلدان المهجر، فالمنبر اليوم، كاداة ووسيلة، يواجه تحديات عظيمة، كما ان العمامة هي الاخرى تواجه تحديات عظيمة، ففي ظل العولمة ونظام القرية الصغيرة، يكون المتلقي اليوم امام خيارات عديدة، قد لا يكون المنبر والعمامة افضلها اذا ظلتا على حالهما من دون تطوير وترشيد.
      وكمحاولة مني للمساهمة في ترشيد المنبر الحسيني والعمامة، والمشاركة في تطوير دورهما وحضورهما، وددت ان ادلي بدلوي هنا من خلال النقاط التالية التي استقيتها من الواقع المعاش عبر متابعة دقيقة دامت عقودا طويلة لمسيرة المنبر والعمائم:
      اولا: تطوير الادوات، وعلى راسها طريقة تعامل العمامة مع المتلقي، فبرايي فلقد ولى زمن التلقي فقط، اذ لم يعد الحضور يكتفي بالاستماع فقط والاصغاء الى العمامة، بل انه يريد ان يشارك في الحديث المطروح للنقاش، على الاقل من خلال طرح الاسئلة، فيا حبذا لو يخصص كل منبر وقتا معينا لتلقي اسئلة الحضور، ليترك المتلقي المجلس وقد تلقى اغلب الاجوبة على اغلب اسئلته.
      ان كل متلقي يحضر المجلس، عادة ما تدور في ذهنه الكثير من الاسئلة وعلى مختلف الاصعدة، ولذلك فهو يتمنى ان يجد في المنبر الذي يحضره جوابا عليها او بعضها، الا ان حديث الخطيب لوحده قد لا يصب في مجرى الجواب الذي ينتظره المتلقي على اسئلته التي تدور في ذهنه، فاذا فتح باب الحوار والسؤال فقد يجد المتلقي الفرصة المناسبة لطرح تساؤلاته وتلقي الاجابة عليها.
      ومن اجل فائدة اكبر، يلزم تنظيم الحوارات وطريقة طرح الاسئلة بحيث تصب جميعها في اطار مادة المحاضرة، حتى لا يتشعب الحديث فتضيع الفكرة ويضيع الوقت على الناس.
     كذلك، يلزم العمامة ان تاخذ بافضل طرق الاتصال الحديثة، ان على صعيد طريقة تنظيم الخطاب، او على صعيد خلق حالة التواصل بين المتلقي ومادة الحديث، كطريقة طرح الاسئلة او اثارة الفضول عنده للبحث في الموضوع بعد انتهاء المجلس، او احالته الى بعض الكتب والمواقع التي تبحث في مادة الخطاب، وغير ذلك.
      ثانيا: العمامة تقع عليها مسؤولية التعرف على نوعية المتلقين قبل ان تصعد المنبر، لتعرف كيف توجه حديثها في الاطار الذي يخدمهم فكريا وثقافيا ودينيا واخلاقيا واجتماعيا بشكل مباشر.
      ان التعرف على المتلقين، والاطلاع على مستوى وعيهم وظروف حياتهم ومشاكلهم الاجتماعية والفكرية التي تحيط بهم، يساعد العمامة على تحديد العلاجات بشكل انسب، اما اذا ارتقت العمامة المنبر وهي لا تعرف مع من ستتحدث؟ والى من ستوجه حديثها؟ فان ذلك يخلق فجوة كبيرة بينها وبين المتلقين، ما يقلل من عزيمتهم في مواصلة الحضور، لان افضل مثل سينطبق على العمامة بمثل هذه الحالة القول المشهور (عرب وين طنبورة وين) في اشارة الى عدم تطابق حديث المنبر مع ما يدور في ذهن المتلقين.
      يجب ان يلمس المتلقي تاثير المنبر على سلوكياته فورا، والا فما فائدة الحضور اذا كان المنبر لا يزيدنا شيئا جديدا ولا ينقص من معاناتنا شيئا يذكر، ولا يحل من مشاكلنا حتى واحدة منها؟ ولا يمكن الوصول الى مثل هذا التاثير اذا كان حديث العمامة في واد ومشاكل الناس في واد آخر؟.
      ان دور العمامة للمتلقي كدور الطبيب للمريض، فكما ان المريض ينتظر ان يجد حلا لمشاكله الصحية عنما يراجع الطبيب، كذلك فان المتلقي ينتظر ان يجد اجوبة على اسئلته ومشاكله عندما يجلس تحت المنبر، والفرق الوحيد بين الطبيب والعمامة، هو ان الاول لا يحتاج الى ان يبحث عن مشاكل المريض، فالاخير يتطوع في سردها امامه ربما مكرها، اما العمامة فمضطرة الى ان تتقصى مشاكل المتلقين قبل ان تصعد المنبر، لانه لا احد، وللاسف الشديد، يتجرأ للحديث عن مشاكله الاجتماعية والثقافية والاخلاقية وربما الفقهية لأحد، فما بالك اذا كان خطيبا يرتقي المنبر؟.
      وبالمجمل، فان المتلقين في جل المجالس، متنوعون وعلى مختلف الاصعدة، سواء بالعمر او بالجنس او بالثقافة او بالوعي او بالايمان، او ربما حتى بالانتماء الديني والمذهبي، ولذلك يلزم العمامة ان يكون مقياسها العام في الخطابة هو قول امير المؤمنين عليه السلام {احسن الكلام ما زانه حسن النظام وفهمه الخاص والعام}.
      ثالثا: التحضير للمنبر على اكمل وجه، من دون ان تكتفي العمامة بالاعتماد على ذاكرتها، فان ذلك يزيد من ظاهرة التكرار والاجترار، ما يقلل من اهمية المنبر وقيمته، وربما يقلل من رواده.
      ان بعض العمائم تبني خطابها على عدد الحضور، فاذا كان كبيرا استعدت لخطابها، والا ففي الذاكرة ما يكفي ويزيد، وهذا خطا كبير لا ينبغي للعمامة ان ترتكبه، وان عليها ان تتعامل مع المنبر كمسؤولية ازاء كل كلمة تتفوه بها على المنبر، وكذلك ازاء الوقت، وهو شئ مقدس، الذي تاخذه من المتلقين، فالساعة التي يقضيها الخطيب على المنبر تساوي مئة ساعة اذا كان عدد الحضور مئة نفر وهكذا، ولذلك فان على العمامة ان تحسب لكل ذلك حسابه، فعليها ان تستعد للموضوع ولا فرق في ذلك اكان الحضور بالملايين ام بالعشرات، فما يدريك فقد يستفيد واحد من العشرات ما لم يستفده الملايين، وقد يتاثر الواحد من العشرات ما يحثه على العمل وممارسة التغيير بما لا يؤثر على الملايين.
      لقد نقل لي احد الاصدقاء عن المرحوم المقدس آية الله السيد رضا الشيرازي (قدس سره) قوله عندما ساله عن مدى استعداده وتحضيره في كل مرة ينوي ان يلقي فيه محاضرة او كلمة، وما اذا كان عدد الحضور يؤثر على نوعية هذا الاستعداد؟ فاجاب:
      انني استعد لالقاء الحديث على اكمل وجه، بغض النظر عن عدد الحضور، لانني اخاطب الانسان من على المنبر، الانسان الذي اعارني عقله ووقته، ولذلك لا اقصر في الاستعداد له، ولو لم يكن في المجلس عددا من الحضور الذي يعتد به الخطيب، اوليس الله تعالى حاضرا يسمع كلامي ويشهد على ما اقول؟.
      بهذا الوعي يجب ان تتعامل العمائم مع المنبر، بغض النظر عن عدد رواده، ولذلك ظلت كل منابر السيد الفقيد حية ونافعة، حتى بعد رحيله وغيابه المفاجئ عن الساحة، وعن ساحة الوغى، المنبر الحسيني.
      على العكس من ذلك فان هناك بعض العمائم من لا تبذل ابسط جهد من اجل التحضير والاستعداد للمنبر، ولقد سمعت مرة احدها يقول، انني، وبفضل الامام الحسين عليه السلام، لا زلت اصعد المنبر مدة اربعين عاما من دون ان اقرا كتابا واحدا، فيما اعتبره الحضور معجزة فرفعوا اصواتهم بالصلاة على محمد وآل محمد.
      انه التسطيح والضحك على الذقون واستغلال طيبة الناس، اليس كذلك؟.
      انا اعتقد بان الاستعداد للمنبر فرصة للعمامة من اجل:
      الف؛ التطوير وزيادة المعرفة وتوسيع الثقافات والمدارك، اولم يقل امير المؤمنين عليه السلام {منهومان لا يشبعان، طالب علم وطالب دنيا}؟.
      باء؛ اعادة النظر في بعض المتبنيات وما يعتقده البعض انها ثوابت لا تمس.
      جيم: ممارسة الرقابة الذاتية، واذا اقتضى الامر المحاسبة الذاتية.
      ان على العمامة ان تفكر في مادة الحديث قبل ان ترتقي المنبر، لتستكشف الحسين عليه السلام وتبدع في الافكار وتجدد في المفاهيم، فلا تكن نقالة للحديث، مستنسخة للمجالس، فلقد ورد عن امير المؤمنين عليه السلام قوله {العلم علمان، مطبوع ومسموع، ولا ينفع المسموع اذا لم يكن المطبوع}.
      لقد رايت بام عيني بعض العمائم (تدرخ) محاضرات سابقة لخطباء مشهورين ثم ترتقي المنبر لتسردها بالنص كما حفظتها، فتراها تستنسخ حتى (العطسة) والضحكة وطريقة الحمحمة.
      من جانب آخر، فان بعض العمائم تتعامل مع الحضور وكانهم همج رعاع او جهلة واميون، او في احسن الفروض عوام لا يفقهون، ولذلك تتصور بان كل ما ستقوله على المنبر لهؤلاء هو شئ جديد بالنسبة لهم، فما الداعي للتحضير المسبق والاستعداد؟.
      ان هذه الطريقة من التفكير تفقد المنبر زبائنه ورواده فليس الناس هكذا، اذ ان فيهم العلماء والمثقفين والواعين الشئ الكثير، ولو لم يكن فيهم من هؤلاء احد، افلا تطمح العمامة الى ان تستقطب هذه الانواع الى منابرها؟ ولذلك ينبغي على العمامة ان لا تستهين بالحضور ولا تستخف بعقولهم.
      رابعا: ان من الامور التي لا تشجع الناس، خاصة الشباب في بلاد الغرب، على دوام الحضور في مجالس الكثير من العمائم، هو انها تسرد على المنبر ما تتذكره من روايات من دون الانتباه الى نوعية المتلقين.
      فلا زال الكثير من العمائم تجتر الروايات الضعيفة وبعضها غير المعقولة فيما يخص تاريخ النهضة الحسينية وتفاصيلها، فاذا كانت مثل هذه الروايات مقبولة في القرن الماضي ولمتلقين في ازقة كربلاء والنجف مثلا، فانها بالتاكيد غير مقبولة اليوم، في عصر العلم والمدنية الحديثة وعصر الانترنيت، وزمن تعدد الثقافات وتنوع الاتجاهات والوعي وغير ذلك.
      يجب ان تكون قاعدة العمائم على المنبر هو القول الماثور (ما كل ما يعرف يقال) فليس كل رواية او قصة يعرفها الخطيب عليه ان يسردها على المنبر، بل يلزمه ان يتمحص الزمان والمكان والمتلقين قبل ان يسرد رواياته، لياتي خطابه قويا وليس ضعيفا ينفر الناس، خاصة الشباب منهم.
      ولقد نبه امير المؤمنين عليه السلام الى ذلك بقوله {لا تقل ما لا تعلم، بل لا تقل كل ما تعلم، فان الله فرض على جوارحك كلها فرائض يحتج بها عليك يوم القيامة} كما ورد عنه عليه السلام قوله {اعقلوا الخبر اذا سمعتموه عقل رعاية لا عقل رواية، فان رواة العلم كثير، ورعاته قليل}.
      لقد فقدت الكثير من العمائم (زبائنها) بسبب انها لم تسع لتغيير وتطوير طريقة سردها للروايات، وهنا تستحضرني قصة ظريفة لخطيب ارتقى المنبر في الولايات المتحدة الاميركية وصادف ان الحضور كانوا من المسلمين السود (الزنوج) فقط، فاراد ان يشدهم الى الحسين السبط عليه السلام ونهضته المباركة، ففكر في ان يذكر لهم قصة جون مولى ابي ذر، ذلك العبد الاسود الذي استشهد بين يدي ابي عبد الله (ع) في يوم عاشوراء، فبادر الخطيب الى نقل قصته بالتفصيل الممل، كما يقول المثل، من دون الانتباه الى نوعية الحضور، فقال بان جون عليه السلام قال للحسين السبط عندما اراد ان يستاذنه للقتال بين يديه (ان ريحي لنتن وحسبي للئيم ولوني لاسود، فتنفس علي بالجنة ليطيب ريحي ويشرف حسبي ويبيض لوني).
      في هذه الاثناء فوجئ صاحبنا الخطيب بتسلل الحضور الى خارج المجلس الواحد تلو الاخر، ليبقى وحده على المنبر من دون مستمعين.
      ترك المنبر ونزل من عليه مهرولا ليلحق ببعضهم، مستفسرا عن سر خروجهم من المجلس، فاجابوه: وهل برايك ان السود (الزنوج) ريحهم نتنة؟ اذا كنت تعتقد بذلك، فما رايك بنا؟.
      لتتذكر العمامة قبل ان ترتقي المنبر قول امير المؤمنين عليه السلام {الكلام في وثاقك ما لم تتكلم به، فاذا تكلمت به صرت في وثاقه، فاخزن لسانك كما تخزن ذهبك وورقك، فرب كلمة سلبت نعمة وجلبت نقمة}.
      خامسا: ان مشكلة بعض العمائم هي انها تكتفي بالتحليل الغيبي لنهضة الامام الحسين السبط عليه السلام، وهذا خطا في خطا، ينبغي ان تنتبه له العمائم من اجل تحسين الاداء، فالحسين السبط ليس غيبا كله.
      عليها ان تتناول النهضة الحسينية من جوانبها المختلفة، مثل؛
      الف: الجانب العقلي والمنطقي الذي يعتمد القران الكريم، اوليس الحسين السبط هو القران الناطق، فاين القران من المنبر الحسيني؟. 
      للاسف الشديد فلقد اصبح القران الكريم اليوم هو الغائب الاكبر في مجالس الحسين عليه السلام، بسبب استغراقنا بالغيبيات وتفسير الاحلام التي نلجا اليها لتفسير وتحليل كل ما لا تستوعبه عقولنا وافهامنا، او للتعبئة العاطفية في اغلب الاحيان.
      باء: الجانب التاريخي، شريطة ان لا يتوقف المنبر عند التاريخ، وانما يجب ان يستنطق التاريخ لواقع الحال ولقراءة المستقبل، لنستلهم منه الحلول الناجعة لمختلف مشاكلنا، اوليس التاريخ مرآة؟.
      جيم: الجانب الاجتماعي، من خلال استنطاق البعد الاجتماعي للنهضة، خاصة ونحن نعرف جيدا بان احد اهم اسباب فاجعة عاشوراء هي الامراض الاجتماعية التي كان يعيشها المجتمع المسلم آنئذ، وما بات يعرف بـ (الظاهرة الكوفية) وان كان البعض يفهمها بشكل مقلوب للانتقاص من بعض المجتمعات المسلمة اليوم.
      دال: الجانب الاخلاقي، سواء المشع منه والذي تمثل بمواقف اهل بيت النبوة والرسالة والاصحاب الميامين، خاصة الشباب منهم، وممن اختار الموقف الصحيح في الوقت الصحيح كالحر بن يزيد الرياحي وامثاله، او الجانب المظلم منه والذي مثلته مواقف المنافقين والجهلة والمنتفعين والوصوليين من قادة وعناصر جيش الطاغية يزيد بن معاوية، وعلى راسهم عمر بن سعد بن ابي وقاص.
      هاء: الجانب السياسي، كون النهضة الحسينية استهدفت مقارعة الظلم واسقاط الطاغوت لاقامة السلطة العادلة التي امر الله تعالى ائمة الهدى للعمل من اجلها لنصرة المظلوم والاخذ على يد الظالم ولاحقاق الحقوق العامة منها والخاصة.
      ان بعض العمائم لازالت تخشى الخوض في هذا الجانب خشية ان تتهم بالتدخل بالسياسة، وهل الحسين السبط الا السياسة؟.
      ان من يتهرب من الحديث في هذا الجانب انما يتهرب من الحديث عن الاسلام وعن الحقائق التاريخية، ومثله كمثل صاحب المجلس الذي كان ياخذ على الخطيب وصفه لماساة الحسين عليه السلام بالثورة، وفي اليوم الثاني بالنهضة، وفي اليوم الثالث بالحركة، فلما استفسر الخطيب من صاحب المجلس عما يمكن ان ينعت به الحسين عليه السلام لارضائه؟ اجابه: قل ما شئت ولكن تجنب العبارات الحساسة، مثل الثورة والحركة والنهضة وما اشبه.
      في الليلة التالية صعد الخطيب المنبر ليخبر المستمعين باكتشافه التاريخي الجديد قائلا لهم:  
      ايها الناس لقد اكتشفت تفسيرا جديدا لماساة الحسين عليه السلام وهو انه عليه السلام لم يقد نهضة في كربلاء وهو لم يواجه الحاكم الظالم المنحرف، كما انه لم يستشهد بالقتل وحز الراس، انما الذي حصل في كربلاء في يوم عاشوراء عام 61 للهجرة، هو ان الحسين عليه السلام صعقته الكهرباء في صحراء كربلاء فمات، انا لله وانا اليه راجعون.
      على كل العمائم ان تتجنب هذه الطريقة من الحديث عن النهضة الحسينية، من خلال سبر اغوار الجانب السياسي منه، من دون خوف او وجل او تردد، ولتكن الاية الكريمة {الذين يبلغون رسالات الله ويخشونه ولا يخشون احدا الا الله وكفى بالله حسيبا} مثلهم الاعلى.
      هاء: اخيرا وليس آخرا، الجانب الحضاري، فان لعاشوراء بعدا حضاريا عظيما يجب ان لا يغفل عنه المنبر الحسيني.
      واقصد بالبعد الحضاري، تلك القيم الانسانية التي خلفتها النهضة الحسينية للبشرية على مر التاريخ، كالحرية والمساواة والعدل ومبدا تكافؤ الفرص والاحسان وغير ذلك، هذه القيم التي تهم الانسان كانسان بغض النظر عن دينه ومذهبه وتوجهه الفكري والسياسي.
      الى متى يبقى الحسين عليه السلام اسير الفهم القاصر؟ والى متى يظل عليه السلام وكانه ملك للمسلمين او للشيعة او لفئة معينة من الناس؟ اوليس الحسين عليه السلام جسد الاسلام في نهضته؟ اوليس الاسلام للناس كافة؟ فلماذا لا نوسع من دائرة حديثنا عنه عليه السلام لتشمل الناس كافة؟.
      انني على يقين لو ان الناس من غير المسلمين تعرفوا على الحسين عليه السلام وعلى مبادئه وقيمه وعوامل نهضته واسباب ثورته، لالتفوا حوله كما تلتف الفراشات حول مصدر النور، فالبشرية اليوم عطشى للقيم والمبادئ السامية التي ضحى من اجلها الحسين السبط عليه السلام، بعد ان انتشر الظلم والعدوان على الحقوق في كل بقعة من بقاع العالم، خاصة في العالم الغربي الذي يدعي المدنية والحضارة.
      سادسا: يجب ان يظل المنبر الحسيني مدرسة الاخلاق والتربية والتعليم، ولا يكون كذلك الا اذا انتبهت العمامة الى هذه الجوانب لترسم الخطط اللازمة من اجل تحقيق ذلك، بعد ان تطلع على المشاكل الاخلاقية لرواد منبرها، لتتحدث عن المشكلة وتجد لها الحلول.
      وقبل الخطط يجب ان تكون العمامة التي ترتقي المنبر انموذجا يحتذى في الاخلاق والتربية والتعليم، والا، قل لي بالله عليك، كيف يمكن لعمامة ان تحث المتلقين على طلب العلم وهي التي لم تواكب علوم العصر؟ ولم تتابع ثقافاته المتجددة؟ وكيف لها ان تحث الناس على الاخلاق الحسنة، وتعلمهم طرق التعامل الحسن بين الناس، مثلا، بين المرء وزوجه وبين الاباء وابناءهم وبين العائلة وجيرانها، اذا كانت فضائحها الاخلاقية قد أزكمت الانوف، او ان الناس قد سمعوا عن مشاكلها الاجتماعية وعلاقاتها الزوجية السيئة، وعلاقاتها العائلية المتردية مع ابنائها وبناتها؟ وكيف لها ان تقنع المتلقي بفلسفة التعدد والتنوع من اجل التعايش عبر التعارف الذي يبدا بالحوار، ومن خلال احترام الراي والراي الاخر، اذا كانت تضيق ذرعا بعمامة اخرى، ولا اقول اكثر من ذلك؟ بالتاكيد فان مثل هذه العمامة لا يمكنها ان تنجح في مهمتها ابدا، اذ ستفشل حتما في تزكية نفوس الناس وتطوير عقولهم وتوسيع مداركهم، وتحسين اداءهم الاجتماعي والاخلاقي، وصدق امير المؤمنين عليه السلام عندما قال {اوضع العلم ما وقف على اللسان، وارفعه ما ظهر في الجوارح والاركان} فالعمامة التي يظهر علمها في تعاملها وممارساتها اليومية مع الاخرين، هي التي تترك اثرا عندما تتحدث فوق المنبر، والعكس هو الصحيح، لان الاولى تتحدث من القلب، اما التي تناقض قولها عملها، فتتحدث بلسانها، ولقد قال رسول الله (ص) {ما خرج من القلب يدخل الى القلب، وما خرج من اللسان لا يصل الآذان}.
      ان المتلقين بحاجة الى قدوة يتاثرون بها، والا فالمتحدثون كثيرون، والمدعون اكثر، اما المجسدون لاحاديثهم فقليلون.
      لقد كتب امير المؤمنين عليه السلام في عهده لبعض عماله يقول لهم:
      {امره بتقوى الله في سرائر امره وخفيات عمله، حيث لا شهيد غيره، ولا وكيل دونه، وامره الا يعمل بشئ من طاعة الله فيما ظهر فيخالف الى غيره فيما اسر، ومن لم يختلف سره وعلانيته، وفعله ومقالته، فقد ادى الامانة، واخلص العبادة} وفي قول آخر يقول عليه السلام {الايمان ان تؤثر الصدق حيث يضرك، على الكذب حيث ينفعك، والا يكون في حديثك فضل عن عملك، وان تتقي الله في حديث غيرك}.
      ينقل اهالي النجف الاشرف الكرام قصة عن الامام السيد محسن الحكيم (قدس سره) مفادها انه، وبينما كان ذات يوم يسير في الشارع اذا به راى معمما وقف على قارعة الطريق ياكل من بائع متجول بعض الفول، فلما رآه المعمم ارتعدت فرائصه واحمر وجهه خجلا من الامام، اذ لم يكن في العادة في تلك الايام ان ياكل المعمم في وسط الشارع، فقد كان مثل هذا المنظر يعتبر مخافا للمروءة، فجاءه الامام بوقاره المعهود واقترب منه وقال له (هات عمامتنا وافعل ما شئت).
      سابعا: ان على العمامة ان تتجنب اثارة ما يلي:
      الف؛ الشكوك، خاصة عند الشباب، لان وقت المجلس محدودا قد لا يتسع لاثارة شك والرد عليه بشكل مفصل لدرجة الاقناع، خاصة وان مستوى الوعي والثقافة والادراك يختلف بين المتلقين.
      باء؛ ضعف الايمان، اذا لم يعر الخطيب الاهتمام اللازم للروايات قبل ان يذكرها على المنبر.
      جيم؛ الاستخفاف والاستهزاء، فالحديث العاطفي المجرد عن العقل والمنطق والفطرة، الحديث الذي لا يحاكي الروح والجسد والعقل معا، يثير عند الكثير من الناس الاستخفاف بالمنبر والاستهزاء بالعمامة، ولذلك يجب تجنبه من خلال الاهتمام بالحديث لياتي رصينا ورزينا، بعيدا عن الخرافات والاباطيل.
      دال؛ التفرق والتمزق، سواء الديني الديني، او الاسلامي الاسلامي او الشيعي الشيعي او المرجعي المرجعي او المناطقي المناطقي او اي تفرق وتمزق آخر.
      اما عندما يجري الحديث عن الارهاب الاموي الذي ارتكب ابشع جرائم الانسانية في عاشوراء عام 61 للهجرة، وكيف انه امتد الى اليوم ليمارس القتل والذبح بالاستناد الى فتاوى التكفير الاموية، التي يطلقها بين الفينة والاخرى فقهاء البلاط ووعاظ السلاطين، فيلزم العمامة ان تتجنب التعميم، وانما عليها ان تحدد هوية القتلة لتعزلهم عن الامة لتحاصرهم الاخيرة بعد ان تتبرا منهم ومن افعالهم الشنيعة.
      هاء: الياس والقنوط، سواء من تغيير الذات او تغيير الواقع، فلقد قال امير المؤمنين عليه السلام {الفقيه كل الفقيه من لم يقنط الناس من رحمة الله، ولم يؤيسهم من روح الله، ولم يؤمنهم من مكر الله}.
      ومن اجل ان يحقق المنبر الحسيني هذا الهدف فان على العمامة ان تتسلح بالمنطق والدليل والابتعاد عن السباب والشتيمة، وتجنب الانتقاص من رموز الاخرين والاستهزاء بعباداتهم.
      والى المحطات الفضائية اقول، من منطلق الحرص على الاسلام وعلى رسالة الحسين السبط عليه السلام:
      لا تبثوا على الهواء مباشرة كل المنابر، فليس كل ما يقال على كل المنابر هو لكل الناس، فقد يتحدث الخطيب الى ثلة من المؤمنين في مجلس محدد المعالم ومحدود الحضور، بطريقة ما لايصال الفكرة ولترشيد مفاهيمهم وحل مشاكلهم، قد لا يكون حديثه هذا مفيدا للملايين التي تتابع حديثه على الهواء مباشرة، ولذلك فعندما تريد فضائية ما ان تنقل منبرا على الهواء مباشرة، فان عليها ان تخبر الخطيب ليعرف ان حديثه عاما سيتابعه متلقون بمستويات مختلفة من الثقافة والايمان والثقة والاتجاهات، في كل العالم او ان تفلتر المنابر قبل ان تبثها مسجلة على الهواء.
   واو؛ حرمة التحريض على العنف والتكفير والتكبر والاستهزاء بدين الاخرين ومعتقداتهم.
      ثامنا: كما ينبغي للمنبر الحسيني ان يحث في كل مجلس على الاسس الاستراتيجية التالية، من اجل ان لا تتكرر عاشوراء فيقتل الحسين عليه السلام في كل يوم:
      الف؛ القراءة والمتابعة، ليتعلم الناس ويوسعوا من مداركهم ويستوعبوا تطورات الزمن الحاضر، فلقد قال الامام جعفر بن محمد الصادق عليه السلام {العالم بزمانه، لا تهجم عليه اللوابس}.
      باء؛ التدبر والتفكر، ولنتذكر دائما صفة الصحابي الجليل ابو ذر الغفاري الذي قيل عنه (وكان اكثر عبادة ابا ذر التفكر).
      حثوا الناس على ان يفكروا قبل ان يؤمنوا بما يسمعون او يقراون، ليتعلموا كيف يغربلوا الافكار ويفلتروا الثقافات قبل ان يسلموا بها او يعتقدون بها.
      علموهم ان يسالوا ويناقشوا ويجادلوا ويبحثوا ليتاكدوا من وجود شئ ما قبل ان يثقوا بوجوده ويعتبرونه حقيقة مطلقة، فلا يقبلوا عن عمى ولا يؤمنوا عن جهل ولا يثقوا بلا يقين.
      كذلك، علموهم حرية التفكير والتعبير عن الراي، فلا يخافوا اذا تحدثوا الى مسؤول، ولا يترددوا او ترتعد فرائصهم اذا سالوا عالما او خطيبا او زعيما.
      علموهم الامر بالمعروف والنهي عن المنكر، او ما يسمى اليوم بالنقد البناء ليساهموا في الاصلاح والتصحيح، وعلموهم الفرق بين الاصلاح والفتنة، حتى لا تخيفهم الانظمة البوليسية بمثل هذه المصطلحات.
      جيم؛ العمل الصالح، بما يخدم الناس، ويطور المجتمع وياخذ بالبلد الى مصاف التقدم والازدهار، ففي الحديث الشريف عن رسول الله (ص) قوله {خير الناس من نفع الناس} ولا ينفع امرءا الناس الا بالعمل الصالح، الخال من الرياء والبطر والمنة والاذية.
      دال؛ مواجهة الظلم والتمرد عليه، بدءا من العائلة، حتى لا يظلم اب ولا تظلم ام ولا يظلم طفل. 
      علموهم النقد والمحاسبة والمساءلة، فليحاسب الانسان نفسه مثلما يحاسب الاخرين، ولينقد نفسه مثلما ينقد الاخرين، علموهم الجراة والشجاعة في كل ذلك.
      هاء: التعاون على البر والتقوى، ففي الاية الكريمة {وتعاونوا على البر والتقوى}.
      واو: الابداع والانتاج، كل في موقعه، ومن كل حسب عمله، خاصة الانتاج على مستوى الافكار، فلقد قيل قديما (في البدء كانت الفكرة) وانما تقدم الغرب علينا لانه لم يتوقف لحظة عن انتاج الافكار، سواء تلك التي تساهم في تحسين الجانب المعنوي في المجتمع، كاحترام القانون مثلا، او التي تدخل في صميم المدنية وتطوير الجانب المادي، ولذلك تحول الغرب الى منتج في كل شئ، وتحولنا الى مستهلكين في كل شئ، حتى في الافكار والنظريات والازياء والاطباق وفي كل شئ.
      زاء: اشاعة ثقافات مثل التعايش والحوار والمحبة والاخاء والراي والراي الاخر والوسطية واللاعنف، والتعدد والتنوع والمواطنة وروح المسؤولية والحقوق والواجبات.
      علموهم التسامح الديني والثقافي والحزبي والاجتماعي، وكل انواع التسامح، ليقضوا على التعصب بكل اشكاله والتطرف بكل انواعه والطغيان بكل الوانه.
      حذروا الشباب تحديدا من خدع الارهابيين، وحصنوهم من الاعيبهم، حتى لا ينخرطوا في جماعات العنف والارهاب والتكفير، التي تبني نهجها على اساس الكراهية والحقد والتكفير واستباحة الدم الحرام واحتكار الحقيقة.
      تاسعا: ان الخطابة رسالة وفن، فاما الرسالة فلقد لخصها الامام السجاد عليه السلام عندما طلب من الطاغية يزيد ان يرتقي اعواد المنبر في مسجد الشام بقوله {أتاذن لي حتى اصعد هذه الاعواد فاتكلم بكلمات لله فيهن رضا ولهؤلاء الجلساء فيهن اجر وثواب؟} فرسالة المنبر هي؛
      الف؛ رضا الله تعالى والى هذا المعنى يشير الحديث الشريف عن رسول الله (ص) {من استمع الى متحدث فقد عبده، فان كان المتحدث عن الله فقد عبد الله، وان كان المتحدث عن الشيطان فقد عبد الشيطان}.
      باء؛ الاجر والثواب بمعناهما الاعم والاشمل، والذي يدخل في حياضه كل ما يمس مصالح الناس الدنيوية والاخروية، فاشاعة ثقافات كالحرية والاسقلال والعدل والاخوة والشورى والحوار والوحدة والحقوق والواجبات والمساواة والاحسان والتعاون على البر والتقوى والبناء والتنمية والتعليم والتفكر، وغيرها الكثير، تدخل في اطار مبدا الاجر والثواب، لان كل هذه الثقافات وامثالها تساهم في بناء مجتمع صالح وسوي ومتمدن وعادل، ما يحقق مصالح الناس على قاعدة {لا تظلمون ولا تظلمون}.
      ان من اعظم الثواب يناله الخطيب عندما ياخذ بيد اعمى البصيرة الى جادة الصواب، وبيد سئ الخلق الى مكارم الاخلاق، وبيد الارهابي الى رحاب النمرقة الوسطى، وبيد المظلوم ليتلمس طريق النجاة من الظالم فياخذ حقوقه منه.
      اما الفن، فالهدف منه التاثير على قناعات الناس، سواء بشكل مباشر من خلال الاقناع الفوري، او بشكل غير مباشر من خلال اثارة دفائن العقول وحثهم على البحث والتفكر لاعادة النظر فيما يعتقدون به، خاصة من رؤى يراها الخطيب انها غير صحيحة.
      ومن الواضح جدا فان التاثير في قناعات الناس لا يتحقق اذا لم ياخذ المنبر بنظر الاعتبار ضرورة الارتقاء بفن الخطابة لينسجم مع التطور الحضاري الذي تمر به البشرية، الى جانب اهمية ان يتطور هذا الفن آخذا بنظر الاعتبار تطور ادراكات ومفاهيم الناس بشكل عام.
      ان تكلس بعض العمائم على الطرق القديمة في الخطابة، هو السبب الحقيقي لفشلها في اداء رسالتها الحضارية، وذلك بسبب شعور المتلقي بانها لا زالت تمارس سياسة الفرض والاكراه في عملية الاقناع وتغيير المتبنيات، وهذا ما يرفضه جل الناس في القرن الواحد والعشرين.
      عاشرا: الاهتمام بسلامة اللغة، لا فرق في ذلك ان كانت لغة الخطيب عربية او غير عربية، اذ ان عليه واجب التاكد من سلامة لغته لينجح في ايصال الرسالة، ولكنني هنا اخص بالذكر اللغة العربية.
      ان من المخجل حقا ان استمع احيانا الى عمامة لا تجيد من قواعد اللغة العربية شيئا، فترفع وتنصب وتجر كيفما تشاء وانى شاءت، فيما اصغ احيانا الى عمائم لا تجيد ترتيب جملة مفيدة واحدة، فضلا عن ان بعضها يخطا في الاية ولا يجيد ذكر نص الرواية فيلجا الى قاعدة (ما معاناه).
      ان سلامة اللغة لها وقع السحر في عقول الناس ووعيهم، فكلما كانت اللغة سليمة والبلاغة راقية كلما كان الخطيب اقرب الى النجاح والعكس هو الصحيح، فاذا كان الخطيب لا يجيد اللغة ويخطا في ذكر الايات ولم يشا ذكر رواية صحيحة بنصها، فانه، والحال هذه، ابعد ما يكون عن النجاح، فهو الى الفشل اقرب.
      المتلقون ينتظرون من العمامة ان تعلمهم كل شئ عندما ترتقي منبر الحسين السبط عليه السلام، واللغة هي اظهر شيئ في حديث العمامة على المنبر، فهي الجزء الظاهر من جبل الثلج كما يقولون، فاذا كان بامكان العمامة ان تخفي جهلها وقلة وعيها، او بساطة ثقافتها، بطريقة بهلوانية ما، فانها لا تستطيع ان تخفي جهلها بقواعد اللغة العربية ابدا، ولذلك اتمنى على كل عمامة ترتقي المنبر ان تهتم بهذا الجانب، اذ ان من المفترض بها ان تكون قد درست اللغة العربية وتعلمت فنونها، قبل ان ترتقي المنبر.
      حادي عشر: تسعى بعض العمائم الى استعراض عضلاتها فوق المنبر، من خلال الظهور بمظهر (الموسوعة) فتراها لا تمر على علم الا وتطرقت اليه، ولا حادثة الا وولجت فيها، ولا امر الا وتحدثت فيه، ولا راي الا وادلت به دلوها، وهذه، برايي، محاولة فاشلة، فليس المهم ان تظهر العمامة بهذه الصورة على المنبر، انما المهم ان تستوفي الموضوع حقه وتعطي المحاضرة ما تستحق من البحث والتحليل، اما ان تذكر شيئا عن كل شئ، فان ذلك يضيع عليها المطلب، كما يقول العلماء، كما انه يضيع على المتلقي الهدف من الحديث والجوهر في الموضوع.
      ان التركيز في الموضوع وعدم التشعب به، يزيد من تركيز المتلقي للخطيب من جانب، ويعطي الموضوع حقه بالكامل من جانب آخر، ولذلك انصح ان لا تتورط العمامة بما ليس لها فيه سبق او معرفة، ولتتذكر قول امير المؤمنين عليه السلام {لا تخض في موضوع ليس لك فيه صنعة}  وصدق الامام الحسين السبط الشهيد عليه السلام عندما قال {لا تتناول الا ما رايت نفسك له اهلا}.
      ان التشعب والظهور بمظهر (الموسوعة) يساهم في اغلب الاحيان في عملية تسطيح العقول والاستخفاف بها، الامر الذي يجب ان يبتعد عنه الخطيب ولا يورط نفسه فيه، لان مثل ذلك يكون على حساب سمعته ورزانة مجلسه وعمق حديثه وبحثه.
      كما ان الاستعجال في الخطابة وسرد الروايات وتقديم المعلومات على عجل وادخال بعضها ببعض، لا يساهم في ايصال المطلب، لان ذلك يضيع على المتلقي فرصة الاستيعاب وتنظيم المعلومات في ذهنه.
      ثاني عشر: حذار من ان يتحول المنبر الحسيني الى دكان لارتزاق العمائم. 
      وليس المقصود بذلك ان لا ياخذ الخطيب اجرا على صعوده المنبر، فان ذلك من حقه الطبيعي، كفله له الشرع والعقل والمنطق والقانون، فحال الخطيب في ذلك كحال المعلم واستاذ الجامعة والصحفي والكاتب والشاعر والمؤلف، واي صاحب صنعة او رسالة اخرى، ولكن المقصود هو ان يشترط الخطيب مبلغا قبل ان يعتلي المنبر، فهذا هو الارتزاق بعينه.
      ان للعمامة على منبرها مكافاتان، الاولى وهي الاهم، من الله تعالى ومن صاحب الرسالة المقدسة، واعني به الحسين السبط، والثانية من الناس من خلال صاحب العزاء او الموكب، ولذلك فان انتظار الخطيب ما سيجود به صاحب العزاء من مكافأة حق مشروع له ما يبرره، خاصة العمائم التي ليس لها مورد رزق غير المنبر الحسيني، وفي مواسمه المعروفة، تلك التي تصرف كل وقتها وجهدها من اجل ان تعطيه ما يستحقه من جهد مبذول وطاقة مطلوبة، اما ان يشترط (المكافأة) والتي ستتحول في هذه الحالة الى معاملة، فهذا ما لا ينبغي للخطيب ان يتورط فيه، لان مثل هذه المعاملة تفسد الرسالة كما يفسد الخل العسل، كما انها تلغي المكافأة المعنوية التي سوف لن تكون من نصيبه في هذه الحالة، لانه استلمها من الناس من دون ان ينتظر شيئا من الله تعالى.
      انا استغرب من بعض العمائم التي تصر على تحديد المبلغ بلا مرونة، فتراها مستعدة لان تترك المنبر فارغا، خاصة في الحالات التي لم يسعف فيها الوقت اصحاب المجلس للبحث عن بدائل، وكانها تستغل الحرج لفرض المبلغ الذي تريده، او ان لا يكون في المكان مجلس، فاية رسالة تريد ان تبعثها مثل هذه العمامة في مثل هذا الموقف وفي مثل هذه الحالة؟.
      ثالث عشر: علموا الناس الحسين الامام، الحسين القائد، الحسين المؤمن، الحسين الابن، الحسين الزوج، الحسين الاب، الحسين العالم، الحسين القائد العسكري الشجاع، الحسين المدرسة، الحسين المعلم، الحسين الانسان الذي بكى على اعدائه وهو ينظر اليهم يتورطون بدمه الطاهر فيساقون الى نار جهنم زمرا.
      لا تكتفوا بتعريف الحسين القتيل والعطشان والسليب ومحزوز الرأس.
      لماذا يتعلم شبابنا نظريات ارسو وافلاطون، ولا يتعلمون شيئا عن نظريات الحسين السبط في الحياة الحرة الكريمة؟ لماذا يدرس اولادنا نظريات جان جاك روسو في العقد الاجتماعي، ولا يتعلمون شيئا عن نظريات الحسين في علوم الاجتماع والاخلاق والسياسة والتربية والفسلفة وغير ذلك من العلوم الانسانية العظيمة التي تركها لنا الحسين السبط واهل البيت عليهم السلام؟ لماذا يدرسون الثورة الفرنسية والثورة الاميركية، وثورات حصلت في كوبا والهند والصين، ولم يدرسوا ثورة كربلاء، بمعانيها الانسانية وقيمها الحضارية؟ لماذا يدرسون وثيقة اعلان حقوق الانسان الدولية، ولم يدرسوا رسالة الحقوق للامام علي بن الحسين السجاد عليه السلام؟ لماذا يتعلمون فلسفات الاغريق والاوربيين ولا يتعلمون فلسفة امير المؤمنين عليه السلام؟ لماذا يدرسون علوم الادارة الشرقية والغربية ولا يدرسون علوم الادارة عند امير المؤمنين علي بن ابي طالب عليه السلام؟.
      ان على المنبر الحسيني ان يهتم بالدراسات المقارنة بين كل ما يخص ثورة الحسين عليه السلام، وبمختلف جوانبها الحضارية، وبين ما شهدته الانسانية من تطور في المنهج والفكر، عبر ثوراتها المختلفة التي شهدتها مختلف دول وشعوب العالم، ليعرف الناس، بالمقارنة، مدى عمق المحتوى الانساني لهذه النهضة التاريخية العظيمة.
      علموا نساءنا وبناتنا تحديدا زينب العالمة، زينب الفقيهة ، زينب المربية، زينب المراة المؤمنة الواثقة بدينها وحجابها، زينب الجبل من الصبر، زينب الجبل من البطولة والتحمل من دون تردد او خوف او وجل او شك في الحق، ولا تكتفوا بتعليمهن زينب المظلومة، وزينب البكاءة.
      علموا شبابنا علي الاكبر الشاب المؤمن الواثق بدينه وامامه، والقاسم المضحي في زهرة شبابه من اجل ان يحيا الدين وتحيا الاخلاق، وعلموا صغارنا واطفالنا رقية الطفلة الصابرة، وعبد الله الرضيع الذي ضحى من اجل القيم، ومن اجل ان يحيى الانسان بكرامة.
      رابع عشر: ان على العمائم ان ترتفع بالمتلقين الى مستوى المنبر، وليس العكس، فتهبط بالمنبر الى مستوى المتلقين.
      لقد رايت بعض العمائم تداري الحاضرين على حساب الرسالة، وتداري صاحب المجلس والموكب على حساب قول الحقائق وشرحها للناس، وكأن مجرد صعود المنبر هو الهدف لمثل هذه العمائم، ابدا، اذ لا خير في منبر لا يقال من فوقه الحق، ولا خير في مجلس لا تقال فيه الحقائق التاريخية، ولا خير في منبر يخشى لومة لائم، ولا خير في مجلس تتقدم فيه عادات الناس وتقاليدهم وموروثاتهم البالية على حساب الحقائق والصحيح من السيرة النبوية والتاريخ الاسلامي.
      ان المنبر فرصة ذهبية لتصحيح المفاهيم الخاطئة وكنس الموروثات البالية، والا فلو لم يؤد المنبر مثل هذه الرسالة، فسيمنح الشرعية لكل ما هو خطا من التاريخ والدين والسيرة.
      يكون المنبر حجة على الناس اذا ارتقى بهم وبوعيهم وثقافاتهم والتزامهم الديني والاخلاقي، اما اذا هبط بهم فانه، والحال هذه، سوف لن يكون حجة ابدا، فالحجة على الناس تتحقق من خلال العلم والتعليم وليس من خلال التبرير والسكوت عن الخطا والمداراة على حساب الحق، ابدا، والى هذه الحقيقة يشير امير المؤمنين عليه السلام بقوله {ما اخذ الله على اهل الجهل ان يتعلموا حتى اخذ على اهل العلم ان يعلموا}.
      خامس عشر: فسروا للناس، وتحديدا في بلاد الغرب، اهمية الدين في القرن الواحد والعشرين، وكذلك اهمية القران الكريم ونهج اهل البيت عليهم السلام، لتحصنوهم من ظاهرة الكفر والالحاد التي يقودها منافقون عليمو اللسان على حد وصف امير المؤمنين عليه السلام.
      اشرحوا لهم ماذا يعني الرسول والامام في القرن الواحد والعشرين، وما ينفعنا تاريخ الرسل والانبياء والامم السالفة في القرن الواحد والعشرين، وماذا تنفعنا عاشوراء اليوم بعد مرور 14 قرنا عليها، وماذا تعني كربلاء اليوم بعد كل هذا التاريخ الذي مر عليها، وما الذي يميزها عن غيرها من احداث التاريخ وثوراته ونهضاته؟.
      اقتحموا المحذور ومناطق الفراغ في التفكير لتصلوا الى عقول وقلوب الناس، خاصة الشباب منهم، من الذين تكتظ عقولهم بالكثير من الاسئلة المحرجة التي ربما يخافون من التصريح بها.
      استنطقوا عيونهم وايماءاتهم لتستخرجوا منها مثل هذه الاسئلة الحرجة، لتجيبوا عليها بمنطق وحكمة وعلمية.
      حاولوا ان تستفيدوا من مختلف المظاهر والظواهر الموجودة والشاخصة في بلد الاقامة لتقريب وجهات نظركم الى الناس، خاصة الشباب، فالمقارنة في احيان كثيرة تقرب المعنى وتشرح القصد كثيرا، خاصة بالنسبة الى من انبهر بالغرب ومدنيته، فهو يثق بدينه اذا راى من مظاهر الغرب ما يوائمه، وهو كثير جدا.
      خامس عشر: واخيرا فان للمظهر الذي تظهر فيه العمامة امام الناس الاثر الكبير في التاثير عليهم، لان الناس ينظرون الى العمامة كرمز وقدوة في كل شئ، ولذلك فهم يتاثرون بمظهرها اشد التاثر.
      ان على الخطيب ان يهتم بمظهره وهندامه بشكل دقيق، كما يهتم بمادة خطابه وطريقة حديثه، فليس خافيا مدى اهمية المظهر في عملية التواصل مع المتلقي والتاثير عليه.
      لقد رايت خطباء يصعدون المنبر الحسيني باسوء حالاتهم، فالعمامة غير منتظمة لا بلفتها ولا على راسهم، والعباءة مرقعة والصاية قذرة، اما اللحية فحدث عنها ولا حرج، وبعد كل هذا ينتظر من المتلقي ان ينظر اليه ويصغ اليه ويستمر في حضور مجلسه.
      قد يعتبر البعض مثل هذه المظاهر دليل على الزهد والتواضع، ابدا انه ليس كذلك، اولم يكن رسول الله زاهدا ومتواضعا؟ فلماذا يحدثنا التاريخ، اذن، عن مظهر رسول الله (ص) الذي يشد النفس والروح والعقل اليه؟ خاصة عندما يستعد للذهاب الى المسجد والصلاة في الناس والحديث اليهم؟ وكذا كان امير المؤمنين عليه السلام، فالزهد ليس في النظافة، وانما في ان لا يمتلكك شئ كما في القول الماثور.
      لقد ذكرت لنا كتب التاريخ ان الحسين السبط عليه السلام كان في اجمل مظهر واروع قامة في يوم عاشوراء، وهو يعلم انه مقتول بعد قليل، لماذا؟ اولم يكن الامام زاهدا عابدا؟ ام انه نسي شيئا من قوانين الزهد في تلك اللحظة؟ ابدا، فلا هذا ولا ذاك، بل انه اراد ان يظل القدوة حتى آخر لحظة في حياته الشريفة.
      لقد حث الاسلام على النظافة وجمال المنظر وحسن المظهر كما تحدث عن الصلاة والصيام، خاصة عندما ينوي المرء الوقوف امام الناس والحديث اليهم والتواصل معهم.
      ففي الحديث الشريف عن رسول الله (ص) انه قال {ان الله طيب يحب الطيب، نظيف يحب النظافة} وعن امير المؤمنين عليه السلام انه قال {تنظفوا بالماء من النتن الريح الذي يتاذى، بضم الياء، به، تعهدوا انفسكم فان الله عز وجل يبغض من عباده القاذورة الذي يتانف به من جلس اليه} وعن جابر بن عبد الله الانصاري، قال: اتانا رسول الله (ص) فرأى رجلا شعثا قد تفرق شعره، فقال: {اما كان يجد هذا ما يسكن به شعره؟} وراى رجلا آخر عليه ثياب وسخة فقال: {اما كان هذا يجد ماءا يغسل به ثوبه؟} فما باك لو راى رسول الله (ص) عمامة تصعد منبره وهي على مثل هذه الحال؟.
      وعن مسمع بن عبد الملك، عن ابي عبد الله عليه السلام قال: ابصر رسول الله (ص) رجلا شعثا شعر راسه، وسخة ثيابه، سيئة حاله، فقال رسول الله (ص) : {من الدين المتعة واظهار النعمة}.
      ان شخصية المرء تعبر عن ثقافته، ولذلك فهي المرآة الصافية التي تنعكس عليها حقيقته الذاتية، ولهذا السبب اهتم الاسلام بالمظهر كما اهتم بالجوهر.
كربلاء..فلسفة الحرية
      تتمحور كل الرسالات السماوية حول فكرة استراتيجية واحدة الا وهي التوحيد، والتي تعني الايمان باله واحد لاشريك له {قل هو الله احد*الله الصمد*لم يلد ولم يولد*ولم يكن له كفوا احد} وفي آية اخرى {قل يا اهل الكتاب تعالوا الى كلمة سواء بيننا وبينكم الا نعبد الا الله ولا نشرك به شيئا ولا يتخذ بعضنا بعضا اربابا من دون الله فان تولوا فقولوا اشهدوا بانا مسلمون}.
      ولو تمعنا النظر في مبدا التوحيد لخلصنا الى فكرة استراتيجية هي الجوهر واللب من المبدا، الا وهي قيمة الحرية، فالتوحيد الذي يعني رفض عبادة غير الله تعالى، يعني في جوهره نفي العبودية لغيره، والتي تنتهي الى الحرية بالمطلق، فالانسان الحر فقط هو الذي لا يعبد الا الله تعالى، اما الانسان العبد الخاضع لغيره من الناس فلا يمكن ان يدعي بانه يعبد الله وحده، لان التوحيد والعبودية لغير الله امران يتنافران ويتناقضان ويتقاطعان، والعكس هو الصحيح فالتوحيد والحرية امران متلازمان لاينفصلان ابدا.
     على اساس هذا الفهم اعتمدت كل التشريعات السماوية، خاصة في الدين الاسلامي الذي يعتبر الحرية اعلى واغلى قيمة عند الانسان لا يجوز باي حال من الاحوال الاعتداء والتجاوز عليها، لان قيمة المرء وانسانيته تكمن في حريته وحريته فقط، فلا زال الانسان حرا وجب عليه الالتزام بالتشريعات، ولا زال حرا فرض الله عليه الالتزامات الدينية والواجبات والفرائض والقواعد والسلوكيات، وفي غير هذه الحالة يسقط عنه كل ذلك، فالحرية باقصى معانيها واهدافها، دافع الى التطور وباعث على التقدم.
      لقد لخص الامام امير المؤمنين علي بن ابي طالب عليه السلام هذه الفلسفة في جملة قصيرة، قليلة الكلمات كثيرة المعاني، وعميقة الفهم والوعي لهذه الحقيقة، عندما قال عليه السلام {لا تكن عبد غيرك وقد جعلك الله حرا} والملفت في قوله عليه السلام انه لم يقل {وقد خلقك الله حرا} وانما قال {وقد جعلك الله حرا} والفرق بين الخلق والجعل كبير كما هو واضح، فالخلق، وهي عملية الصنع الالهي، يمكن ان يفقدها الانسان لسبب من الاسباب، كما لو انه يفقد عينه او اذنه او يده او اي عضو من اعضاء جسده، اما الجعل، وهو الفطرة بمعنى آخر، فلا يمكن ان يفقده الانسان مهما كانت الظروف، لانه جزء من كيانه، بل هو كيانه، فالجعل هنا هو كالجعل في قوله تعالى مخاطبا نبيه ابراهيم عليه السلام {اني جاعلك للناس اماما} فعملية الجعل في الامامة هي ارادة الهية لا يجوز لاحد ان يتدخل فيها او يتنازل عنها او يعترض عليها او يلغيها او يؤجلها او يجمدها ولا يعمل بها او يبدي رايا فيها {قل اانتم اعلم ام الله} كذلك فان الحرية التي جعلها الله تعالى للانسان لا يجوز لاحد ان يتدخل فيها او يتنازل عنها، فالمرء قد يكون حرا في ان يتنازل عن اي شئ الى غيره، الا حريته لا يجوز له ان يتنازل عنها باي حال من الاحوال، كما انه لا يجوز لكائن من كان ان يتدخل في حرية الانسان فيصادرها او يلغيها، فان ذلك يعد تعديا على خلق الله تعالى وارادته، كما لو ان الانسان تعدى على حياة اخيه الانسان فسلبها منه، او لم يقل القران الكريم {من اجل ذلك كتبنا على بني اسرائيل انه من قتل نفسا بغير نفس او فساد في الارض فكانما قتل الناس جميعا ومن احياها فكانما احيا الناس جميعا}؟.
      هذا من جانب، ومن جانب آخر، فقد ظل امير المؤمنين عليه السلام يحث الناس على التشبث بحريتهم من خلال استشعارها في نفوسهم ووجدانهم وعقولهم، فكان يكرر عليه السلام قوله {لم تكونوا في شئ من حالاتكم مكرهين} كما كان يرفض ان يجبرهم على الايمان بشئ او اتخاذ موقف لا يريدونه او يكرهونه، فكان يقول {وليس لي ان احملكم على ما تكرهون} لان الاكراه ينقض الحرية، فيقول لاحد اخصامه {وقد اذنت لك ان تكون من امرك على ما بدا لك} ومعنى ذلك انه حتى السلطة الحقة التي تاتي الى سدة الحكم بارادة الناس من خلال الانتخابات الحرة والنزيهة لا ينبغي لها ان تجيز لنفسها نقض الاصل والذي هو حرية الراي وحرية الاختيار، ولذلك قال عليه السلام في البيعة {ودعوت الناس الى بيعتي، فمن بايعني قبلته ومن ابى تركته} بل انه عليه السلام كان يسعى دائما الى ان يبث الثقة في نفوس الناس من اجل ان لا يتنازلوا عن حريتهم في كل الظروف، فيقول عليه السلام {وانتم اعلم بالحلال والحرام، فاستغنوا بما علمتم}.
      ولقد كانت الحرية في نهج امير المؤمنين عليه السلام تقوم على مبدئين اساسيين:
      الاول: هو ان الحرية لا تتجزآ ابدا، فلا يمكن ان يكون المرء حرا في شئ وعبدا في آخر.
      والثاني: هو ان الحرية حريتان، حرية فردية وحرية جماعية، وان الاولى تنتهي عند حدود الثانية، اذ لا يحق للانسان ان يفعل ما يشاء بحجة انه حر في تصرفاته، فاذا تعارضت حريته مع حقوق الاخرين وحرياتهم كان لزاما ايقافه عند حده، وان القانون هو الذي يقرر هذه الحدود.
      ان التكليف مرتبط ارتباطا وثيقا بالحرية، كما ان العزة والكرامة مرتبطة ارتباطا وثيقا بالحرية، بعبارة اخرى، فالانسان بلا حرية، هو انسان بلا كرامة، وهذا ما يتناقض مع قول الله تعالى في محكم كتابة الكريم {ولقد كرمنا بني آدم} ما يعني حرمة انتزاع الحرية من الانسان لان ذلك يعني انتزاع كرامته، ما يعتبر عند المشرع تجاوز على حدود الله تعالى وتدخلا في شؤونه، وتحديا للفطرة التي فطر الناس عليها.
      ففي الاية المباركة {الذين يتبعون الرسول النبي الامي الذي يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والانجيل يامرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث ويضع عنهم اصرهم والاغلال التي كانت عليهم فالذين امنوا به وعزروه ونصروه واتبعوا النور الذي انزل معه اولئك هم المفلحون} يتحدث القرآن الكريم عن فلسفة البعثة النبوية وجوهرها والذي يتلخص بقيمة الحرية التي تلغيها نوعان من المعوقات:
      الاولى ذاتية؛ والتي يسميها القران الكريم بــ (الاصر) كالذنوب والخنوع والتذلل لغير الله عز وجل وعبادة الذات والشخصية وغير ذلك.
      والثانية؛ الخارجية والتي يسميها القران الكريم بـ (الاغلال) وهي كل معوق خارجي يصادر حرية الانسان ويسحقها كالطاغوت والنظام السياسي الفاسد والسخرة الجماعية وغيرها.
      بالنسبة الى النوع الاول؛ فقد حذرت مدرسة اهل البيت عليهم السلام من مغبة كل صفة او خصلة ذاتية تحول دون تمتع المرء بحريته، ففي قول امير المؤمنين عليه السلام {لا يسترقنك الطمع وقد جعلك الله حرا} اشارة واضحة الى هذا المعنى، وكذلك في قوله عليه السلام {من ترك الشهوات كان حرا} وعن الامام جعفر بن محمد الصادق عليه السلام قوله {ان صاحب الدين...رفض الشهوات فصار حرا} وفي قول امير المؤمنين عليه السلام {العبد حر ان قنع، والحر عبد ان طمع} وعنه كذلك {من زهد في الدنيا اعتق نفسه وارضى ربه} وعنه عليه السلام {الدنيا دار ممر والناس فيها رجلان، رجل باع نفسه فاوبقها ورجل ابتاع نفسه فاعتقها} وعنه {الا حر يدع هذه اللماضة لاهلها؟ انه ليس لانفسكم ثمن الا الجنة، فلا تبيعوها الا بها} و {من كرمت عليه نفسه هانت عليه شهواته} و {يا اسرى الرغبة اقصروا، فان المعرج على الدنيا لا يروعه منها الا صريف انياب الحدثان} و {المسؤول حر حتى يعد} و {الطامع في وثاق الذل} و {الطمع رق مؤبد} و{ازرى بنفسه من استشعر الطمع، ورضي بالذل من كشف عن ضره، وهانت عليه نفسه من امر عليها لسانه} و {اكثر مصارع العقول تحت بريق المطامع}  و {كم من عقل اسير تحت هوى امير} واخيرا وليس آخر، قوله عليه السلام {فاكرم نفسك عن كل دنية وان ساقك رغب فانك تعتاض بما بذلت من نفسك}.
   اما بالنسبة الى النوع الثاني؛ فقد رسمت مدرسة اهل البيت عليهم السلام خارطة طريق للانسان الذي يحرص على ان لا يفقد حريته بسبب العوامل الخارجية، اولا؛ من خلال التاكيد على قيمة الحرية وكونها خلق الله وليس خلق البشر ليتصرفون بها كيف يشاؤون، كما في قول امير المؤمنين عليه السلام {ايها الناس ان آدم لم يلد عبدا ولا امة وان الناس كلهم احرار} لاحظ استعمال الامام عليه السلام كلمة الناس وليس المؤمنين او المسلمين او ما اشبه ما يعني ان الحرية قيمة انسانية وليست دينية او مذهبية او اثنية، وفي قوله {لا تكونن عبد غيرك فقد جعلك الله سبحانه حرا، فما خير خيرا لا ينال الا بشر، ويسرا لا ينال الا بعسر} وقوله {الحر حر ولو مسه الضر}  وقول الامام جعفر بن محمد الصادق عليه السلام {ان الحر حر على جميع احواله، ان نابته نائبة صبر لها، وان تداكت عليه المصائب لم تكسره، وان أسر وقهر واستبدل باليسر عسرا، كما كان يوسف الصديق الامين، لم يضرر حريته ان استعبد وقهر وأسر}.
      وثانيا؛ من خلال التاكيد على ان الخضوع للطاغوت والسكوت على الظلم ومساعدة المتجبر، كلها امور تتناقض وحرص المرء على حماية حريته من العبث، ففي الاية الكريمة {لا اكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي فمن يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله فقد استمسك بالعروة الوثقى لا انفصام لها والله سميع عليم} اشارة واضحة الى هذا المعنى، كما ان قول رسول الله (ص) {سيد الشهداء عند الله يوم القيامة حمزة بن عبد المطلب، ورجل قام الى امام جائر فامره ونهاه فقتله} اشارة اخرى لنفس الحقيقة، اما قول امير المؤمنين عليه السلام في وصيته للحسنين عليهما السلام {كونا للظالم خصما وللمظلوم عونا} فيلخص المفهوم بادق تعبير واشمل معنى.
      لقد شرعن القران الكريم ومدرسة اهل البيت الجهاد ضد الظلم والنضال ضد السلطة الغاشمة، فلا مجال للسكوت عن مثل ذلك باية حجة، لدرجة ان الله عز وجل قال في محكم كتابه الكريم {لا يحب الله الجهر بالسوء من القول الا من ظلم وكان الله سميعا عليما} فيما خاطب امير المؤمنين من وقع عليهم الظلم وظلوا ساكتين بقوله {الا تسخطون وتنقمون ان يتولى عليكم السفهاء الظالمون، فتعموا بالذل وتقروا بالخسف ويكون نصيبكم الخسران؟}.
      من جانب آخر فلقد حثت مدرسة اهل البيت عليهم السلام على الالتزام بكل قيمة تساعد المرء على ان يحافظ على حريته فلا يخسرها، منها قول امير المؤمنين عليه السلام {الطلاقة شيمة الحر} و {حسن البشر شيمة كل حر} و {ان الحياء والعفة من خلائق الايمان وانهما لسجية الاحرار وشيمة الابرار} و {جمال الحر تجنب العار} و {ان قوما عبدوا الله شكرا فتلك عبادة الاحرار} و {من قضى ما اسلف من الاحسان فهو كامل الحرية} و {الحرية منزهة من الغل والمكر} و {من توفيق الحر اكتساب المال من حله} و {ابذل مالك في الحقوق وواس به الصديق، فان السخاء بالحر اخلق} فالحرية بشروطها، وان السجايا الذاتية من شروطها، ولذلك قال امير المؤمنين عليه السلام {من قام بشرائط الحرية أهل، بتشديد الهاء، للعتق، من قصر عن احكام الحرية اعيد الى العتق} ولقد لخص عليه السلام هذا المعنى بقوله عليه السلام {اياك وكل عمل ينفر، بتشديد الفاء وكسرها، عنك حرا ويذل لك قدرا ويجلب عليك شرا، او تحمل به يوم القيامة وزرا}.
      ان الحرية هي اساس كل الخصال الحميدة، كما انها حجر الزاوية في بناء شخصية الانسان، والى هذا المعنى اشار الامام جعفر بن محمد الصادق عليه السلام بقوله {خمس خصال من لم تكن فيه خصلة منها فليس فيه كثير مستمتع، اولها الوفاء والثانية التدبير والثالثة الحياء والرابعة حسن الخلق والخامسة وهي تجمع هذه الخصال، الحرية} فالحرية، اذن، هي اساس كل خير وهي انسانية الانسان، وقيمته الحقيقية، فالمرء بلا حرية يكون عديم الوفاء والتدبير والحياء وحسن الخلق، وكل خصلة انسانية واخلاقية اخرى.    
   ان الانسان بلا حرية لهو حيوان ناطق، فهو امعة في احسن الفروض، كما ان الانسان بلا حرية لهو انسان بلا راي وموقف، وبالتالي فهو انسان بلا كرامة، لان كرامة بني آدم تتجلى في حريته التي تمنحه القدرة على الاختيار، وهذا هو بالضبط الفرق بينه وبين الحيوان، فبينما يمتلك الانسان ارادة الاختيار اذا كان يمتلك حريته، لا يمتلك الحيوان اية ارادة للاختيار، لانه لا يمتلك حريته، انما فطره الله تعالى فسيره، اما الانسان فمخير لانه حر يمتلك الخيار، والى هذا المعنى اشارت عدد من آيات القران الكريم كما في قوله عز وجل { انا هديناه السبيل اما شاكرا واما كفورا} وفي قوله عز وجل {وهديناه النجدينْ}.
      ولكل ذلك اهتمت مدرسة اهل البيت عليهم السلام بالتنظير كثيرا لمفهوم الحرية، كما انها مارست المفهوم بشكل كبير وواسع جدا، لدرجة انها ضحت من اجل تثبيته بكل حقوقها الخاصة من اجل الصالح العام، فهذا امير المؤمنين عليه السلام يضحي بموقعه الديني والدنيوي من اجل ذلك، وكذا الامام الحسن السبط، اما الامام الحسين السبط فقد ضحى بكل شئ من اجل الحرية، ليكرس في ذهن الناس حقيقة انكم بلا حرية انما لستم آدميين، ولذلك قال قولته المشهورة وهو يخاطب جيش البغي {ان لم يكن لكم دين وكنتم لا تخافون المعاد، فكونوا احرارا في دنياكم} اي كونوا آدميين في دنياكم، من خلال تشبثكم بحريتكم، ولو انهم كانوا كذلك لما اطاعوا الظالم فارتكبوا اعظم جريمة في التاريخ.
      ولاهمية الحرية وموقعها الاستراتيجي في شخصية الانسان ــ الفرد، والانسان ــ المجتمع، منع الاسلام احدا من مصادرتها وسحقها وباي حجة من الحجج، تعالوا نقرا هذه الباقة من الايات القرانية الكريمة لنتثبت من هذه الحقيقة بالغة الاهمية:
   .{فذكر انما انت مذكر* لست عليهم بمسيطر}
      {لا اكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي فمن يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله فقد استمسك بالعروة الوثقى لا انفصام لها والله سميع عليم}.
   .{كلا انها تذكرة* فمن شاء ذكره}  
      {فان حاجوك فقل اسلمت وجهي لله ومن اتبعن وقل للذين اوتوا الكتاب والاميين ااسلمتم فان اسلموا فقد اهتدوا وان تولوا فانما عليك البلاغ والله بصير بالعباد}.
   .{واطيعوا الله واطيعوا الرسول واحذروا فان توليتم فاعلموا انما على رسولنا البلاغ المبين}  
   .{ما على الرسول الا البلاغ والله يعلم ما تبدون وما تكتمون}  
   .{وان ما نرينك بعض الذي نعدهم او نتوفينك فانما عليك البلاغ وعلينا الحساب}  
       {وقال الذين اشركوا لو شاء الله ما عبدنا من دونه من شيء نحن ولا اباؤنا ولا حرمنا من دونه من شيء كذلك فعل الذين من قبلهم فهل على الرسل الا البلاغ المبين}.
   .{فان تولوا فانما عليك البلاغ المبين}  
      {قل اطيعوا الله واطيعوا الرسول فان تولوا فانما عليه ما حمل وعليكم ما حملتم وان تطيعوه تهتدوا وما على الرسول الا البلاغ المبين}.
   .{وان تكذبوا فقد كذب امم من قبلكم وما على الرسول الا البلاغ المبين}  
   .{وما علينا الا البلاغ المبين}  
      {فان اعرضوا فما ارسلناك عليهم حفيظا ان عليك الا البلاغ وانا اذا اذقنا الانسان منا رحمة فرح بها وان تصبهم سيئة بما قدمت ايديهم فان الانسان كفور}.
   .{واطيعوا الله واطيعوا الرسول فان توليتم فانما على رسولنا البلاغ المبين}  
   .{من يطع الرسول فقد اطاع الله ومن تولى فما ارسلناك عليهم حفيظا}  
      {ادع الى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي احسن ان ربك هو اعلم بمن ضل عن سبيله وهو اعلم بالمهتدين}.
   .{ولو شاء ربك لامن من في الارض كلهم جميعا افانت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين}  
       فقاتل في سبيل الله لا تكلف الا نفسك وحرض المؤمنين عسى الله ان يكف باس الذين كفروا والله اشد باسا واشد تنكيلا}.
      فاذا كان حال رسول الله (ص) وهو النبي المعصوم والرسول المبعوث من قبل الله تعالى، والذي {وما ينطق عن الهوى* ان هو الا وحي يوحى} مع الناس هكذا، فما بالك بغيره؟ هل يحق لاحد منهم ان يكره الناس ويفرض نفسه عليهم مشرعا او حاكما؟.
      لقد نهى الله تعالى وهو الخالق المتعال، رسوله الكريم ان يكون مسيطرا وفارضا ومكرها ومجبرا، فكيف اجاز غيره لنفسه ان يؤدي مثل هذا الدور؟ كيف اجازت الانظمة السياسية الاستبدادية والبوليسية لنفسها ان تسيطر على عقول الناس وممارساتهم، بعد ان صادرت حريتهم فحولتهم الى قطيع من الاغنام تؤمر فتطاع، وتساق فتهتدي؟ وكيف اجازت جماعات العنف والارهاب لنفسها ان تامر وتنهى وتجبر وتقمع وتكفر وتقتل وتذبح، كيف ومتى وانى شاءت، بعد ان نصبت، بتشديد الصاد وفتحها، نفسها وليا على الناس، وممثلا عن الله في ارضه؟.
      من اعطى الحق لفقهاء التكفير ان يقرروا ما اذا كان زيد سيدخل الجنة وان عمرو لا يدخلها؟ وان فلان مؤمنا يستحق الحياة، وعلان غير مؤمن وكافر لا يستحق الحياة، ولذلك يجب ان يقتل ويذبح وتنتهك عرضه وتصادر امواله؟.
      ليس لله تعالى ظل في هذه الارض، وليس له عز وجل وكيل او ممثل، انما الانسان خليفته في الارض ليعمرها وليس ليغرقها بالدم والظلم والعدوان والتسلط غير المشروع، او لم يقل رب العزة في كتابه الكريم {واذ قال ربك للملائكة اني جاعل في الارض خليفة}؟.
      ان اول من تصدى لمثل هذا الدور هم الامويون الذين عينوا انفسهم ولاة على الناس، بغير حق، ولذلك واجههم الامام السبط الحسين بن علي عليهما السلام بعمل مدو ضحى فيه بالغالي والنفيس، لان مثل هذا الدور يقضي على الاسلام، ويمحو اثر النبي الكريم، من خلال الغاء الحرية اولا، فهي، كما اسلفنا، حجر الزاوية في خلق الانسان، فاذا الغيت الغي الانسان، واذا الغي الانسان، الغيت مهمة الرسول، واذا الغيت مهمة الرسول، الغيت الرسالة، واذا الغيت الرسالة، الغي مبدا الثواب والعقاب، واذا الغي هذا المبدا، لم يبق من فلسفة الخلقة التي تعتمد على مبدا (الثواب والعقاب) بعد التبليغ والقاء الحجة وتحمل المسؤولية، اي شئ.
      ولذلك يعتقد المنصفون وكل من قرا رسالة الحسين السبط بشكل صحيح لا لبس فيه، على ان الاسلام حسيني البقاء، لان كربلاء حفظت الحرية التي تحفظ الانسان الذي يحفظ الدين.
      ولولا ثورة الحسين عليه السلام لنجح الامويون في:
      الف؛ شرعنة مبدا الوصول الى السلطة بالقوة، بعد القضاء على روح المقاومة للظلم والطغيان والجبروت، على القاعدة السياسية التي رسم معالمها معاوية بن ابي سفيان بقوله المشهور لعماله وقادة جنده (فاقتل من لقيته ممن ليس هو على مثل رايك، وانهب اموال كل من اصبت له مالا ممن لم يكن له دخل في طاعتنا) او قوله (اقسم بالله لان رد علي احدكم كلمة في مقامي هذا، لا ترجع اليه كلمة غيرها حتى يسبقها السيف الى راسه، فلا يبقين رجل الا على نفسه).
      باء: شرعنة الطبقية السياسية التي تقسم الناس الى صنفين، الاول خلقه الله ليمارس السلطة، والثانية خلقه الله ليكون عبدا مطيعا لهذه السلطة، كما هو الحال تحديدا في الانظمة الوراثية التي لازال بعضها يحكم في البلاد العربية والاسلامية، كامتداد للنهج الاموي، كما هو الحال مثلا في النظام الحاكم في الجزيرة العربية والاردن والمغرب وغيرها الكثير.
      جيم: شرعنة مفهوم ان الحاكم هو ظل الله في الارض، ولذلك فان كل ما يقوله او يفعله او يقرره فهو حق لا ينبغي لاحد ان يناقش او يجادل فيه، وان الخروج على هذا الظل يعد خروجا على الله تعالى، الذي البس هذا الظل قميصا لا ينبغي لاحد ان يخلعه عنه، فاذا عوتب في تبذير المال العام مثلا، اجاب: (الارض لله، وانا خليفة الله، فما آخذ من الله فهو لي، وما تركته منه كان جائزا لي} على حد قول معاوية، اما اذا علت اصوات بعض الناس تطلب منه ان يدع الناس وشانهم، فهم احرار فيما يفكرون ويختارون ويعملون، فيجيب (ندع الناس ما لم يحولوا بيننا وبين ملكنا) كما كان يرد معاوية.
      ان كل هذه القيم، فيما لو كان الامويون قد نجحوا في تمريرها في ذهن الامة وفي الواقع السياسي، وحولوها الى دستور دائم يعمل به الخلف بعد السلف، كانت ستلغي آدمية الانسان وتلغي فلسفة الخلقة، لانها تلغي اولا وقبل كل شئ الحرية التي هي، كما اسلفت، حجر الزاوية في كل البناء.
      لقد استهدف الحسين السبط حماية الحرية من خلال ما يلي:
      اولا: اسقاط شرعية السلطة الاموية التي نزت على الخلافة بغير مشورة ولا رضى من الامة، والحيلولة دون تحويل الخلافة الى ملك عضوض يتوارثه الابناء والاسر رغما عن انوف الناس، فقال عليه السلام {اما بعد ايها الناس، فانكم ان تتقوا الله، وتعرفوا الحق لاهله، يكن ارضى لله، ونحن اهل البيت اولى بولاية هذا الامر عليكم من هؤلاء المدعين ما ليس لهم، والسائرين فيكم بالجور والعدوان}.
      ثانيا: تسفيه نظرية الحاكمية المطلقة للسلطة، والتي تلغي ارادة الامة، من خلال ما اشاعه الامويون من فكرة (انما السواد بستان لقريش ما شئنا اخذنا منه وما شئنا تركناه) او قولهم (لناخذن حاجتنا من هذا الفئ وان رغمت انوف اقوام) او قولهم (وانما انا سلطان الله في ارضه).
      ثالثا: التمييز بين الطاعة والعبودية، فطاعة الحاكم شئ وعبادته شئ آخر، فالاولى تعني اعانته على انجاز عمل الخير وكل ما يساهم في خدمة الناس وعلو شانهم، اما الثانية فتعني الرضا بكل سياساته بغض النظر عن صحتها من سقمها، ما يلغي دور الرقابة والمحاسبة والاعتراض، اما الطاعة فلا تلغي كل ذلك، بل تشجع وتحرض عليه، وهي، بذلك، تساهم في تحقيق نجاحات السلطة.
      رابعا: اثارة مبدا حرية الاختيار، لاسقاط مفهوم البيعة بالاكراه، والتي يعتبرها الحسين السبط انها غير شرعية حتى اذا اضطر الانسان لاعطائها في ظرف سياسي معين، ولذلك لم يسع كل اهل البيت عليهم السلام، بما فيهم امير المؤمنين الذين انتخبته الامة ببيعة عامة، لم يسعوا الى اجبار احد على بيعة او على طاعة، لاعتقادهم الجازم وايمانهم الراسخ بحق العقل وحق الضمير في البحث الحر والراي المستقل، ولقد كان امير المؤمنين عليه السلام لا يولي عاملا على مصر من امصار الدولة التي يحكمها، الا بعد ان يقبل الناس بالعقد الاجتماعي الذي يبعثه مع من يقترحه عليهم، لتكون بيعتهم لعامله عن رضى وقناعة، وليس عن فرض واكراه وجبر.
      خامسا: تفسير مفهوم الحياة والموت بطريقة اخرى، تختلف عما يفهمه الناس، وذلك من خلال ربط المفهوم بالحرية، فكان عليه السلام يقول {موت في عز، خير من حياة في ذل} وهي كقول ابيه امير المؤمنين عليه السلام من قبل {الموت في حياتكم مقهورين، والحياة في موتكم قاهرين}.
      سادسا: تجلي حسن الاختيار، ليحقق المرء ارادته ويحافظ على حريته، فقال عليه السلام {الا وان الدعي بن الدعي قد ركز بين اثنتين بين السلة والذلة، وهيهات منا الذلة، يابى الله لنا ذلك ورسوله والمؤمنون، وجدود طابت وحجور طهرت، وانوف حمية، ونفوس ابية، لا تؤثر طاعة اللئام على مصارع الكرام}.
      او في قوله عليه السلام {لا والله، لا اعطيهم بيدي اعطاء الذليل، ولا افر فرار العبيد}.
      سابعا: شرح مفهوم البيعة، او ما يسمى اليوم بصوت الناخب الذي يدلي به في صندوق الاقتراع، كمسؤولية شرعية وتاريخية، لا ينبغي لاحد ان يعطيها لكل من هب ودب، فقد تنتهي به الى النار، بعد ان تصادر حريته وتقضي على كرامته وتفسد المجتمع بنظام سياسي فاسد، فقال عليه السلام {انا اهل بيت النبوة، ومعدن الرسالة، ومختلف الملائكة، بنا فتح الله، وبنا ختم، ويزيد فاسق، فاجر، شارب الخمر، قاتل النفس المحترمة، معلن بالفسق والفجور، ومثلي لا يبايع مثله} وبذلك يكون الامام عليه السلام قد رسم معالم نهجين متناقضين لا يلتقيان ابدا.
      ان الحسين السبط عليه السلام لم يفعل اكثر من انه نبه الناس الى الخطا والانحراف والظلم، فجابه الطاغوت بكل ما اوتي، فكان عليه السلام ناقوس الخطر الذي يسعى الطاغوت دائما الى ازاحته عن طريقه، لان الطاغوت يرتعد من كل ما ينبه الناس الى الحقيقة ويعلمهم طريق النجاة، فالمنبه يوقظ الناس، فيما يسعى الطاغوت الى ان يحافظ عليهم نائمين في سبات عميق ليفعل بلا رقيب ويحكم بلا سلطان عليه لا من شعب ولا من معارضة ولا هم يحزنون، كما هو الحال اليوم بالنسبة الى الانظمة الشمولية التي تسعى لاسكات كل صوت حر معارض يساهم في ايقاض الناس وتنبيههم الى حالهم والى الواقع المزري الذي يعيشونه في ظل نظام قمعي بوليسي استبدادي يصادر حرية الناس ويقمع انفاسهم ويسحق كرامتهم.
      فالمصلح خارج على امام زمانه، والمعارض عميل وخائن، والناطق بالحق فوضوي ومهرج، وليس لكل هؤلاء الا السيف والقتل والاعدام والسحل والسجن والمطاردة والابعاد، خوفا على الناس النوم، بتشديد الواو وفتحها، من الاستيقاض، ما يثير المشاكل في وجه السلطة ويسبب وجع الرأس للحاكم (الاوحد) والقائد (الضرورة).
عاشوراء..فقه النهضة
      يمتلئ تاريخ البشرية بالعديد من النهضات والثورات وحركات التغيير، منها ما حقق نجاحا ومنها ما فشل في تحقيق اهدافه، ومنها ما حقق نجاحا استراتيجيا دام قرون، ومنها ما حقق نجاحات وقتية اضمحلت نتائجها وتلاشت آثارها بمرور الوقت، الا ثورة الامام الحسين السبط عليه السلام التي تحولت الى منار والى علم تهتدي بنوره البشرية على الرغم من مرور القرون المتمادية، فلازال السبط الشهيد وعاشوراء وكربلاء مدرسة للتحرر من العبودية ومقارعة الظالم والمساواة بين الناس كافة والعزة والكرامة.
      ولذلك تغنى بالحسين عليه السلام وتعلم من مبادئه كل الناس بغض النظر عن دينهم او مذهبهم او اثنيتهم او حتى اتجاهاتهم الفكرية وانتماءاتهم السياسية، لان الحسين السبط لم يكن لفئة دون اخرى او لدين دون آخر، انه التجسيد الحي للاسلام الذي بعثه الله تعالى للناس كافة.
      ولقد بحث الناس في مختلف مجالات النهضة الحسينية، فكتبوا عن بعدها العاطفي وتحدثوا عن بعدها الفكري والثقافي ونظروا لبعدها الاجتماعي، الا ان واحدا من هذه الابعاد لم يتأمل فيه الناس كثيرا، الا وهو البعد النهضوي في ثورة الامام الحسين عليه السلام، واقصد به الشروط التي رسم معالمها الامام الحسين في حركته الاستشهادية لمن يريد ان يقود نهضة تنتهي بالانسان الى التحرر والكرامة والعزة والعدل.
      ولان العالم، خاصة العالم الاسلامي، واخص بالذكر منه العالم العربي، مشغول اليوم بالنهضة، بعد فترة عبودية وقهر واذلال قل نظيرها، تسببت بها الانظمة الشمولية الاستبدادية البوليسية التي تحكم شعوبها بالحديد والنار، والتي صادرت حرية المواطن وسحقت حقوقه واستباحت كرامته، لذلك اعتقد ان البشرية اليوم بامس الحاجة الى ان تتعلم شروط النهضة من مدرسة الحسين السبط عليه السلام، فعاشوراء، برايي، حددت فقه النهضة، اية نهضة، وليست بالضرورة ان تكون دينية، لان النهضة عملية تخص الانسان كانسان، ولا تخصه كمسلم او مسيحي، شيعي او سني، عربي او غير عربي.
      تعالوا اذن، ونحن نعيش ذكرى الطف العظيمة، نقرا بعض ملامح (فقه النهضة) الذي خطه ابو عبد الله الحسين عليه السلام بدمه الطاهر وتضحيته المباركة من اجل الانسان.
      في البدء يجب ان ننتبه الى حقيقة في غاية الاهمية، الا وهي ان اول اسباب النهضة برايي الامام السبط، هو ان يكون الحكم في البلاد صالحا وسليما، وان من ابرز شروط صلاح النظام السياسي هو وجود المعارضة السياسية التي تؤدي دور الترشيد والرقابة والمحاسبة وتصحيح الاخطاء بشكل دستوري وسليم.
      ان سلطة بلا معارضة، لهي سلطة تنتهي بالبلاد الى الاستبداد والديكتاتورية ان عاجلا ام آجلا، ولذلك سعى الامام امير المؤمنين عليه السلام، لحظة رحيل الرسول الاكرم (ص) وعندما تيقن بان قريش قد ازاحته عن مكانه المناسب والصحيح في السلطة الجديدة، وان الخلافة قد زويت عنه، ولاسباب عديدة، قرر ان يعمل جاهدا من اجل ان يؤدي دور المعارضة السياسية في الدولة الى جانب الحكم الذي كانت له عليه الكثير من المؤاخذات الشرعية والفكرية والسياسية وغير ذلك، عبر الترشيد والرقابة والنصح والتصحيح.
      فكان يفرض نفسه كمعارضة فرضا، ليؤسس لمفهومها بشكل سليم، فكان ياخذ على يد الخليفة اذا اخطا، وكان لا يسكت على ظلم اذا اصاب مواطن، فمثلا، روي انه كان في بيت المال بالمدينة سفط فيه حلي وجوهر فاخذ منه الخليفة الثالث عثمان بن عفان ما حلى به بعض اهله، فاظهر الناس الطعن عليه في ذلك وكلموه فيه بكل كلام شديد حتى اغضبوه، فخطب فقال: (لناخذن حاجتنا من هذا الفئ وان رغمت به انوف اقوام) فقال له امير المؤمنين علي بن ابي طالب عليه السلام {اذن، تمنع من ذلك ويحال بينك وبينه}.
      وعندما بايعه الناس حاكما اعلى في الدولة الاسلامية، بذل كل جهده من اجل ان يساهم في التاسيس لمعارضة دستورية من خلال افساح المجال لكل مواطن لان يدلي بدلوه في كل قضية من القضايا العامة التي تخص الناس، وليس المسلمين فقط، فكان يقول ويكرر {فلا تكفوا عن مقالة بحق، او مشورة بعدل} ولذلك، مثلا، نراه يؤسس لدولة المواطن وليس لدولة الدين او المذهب او الاثنية، ولهذا السبب، ربما نلاحظ ان جل خطابات الامام عليه السلام كان يبداها بقوله {ايها الناس} لاشعارهم بان سلطته السياسية هي للناس كافة وليست للمسلمين دون سواهم.
      فمثلا عندما راى عليه السلام رجلا مسنا يفترش الرصيف على قارعة الطريق، تساءل عن الحالة بقوله {ما هذا؟} ولم يسال عن الشخص، فلم يقل (من هذا؟) وعندما اجابه اصحابه بقولهم (يا امير المؤمنين انه رجل نصراني كبر فلا يقوى على عمل) رد عليهم بالمعنى {استعملتموه عندما كان قويا، فلما ضعف تركتموه وشانه؟) ثم امر صاحب بيت المال، اي وزير المالية او الخزانة، بان يجري له ما يؤمن له حياة كريمة من ماكل وملبس ومسكن.
      كذلك، عندما تناهت الى مسامعه اخبار الغارات المسلحة التي كان يبعثها معاوية بن ابي سفيان ضد اهالي المناطق التي يحكمها امير المؤمنين وما كان يفعله جنده وقطاع الطرق الذين كانت تبعثهم الشام الى اطرف العراق وغيره من الامصار، قال الامام قولته المشهورة والتي ساوى فيها بين كل المواطنين من دون تمييز {وهذا اخو غامد وقد وردت خيله الانبار، وقد قتل حسان بن حسان البكري، وازال خيلكم عن مسالحها، ولقد بلغني ان الرجل منهم كان يدخل على المراة المسلمة، والاخرى المعاهدة، فينتزع حجلها وقلبها، بضم القاف، وقلائدها ورعثها، ما تمتنع منه الا بالاسترجاع والاسترحام، ثم انصرفوا وافرين، ما نال رجلا منهم كلم، ولا اريق لهم دم، فلو ان امرا مسلما مات من بعد هذا اسفا ما كان به ملوما، بل كان به عندي جدير}.
      اكثر من هذا، ما رواه ابن ابي الحديد في شرح (نهج البلاغة) اذ يقول، قال علي:
      {ثم جاءني احدهم فقال لي: اني قد خشيت ان يفسد عليك عبد الله بن وهب وزيد بن حصين الطائي، اني سمعتهما يذكرانك باشياء لو سمعتها لم تفارقهما حتى تقتلهما، او توثقهما فلا يزالان بمحبسك ابدا، فقلت له: اني مستشيرك فيهما، فماذا تامرني بهما؟ فقال الرجل: اني آمرك ان تدعو بهما فتضرب رقابهما، فعلمت انه لا ورع له ولا عقل، فقلت له: ما اظن لك ورعا ولا عقلا، لقد كان ينبغي ان تعلم اني لا اقتل من لم يقاتلني ولم يظهر لي عداوته، ولقد كان ينبغي لك، لو اردت قتلهم، ان تقول لي: اتق الله، بم تستحل قتلهم ولم يقتلوا احدا؟}.
      فهو، عليه السلام، رفض ان يكون في ظل حكومته سجناء راي او حتى عقيدة، فهو قد ضمن حرية التعبير وحرية الاعلام لكل المواطنين، بلا تمييز، لازالوا لم يشهروا السلاح بوجه السلطة السياسية المنتخبة، وبذلك يكون قد شرعن للمعارضة السياسية في البلاد، ومنحها كامل الحقوق الدستورية والقانونية.
      ان بدء فساد النظام السياسي، برأي الامام، يتجلى بمن يلي امور الناس، صغيرا كان ام كبيرا، فاذا فسدت هذه الطبقة، فسد النظام السياسي، وبالتالي ضاعت مصالح الناس، والعكس هو الصحيح، فاذا صلحت هذه الطبقة صلحت مصالح الناس، فمثلا، لو لم يكن المسؤول فاسدا لما تجرا المواطن على تعاطي الرشوة، ولو لم يكن الوزير قد زور شهادته او تسنم مسؤوليته لقرابته من الحاكم، لما تجرا المواطن على تزوير شهاداته او التوسل بالوساطات لنيل ما يصبو اليه.
      يقول عليه السلام {ينبغي لمن ولي امر قوم ان يبدا بتقويم نفسه قبل ان يشرع في تقويم رعيته، والا كان بمنزلة من رام استقامة ظل العود قبل ان يستقيم ذلك العود}.
      ولقد كان بامكان الامام امير المؤمنين عليه السلام ان يترك الامة وشانها مع الطبقة السياسية الحاكمة الفاسدة، الا ان مسؤوليته في عملية الاصلاح هي التي دفعته لان يلح في حث الناس على الاصلاح، وتحميلهم مسؤولية التغيير، يقول عليه السلام:
      {اني والله لو لقيتهم واحدا وهم طلاع الارض كلها ما باليت وما استوحشت، واني من ضلالهم الذي هم فيه والهدى الذي انا عليه لعلى بصيرة من نفسي ويقين من ربي، واني الى لقاء الله لمشتاق، وحسن ثوابه لمنتظر راج، ولكنني آسى ان يلي امر هذه الامة سفهاؤها وفجارها، فيتخذوا مال الله دولا، وعباده خولا، والصالحين حربا، والفاسقين حزبا، فان منهم الذي شرب فيكم الحرام، وجلد حدا في الاسلام، وان منهم من لم يسلم حتى رضخت له على الاسلام الرضائخ، فلولا ذلك ما اكثرت تاليبكم، وجمعكم وتحريضكم، وتركتكم اذ ابيتم وونيتم}.
      بهذا الكتاب الذي بعثه الامام الى اهل مصر، مع مالك الاشتر لما ولاه امارتها، يحدد عليه السلام معالم المسؤولية العينية التي تقع على كاهل كل مواطن في الدولة، فلقد كان بامكان الامام ان يتحمل المسؤولية لوحده، او كان بامكانه ان يترك حبل الامور على غاربها، على حد وصفه، الا ان حرص الامام على تحميل المواطن ــ الفرد مسؤولية الاصلاح والتغيير، من اجل تحقيق النهضة الاجتماعية المطلوبة من خلال الاصلاح السياسي، هو الذي دفع به الى ان يحث ويحرض ويثير ويؤلب ويؤنب. 
      على ذات النهج سار الامام الحسن السبط عليه السلام ومن بعده الامام الحسين السبط عليه اليلام، فلو كان النظام السياسي الجديد الذي خلف معاوية في السلطة باعتلاء ابنه يزيد السلطة في الشام، قد منح حرية التعبير للناس، ولم ياخذهم غصبا على البيعة له، ولو انه كان قد ترك الناس وشانها تقول ما تعتقد به صحيحا وتنتقد ما تراه خاطئا ومنحرفا، فلم ياخذهم بالتهمة ولم يكمم افواههم ويسكت اصواتهم، لكان الامام الحسين عليه السلام قد اتخذ موقفا آخر من السلطة، ولاختار جانب المعارضة السياسية للكشف عن انحرافات النظام السياسي الجديد، واصلاح الامور، وهذا امر يعتقد الامام الحسين عليه السلام انه من حقه ومن حق كل مواطن في ظل الدولة، اية دولة، اما ان ينزو على السلطة حاكم ارعن فاسد فاسق فاجر قاتل النفس المحترمة كيزيد بن معاوية، ثم يامر الناس بان يبايعوه تحت حد السيف ويطيعوه على كل حال، ثم يفرض عليهم السكوت والخضوع والخنوع لسلطته، من خلال مصادرة الحريات وتكميم الافواه والغاء المعارضة، وكل ذلك باسم الله تعالى وباسم الدين وباسم القران وباسم خلافة رسول الله (ص) فهذا ما لا يمكن السكوت عنه، لانه يتناقض جملة وتفصيلا مع اول شروط النهضة لاي بلد، وهو شرط النظام السياسي الصالح، او على الاقل وجود المعارضة السياسية السليمة، والا ارايتم او سمعتم او قراتم عن بلد شهد نهضة وعمرانا وتطورا وتقدما، وعلى اي صعيد من الاصعدة، في ظل نظام سياسي فاسد؟ الا ان تكون مثل هذه النهضة كمساحيق النساء التي يضعنها على وجوههن، ما ان يلامسها الماء حتى تزول عن بكرة ابيها.
      اقول: بان اول شروط النهضة هو وجود النظام السياسي الصالح، لان النظام السياسي الفاسد يفسد معه كل شئ، الاجتماع والاقتصاد والعلم والثقافة وكل شئ، ولذلك قال الامام الحسين عليه السلام في وصيته التي تركها عند اخيه محمد بن الحنفية:
      {الا واني لم اخرج اشر ولا بطرا ولا مفسدا ولا ظالما، وانما خرجت لطلب الاصلاح في امة جدي، اريد ان آمر بالمعروف وانهى عن المنكر واسير بسيرة جدي رسول الله وابي علي بن ابي طالب}.
      ومن هذه الوصية يمكن ان نتلمس شروط النهضة بما يلي:
      ان الذي يفكر بتغيير النظام السياسي الفاسد يجب عليه ان يتميز عنه في كل شئ، فلا يكون خروجه على الظالم شرا على الناس، فيمارس القتل والذبح والتفجير والتدمير بحجة الجهاد والنضال والمقاومة، او انه يخرج على الطاغوت بما يملك من اموال او اعلام فحسب، من دون ان يكون صاحب مشروع نهضوي تغييري حقيقي، او ان يفسد اكثر مما يصلح في حركته النهضوية، فلقد راينا الكثير من (الثورات) وحركات (التحرر) عندما تصل الى السلطة بعد نضال طويل ضد الحكم السياسي الفاسد، والذي تعمده بالتضحيات الكثيرة والكبيرة، اذا بها تمارس نفس سياسات النظام المباد وكانها كانت تسعى بنضالها ضد السلطة الجائرة، الى ان تستبدلها بسلطتها فحسب من دون اي تغيير، او ان تكون الحركة (النهضوية) ظالمة بدلا من ان تكون مظلومة، تارة للنظام السياسي القائم عندما تفشل في تشخيص المرحلة السياسية ومتطلباتها، واخرى عندما تظلم من معها في خندق النضال، بسبب الحزبية الضيقة والانانيات التي تثير الخلافات والضغائن بين (المناضلين) بعضهم ضد البعض الاخر.
      ان كل هذه الحالات مرفوضة في فقه النهضة عند الحسين السبط، لان الحركة النهضوية التي دعا اليها وقادها حتى النهاية كانت سليمة من مثل هذه الامراض التي تصيب (حركات التحرر) غير المبدئية والتي تركز نظرها على السلطة اكثر من اي شئ آخر.
      اما الحسين السبط، فلم يكن هدفه السلطة من اجل السلطة، ابدا، وانما استهدف السلطة الظالمة من اجل التغيير نحو الافضل والاحسن، فهو عليه السلام اراد بنهضته ان يغير المفاهيم السياسية من خلال فضح السلطة الجائرة اولا، ليتسنى له ممارسة التغيير الجذري على بقية الاصعدة، وهو الذي حدد معالم طريقة التغيير السياسي، والتي لخصها بالتغيير الذاتي الذي يجب ان يسبق اي تغيير آخر، لان الانسان الفاسد لا ينتج شيئا صالحا ابدا.
      لقد سعى الحسين السبط الى اطلاق حرية الانسان التي صادرها النظام السياسي الحاكم، بنوعين من الاستبداد، الاول هو الاستبداد الديني والثاني هو الاستبداد السياسي، ما انتج امة بلا كرامة، لان كرامة الانسان من حريته، فالعبد ليس له كرامة، وان امة بلا حرية لهي امة بلا كرامة، ولذلك ضحى الحسين السبط عليه السلام من اجل اطلاق الحرية من اسر النظام الاموي الشمولي الوراثي.
      فالنهضة عند الحسين السبط تبدا من الانسان، الذي يجب ان يكون حرا قادرا على الاختيار، ولذلك نلاحظه عليه السلام كان يحرض على السلطة من مقاتلها، يقول عليه السلام:
      {ايها الناس ان رسول الله (ص) قال؛ من رأى سلطانا جائرا، مستحلا لحرام الله، ناكثا لعهد الله، مخالفا لسنة رسول الله، يعمل في عباد الله بالاثم والعدوان، فلم يغير ما عليه بفعل ولا قول كان حقا على الله ان يدخله مدخله.
      الا وان هؤلاء قد لزموا طاعة الشيطان وتركوا طاعة الرحمن واظهروا الفساد وعطلوا الحدود، واستاثروا بالفئ، واحلوا حرام الله، وحرموا حلاله، وانا احق من غير}.
      وفي هذا النص:
      يثير الامام المسؤولية العينية عند كل مواطن في الدولة الاسلامية، بغض النظر عن هويته الدينية واتجاهاته الفكرية، لان السلطة في الدولة، اية دولة، شان عام يتاثر بها، سلبا او ايجابا، المؤمن وغير المؤمن، الكبير والصغير، المراة والرجل، العالم والمتعلم، ولذلك ينبغي ان يتحمل الجميع مسؤولية الاصلاح والتصحيح والاخذ على يد السلطة اذا ظلمت وانحرفت وطغت، لان طغيان السلطة لا حدود له وان ظلمها لا يقف عند حد، ولقد راينا كيف ان طغيان النظام الشمولي البائد الذي حكم العراق بالحديد والنار طيلة قرابة اربعة عقود من الزمن، شمل الجميع، بعد ان بدا ضد فئة معينة فاستهدف شريحة دون اخرى، فظن الاخرون بانه لا يستهدف الا من يواجه سياساته، فاختاروا السكوت والمداهنة كاسلوب لاتقاء شر السلطة، اذا بها تدير وجهها لهم بعد ان اكملت مشوارها مع غيرهم، لتبدا بتصفيتهم الواحد تلو الاخر.
      هكذا هي تجارب التاريخ، فلقد ظن البعض ان الطاغية يزيد لا يريد الا ان ياخذ الحسين السبط بالشدة، فاذا تمكن منه ترك الباقين وشانهم، اذا بهم يتحولون بمرور الوقت الى وقود لنيران السلطة الظالمة والغاشمة، ليس في العراق فحسب، بل حتى عند البيت العتيق في مكة المكرمة وفي مدينة رسول الله (ص).
      ان النهضة في قاموس الحسين السبط تبدا من الانسان ــ الفرد لتنتهي بالانسان ــ الامة او الجماعة، ويخطئ من يظن انه لا دور له في النهضة وان على الاخرين ان يتحملوا مسؤولياتهم ازاءه، ابدا.
      والمنطلق من هذا الفهم، هو ان الانسان ــ الفرد يتضرر بالسلطة الفاسدة كما ان الانسان ــ المجتمع يتضرر هو الاخر، فالحاكم عادة يمارس سلطته على مستويين، الاول هو الفرد والثاني هو المجتمع، فمثلا، اذا استاثر الحاكم بالفيء، اي باموال الناس، او ما يسمى اليوم ببيت المال، او بالميزانية العامة، فان ذلك سيلحق الضرر بالفرد وبالمجتمع على حد سواء، بالفرد لانه سيحرم حقه الشخصي من بيت المال، فيظل يعيش فقيرا يتحول بسبب العوز والحاجة الى عبد عند الحاكم يعمل بالسخرة ويقتات على فتات موائد اللئام، وبالمجتمع لانه سيحرم فرص النهوض والتقدم والتطور، بعد ان يكون الحاكم الظالم قد صادر حقوقه في بيت المال، فلم يعد يصرف على المشاريع العامة التي تساهم في بناء البلد وتنمية قدرات اهله، فتضيع فرص التعليم والصحة والعمل وتحسين المعاش وغير ذلك.
      نقطة اخرى مهمة جدا بهذا الخصوص، وهي ان فساد النظام السياسي سبب للفساد الاداري، والاخير عادة ما يعتمد على الرشوة والمحسوبية والقربى والواسطة في توزيع المناصب والمسؤوليات ومراكز الدولة، في اطار ما بات يعرف اليوم، في العراق تحديدا، بالمحاصصة والحزبية الضيقة، وان مثل هذا الفساد الاداري يهدر الطاقات الخلاقة والكفاءات والخبرات في البلد، ويلغي مبادئ اساسية لعملية النهوض مثل النزاهة والحرص وروح المسؤولية والكفاءة والخبرة، ولذلك استهدف الحسين السبط تغيير النظام السياسي ليعيد ميزان العدل في ادارة البلاد الى نصابه.
      لقد ذكر القران الكريم هذا المعنى في آية كريمة بقوله عز وجل {ولا تبخسوا الناس اشياءهم ولا تعثوا في الارض مفسدين} وان من اشياء الناس كفاءاتهم وخبراتهم ونزاهتهم واحساسهم بالمسؤولية، وان النظام السياسي الفاسد يبخس هذه الاشياء، فلا يعطي الناس حقهم في ذلك، لانه يعتمد الفساد الاداري، الذي ميزانه المحاصصة كما قلنا والولاء للحزب او الزعيم، والاخيرة لا تعتمد على (الاشياء) التي ذكرناها للتو، وانما تعتمد قواعد اخرى هي فاسدة كالنظام، ولهذا السبب فان النظام السياسي الفاسد يبخس الناس اشياءهم، ولذلك استهدفه الحسين السبط، من اجل ان يعمل على تطبيق هذه القاعدة القرانية العظيمة.
      والملفت للنظر في الاية الكريمة هو انها تنهى عن بخس اشياء (الناس) وليس المؤمنين، لان (اشياء) الناس كالخبرة والكفاءة والنزاهة والامانة والقدرة على النجاح، محترمة ليس بسبب الدين او المذهب او الاثنية او بسبب قرب المرء من الحاكم او بسبب ولائه له وتملقه للسلطة السياسية، ابدا، وانما هي (اشياء) محترمة لذاتها، يحترمها العقل والمنطق وقبل وبعد كل ذلك الدين، فالانسان، ايا كان، لا زال يمتلك من هذه الاشياء ما لا يمتلكها غيره، وان لم يكن صواما قواما، فيجب على الدولة ان تقدمه وتؤخر الاخر الصوام القوام، الا اذا ارادت الدولة ان تختار اماما لمسجد، فان عليها ان تبحث عن الصوام القوام المتقي، اما لشؤون الدولة ولامور الحكم فان الاولوية للاشياء التي يحتاجها الموقع، وليس لاي شئ يرد في ذهننا.
      ولقد وصفت الاية الكريمة من يتغاضى عن هذه الحقيقة الحضارية، بانه يعثوا في الارض فسادا، وهذا ما نلاحظه اليوم في بلداننا العربية تحديدا والتي قدمت فيها الانظمة الحاكمة صفات مثل المحسوبية والمحاصصة والولاء للسلطة على قيم حقيقية مثل النزاهة والخبرة والتجربة والكفاءة، ولذلك عم الفساد في هذه البلدان، خاصة على الصعيد السياسي والاداري، لان الاية ربطت بين بخس اشياء الناس والفساد.
      هذا من جانب، ومن جانب آخر، فلقد اشار الحسين السبط في خطابه هذا مع الناس الذين تحشدوا لقتاله، الى نقطة اخرى في غاية الاهمية كذلك، لا ينبغي لمصلح او زعيم نهضة ان يتغافل عنها او يتنكر لها، الا وهي ضرورة بل وجوب ان يربط المصلح مصيره مع مصير الناس في كل الاحوال لينال ثقتهم، والا فهم قد يعتبرونه دجالا او وصوليا يسعى للوصول الى السلطة على اكتاف الناس بعد ان يحول تضحياتهم الى جسر طويل ينتهي به الى السلطة، ثم يدير ظهره للناس الذين كانوا وقود (نهضته) كما هو الحال بالنسبة الى كثيرين ممن وصلوا الى السلطة بدماء الابرياء وتضحيات المستضعفين وانات الثكالى والارامل والايتام، اذا بهم يتنكرون لكل شئ وكانهم تسلقوا السلطة بعضلاتهم او انهم نزوا عليها من السماء.
      لقد سعى الامام السبط ان يطمئن الناس الى حقيقة حركته ونهضته، فسعى الى اقناعهم بانه قد ربط مصيره بمصيرهم، من اجل ان يغلق كل ابواب التبرير المفترضة، فقال لهم بعد ان بين لهم هويته بشكل صحيح وليس كما صورته الدعاية الاموية التضليلية؛
      {فاني الحسين بن علي وابن فاطمة بنت رسول الله (ص) نفسي مع انفسكم، واهلي مع اهليكم، فلكم في اسوة}.
      ترى، ما الذي ابقاه السبط للعصبة الضالة من حجج واعذار بعد هذا الخطاب؟ الا ان تكون قد قررت ان تقود نفسها الى ذل الدنيا وخزي الاخرة، وهذا ما حصل بالفعل.
      ثم بين الامام في نهاية خطابه هذا حقيقة مهمة اخرى الا وهي ان من لا يساعد نفسه على التخلص من الظلم فليس هناك احد يساعده على ذلك، فكل واحد في المجتمع هو الاصل في عملية التغيير، اما الاخرون فهم عوامل مساعدة، ولذلك خاطبهم السبط بقوله، فيما اذا قررت العصابة ان لا تساعد نفسها على الانعتاق من ظلم وتجبر وجبروت النظام السياسي الفاسد، بقوله:
  .{فحظكم اخطاتم، ونصيبكم ضيعتم، ومن نكث فانما ينكث على نفسه}  
      انهم اخطاوا الطريق بمثل هذا القرار الخاطئ، كما انهم ضيعوا به نصيبهم بالحياة الحرة السعيدة الفارهة.
      هذا هو حال الماضين، وهو اليوم حال الكثير من الشعوب التي ترتجف من اتخاذ قرار التحرر والانعتاق من ربقة الطاغوت، والانكى من ذلك، هو حال الشعوب التي يقيض لها الله تعالى اسباب الانعتاق والتحرر ثم تصر على العودة الى عهد الجبروت والذل والخنوع والاستكانة، لماذا؟ لانها لم تميز بعد بين مصلحتها وضررها، وكانها ابسلت على التعايش مع الظلم والقهر والذل والعبودية.
      وصدق امير المؤمنين علي بن ابي طالب عليه السلام عندما قال {من لا يعرف الخير من الشر فهو بمنزلة البهيمة}.
      واحد فقط من بين تلك العصابة قرر ان يساعد نفسه فبادر السبط لمساعدته، ذلك هو الحر بن يزيد الرياحي الذي خير نفسه في اللحظة الحاسمة بين الجنة والنار، فابى الا ان يختار الجنة، من خلال اتخاذه القرار الصحيح والموقف السليم، في اللحظة المناسبة، عندما قرر فك ارتباطه بجيش الشام الذي بعثه الطاغية يزيد لقتل السبط، والالتحاق بقوات الحق التي كان يمثلها آنئذ الحسين واهل بيته واصحابه، وصدق سيد الشهداء عندما وقف على جسده الطاهر بعد استشهاده مخاطبا اياه بقوله عليه السلام {انت حر في الدنيا وسعيد في الاخرة}.
لولا عاشوراء
      في مقالتي الاخيرة عن عاشوراء، ذكرت القول الماثور الذي ينص على ان (الاسلام حسيني البقاء) والذي يعني ان روح الحسين السبط عليه السلام واهل بيته واصحابه التي ازهقها الطاغية يزيد بن معاوية ونظامه السياسي الفاسد، وان دمه الطاهر الذي اريق في كربلاء في يوم عاشوراء من عام 61 للهجرة، هو الذي حفظ الاسلام كدين سماوي من الانحراف، وهو الذي صان القيم الانسانية النبيلة التي جاء بها رسول الله (ص) الى البشرية جمعاء من التحريف والالغاء والتشويه.
      قلت هذا، فكتب لي احد القراء الكرام يسالني عن الدليل على ذلك، ما اثار عندي فضول البحث والتحقيق لاثبات هذه المقولة، فكانت النتائج التي توصلت اليها مادة المحاضرة التي القيتها ليلة الاحد الماضي (12\12\2010) في مركز الامام المهدي (عج) التعليمي في منطقة العاصمة الاميريكة واشنطن الكبرى، ضمن برنامج محرم الحرام الذي اقيم هناك باشراف الملتقى العراقي ــ الاميركي.
      في البدء يجب ان نتذكر بان الاسلام منظومة من القيم الانسانية والحضارية التي لا غنى للبشرية عنها، ولذلك، فليس اعتباطا ان قال الله تعالى في محكم كتابه الكريم {اولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده قل لا اسالكم عليه اجرا ان هو الا ذكرى للعالمين} وفي اخرى يصف فيها بعثة الرسول الكريم (ص) {وما ارسلناك الا رحمة للعالمين} و {ان هو الا ذكر للعالمين} والذي يعني ان الاسلام لكل الناس ولكل الازمنة، وان رسالته خالدة ما بقي الدهر.
      هذا من جانب، ومن جانب آخر، فاننا اذا اردنا ان نصل الى النتيجة الصحيحة في بحثنا عن حقيقة القول الماثور الآنف الذكر، فان افضل طريقة لتحقيق ذلك هو الاسلوب الاكاديمي الذي يعتمد مبدا المقارنة التي تفضي الى المفاضلة العقلية والمنطقية، والتي لا يختلف عليها احد الا اذا كان معاندا او متعصبا.
      ان مادة البحث في هذا المقال ترتكز على المقارنة بين منهجين متناقضين في المجتمع المسلم ابان الفترة الزمنية الممتدة من خلافة امير المؤمنين علي بن ابي طالب عليه السلام ولحين استشهاد السبط ابن بنت رسول الله (ص) الامام الحسين بن علي عليهما السلام، لان كربلاء تمثل، برايي، نهاية مطاف مرحلة زمنية من هذا التناقض بين المنهجين، وبداية مطاف آخر امتد الى الان، بل والى يوم يبعثون، فعاشوراء، حسب فهمي، مائز بين منهجين، وفاصل بين زمنين.
      شئ مهم آخر يجب ان نتذكره ونحن نبحث في الموضوع، الا وهو اننا اذا اردنا ان نثبت صحة القول الماثور علينا ان نعرف الظروف التي حكمت الواقع آنئذ، والتي دفعت بطاغية ارعن سكير كيزيد بن معاوية ان يرتكب واحدة من ابشع الجرائم ضد الانسانية وضد الاسلام، بقتله الحسين السبط ابن بنت رسول الله (ص) وبتلك الطريقة المفجعة التي لازالت تمثل العار الاموي في جبين التاريخ، والتي حتمت على الحسين السبط، من جانب آخر، ان يقدم على واحدة من اعظم التضحيات في تاريخ البشرية، والتي انتهت باستشهاده واهل بيته وصحبه الميامين بتراجيديا ليس لها مثيل.
      لنغوص، اذن، في صلب الموضوع، من خلال البحث في القيم الحضارية التي اعتمدها الاسلام، والمقارنة بين المنهجين المتناقضين؛
      اولا: لقد اعتمد الاسلام (الشورى) كمبدا في الحكم، والتي تعني رفض كل اشكال النزو بالغصب على السلطة، على قواعد الحرية والمساواة والشراكة، ولقد قال تعالى في محكم كتابه الكريم {وامرهم شورى بينهم} كما قال تعالى {وشاورهم في الامر.}
      وعلى الرغم من ان المسلمين انقسموا الى مدرستين، بعد وفاة رسول الله (ص) الاولى التي تسمى بمدرسة الامامة، والتي تعتمد الشورى بعد النص في نظرية الحكم، من خلال نظرية البيعة آنذاك، والثانية التي تسمى بمدرسة الخلافة والتي من المفترض انها تعتمد كذلك فكرة الشورى هي الاخرى، على الرغم من هذا الانقسام، الا انهم جميعا اعتمدوا مبدا الشورى كطريقة لاختيار الحاكم الاعلى في الدولة، ولهذا السبب فان الخلفاء الاربعة الذين يطلق المسلمون على عهدهم صفة (عهد الخلفاء الراشدين) تسنموا السلطة بالشورى، بغض النظر عن الملاحظات التي تؤخذ على اجتماع السقيفة الذي انتج شورى (غير سليمة) الا انهم بالمجموع حكموا بمبدا الشورى وليس باي مبدا آخر، كالتوريث مثلا او التمكن من السلطة بالقوة العسكرية وما شابهها.
      الى هذه الفلسفة يشير امير المؤمنين عليه السلام في رده على رسالة من معاوية {انه بايعني القوم الذين بايعوا ابا بكر وعمر وعثمان على ما بايعوهم عليه، فلم يكن للشاهد ان يختار، ولا للغائب ان يرد، وانما الشورى للمهاجرين والانصار، فان اجتمعوا على رجل وسموه اماما كان ذلك لله رضى، فان خرج عن امرهم خارج بطعن او بدعة ردوه الى ما خرج منه، فان ابى قاتلوه على اتباعه غير سبيل المؤمنين، وولاه الله ما تولى}.
      ان الشورى، من وجهة نظر الاسلام، مرتبطة ارتباطا وثيقا بالحرية وحق الاختيار، وتاليا بكرامة الانسان التي قال عنها الله تعالى {ولقد كرمنا بني آدم} ولذلك لا يرى الاسلام اية امكانية في فصل هذه القيم بعضها عن البعض الاخر ابدا، فمثلا، فان الانسان الذي تسلب منه السلطات الحاكمة حقه في المشاركة في اختيار الحاكم انما هو مسلوب الحرية، وان الانسان الذي تسحق السلطات الحاكمة حريته انما هو انسان بلا كرامة، وهكذا، ولذلك نرى ان الاسلام اكد على هذه المنظومة من القيم المترابطة بعدد كبير من الايات المحكمات، منها قوله عز وجل {لا اكراه في الدين} و {فذكر انما انت مذكر* لست عليهم بمسيطر} اما امير المؤمنين عليه السلام فلقد قال اكثر من مرة، مشيرا الى احترامه لخيارات الناس وحريتهم في القبول او الرفض وكرامتهم {وليس لي ان احملكم على ما تكرهون} فيما وصف بيعته بقوله {ودعوت الناس الى بيعتي، فمن بايعني قبلته ومن ابى تركته} ولهذا السبب لم يسجل لنا التاريخ ابدا ان امير المؤمنين عليه السلام اجبر احد على البيعة او انه سجن احد لانه رفض ان يعطيه البيعة، ابدا.
      هذا في منهج القران الكريم، مدرسة اهل البيت عليهم السلام، اما في المقابل، فنقرا السحق المنظم للحريات والاهدار التام للكرامات والمصاردة اللامتناهية لحق الاختيار، فمثلا:
      وقف يزيد بن المقفع ذات مرة خطيبا في مجلس معاوية وبحضور الخدم والحشم والوزراء قائلا {امير المؤمنين هذا، واشار الى معاوية، فان هلك فهذا، واشار الى ابنه يزيد، فمن ابى فهذا، مشيرا الى سيفه الذي جرده من غمده} فقال له معاوية {اجلس فانك سيد الخطباء} في اشارة منه الى موافقته على مثل هذا النوع من المنهج والطريقة في فرض الحاكم على الرعية.
      ان هذا المنهج كفر بالشورى ففرض الحاكم على الناس فرضا من غير مشورة وبلا تفويض منهم، فخيرهم بين حز الرقاب او البيعة، وبين هدم الدور على رؤوس اصحابها او الطاعة.
      لقد استدعى معاوية بسر بن ارطأة، ووجهه الى الحجاز، وقال له:  
      لا تنزل على بلد اهله على طاعة علي الا بسطت عليهم لسانك حتى يروا انهم لا نجاء لهم وانك محيط بهم، ثم اكفف عنهم وادعهم الى البيعة لي فمن ابى فاقتله، واقتل شيعة علي حيث كانوا.
      وعندما راح معاوية يجول في البلدان لاخذ (البيعة) من الناس وباي طريقة من الطرق، لابنه يزيد، وصل الى مكة فاجتمع بالناس فخطب فيهم لاقناع الناس بخلافة يزيد:
      اعذر من انذر، اني كنت اخطب فيكم فيقوم الي القائم منكم فيكذبني على رؤوس الناس، فاقسم بالله لان رد علي احدكم كلمة في مقامي هذا، لا ترجع اليه كلمة غيرها حتى يسبقها السيف الى راسه، فلا يبقين رجل الا على نفسه.
      اما كتاب يزيد الى واليه على المدينة الوليد بن عتبة، بعيد هلاك معاوية مباشرة فقد نص على ما يلي (اما بعد، فخذ حسينا وعبدالله بن عمر وابن الزبير بالبيعة اخذا ليس فيه رخصة، حتى يبايعوا، وفي نسخة، فان ابوا فاقتلهم، والسلام) والى هذا المعنى اشار الامام الحسين السبط عليه السلام بقوله {الا وان الدعي بن الدعي قد ركز بين اثنتين، بين السلة والذلة، وهيهات منا الذلة} لان الامام يعتبر ان اعطاء البيعة مكرها لحاكم غير مرغوب فيه بكل المقاييس يتناقض ومبدا العزة والكرامة، لان ذلك يصادر حرية الانسان، خاصة حريته في الاختيار.
      كما ان هذا النهج ربط بشكل واضح بين اجبار الناس على البيعة الصورية وبين الذلة التي ساموها الرعية عمدا، ولقد صور احدهم، وهو الوليد بن يزيد الاموي، هذا الترابط في مجموع هذه المفاهيم الخطيرة بقوله:
                      فدع عنك ادكارك آل سعدى      فنحن الاكثرون حصى ومالا
                      ونحن المالكون الناس قسرا       نسومهم المذلة والنكـالا
                      ونوردهم حياض الخسف ذلا            وما نالوهم الا خبالا
     ثانيا: ان فلسفة الاسلام تقوم على اساس مبدا الاصلاح، والذي هو ضد الفساد او الافساد، اصلاح الانسان والعائلة والمجتمع والارض والبيئة والاقتصاد وقبل كل ذلك النظام السياسي الحاكم، على اعتبار ان صلاح الاخير حجر الزاوية في عملية الاصلاح الشاملة، والى هذا المعنى اشارت الاية الكريمة {قال يا قوم ارايتم ان كنت على بينة من ربي ورزقني منه رزقا حسنا وما اريد ان اخالفكم الى ما انهاكم عنه ان اريد الا الاصلاح ما استطعت وما توفيقي الا بالله عليه توكلت واليه انيب} وقوله {وواعدنا موسى ثلاثين ليلة واتممناها بعشر فتم ميقات ربه اربعين ليلة وقال موسى لاخيه هارون اخلفني في قومي واصلح ولا تتبع سبيل المفسدين} وقوله عز وجل {انما المؤمنون اخوة فاصلحوا بين اخويكم واتقوا الله لعلكم ترحمون}.
      وامتدادا لهذا النهج القراني، رسم امير المؤمنين عليه السلام خطه الذي كان يعلمه ويكرره لعماله بعد ان جسده مشروعا على ارض الواقع، فلخص في عهده الى مالك الاشتر لما ولاه مصر فلسفة السلطة والهدف منها بقوله {جباية خراجها وجهاد عدوها واستصلاح اهلها وعمارة بلادها}.
      ثم يفصل مبدا الاصلاح في نصوص العهد بقوله عليه السلام:
      {وتفقد امر الخراج بما يصلح اهله....وليكن نظرك في عمارة الارض ابلغ من نظرك في استجلاب الخراج، لان ذلك لا يدرك الا بالعمارة، ومن طلب الخراج بغير عمارة اخرب البلاد، واهلك العباد} ثم {اياك والدماء وسفكها بغير حلها} و {ثم تفقد اعمالهم، العمال، وابعث العيون من اهل الصدق والوفاء عليهم، فان تعاهدك في السر لامورهم حدوة لهم على استعمال الامانة والرفق بالرعية} و {اشعر قلبك الرحمة للرعية والمحبة لهم واللطف بهم ولا تكونن عليهم سبعا ضاريا تغتنم اكلهم، فانهم صنفان: اما اخ لك في الدين، او نظير لك في الخلق} اما في وصيته لابنه الامام الحسن السبط عليه السلام فيقول {احبب لغيرك ما تحب لنفسك، واكره له ما تكره لها، ولا تظلم كما لا تحب ان تظلم} ثم يقول عليه السلام { ولا تكونن على الاساءة اقوى منك على الاحسان}.
      وعلى ذات النهج سار ابنه حفيد رسول الله (ص) الحسين السبط عليه السلام فقال في وصيته التي تركها في المدينة عند اخيه محمد بن الحنفية {اني لم اخرج اشرا ولا بطرا ولا مفسدا ولا ظالما وانما خرجت لطلب الاصلاح في امة جدي}.
      في المقابل، تعالوا نقرا بعض تفاصيل النهج المناقض لهذا النهج والذي بدا وللاسف الشديد في عهد الخليفة الثالث، والذي قال عنه امير المؤمنين عليه السلام {استاثر فاساء الاثرة} ثم اضاف عليه السلام {وقام معه بنو امية يخضمون مال الله خضمة الابل نبتة الربيع} فنرى ان الخليفة الثالث كان يرد اذا عوتب على التبذير بقوله (الارض لله وانا خليفة الله فما آخذ من الله فهو لي وما تركته منه كان جائزا لي).
      ثم استمر وتراكم هذا النهج على يد معاوية بن ابي سفيان الذي كان يقول لعماله (فاقتل من لقيته ممن ليس هو على مثل رايك، وانهب اموال من اصبت له مالا ممن لم يكن له دخل في طاعتنا).
      ولقد سعى اصحاب هذا النهج المنحرف الى ان يقضوا على اية معارضة قد تضطرهم الى تغيير مساراتهم، او تفضح اساليب نهجهم ووسائله والاعيبه، ولذلك فعندما ضاق الخليفة الثالث ذرعا بمعارضة الصحابي الجليل ابا ذر الغفاري واحتجاجاته المتكررة على الاخطاء التي كانت ترتكبها السلطات الحاكمة وجلاوزة السلطان، قال لمستشاريه (اشيروا علي في هذا الكذاب، يعني ابا ذر الذي قال عنه رسول الله (ص) {ما اظلت الخضراء ولا اقلت الغبراء من ذي لهجة اصدق من ابي ذر} اما ان اضربه او احبسه او اقتله) اما بشان الصحابي الجليل والعظيم عمار بن ياسر فلقد اشار عليه احد مستشاريه وهو مروان بن الحكم عندما ساله عن رايه في الطريقة المثلى للتعامل مع احتجاجات عمار قال (يا امير المؤمنين، ان هذا العبد، يعني عمارا الذي قال عنه رسول الله (ص) {اذا اختلف الناس كان عمار مع الحق} قد الب عليك الناس وانك ان قتلته نكلت به من وراءه) وكل ذلك لان الخلافة، برايي اصحاب هذا النهج، ملك عضوض وقميص قمصه الله اصحابه، ولقد عبر مروان بن الحكم عما في دواخلهم بقوله لمن حاصروا بيت الخليفة الثالث (ما شانكم قد اجتمعتم كانكم جئتم لنهب، شاهت الوجوه، أتريدون ان تنزعوا ملكنا من ايدينا؟ اغربوا عنا، والله ان رمتونا لنمرن عليكم ماحلا ولنحلن بكم ما لا يسركم، ارجعوا الى منازلكم، فانا والله غير مغلوبين على ما في ايدينا) فيما قال آخر، وهو يزيد بن معاوية، بعد ان ظفر براس الامام الحسين سبط رسول الله (ص) بعد واقعة كربلاء الاليمة:
                                            لعبت هاشم بالملك فلا                خبر جاء ولا وحي نزل
      في جزم صريح بكفره بالرسالة التي اوحاها رب العزة الى نبيه الكريم، وان الامر كله لا يعدو اكثر من ملك فحسب.
      كما ان زعماء هذا النهج كانوا يسعون الى ابعاد المعارضة عن عاصمة الخلافة ما امكنهم الى ذلك من سبيل، من اجل ابعاد تهديدها وخطرها على السلطة الظالمة، وما قصة نفي الصحابي الجليل ابا ذر الغفاري عن المدينة الى صحراء الربذة الا دليل واحد من ادلة كثيرة، ولقد اشار عبد الله بن عمار على عثمان مرة بهذه الخطة، عندما استشار الاخير بطانته بشان المعارضة التي كانت تتنامى يوما بعد آخر، فقال له:
   رايي يا امير المؤمنين ان تامرهم بجهاد يشغلهم عنك وان تجمرهم في المغازي حتى يذلوا لك فلا يكون همة احدهم الا نفسه وما هو فيه من دبرة دابته وقمل فروه،  فرد عثمان عماله على اعمالهم وامرهم بالتضييق على من قبلهم وامرهم بتجمير الناس في البعوث وعزم على تحريم اعطياتهم ليطيعوه ويحتاجوا اليه.
      وتراكم الفساد في الامة الى درجة كبيرة، صوره الحوار التالي الذي جرى بين عبيدة بن هلال اليشكري الذي التقى يوما ابو حرابة التميمي، فقال عبيدة: يا ابا حرابة، اني اسالك عن اشياء افتصدقني عنها في الجواب؟ قال: نعم، قال عبيدة: ما تقولون في ائمتكم؟ (الامويين) قال ابو حرابة: يبيحون الدم الحرام، قال: فكيف فعلهم في المال؟ قال: يجبونه من غير حله وينفقونه في غير وجهه، قال عبيدة: فكيف فعلهم في اليتيم؟ قال ابو حرابة: يظلمونه ماله ويمنعونه حقه وينكحون امه، قال: ويحك يا ابا حرابة، امثل هؤلاء يتبع؟ قال: قد اجبتك فاسمع ودع عتابي.
      اما ابو حمزة الخارجي الذي طرد الحكام الامويين من المدينة، فوصفهم بقوله:
      الا ترون الى خلافة الله وامامة المسلمين كيف اضيعت حتى تداولها بنو مروان فاكلوا مال الله اكلا وتلعبوا بدين الله لعبا واتخذوا عباد الله عبيدا يورث الاكبر منهم ذلك الاصغر، لقد ملكوا الامر وتسلطوا فيه تسلط ربوبية، بطشهم بطش الجبابرة يحكمون بالهوى ويقتلون على الغضب وياخذون بالظن ويعطلون الحدود بالشفاعات ويؤمنون الخونة ويعصون ذوي الامانة ويتناولون الصدقة من غير فرضها ويضعونها غير موضعها.
      ولم لا؟ اولم يقل يزيد (خليفة المسلمين) لنادمه امام مراى ومسمع الجميع:
                      اسقني شربة تروي فؤادي    ثم صل فاسق مثلها ابن زياد
                      صاحب السر والامانة عندي     ولتسديد مغنمي وجهادي
      ثالثا: اعتمد الاسلام مبدا المساواة بين الناس في الحقوق والواجبات خاصة، بعد ان اذهب عنهم نخوة الجاهلية وازال عنهم العصبية بكل انواعها، على اعتبار ان الله تعالى خلق الخلق من عباده متساوون لا يميز بعضهم عن البعض الاخر الا ما يحسنون، والذي يعبر عنه القران الكريم بالتقوى، فقال تعالى {يا ايها الناس انا خلقناكم من ذكر وانثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا ان اكرمكم عند الله اتقاكم ان الله عليم خبير} اما رسول الله (ص) فلقد قال اكثر من مرة {المؤمنون اخوة، تتكافأ دماؤهم، ويسعى بذمتهم ادناهم، وهم يد على من سواهم} و {من آذى ذميا فقد آذاني} او {من آذى ذميا فانا خصيمه يوم القيامة}  وفي خطبته في حجة الوداع قال (ص) {ايها الناس، ان الله تعالى اذهب عنكم نخوة الجاهلية وفخرها بالاباء، كلكم لادم وآدم من تراب، ليس لعربي على اعجمي فضل الا بالتقوى} وفي حديث آخر قال {من قاتل تحت راية عمية، يغضب لعصبية، او يدعو الى عصبية، او ينصر عصبية، فقتل، قتل قتلة جاهلية} و {لا فرق لعربي على اعجمي ولا لاسود على ابيض الا بالتقوى} فيما كرر امير المؤمنين هذا المعنى في اكثر من مرة بقوله {الناس صنفان اما اخ لك في الدين او نضير لك في الخلق} فكان عليه السلام يقول لعبيد الله ابن ابي رافع، خازن بيت المال {ابدا بالمهاجرين فنادهم واعط كل رجل ممن حضر ثلاثة دنانير، ثم ثن بالانصار فافعل معهم مثل ذلك، ومن حضر من الناس كلهم، الاحمر والاسود فاصنع به مثل ذلك}.
      لقد اعتمد امير المؤمنين عليه السلام مبدا المساواة بين الناس في كل الامور، في العطاء وامام القضاء وفي كل الشؤون العامة، فلم يشأ التمييز بينهم ابدا، لدرجة ان كثيرين اعتبروا ان هذه المساواة (القاسية) هي التي حرضت بعض (كبار الصحابة) على نقض بيعتهم له والخروج عليه وقتاله مثل طلحة والزبير وغيرهما، من دون ان يدفع كل ذلك الامام الى ان يتراجع عن هذا المبدا قيد انملة، لانه يعرف جيدا بان المساواة قيمة لا يجوز له ان يتنازل عنها ارضاءا لهذا (الصحابي) او ذاك (التابعي).
      مقابل هذا النهج كان يقف النهج الاخر، فمثلا، يقول ابن ابي الحديد المعتزلي عن تمييز الخليفة الثاني (فضل السابقين على غيرهم وفضل المهاجرين من قريش على غيرهم من المهاجرين، وفضل المهاجرين كافة على الانصار كافة وفضل العرب على العجم، وفضل الصريح على المولى).
      ثم تكرس هذا التمييز واثارة العصبية في عهد معاوية بن ابي سفيان، فمثلا، كان قد ارسل في سنة 38 للهجرة ابن الحضرمي الى البصرة ليضرم الفتنة بين قبائلها باثارة ذكريات حرب الجمل وقتل عثمان، وقال له (فانزل في مضر واحذر ربيعة وتودد الازد وانع ابن عفان وذكرهم الوقعة التي اهلكتهم ولمن سمع واطاع منهم دنيا لا تفنى واثرة لا يفقدها).
      وذات مرة ارسل معاوية للاحنف بن قيس وسمرة بن جندب يستشيرهما بقوله (اني رايت هذه الحمراء، يعني غير العرب، قد كثرت واراها قد قطعت على السلف، وكاني انظر الى وثبة منهم على العرب والسلطان فقد رايت ان اقتل شطرا وادع شطرا لاقامة السوق وعمارة الطريق).
      رابعا: ان الاسلام، كما هو معروف، دين العلم والمعرفة والفكر والتفكر والبصيرة، فلقد حارب الاسلام الجهل ومنع التضليل {فاستخف قومه فاطاعوه انهم كانوا قوما فاسقين} ورفض ان يكون في الامة امي لا يقرا ولا يكتب، فقال {اقرا} لان معرفة الله تعالى لا تتحقق الا بالعلم والتفكير فقال تعالى {الذين يذكرون الله قياما وقعودا وعلى جنوبهم ويتفكرون في خلق السماوات والارض ربنا ما خلقت هذا باطلا سبحانك فقنا عذاب النار} و {هو الذي مد الارض وجعل فيها رواسي وانهارا ومن كل الثمرات جعل فيها زوجين اثنين يغشي الليل النهار ان في ذلك لايات لقوم يتفكرون} وكذلك قوله عز وجل {لو انزلنا هذا القران على جبل لرايته خاشعا متصدعا من خشية الله وتلك الامثال نضربها للناس لعلهم يتفكرون} وان اقامة الحق والعدل لا تتم الا بالمعرفة، كما ان توظيف الادوات السليمة من اجل الاصلاح والتغيير لا يتم الا اذا كان المرء على بصيرة من امره، والا فانه سيسخر كل شئ من اجل التغيير المزعوم، فتراه يوظف القتل والتدمير والذبح والسيارات المفخخة، كادوات يمكن ان يحقق بها هدفه المنشود، والذي يكون بهذه الحالة ابعد ما يكون عن الاسلام.
      ان في القران الكريم الكثير من الايات التي تتحدث عن معاني العلم الذي هو بمثابة النور على العكس من الجهل الذي هو بمثابة الظلام، ففي الاية الكريمة {قل هذه سبيلي ادعو الى الله على بصيرة انا ومن اتبعني وسبحان الله وما انا من المشركين} وعن رسول الله (ص) انه قال {طلب العلم فريضة على كل مسلم ومسلمة} و {اطلبوا العلم ولو بالصين} اما امير المؤمنين عليه السلام فقد اعتبر التعليم احد ابرز واجبات الحاكم العادل تجاه رعيته، فكان يقول {وتعليمكم كيلا تجهلوا، وتاديبكم كيما تعلموا} فيما كان يوصي عماله بالعلماء والحكماء، كما في عهده الى مالك الاشتر اذ يقول له {واكثر مدارسة العلماء ومناقشة الحكماء}.
      لقد كان امير المؤمنين عليه السلام يعتبر صراحة الحاكم مع رعيته وحديث الصدق اليهم مظهر مهم من مظاهر التعليم ولذلك كان يوصي بما يطلق عليه اليوم في علم السياسة او الاعلام بالشفافية فكتب في عهده الى الاشتر {وان ظنت الرعية بك حيفا فاصحر لهم بعذرك واعدل عنك ظنونهم باصحارك فان في ذلك رياضة منك لنفسك ورفقا برعيتك واعذارا تبلغ به حاجتك من تقويمهم على الحق}.
      امام هذا النهج يشخص النهج المناقض الاخر الذي مثله معاوية في عهده ومن وليه من الامويين، ففي شرح النهج لابن ابي الحديد، يقول: ذكر شيخنا ابو جعفر الاسكافي:
      ان معاوية وضع قوما من الصحابة وقوما من التابعين على رواية اخبار قبيحة في علي عليه السلام تقتضي الطعن فيه والبراءة منه وجعل لهم على ذلك جعلا يرغب في مثله، فاختلقوا ما ارضاه، منهم ابو هريرة وعمرو بن العاص والمغيرة بن شعبة، ومن التابعين عروة بن الزبير.
      ولقد بذل معاوية الى الصحابي سمرة بن جندب (400) الف درهم على ان يروي ان هذه الاية {ومن الناس من يعجبك قوله في الحياة الدنيا، ويشهد الله على ما في قلبه، وهو الد الخصام، واذا تولى سعى في الارض ليفسد فيها ويهلك الحرث والنسل، والله لا يحب الفساد} قد نزلت في علي بن ابي طالب، وان الاية
{ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضاة الله} نزلت في ابن ملجم الذي قتل امير المؤمنين عليه السلام.
      اما ابو هريرة فقد كافاه معاوية بولاية المدينة لاحاديثه الموضوعة، والتي منها على سبيل الفرض لا الحصر: (ان الله ائتمن على وحيه ثلاثا، انا وجبرئيل ومعاوية) وان النبي ناول معاوية سهما وقال له (خذ هذا حتى تلقاني في الجنة).
      في الجانب الاخر بذل معاوية جهدا عظيما من اجل طمس النهج العلوي من خلال محاربة من روى عن امير المؤمنين عليه السلام فكان يكتب الى عماله في الامصار (ان برئت الذمة ممن روى شيئا من فضائل ابي تراب واهل بيته) فيما كان يشجع على نشر اي حديث آخر للتغطية على امير المؤمنين، فكان يوصي عماله بقوله (ان انظروا من قبلكم من شيعة عثمان ومحبيه والذين يروون فضائله ومناقبه فادنوا مجالسهم وقربوهم واكرموهم واكتبوا الي بكل ما يروي كل رجل منهم واسمه واسم ابيه وعشيرته).
      لقد سعى معاوية الى تجهيل الناس بدرجة كبيرة، ليسوقهم حيث يريد بلا سؤال او نقاش، لانه يعرف جيدا ان السؤال عن مقاصده كلما قاد جيشا او بعث سرية او مجموعة من قطاع الطرق، يفسد عليه خططه، والقصة التالية تشير الى المدى البعيد الذي ذهب اليه معاوية في ممارسة سياسة التجهيل والتضليل والغفلة:
      دخل رجل من اهل الكوفة على بعير له الى دمشق بعد ان انصرف جيش علي من صفين، فتعلق به رجل من دمشق فقال له: هذه ناقتي اخذت مني بصفين، فارتفع امرهما الى معاوية، واقام الدمشقي خمسين رجلا من اهل الشام يشهدون انها ناقته، فقضى معاوية على الكوفي وامره بتسليم البعير للدمشقي، فقال الكوفي لمعاوية: اصلحك الله، انه جمل وليس بناقة، فقال معاوية: هذا حكم قد مضى، ثم دس الى الكوفي بعد ان تفرقوا من احضره اليه ثانية، فساله عن ثمن بعيره فدفع اليه ضعفه، واحسن اليه، وقال له: ابلغ عليا اني اقابله بمائة الف رجل ليس فيهم من يفرق بين الناقة والجمل.
      ويؤكد الجاحظ كلام معاوية في اهل الشام بزمانه، ويذكر بعض الاسباب في طاعتهم له يقول (العلة في طاعة اهل الشام انهم ذوو بلادة وتقليد وجمود، على راي واحد لا يرون النظر ولا يسالون عن مغيب الاحوال).
      ومن الوسائل التي سخرها الامويون لسحر الناس بعد تجهيلهم وارهابهم على قاعدة {قال القوا فلما القوا سحروا اعين الناس واسترهبوهم وجاؤوا بسحر عظيم} هي وسيلة التخدير بالدين المزيف والحديث المجعول، فلقد شجع معاوية مثلا على قول وكتابة ونشر الحديث المزيف والمجعول الذي يخدر الناس ويبث في نفوسهم روح الخنوع والخضوع والسكوت واللاابالية، منها على سبيل المثال لا الحصر:
      عن عبد الله بن عمر (قال رسول الله: انكم سترون بعدي اثرة وامورا تنكرونها، قالوا: فماذا تامرنا يا رسول الله؟ قال: ادوا اليهم حقهم، وسلوا الله حقكم) وفي آخر (من راى من اميره شيئا يكرهه فليصبر عليه، فان من فارق الجماعة شبرا فمات مات ميتة جاهلية) و (ستكون هنات وهنات فمن اراد ان يفرق امر هذه الامة وهي جمع فاضربوه بالسيف كائنا من كان).
      وحدث العجاج قال: قال لي ابو هريرة (ممن انت؟ قال، قلت من اهل العراق، قال: يوشك ان ياتيك بقعان اهل الشام فياخذوا صدقتك فاذا اتوك فتلقهم بها، فاذا دخلوها فكن في اقاصيها وخل عنهم وعنها، واياك ان تسبهم، فانك ان سببتهم ذهب اجرك، واخذوا صدقتك، وان صبرت جاءتك في ميزان حسناتك يوم القيامة).
      فيما نرى ان منهج القران الكريم، منهج اهل البيت عليهم السلام، يحرض ضد الظلم وضد سلطة الطاغوت، لانه يعتبر ان مواجهة الظالم مسؤولية عينية يجب ان يتصدى لها كل الناس، فهي مقدمة للاطلاح الذي يجب ان يتحقق اذا ما انحرفت السلطة عن مسار العدل وفشلت في تحقيق الامن والكرامة والحرية والمساواة بين الناس، ولذلك ذكر الحسين السبط الناس بقول رسول الله (ص) وهو يحرضهم ضد الظلم والسلطان الجائر، بقوله عليه السلام {ايها الناس ان رسول الله (ص) قال: من رأى سلطانا جائرا، مستحلا لحرام الله، ناكثا لعهد الله، مخالفا لسنة رسول الله، يعمل في عباد الله بالاثم والعدوان، فلم يغير ما عليه بفعل ولا قول كان حقا على الله ان يدخله مدخله}.
      خامسا: الاساس الاخر الذي اعتمده الاسلام في تحقيق العدالة الاجتماعية، هو الامن، كقيمة حضارية وانسانية، فقال تعالى {فليعبدوا رب هذا البيت الذي اطعمهم من جوع وآمنهم من خوف} فيما قال امير المؤمنين عليه السلام في فلسفة السلطة {ويأمن الخائفون من عبادك} و {تأمن به السبل}.
      كما انه عليه السلام كان يكرر على عسكره قبل لقاء العدو بصفين قوله {فاذا كانت الهزيمة باذن الله فلا تقتلوا مدبرا ولا تصيبوا معورا ولا تجهزوا على جريح ولا تهيجوا النساء باذى وان شتمن اعراضكم وسببن امراءكم}.
      ولم يكتف الامام بالحث على امن الناس فحسب، وانما كان يحث حتى على امن الحيوان كذلك، فكان يكتب لمن يستعمله على الصدقات {فان كان له ماشية او ابل فلا تدخلها الا باذنه فان اكثرها له، فاذا اتيتها فلا تدخل عليها دخول متسلط عليه ولا عنيف به، ولا تنفرن بهيمة ولا تفزعها، ولا تسوءن صاحبها بها} ثم يقول {ولا توكل بها الا ناصحا شفيقا وامينا حفيظا} ويضيف {فاذا اخذها امينك فاوعز اليه الا يحول بين ناقة وبين فصيلها، ولا يمصر لبنها فيضر ذلك بولدها، ولا يجهدنها ركوبا، وليعدل بين صواحباتها في ذلك وبينها، وليرفه على الراغب وليستان بالنقب والظالع}.
      وكان يوصي عماله على الخراج بقوله {ولا تضربن احدا سوطا لمكان درهم، ولا تمسن مال احد من الناس، مصل ولا معاهد}.
      ازاء هذا النهج القراني، يقف في الطرف الاخر النهج المناقض، فهذا سفيان بن عوف الغامدي يقول:
      دعاني معاوية فقال: اني باعثك بجيش كثيف ذي اداة وجلادة، فالزم لي جانب الفرات حتى تمر بهيت فتقطعها، فان وجدت بها جندا فاغر عليهم، والا فامض حتى تغير على الانبار، فان لم تجد جندا فامض حتى توغل في المدائن، ان هذه الغارات يا سفيان على اهل العراق ترعب قلوبهم، وتفرح كل من له هوى فينا منهم، وتدعو الينا كل من خاف الدوائر، فاقتل كل من لقيته ممن هو ليس على مثل رايك، واخرب كل ما مررت به من القرى، واحرب الاموال، فان حرب الاموال شبيه بالقتل وهو اوجع للقلب.
     ودعا معاوية بالضحاك بن قيس الفهري وامره بالتوجه ناحية الكوفة، وقال له:
      من وجدته من الاعراب في طاعة علي فأغر عليه.
      واستدعى معاوية بسر بن ارطأة، ووجهه الى الحجاز، وقال له:
      سر حتى تمر بالمدينة فاطرد الناس، واخف من مررت به، وانهب اموال كل من اصبت له مالا ممن لم يكن دخل في طاعتنا، فاذا دخلت المدينة فارهم انك تريد انفسهم، واخبرهم ان لا براءة لهم عندك ولا عذر حتى اذا ظنوا انك موقع بهم فاكفف عنهم، وارهب الناس عنك فيما بين المدينة ومكة واجعلها شردات.
      وكتب الى عماله يقول:
      انظروا من قامت عليه البينة انه يحب عليا واهل بيته فامحوه من الديوان، واسقطوا عطاءه ورزقه.
      وفي نسخة اخرى (من اتهمتموه بموالاة هؤلاء القوم فنكلوا به واهدموا داره).
      مما تقدم يتضح لنا جليا حقيقة معنى {ان الاسلام حسيني البقاء} فلولا عاشوراء لكان الاسلام اليوم:
      اولا: دين البلاط والسلطة السياسية الحاكمة.
      ثانيا: دين الارهاب والتخويف والرعب والقتل والتدمير.
      ثالثا: دين الجهل والتخلف والامية والتضليل.
      رابعا: دين التمييز والعنصرية بكل اشكالها.
      خامسا: دين الاستبداد والديكتاتورية والنظام الشمولي.
      سادسا: دين الملك العضوض يتوارثه الابناء عن الاباء.
      سابعا: دين العبودية والخضوع والاستسلام للقوي.
      ثامنا: دين الزيغ والزيف والتراث، وليس دين الوحي الالهي.  
      تاسعا: دين المادة بلا روح، والعاطفة بلا عقل.
      عاشرا: دين الجسد والشهوات والاهواء.
      ترى، اهذا هو الاسلام الذي بعثه الله تعالى رحمة للعالمين؟ ام انه (اسلام) الامويين الذين {اتخذوا مال الله دولا، وعباده خولا، والصالحين حربا، والفاسقين حزبا} على حد وصف امير المؤمنين عليه السلام؟.
      ان دم الحسين عليه السلام هو الذي حفظ الاسلام من الانحراف، وان تضحيته العظيمة هي التي نبهت الامة الى حقائق الاسلام العظيمة وقيمه الانسانية النبيلة، فهو بمعنى آخر، جدد دين جده وصانه من الزيف وحفظه من التحريف.
      فسلام على الحسين
      وعلى علي بن الحسين  
      وعلى اولاد الحسين
      وعلى اصحاب الحسين
      ورحمة الله وبركاته.
تبليغ الرسالات..زينبيا
      اذا كان الحسين السبط عليه السلام قد بلغ رسالة الدم باستشهاده في كربلاء في عاشوراء عام 61 للهجرة، فان زينب الكبرى بنت امير المؤمنين عليه السلام قد بلغت رسالة الكلمة بمواجهتها للسلطان الجائر، وبذلك تكون الرسالة قد اكتملت، عندما تعانق الدم مع الكلمة، والاستشهاد مع المواجهة الشجاعة.
      لقد شاء الله تعالى ان لا تبلغ، بضم التاء وتشديد اللام وفتحها، رسالاته الا بالدم والكلمة الشجاعة والصادقة، ولذلك تزامن الاستشهاد مع الكلمة على مر التاريخ، وها هي تونس الخضراء ومصر الكنانة واليمن السعيد والاردن والجزيرة العربية وغيرها من دول العالم العربي التي تشهد ثورة ضد الظلم والطغيان والاستبداد السياسي، يتزامن فيها الدم مع الكلمة، والاستشهاد مع صرخة المظلوم التي راحت تدوي في سماء العالم عبر الفضائيات وكل وسائل الاتصال الجمعي.
      والى هذه الحقيقة اشار القرآن الكريم بقول الله تعالى{ الذين يبلغون رسالات الله ويخشونه ولا يخشون احدا الا الله وكفى بالله حسيبا} فالاية تشير الى:
      اولا: ان رسالات الله لا تعني تعليم الناس الصلاة والصوم، او الحج وغيره من العبادات، فتلك هي جزء ضئيل من رسالات الله تعالى، انما رسالاته اعظم من كل ذلك بكثير، وهي اهم واخطر من كل هذه العبادات، انها رسالة الانسان الحر والكريم والعقل السليم والقلب الطاهر والمعافى، بغض النظر عن لون هذا الانسان او اثنيته او دينه او اي شئ آخر، انها رسالة الانسان اذا ما ظلم، بضم الظاء، ورسالة العقل اذا ما ضلله الطاغوت ورسالة القلب اذا ما اصيب بمرض بسبب الحقد والكراهية والبغضاء والانانية والعنصرية والحزبية الضيقة.
      ثانيا: ان من يبلغ هذه الرسالات سيتعرض لكل انواع الاضطهاد وقد يقتله ديكتاتور او تطارده اجهزة الامن والاستخبارات لتصفيته، وقد يتعرض للتسقيط المعنوي، كما كان الحال بالنسبة الى الكثير من انبياء الله ورسله وكذلك حال الكثير من المبلغين والمصلحين على مر التاريخ، فلا يظنن امرء بان تبليغ رسالات الله تعالى امر هين لا يحتاج الى الثمن الغالي الذي لا بد من ان يدفعه المبلغ، ابدا.
      ثالثا: ولانه لتبليغ الرسالات ثمن باهض، لذلك اشترط الله تعالى على من ينوي التصدي لهذه المسؤولية ان يكون:
      الف؛ واعيا لمهمته وللواجب الذي يريد ان يتحمل مسؤوليته.
      باء؛ شجاعا فلا يخشى غير الله تعالى وهو يبلغ رسالاته عز وجل.
      جيم؛ ثابتا فلا يتردد او يتزعزع او ينهار امام الاغراءات او الضغوط التي سيواجهها.
      دال؛ واضحا وعلى بصيرة من امره، لا يشك ولا يظن او يتصور.
      هنا يشخص دور زينب بنت علي امير المؤمنين عليهما السلام، كابرز مصداق لقول الله تعالى الانف الذكر.
      فبعودة سريعة الى خطبتها العظيمة في مجلس ديكتاتور الشام يزيد بن معاوية، وقبل ذلك خطبتها في مجلس ديكتاتور الكوفة، سنلحظ هذه الصفات الاربع باجلى معانيها واوضح مصاديقها.
      انها قالت {انما يفتضح الفاسق ويكذب الفاجر} {فانظر لمن الفلج يومئذ} {هبلتك امك يابن مرجانة}
   {اظننت يا يزيد} {امن العدل يبن الطلقاء} {فوالله ما فريت الا جلدك وما حززت الا لحمك}  {ولئن جرت علي الدواهي مخاطبتك اني لاستصغر قدرك واستعظم تقريعك واستكثر توبيخك} {وهل رايك الا فند وايامك الا عدد وجمعك الا بدد يوم ينادي المنادي الا لعنة الله على الظالمين}.
      ففي هذه الفقرات من خطبيتها نقرا وبشكل واضح كل ما تتطلبه مسؤولية التصدي للتبليغ، ففيها الشجاعة والوضوح والبصيرة وعدم الخشية من احد الا الله تعالى الذي يحول بين المرء المخلص لرسالته والكذب والتزوير والغش والتلاعب بالالفاظ، ولذلك لم نجد في خطبتي عقيلة الهاشميين اي زيادة في عباراتها، كما لم نجد فيها اي تضخيم للامور او تزوير للحقائق او تقليل من اهمية الموقف.
      ولان زينب عليها السلام تميزت بكل الصفات المطلوبة فيمن ينوي تبليغ رسالات الله تعالى، لذلك خاطبت الطاغية بخطاب الواثق من نفسه وقبل ذلك من وعد الله تعالى قائلة { فوالله لا تمحو ذكرنا}.
      فلماذا اقسمت زينب بالله تعالى؟ لماذا لم تتحدى الطاغوت بالعبارة فقط من دون القسم؟.
      برايي، انها اقسمت في هذا النص لسببن اثنين:  
      الاول: لانها على علم بالجهد العظيم الذي سيبذله كل طغاة الارض من اجل محور ذكر الحسين عليه السلام وطمس اثره لتنسى البشرية ما الذي حدث في عاشوراء عام 61 للهجرة.
      الثاني: لانها كانت على يقين من ان كل هذه الجهود ستذهب هباءا منثورا من دون ان تؤثر في حقيقة عاشوراء قيد انملة، لعلمها المسبق بان الغيب سيقيض لرسالة الحسين عليه السلام من يحملها على عاتقه من دون ان تاخذه في الله لومة لائم، وهذا ما كان.
      فانظر، من جانب، الى ما بذله ويبذله اعداء البشرية واعداء الانسان واعداء الحرية والكرامة من جهود عظيمة لمحو ذكر الحسين الشهيد، ثم انظر، من جانب آخر، ما يبذله حملة رسالة الحسين عليه السلام من جهد عظيم لتبليغ رسالات الله تعالى من دون ان تاخذهم في الله لومة لائم، ولقد راينا هذا العام بعض افعال اعداء الحياة والانسان من اجل طمس ذكر عاشوراء فقتلوا وفجروا ولغموا وفخخوا حتى اريق الدم الطاهر من نحور محبي الحسين عليه السلام في كربلاء وفي غير كربلاء، فهل وقفت المسيرة؟ وهل نجحوا في طمس ذكر كربلاء؟ ابدا ابدا، فالحسين باق ما بقي الدهر، وعاشوراء مستمرة ما بقي الانسان، والحسين خالد ما بقي مظلوم على وجه هذه الارض، وكل ذلك تفسير قسم زينب عليها السلام وقولها تخاطب يزيد الطاغية {فوالله لا تمحو ذكرنا} وهو قسم لو تعلمون عظيم.
      لقد ظلت عاشوراء تمثل خطرا محدقا بسلطة الاستبداد السياسي والديني على مر التاريخ، ولذلك وظف الطغاة كل ما عندهم من اجل طمس اثرها ومحو ذكرها، وفي المقابل فان اهل البيت عليهم السلام ما اهتموا بقضية كاهتمامهم بعاشوراء، لانها تمثل العامل الاساس لحفظ رسالات الله تعالى، فعاشوراء تمثل الحرية والكرامة والعدل والحق، انها تمثل انتصار الدم على السيف، وانتصار الحق على الباطل، وانتصار المظلوم المستضعف صاحب الحق على الطاغوت المتجبر، ولذلك فان اهتمام اهل البيت عليهم السلام بيوم الحسين السبط انما هو تعبير عن اهتمامهم بالحرية والكرامة والحق والعدل، وبكلمة جامعة، اهتمامهم بالانسان، من خلال اهتمامهم بتبليغ رسالات الله بمعناها الاعم والاشمل.
      ولقد فسر الناس، كل الناس، معنى عبارة السيد زينب عليها السلام في {والله لا تمحو ذكرنا} بطرق شتى، فبعضهم حققها بالفكر والثقافة من خلال تدوين اعظم الاسفار كما هو الحال مع المفكر والاديب اللبناني جورج جرداق الذي كتب بخمسة مجلدات (الامام علي صوت العدالة الانسانية) وكما هو الحال مع الاديب اللبناني الاخر الاستاذ انطوان بارا الذي كتب (الحسين في الفكر المسيحي) فيما سطر آخرون من الشعر والنثر والقصة والرواية ما جمعته (دائرة المعارف الحسينية) للعلامة الكرباسي في اكثر من (600) مجلد لحد الان، وانا شخصيا لا اعرف في تاريخ البشرية قضية كتب عنها الناس كل هذا الكم الهائل كقضية عاشوراء ويوم الحسين السبط عليه السلام.
      الى جانب الفكر والثقافة، فقد فسر آخرون كلمة السيدة زينب بطرق شتى فيها الكثير من العاطفة، تقف على راسها (الدمعة) التي هي بمثابة اعظم رسالة اعلامية على الاطلاق، والدليل على ذلك ما يبديه الواحد منا من اهتمام اذا ما راى طفلا يبكي او امراة تنحب او رجلا يبكي بهدوء، ولكننا لا نعير اهتماما يذكر اذا راينا امرءا يضحك وهو يقف على قارعة الطريق، لماذا؟ لان الدمعة تحمل بذاتها رسالة تثير عند الانسان حمية السؤال والفضول وبالتالي دافع النصرة ومد يد العون، ففي الدمعة رسالة لمظلوم يتوق الانسان لنصرتها والوقوف الى جانبها، اما الضحك فهو ليس كذلك ابدا، ولطالما راى احدنا نفسه غارقا في البكاء وهو يشاهد فيلما او مسلسلا فيه مقطعا انسانيا يحكي قصة مظلوم مثلا او عدوان بغير حق.
      ولقد اعتمدت رسالة عاشوراء على المعرفة والصدق لتبليغ رسالات الله، فيما يعتمد الطغاة والانظمة المستبدة على الكذب والتضليل كاهم وسيلة لغسل ادمغة الراي العام، ولذلك فان الطاغوت يعتمد قاعدة { قال فرعون ما اريكم الا ما ارى وما اهديكم الا سبيل الرشاد} من خلال منع الناس من الاطلاع على الحقيقة وحصر مصدر المعلومة باجهزة النظام السياسي فقط والحيلولة دون اطلاع الراي العام على الحقيقة من مصادرها الطبيعية، فنرى ان المستبد يبادر الى منع الناس من التفكير، بل انه ينصحهم ان لا يشغلوا انفسهم بالتفكير فهو وزبانيته يفكرون بالنيابة عن الشعب، ولذلك تراه يمنع كل وسائل الاتصال الجمعي عن المجتمع، ولقد راينا، بعد ان سقط ديكتاتور تونس الخضراء مؤخرا في ثورة الشعب الابي، كيف انه كان قد حول تونس الى صندوق مغلق لا يدخله نور العلم والمعرفة ابدا، من خلال منع الناس من التواصل مع المعلومة باي شكل من الاشكال، كما كان يفعل من قبل الطاغية الذليل صدام حسين.
      ان الطاغوت يشجع الراي العام على ان يغط في نوم عميق ليبعده عن التفكير في الشان العام، فلا يفسد عليه خططه، ولا يحتج على فساده، ولا يسال عن اشياء ان تبد له تسؤه، ولقد وصف احد الشعراء حال الشعب في ظل الاستبداد بقوله:
                                                  نامي جياع الشعب نامي        حرستك آلـــــهــة الطعام
                                                  نامـــــــي فان لم تشبعي        من يقضة فمــن المنـــام
                                                 نامــي على زبد الوعود         يداف في عسل الكـــلام
                                                 نامي تزرك عرائس الا         حــلام في جنح الظـــلام   
                                                 تتنوري قرص الرغيف         كدورة البدر التمـــــــــام
                                                 وتري زرائبك الفســاح          مبلطات بالرخــــــــــــام
                                                 نامي تصحي نعم نــوم          المرء في الكرب الجسام
      ان المستبد يخشى كثيرا من ان تصل المعلومة الصحيحة الى المجتمع، لانها تساهم في زيادة المعرفة، وتاليا في زيادة الوعي الذي يعتبره الطاغوت اول مسمار في نعش سلطته الظالمة، ولهذا السبب نرى الطاغوت يحارب المعرفة ويقاتل من اجل ان لا تصل المعلومة الصحيحة الى الناس، ويبذل كل ما في وسعه من اجل تضليل الراي العام، وذلك بالاعتماد على وعاظ السلاطين واصحاب الاقلام الماجورة والمتملقين من زبانيته، ولقد راينا كيف ان فرعون مصر بادر فور تحرك الشارع لاسقاطه الى قطع كل وسائل الاتصال الجمعي عن البلاد، ظنا منه بان ذلك سيخفف من ثورة الشعب الابي، او ان ذلك سينقذه من المقصلة.
      يقول المفكر السوري عبد الرحمن الكواكبي في كتابه (طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد) عن علاقة المستبد بالعلم:
      لا يخفى على المستبد ان لا استعباد ولا اعتساف ما لم تكن الرعية حمقاء تخبط في ظلامة جهل وتيه عمياء.
      ويقول في مكان آخر من سفره الخالد:  
      المستبد، كما يبغض العلم لنتائجه يبغضه لذاته لان للعلم سلطانا اقوى من كل سلطان فلا بد للمستبد من ان يحتقر نفسه كلما وقعت عينه على من هو ارقى علما منه ولذلك لا يحب المستبد ان يرى وجه عالم ذكي فاذا اضطر لذي علم اختار المتصاغر المتملق.
      اما منهج اهل البيت عليهم السلام فيحث على العلم والمعرفة والاطلاع على الخبر الصحيح والمعلومة السليمة من دون تضليل او كذب او تزوير او غش، ولذلك فان امير المؤمنين علي بن ابي طالب عليه السلام خطب الناس في اول عهده بالخلافة قائلا:
       {ايها الناس ان لي عليكم حقا ولكم علي حق، فاما حقكم علي فالنصيحة لكم وتوفير فيئكم عليكم وتعليمكم كيلا تجهلوا وتاديبكم كيما تعلموا، واما حقي عليكم فالوفاء بالبيعة والنصيحة في المشهد والمغيب والاجابة حين ادعوكم والطاعة حين آمركم}.
      لقد ظل معاوية بن ابي سفيان يمارس التضليل المنظم ضد اهل الشام، من خلال اخفاء الحقيقة عليهم ومنعهم من الاطلاع على الانباء الصحيحة التي كانت تموج بها الامصار آنذاك، وكل ذلك من اجل ان يظلوا معمي، بتشديد الياء وضمها، على قلوبهم ليسهل عليه حكمهم واستمرار سلطته، ولقد وصف امير المؤمنين عليه السلام حال العلاقة بين معاوية ومن يقودهم بالتضليل بقوله:
     {الا وان معاوية قاد لمة من الغواة، وعمس عليهم الخبر، حتى جعلوا نحورهم اغراض المنية}.
      ويستمر هذا المنهم التضليلي على مر التاريخ، فاين ما وجد مستبد وجد الجهل والتخلف، واينما حكم ظالم، انتشر الجهل، ولذلك لا يمكن ان نتخيل شعب حر وكريم من دون علم ومعرفة، ولا يمكن ان نتصور حرية الا وبجانبها معلومة صحيحة، كما لا يمكن ان نتصور شعب يعيش بكرامة اذا لم يمتلك حرية التعبير.
      لقد اعرب بعض المحللين عن رفضه لما يجري من تغيير ثوري في عدد من البلاد العربية بحجة ان الشعب العربي امي وجاهل ولذلك فهو لا يستحق الديمقراطية، فليس بامكان الشعب الجاهل ان يتمتع بالحرية ابدا، فالديمقراطية حق الشعوب المتعلمة وليست من حق الشعوب الامية، على حد تعبيرهم.
      اما انا فاقول انه لازالت الديكتاتورية هي التي تحكم في البلاد العربية، لذلك لا يمكن ان نتصور يوما ان شعوبنا ستتعلم وستحصل على المعرفة اللائقة، لان الجهل توأم الاستبداد، ولذلك ينبغي ان تزيح شعوبنا كل الانظمة الاستبدادية الحاكمة من اجل ان تتمكن من الحصول على العلم والمعرفة والمعلومة الصحيحة، ففي ظل الديمقراطية ينتشر الوعي وفي ظل الحرية يحصل المواطن على حقه في العلم والمعرفة السليمة، اما في ظل الديكتاتورية فسيظل الحاكم المستبد يمارس التضليل ضد الراي العام والذي يعتمد على الجهل والتخلف والامية، لان الجهل افضل اسلحة المستبد.
      قد تكون شعوبنا جاهلة وامية بسبب سياسات التجهيل والتضليل التي يمارسها الحاكم المستبد، وستظل على هذه الحال لازال الحكم استبداديا، اما اذا اردنا ان ننتشل هذه الشعوب من الجهل والامية، فلابد من ان تتحرك لتسقط النظام السياسي العربي الفاسد لتتمتع بحريتها وكرامتها، في ظل فرصة التعليم والمعرفة.
      لماذا تكون نسبة الامية في البلاد الديمقراطية معدومة؟ او قليلة جدا؟ لان النظام الديمقراطي يحرص اشد الحرص على نشر التعليم من اجل ان لا يبقى مواطنا اميا لا يعرف كيف يختار نوابه في صندوق الاقتراع، اما في البلدان الاستبدادية فان زبانية الحاكم هي التي تختار نواب الشعب بالنيابة عن المواطنين في كل عملية انتخابية مزورة او استعراضية، فرجل الامن مثلا او شرطي الحاكم هو الذي يكتب اسم المرشح على بطاقة الانتخابات ويضعها في صندوق الاقتراع، وكل ذلك بالنيابة عن المواطن.
      بالحرية، اذن، ستحصل شعوبنا على التعليم والمعرفة، وبها ستتواصل مع العالم الحر وثقافاته المتنوعة.
انتفاضة صفر..ديمومة عاشوراء
      لا ادري ان كان طاغوت آخر حارب قضية الحسين السبط عليه السلام عبر التاريخ كما حاربها الطاغية الذليل صدام حسين على مدى نيف وثلاثين عاما، فلقد بذل الطاغية كل ما بوسعه من اجل اسدال الستار على ذكرى عاشوراء وبكل ما يتعلق بها من قريب او بعيد، تارة بذريعة الحضارة على اعتبار ان الشعائر الحسينية مخالفة للتقدم الحضاري، وكأن المقابر الجماعية والانفال وحلبجة من معالم الحضارة الحديثة، وتارة باسم التقشف الاقتصادي على اعتبار ان الشعائر الحسينية تكلف خزينة الناس اموالا طائلة العراق بامس الحاجة اليها من اجل تحقيق النهضة الحضارية، وكأن تخصيص (70%) من ميزانية الدولة كل عام للاغراض العسكرية ولاغراض الامن وما يتعلق بها من سجون واجهزة تعذيب وغير ذلك من صميم النهضة الاقتصادية، أو كأن الحروب العبثية ضد شعبنا الكردي في الشمال وضد الجارتين ايران والكويت توفر على الخزينة الاموال الطائلة وتساهم في تحقيق النهضة الاقتصادية، وتارة باسم المجهود الوطني القاضي الى الارتقاء بالتعليم والثقافة عند الشعب العراقي، على اعتبار ان الشعائر الحسينية تتناقض والثقافة والمعرفة، وكأن سياسات تكميم الافواه ومنع الناس من الاطلاع على اخبار العالم وتحويل العراق الى قفص حديدي لا يخرج منه خبر ولا يدخل اليه خبر، وحملات تزوير التاريخ، من صميم الثقافة والمعرفة.
      وهكذا ظل الطاغية ونظامه العفن يحارب الشعائر الحسينية بكل طريقة ووسيلة، لدرجة انه ابتكر في اواخر ايامه ظاهرة الاعراس الجماعية في يوم العاشر من المحرم تطوف في شوارع مدينة كربلاء المقدسة في مظهر من الفرح والسرور مصحوبة بفرق الرقص والغناء، في مسعى منه لاسقاط هيبة عاشوراء في قلوب ونفوس الناس، ولقد قسط النظام الشمولي حربه ضدها من اجل ان لا يواجه ثورة الراي العام ضده، ومن اجل ان يظل مسيطرا على مفاصل الحياة العامة، ولذلك بدا حربه ضد الشعائر الحسينية بالتقسيط المريح رويدا رويدا، يساعده في ذلك جوقة وعاظ السلاطين واصحاب الاقلام الماجورة ومن خلفهم عدد كبير من مخلفات اليسار الذي ظل يبتلع طعم الحزب الحاكم مدة طويلة من الزمن.
      وكان من مفاصل حرب النظام ضد شعائر الحسين الشهيد انه منع مسيرة الاربعين التي اعتاد عليها العراقيون في ذكرى اربعين الامام والتي تصادف في العشرين من صفر من كل عام.
      الا ان العراقيين كانوا اوعى من النظام والاعيبه واساليبه الخبيثة، فقرروا التصدي لقرار المنع الذي اتخذه النظام في عام 1977، عندما اصدر اوامره الصارمة بمنع مسيرة الاربعين في ذلك العام والحيلولة بكل وسيلة ممكنة دون وصول زائر واحد الى كربلاء مشيا على الاقدام.
      وتحديا لهذا القرار الجائر تجمع اهالي مدينة النجف الاشرف النجباء ومعهم الجموع الغفيرة التي توافدت على المدينة وانطلقوا بمسيرة راجلة عظيمة ومهيبة صوب مدينة ابي الاحرار الامام الحسين السبط الشهيد عليه السلام كربلاء المقدسة.
      ولان النظام اعتبر المسيرة تحديا صارخا لقرار المنع، فقد قرر التصدي لها بكل ما اوتي من قوة، تمثلت بالطائرات والدبابات والقوة العسكرية الضخمة التي لم يفكر في يوم من الايام ان يسير، بتشديد الياء الثانية وكسرها، مثلها الى اي عدو للعراق ولـ (الامة العربية) كاسرائيل مثلا.
      انتهت المسيرة بين شهيد ومعتقل ومطارد فيما وصلت بعض بقايا المسيرة الى مرقد سيد الشهداء ليلقي عليها النظام القبض بالحيل والمصائد التي وضعها في طريق من وصل ليلتقطهم الواحد تلو الاخر.
      لقد عرف النظام الشمولي البائد جيدا ان الظلم وعاشوراء نقيضان لا يجتمعان، ولانه كان يخطط لاحكام قبضته الحديدية على العراق بسياسات ظالمة تبدا بالتمييز الطائفي والعنصري ولا تنتهي بمطاردة الشرفاء وتكميم الافواه وقمع المعارضة، لذلك فكر اولا في ان يقضي على الجذوة التي تشعل التمرد على الظلم في نفوس العراقيين، وهي ليست الا عاشوراء وذكرى الطف وتضحيات ابا الاحرار وسيد الشهداء الحسين بن علي السبط، فقرر ان يقضي على كل ما يمت بالذكرى من صلة ليقضي على روح الثورة، ليصفو له الجو فيحكم كيف يشاء وباية طريقة ووسائل يريد.
      فجاءت انتفاضة صفر المظفر العظيمة في العام 1977 لتجدد روح عاشوراء وقيم كربلاء وتضحيات الحسين السبط واهل بيته وصحبه الميامين، ولذلك يمكن اعتبار الانتفاضة على انها ديمومة عاشوراء على قاعدة {كل يوم عاشوراء، وكل ارض كربلاء} فلازال هناك ظلم في زمن ما وفي ارض ما، يجب ان تتجدد عاشوراء بقيمها وتضحياتها، لتاخذ على يد الظالم وتوقفه عند حده وتجدد روح الثورة والتمرد على الظلم في نفوس المظلومين.
      وفي ذكرى انتفاضة صفر الظافرة، اود هنا، كشاهد عليها شارك في مشاهدها منذ البداية وحتى النهاية، اود ان اسجل الحقائق والمقترحات التالية:
      اولا: ان الانتفاضة هي اول تحدي شعبي جماهيري عام للنظام الديكتاتوري البائد، فهي اذن حولت المواجهة مع النظام من العمل الحزبي النخبوي الى العمل الجماهيري، ولذلك فانها المفصل في عملية التحدي والتغيير.
      ثانيا: انها اول دماء تراق على الارض في مواجهة شعبية في وضح النهار، وبذلك تكون الانتفاضة قد نقلت وقود الثورة وعملية التغيير من السجون المظلمة الى الشارع وأمام مرأى ومسمع الراي العام.
      ثالثا: ولاول مرة يكتشف النظام الديكتاتوري مدى حجم الرفض الشعبي لسياساته الرعناء التي تعتمد على تكميم الافواه وعلى التضليل، فيما نبهت العراقيين كذلك الى حجم الظلم الواقع عليهم ليستعدوا لمواجهته.
      رابعا: كما ان الانتفاضة كانت سببا لوقوع الخلاف والاختلاف في صفوف النظام البائد وقياداته وازلامه، فكلنا يتذكر الموقف الانساني الذي وقفته بعض قيادات النظام آنئذ عندما رفضت التصديق على احكام الاعدام التي اصدرتها المحكمة الصورية الخاصة التي شكلها الطاغية الذليل صدام حسين شخصيا لمحاكمة من شارك في الانتفاضة، هذا الموقف الذي دفعت ثمنه تلك القيادات آجلا بالقتل بعد ان تمت تصفيتهم من قيادة الحزب الحاكم والدولة عاجلا.
      كما اكتشف النظام بالانتفاضة ان كل اساليبه التي تعتمد الدعاية والتضليل لم تمض بالعراقيين الذين اثبتوا بانهم على وعي كامل بما يحيكه النظام من سياسات ظالمة يراد بها اسكات الصوت الحر لهذا الشعب الابي.
      ولولا تلك التضحيات الجسام التي قدمها العراقيون على طريق ذكرى واقعة الطف العظيمة، لما شاهدنا اليوم كل هذا الزحف المليوني الى مرقد سيد الشهداء في كربلاء المقدسة.
      انه الثمن الذي لابد ان يدفعه اي شعب ينشد العيش بحرية وكرامة، وصدق الشاعر عندما قال:
                               لا يسلم الشرف الرفيع من الاذى           حتى يراق على جوانبه الدم
      هذه بعض الحقائق، اما المقترحات، فهي كما يلي:
      اولا: تكريم الذكرى بكل وسيلة ممكنة، بالنصب التذكارية والمهرجانات الشعرية والندوات الثقافية والاعمال الدرامية والمسرحية والفنية بكل اشكالها، وغير ذلك، حتى لا ينسى العراقيون ما حصل في ذلك اليوم العظيم، ومن اجل ان يطلعوا على الثمن الذي قدمه الشهداء فيما مضى من الايام من اجل هذا اليوم الاغر، فمن يجهل الثمن يفرط بالانجاز، ومن لا يعرف شيئا عن الماضي لا يقدر الحاضر، ومن ينسى التاريخ يستخف بالمستقبل فلا يعيره شيئا يذكر.
      ثانيا: تكريم شهداء الانتفاضة، كذلك، بكل وسيلة ممكنة، باطلاق اسمائهم على الشوارع والمدارس والحدائق العامة وعلى قاعات الفن والثقافة وعلى قاعات الجامعات والمنتديات الثقافية، وغير ذلك.
      وهنا لا يسعني الا ان اتذكر الشهيد البطل (عباس ابو بسامير) الذي كان زميلا لي في الجامعة، فهو كان صاحب الراية في الانتفاضة، والتي كان قد خط عليها عبارة {يد الله فوق ايديهم} حافظ عليها واحتفظ بها حتى آخر قطرة دم نزفت من جسده الطاهراذ ظل يحملها ويتمسك بها طوال الطريق الى ان اصابته رصاصة غدر من ازلام النظام البائد لترديه شهيدا الى جنان الخلد، فسلام عليه وعلى شهداء الانتفاضة يوم ولدوا ويوم جاهدوا في سبيل الله ويوم استشهدوا ويوم يبعثون احياءا في مقعد صدق عند مليك مقتدر.
      ثالثا: تعويض اسر الضحايا اسوة ببقية اسر الشهداء الابرار الذين ضحوا من اجل العراق والدين والقيم، فلولا تضحياتهم لما تنعمنا نحن العراقيون اليوم بنعمة الحرية والكرامة وحرية الاختيار.
      رابعا: ادخال قصة الانتفاضة في المناهج الدراسية بطريقة او باخرى، سواء في مادة التاريخ او في مادة التربية الوطنية او ما الى ذلك، لتبقى حية في ذاكرة الزمن، تتناقل بطولاتها الاجيال.
      ان الشعوب الحية تخلد ابسط الحوادث الثورية التي تضحي فيها بقطرة دم واحدة، فتراها تقرا عنها في مناهجها التعليمية وفي كتب التاريخ وفي المكتبات العامة، فلماذا لا نفعل نحن بذكرياتنا كما تفعل تلك الشعوب؟ اوليست انتفاضة صفر واحدة من تلك الاحداث الثورية العظيمة التي سطر العراقيون تفاصيلها بالدم والدموع، بالشهداء والسجناء والارامل والايتام والامهات الثكالى؟ فلماذا نتجاهلها ليطويها النسيان بين صفات التاريخ؟ لماذا لا يدرسها ابناءنا في المدارس ولا يقرؤون عنها في الكتب ولا يستذكرونها على صفحات الجرائد وملحقاتها الاسبوعية ومن على الشاشة الصغيرة؟.
      لماذا لا يبادر الاعلام الوطني الى احياء الذكرى بريبورتاجات خاصة، يتحدث فيها الشهود واسر الضحايا؟ لماذا لا يسجل اعلامنا الوطني تفاصيل الحدث على لسان من شارك فيه وصنعه؟.
      كم اتمنى ان تسنح لي الفرصة يوما ما لادون كل ما اعرفه عن هذه الانتفاضة العظيمة التي اعدها شخصيا شعلة نور في سماء العراق وتاريخه الثوري المتالق.
      خامسا: اتمنى ان تتقدم اسر الضحايا ومن حكم عليه بالسجن آنئذ، بملف القضية الى المحكمة الجنائية الخاصة لادراجها ضمن جرائم النظام البائد، ليكتشف الراي العام مدى حجم الجريمة التي ارتكبها النظام بحق العراقيين آنئذ، ومحاكمة النظام كمجرم حرب في حال غاب المجرمون الذين شاركوا في تنفيذ الجريمة، فان نظاما يحشد كل هذه القوة العسكرية المدمرة ضد شعب اعزل اراد ان يعبر عن امتعاضه من قرارات جائرة تمس حرية الدين والتعبير، يستحق ان يكون امثولة للاخرين.
      ان اللسان ليعجز والقلم ليجف عند الحديث عن هول المجزرة التي ارتكبها النظام بحق المشاركين في الانتفاضة، فعلى الرغم من انها كانت حركة شعبية عفوية وسلمية لا تحمل اي نوع من السلاح لا الناري ولا الابيض، الا ان النظام البائد واجهها بكل انواع السلاح الثقيل المدعوم بالطائرات التي ظلت تحلق في السماء فوق رؤوس الناس.
      لقد اتخذ الجيش العراقي وقتها حالة الحرب على طول الطريق بين العاصمة العراقية بغداد ومدينة كربلاء المقدسة، وعلى جانبي الطريق، فحفر الخنادق لتستقر بها الدبابات وكل انواع الاسلحة الثقيلة، بين الخندق والاخر عشرة امتار فقط، وقد جلس الجنود في دباباتهم بكامل زيهم الحربي وبكامل الاستعداد، فيما اعلن النظام حالة الاحكام العرفية في مدينتي كربلاء المقدسة والنجف الاشرف، بعد ان حولهما الى ثكنات عسكرية.
      ولقد تسامى في الطريق بين كربلاء والنجف عدد من الشهداء الابرار، بعضهم سحقتهم الدبابات والمجنزرات العسكرية، فيما استشهد عدد آخر باحكام الاعدام التي اصدرها النظام البائد بحقهم في محكمة صورية غاب عنها الدفاع وكل حقوق المتهم، اما السجون والمعتقلات فقد اكتضت بالابرياء، فيما حكم على عدد منهم بالسجن المؤبد كان من بينهم الشهيد آية الله السيد محمد باقر الحكيم وآخرون.
زينب..الصدق كله
      ما اعظم زينب بنت علي امير المؤمنين، بنت فاطمة الزهراء بنت رسول الله (ص) شقيقة سيد الشهداء سبط رسول الله (ص) الحسين بن علي شهيد كربلاء في يوم عاشوراء؟.
     يهزمها الطاغوت ماديا فتنتصر عليه معنويا، ويهزمها بالسلاح فتنتصر عليه بالكلمة، ويهزمها في زمن معين فتنتصر عليه في كل زمن، ويهزمها في المكان المحدد فتنتصر عليه في كل مكان، ويهزمها بالباطل فتنتصر عليه بالحق، ويهزمها بالجهل فتنتصر عليه بالمعرفة، ويهزمها بالعنف فتنتصر عليه بالرفق، ويهزمها بالتضليل فتنتصر عليه بالحقيقة، ويهزمها بالعبودية فتنتصر عليه بالحرية، ويهزمها بتكميم الافواه فتنتصر عليه بحرية التعبير، ويهزمها بالنفاق فتنتصر عليه بالصدق، ويهزمها بالعمى فتنتصر عليه بالبصيرة النافذة، ويهزمها بالجبن فتنتصر عليه بالشجاعة، ويهزمها بالبغضاء فتنتصر عليه بالمحبة، ويهزمها بالتعقيد فتنتصر عليه بالبساطة، ويهزمها بالموت فتنتصر عليه بالحياة، ويهزمها بالجمود فتنتصر عليه بالثورة، واخيرا، يهزمها بالجاهلية فتنتصر عليه بالانسانية والاسلام والحضارة.
      حقا، ان الله تعالى كرم النساء عندما جعل منهن زينب، وامتحن الرجال عندما صنع من زينب قدوة، فهي الحجة على الرجال قبل النساء.
      ما ذكر الصبر الا وزينب سيدته، وما ذكرت الشجاعة الا وزينب زعيمته، وما ذكرت الجراة الا وزينب نموذجها، وما ذكرت الفصاحة الا وزينب معلمته، وما ذكر الاعلام الا وزينب استاذته، وما ذكر تبليغ الرسالة الا وزينب تقود الجمع، وما ذكرت المسؤولية الا وزينب الاولى، وما ذكر الوفاء الا وزينب النجم الساطع فيه، وما ذكر الصدق الا وزينب امامه.
      واذا كان الحسين السبط الشهيد عليه السلام قد استشهد في كربلاء مرة فان زينب عليها السلام قد استشهدت مليون مرة، في كربلاء وفي الكوفة وفي الشام.
      فما ذكر الحسين الا وذكرت زينب، وكفى بذلك فخرا وعظمة.
      وما ذكر الدم المراق في كربلاء الا وذكرت كلمات زينب المتدفقة كحمم البراكين بوجه طاغية الشام، وكفى بذلك خلودا، فدم الحسين وكلمات زينب يصنعان ميزان الحق والعدل والحرية والكرامة.
      واذا قال البعض بان زينب هي نصف كربلاء، فانا اقول بانها كل كربلاء، كما ان الحسين السبط هو كل كربلاء، فالحسين عليه السلام ادى رسالة الدم الطاهر الذي انتصر على السيف، فحفظ به الاسلام، وزينب عليها السلام ادت رسالة الحقيقة التي انتصرت على الزيف والتضليل، فحفظت دم الحسين عليه السلام، واذا كان دور الحسين انتهى في كربلاء فان دور زينب بدا في كربلاء، وتتواصل الرسالتان، الدم والاعلام، بشكل متوازي يكمل بعضهما البعض الاخر الى ان يرث الله الارض ومن عليها.
      في هذا المقال وددت ان اتحدث عن مفردة واحدة من مفردات السفر الزينبي العظيم، الا وهي مفردة الصدق، في زمن قل فيه الصادقون وكثر فيه الكذابون والمنافقون والمدعون.
      والصدق، كما هو معروف، ينتج الثقة التي تنتج المعرفة، ولذلك فعندما نلمس في زينب عليها السلام الصدق كله نلمس فيها الثقة كلها والمعرفة كلها.
      ولقد تجلى الصدق في زينب في كل كلمة نطقت بها في احلك الظروف، وفي كل حركة وسكنة بدرت منها في كل الظروف.
      ان من السهل على المرء ان يصدق الحديث في الظروف الطبيعية او عندما يتحدث عن الاخرين، اما ان يصدق في المخاطر ولا يكذب عندما يتحدث عن نفسه، فذلك هو البلاء العظيم.
      وان صدق المرء يظهر للاخرين عندما يتحدث في موقف خطير وعظيم، اما ان يتحدث مترهلا وفي المواقف الطبيعية فذلك ليس من البلاء في شئ، ولذلك قيل (عند الامتحان يكرم المرء او يهان) فاذا صدق المرء في حديثه عند الامتحان الكبير ولم يكذب في البلاء العظيم فذلك، عندها فقط، يستحق التكريم.
      لقد صدقت زينب الحديث والقول في احلك الظروف وفي اخطر المواقف:
      فصدقت مع الله ليلة العاشر من المحرم وهي تقف بين اشلاء الضحايا وقد رفعت جسد اخيها السبط الشهيد على راحتيها مخاطبة رب العزة والجلال بقولها {اللهم تقبل هذا القربان من آل محمد} فلم يفقدها الموقف المهول صوابها ولم يخرجها عن طورها ولم تنس اتزانها ولم تغفل عن أدب الحديث مع الله تعالى، كما ان المنظر المرعب لم ينسها انها من اهل بيت زقوا العلم زقا، فاخلصوا عبادتهم لله تعالى فقدموا كل شئ من اجل الحق والقيم الرسالية النبيلة والاخلاقيات العظيمة التي جاء بها الاسلام، والتي جسدها رسول الله واهل بيته الكرام وعلى راسهم امير المؤمنين عليه السلام.
      وصدقت مع نفسها عندما وفت بالعهد مع اخيها الحسين السبط، منذ لحظة استشهاده في كربلاء ظهيرة العاشر من المحرم الحرام عام 61 للهجرة، فلم يفقدها الموقف المهول صبرها على المصيبة فتجلدت وعظت على الجراح ولم تبد ضعفا او انكسارا امام الاعداء ابدا، وانما بدت شامخة صابرة قوية، تحملت مسؤولية ما بقي من قافلة الاباء من الاطفال والنساء بمسؤولية عالية.
      وصدقت مع الناس عندما رفضت ان تتوسل بالكذب لتبرير ما حدث في كربلاء، كما هو حال الطاغية يزيد بن معاوية لعنه الله الذي سخر كل شئ من اجل تضليل الراي العام وتشويه حقيقة ما جرى في كربلاء وهوية الضحايا الذين ضرجوا بدمائهم في تلك الصحراء القاحلة.
      انها الصدق كله، صدق في الموقف وصدق في الحديث وصدق في المشاعر وصدق في المحاججة وصدق في الحوار.
      انها الصدق كله، صدق مع الصديق وصدق مع العدو.
      انها الصدق كله، صدق في الانتصار وصدق عند الهزيمة.
      اتعرف لماذا؟.
      لانها، وبكل بساطة، كانت مع الحق وكان الحق معها، وان من يكون حاله كذلك فهو ليس بحاجة الى ان يكذب، فالكذب سلاح اهل الباطل وهو سلاح العاجزين والفاشلين، اما القوي بالحق والقوي بالرسالة والقوي بالانجاز السليم والقوي بالموقع المناسب عندما يكون هو الرجل المناسب، فلا يحتاج الى الكذب لانه لا يحتاج الى تضليل الاخرين.
      فكانت زينب المصداق الابرز لقول ابيها امير المؤمنين عليه السلام {الايمان ان تؤثر الصدق حيث يضرك، على الكذب حيث ينفعك، والا يكون في حديثك فضل عن عملك، وان تتقي الله في حديث غيرك}.
      لم تكذب زينب حتى في حديثها مع الطاغية يزيد، فاذا كان كثيرون يبررون الكذب اذا تحدثوا الى طاغوت، خوفا او طمعا، فان زينب لا تحتاج الى ذلك لانها كانت صاحبة منطق سليم وحجة قوية ورسالة دامغة، فهي عندما خاطبت الطاغية بقولها { أظننت يا يزيد، حيث اخذت علينا اقطار الارض وآفاق السماء، واصبحنا نساق كما تساق الاسراء، ان بنا هوانا على الله وبك عليه كرامة، وان ذلك لعظم خطرك عنده، فشمخت بانفك ونظرت في عطفك، تضرب اصدريك فرحا وتنفض مذوريك مرحا، جذلان مسرورا، حين رايت الدنيا لك مستوسقة، والامور متسقة، وحين صفا لك ملكنا وسلطاننا، فمهلا مهلا، انسيت قول الله تعالى (ولا يحسبن الذين كفروا انما نملي لهم خير لانفسهم انما نملي لهم ليزدادوا اثما ولهم عذاب مهين)} انما رسمت معالم الحقائق التالية؛
      اولا: ان النصر والهزيمة ليست من علامات الحق والباطل، بمعنى آخر، فليس كل منتصر على حق، كما انه ليس كل مهزوم على باطل، وانما الحق والباطل يقاس بعلامات اخرى، ولذلك فعندما سال الطاغية يزيد الامام علي بن الحسين السجاد عليه السلام عن المنتصر في كربلاء، اجابه بقوله {اذا اذن المؤذن فستعرف من المنتصر}.
      ولو كان الانتصار والهزيمة من علامات الحق والباطل لكانت قريش على حق عندما هزمت المسلمين في معركة احد، وان معاوية على حق عندما هزم جيش امير المؤمنين في معركة صفين بمكره وخداعه، وان يزيد على حق عندما صفى اهل بيت رسول الله (ص) عن بكرة ابيهم في كربلاء في عاشوراء، وان الطاغية الذليل صدام حسين على حق عندما هزم الكويتيون واحتل بلادهم وان آل سعود على حق عندما يقتلون ويدمرون بلاد المسلمين بفتاواهم التكفيرية واموال البترودولار الحرام والاعلام الطائفي التضليلي الحاقد، عندما يوظفون كل ذلك لتجنيد الشباب المغرر بهم في التنظيمات الارهابية لتقتل وتدمر وتفجر في الاتجاهات الاربعة من الكرة الارضية.
      ابدا، فمقاييس الحق والباطل تختلف اختلافا جذريا عن كل هذا، الامر الذي اشارت اليه زينب عليها السلام.
      ثانيا: استمرارك على الخطا، ومواصلتك السير في طريق الانحراف لا يعني ان الله تعالى لا يقدر عليك، او انك صاحب حضوة عنده او انك عظيم الجاه والسلطان والقوة والمنعة لا يقدر عليك حتى رب العزة، ابدا، فلقد تمادى الطاغية الذليل بجرائمه وواصل قتله للعراقيين بكل السبل والوسائل، حتى اذا جاء وعده اخذه المنتقم الجبار اخذ عزيز مقتدر، فاستخرجوه من بالوعة تافهة كان يختفي فيها من دون ان تنقذه من وعد الله تعالى لا امواله ولا جيوشه ولا قصوره ولا كل ما ملك على مدى نيف وثلاثين عاما.
      وان على من استخلفه الله تعالى على راس السلطة في بغداد بعد هلاك الطاغية الذليل، ان يتذكر جيدا بان الاستمرار في سرقة المال العام وسحق كرامة المواطن العراقي بالمحاصصة والحزبية الضيقة والمحسوبية والرشوة وغير ذلك من الطرق التي تضيع الفرصة على من يستحق، وان الاستمرار بتقسيم الكعكة من دون النظر الى مصالح الناس، وان مواصلة عملية سرقة اللقمة من افواه المحرومين والايتام وكبار السن، وان التصدي لمسؤولية المكان غير المناسب، ان كل ذلك لا يعني ان الله تعالى غافل عنهم او انه لا يقدر على اخذهم كما اخذ الطاغية الذليل او ان لهم كرامة عند الله وان العراقيين اهون من ان ينتقم لهم رب العزة، ابدا ابدا، فان {الله يمهل ولا يهمل} وحذار ان جاء موعدكم، فعندها لا تستاخرون ساعة ولا تستقدمون، و {لات حين مندم}.
      ثالثا: ان الله تعالى يزين الدنيا بعين الظالم ليستدرجه، فتستوسق له الامور وتتسق الظروف ليظن بان الله تعالى غافل عما يفعل الظالمون، ناسيا الظالم او متناسيا بان ذلك استدراج الهي يجب عليه ان لا يسترسل معه او يطمئن اليه، فهو جرس انذار، والا فان اخذ الله تعالى اخذ عزيز مقتدر لا يرده شئ.
      وان على من هو في السلطة في العراق اليوم، ان لا يغفل عما يضمر له استرساله مع الظلم، وان لا يظن ابدا بان الله غافل عما يفعل الظالمون، وان لا يتصور بان اليوم ليس له ما بعده، بل ان عليه ان يستذكر جبروت الطاغية الذليل الى جانب مصيره الاسود ليتيقن بان ذلك ممكن التكرار مع كل ظالم، صداما كان ام هداما، (اسلاميا) كان ام (علمانيا) شيعيا كان ام سنيا، عربيا كان ام كرديا ام تركمانيا، مسلما كان ام مسيحيا، افنديا كان ام معمما، مدنيا كان ام عسكريا، رجلا كان ام امراة، فدعوة المظلوم مستجابة ولو بعد حين، فالحذر الحذر من الاسترسال مع الظلم، وقديما قال الشاعر:         
                                            لا تظلمن اذا كنت مـقتدرا        فالظلم ترجع عقباه الى النـدم
                                             تنام عينك والمظلوم منتبه        يدعـو عليك وعين الله لم تنم    
      ايها الظالمون، ساذكركم عندما يحين اجلكم، وساذكركم عندما تخرجون من البالوعات بلحاكم المغبرة تشبهون بذلك صورة الطاغية الذليل.
      احذركم العبث بحقوق الناس، واحذركم العبث بثقة الناخب، واحذركم العبث بتوكيله لكم لتتبوأوا مقاعدكم هذه.
      رابعا: لم تخف زينب شيئا من الحقيقة، سواء كانت لها ام عليها، فعندما تحدثت في مجلس الطاغية سعت بكل ما اوتيت من حكمة وبلاغة وقوة منطق، الى ان تنطق بالحقيقة، فهي، مثلا، لم تخف مشاعر الغضب على الطاغية وفعلته الشنيعة، كما انها لم تخف حقيقة ان الباطل انتصر على الحق في تلك البرهة الزمنية، لماذا؟ لانها لم تكن بحاجة الى ان تكذب او تخفي ما تراه حقيقة، سواء كانت لها ام عليها، كونها صاحبة رسالة حقيقية تتجلى فيها الانسانية والدين والاخلاق، من جانب، ولكونها متيقنة من ان المستقبل سيكون لصالحها ولصالح رسالتها هذه من جانب آخر.
      ولقد تجلى هذا اليقين بقولها للطاغية {فكد كيدك واسع سعيك وناصب جهدك فوالله لا تمحو ذكرنا}.
      تاسيسا على هذا الوعي الزينبي فان على المسؤول الذي يتصدى لموقع ما ان يتعلم كيف يصدق الحديث مع الناس، فيتحدث عن المشاكل التي تواجهه كما يتحدث عن النجاحات التي يحققها، من دون مبالغة، فالمسؤول غير مجبر على الكذب ابدا، ولا يظنن احد منهم بان الناس لا تعرف الحقيقة او انه قادر على ان يضحك عليهم او يعمس عليهم الخبر الصحيح، ابدا، فالناس تراقب وتتابع وتطالع وتعرف الامور جيدا ربما اكثر من المسؤول نفسه، فلماذا الكذب؟ ولماذا الحديث عما لم ينجزه المسؤول؟ ولماذا يطلق المسؤول الوعود الكاذبة التي يعرف هو نفسه قبل غيره بانه اعجز عن ان يفي بها، ولاي سبب كان؟ ولقد قال امير المؤمنين عليه السلام {المسؤول حر حتى يعد} فمن الافضل للمسؤول ان لا يسمع منه المواطن عبارات (السين والسوف) وانما يتحدث عن عمله عندما ينجح ويتكلم عن انجازه عندما ينتهي منه، ولقد قال امير المؤمنين عليه السلام {وقد ارعدوا وابرقوا، ومع هذين الامرين الفشل، ولسنا نرعد حتى نوقع، ولا نسيل حتى نمطر}.
      ان كل ما يريده المواطن من المسؤول هو ان يصدق معه الحديث والوعود، فيخبره بعجزه اذا فشل في انجاز ولا يخفي عليه الحقيقة اذا اخفق في تحقيق الهدف المرجو منه، فالمواطن قد يغفر للمسؤول فشله او اخفاقه ولكنه لم ولن يغفر له كذبه ابدا.
      خامسا: ليس من العيب ان تكون مظلوما، وانما العيب كل العيب في ان تسكت على الظالم عندما يتجاوز على حقوقك ويسحق كرامتك ويصادر حريتك ويسرق اللقمة من افواه اطفالك وعائلتك.
      وما هو اكثر من ذلك عيبا عندما تلوذ بالصمت وانت ترى الظالم يبذل كل جهده من اجل تضليل الراي العام لتجنيده لصالح سياساته الظالمة من خلال قلب الحقائق، اذا به المظلوم وانت الظالم، اذ ينبغي عليك ان تصدع بالحقيقة ولا تسكت على مثل هذا التضليل، بل يجب عليك، والحال هذه، ان تصدق الحديث لتكشف    عن الحقيقة فتنور الراي العام، وهذا بالضبط ما فعلته زينب الكبرى بنت امير المؤمنين عليهما السلام
   لقد سعى الظالم الى تضليل الراي العام فصور السبط بانه خارج على امام زمانه فاستحق القتل، اما زينب فقد تصدت لهذا التضليل عندما وقفت في مجلس الطاغية تشرح الحقيقة لمن القى السمع وهو شهيد، اما الذين منحوا عقولهم اجازة مفتوحة واستبدلوه بحجر اصم فليس لهم عند زينب ما يقنعهم بالحقيقة لانهم كالانعام بل هم اضل.
      لقد صدحت زينب بالحقيقة في ظرف زماني ومكاني كان يعد الانفاس على الناس فيقمع حرية الراي ويقطع رقاب من يشكك فيما يقوله الطاغوت، وفي الاثناء كان يقف خلف الظالم جيش من وعاظ السلاطين ومن اصحاب الاقلام الماجورة التي باعت دينها بدنيا غيرها، فكانت، مثلا، تتهم كل من يسعى لقول الحقيقة بشتى التهم لاسقاطه وتاليا لتصفيته جسديا، لان الطاغوت يرتعد من الحقيقة ويخاف الخبر الصادق ويخشى التحليل المنطقي للامور، ولذلك فليس في العالم حاكم فاسد يقبل ان يقول له احد من رعاياه ان فوق عينيك حاجب ابدا.
      فهل استسلمت زينب لجو الارهاب والتخويف والقتل؟ وهل خافت من التسقيط وربما التصفية الجسدية فابتلعت الحقيقة واحتفظت بها لنفسها؟ ابدا، بل انها قالت الحقيقة كاملة غير منقوصة ما تسبب بانقلاب    الامور راسا على عقب ولغير صالح الظالم.
      ولا زال هناك الى الان من يمارس سياسات التسقيط والتشهير الاموية ضد كل من يريد ان يعترض او يراقب او يحاسب، ففي العراق الجديد يحتفظ بعض المسؤولين بالتهم جاهزة ضد كل من يسعى لممارسة النقد من اجل الاصلاح، فمن يحتج على السرقات المنظمة للمسؤولين تحت عنوان (منافع) الرئاسات وما اشبه من هذه العبارات الشيطانية يقولون عنه بانه من ايتام النظام البائد، ومن يعترض على الفساد المالي والاداري يتهمونه بالارتباط بالاجنبي، واذا اعترض احد على ضعف الاداء الحكومي وفشل الوزارات في تنفيذ اهدافها المرسومة، قيل انه ممن يحن الى الماضي، وهكذا، ولكن، هل ينبغي ان تثنينا مثل هذه التهم الرخيصة والجاهزة عن ان نصدع بالحقيقة ونقف بوجه الظالم؟ بالتاكيد كلا، فلو كان هذا هو الطريق الصحيح والسليم لاستسلمت زينب وهي في مجلس الطاغوت وللاذت بالصمت، ولم تنبس ببنت شفة، فهل فعلت زينب ذلك؟ كلا والف كلا، بل انها تصدت لمسؤولية القول والبيان من دون ان تاخذها في ذلك لومة لائم، فليس المهم ان يقبل او يرفض الظالم ما اقوله، وانما المهم ان يرضى ضميري بما اريد قوله.
      علينا ان نتعلم الصدق في كل الاحوال من زينب، فاذا تسنم احدنا موقع المسؤولية، فليتعامل معه بصدق واخلاص، واذا عارض احدنا او انتقد او رفض فليعارض وينتقد ويرفض بصدق، فلا يمارسن احدنا السلطة لاغراض شخصية او حزبية او طائفية او مناطقية، وانما لاغراض المصلحة العامة، من خلال العمل على تحقيق مصالح الناس والبلاد بلا تمييز، كذلك، فلا يمارسن احدنا لعبة المعارضة لاغراض شخصية ضيقة وانما من اجل تحقيق المصلحة العامة، وبكل ذلك سنكون صادقين مع انفسنا ومع الناس ومع اهدافنا وقبل كل ذلك مع الله تعالى وعندها سينزل علينا النصر المؤزر، اولم يقل امير المؤمنين عليه السلام {فلما راى الله صدقنا انزل بعدونا الكبت، وانزل علينا النصر}؟ فبالصدق فقط ينزل النصر وتتحقق الاهداف النبيلة، وبه حققت زينب نصرها المؤزر على الطاغية الطليق بن الطليق يزيد بن معاوية ابن هند آكلة الاكباد.
      سادسا: ان الظالم يمتلك عادة كل اسباب القوة التي لا يوفر منها شيئا لتحقيق النصر على المظلوم، فهو يمتلك الاعلام والسلطة والفتوى التكفيرية والمال الحرام الذي يشتري به الضمائر الميتة والقلوب الفارغة من تقوى الله تعالى، وبهذه الوسائل يجيش الجيوش لياخذ اقطار الارض على المظلوم، وان امام هذه الحقيقة يقف المظلوم امام مفترق طرق، فاما ان يستسلم للطاغوت فيركع له ويقبل بسلطته الظالمة، ويصدق دعايته الرخيصة، او ان يتصدى للظالم واعوانه وادواته القاهرة، باللسان على الاقل وبالبيان الذي تكون شفرته احد من السيف القاتل، وهذا ما فعلته زينب، عندما وقفت في مجلس الظالم لتقذفه بكلماتها حمما من نيران الدنيا قبل الاخرة.
      سابعا: اخيرا، فلقد صدقت زينب عندما قرات المستقبل ببصيرة واعية ونظرة ثاقبة، فقالت تخاطب الطاغية يزيد بن معاوية {وهل رايك الا فند وايامك الا عدد وجمعك الا بدد يوم ينادي المنادي الا لعنة الله على الظالمين} فلكم بذل الطغاة واذنابهم من جهود عظيمة لمحو ذكرى الطف العظيمة وتحريف مسارها وقلب حقائقها؟ فهل نجحوا بمساعيهم تلك؟ ابدا، فلقد رحلوا جميعهم ويرحلون ويبقى الحسين الشهيد منارا لكل الاحرار في العالم.
      ولذلك اقول لمن لا زال يظن ان بامكانه ان يمحو ذكرى الدم الكربلائي المتدفق على طول الزمان والمكان: وفروا جهودكم من اجل القضايا المهمة، ولا تضيعوا اموالكم بما لا يمكن تحقيقه، فالى متى تصرفون الملايين على الاعلام لاطفاء نور عاشوراء؟ والى متى تبذلون جهدكم العظيم لتحجبون نور كربلاء؟.
      لقد راى العالم اجمع كيف تنتشر كربلاء في مختلف مناطق العالم وتتسرب اليها انوار عاشوراء بلا استئذان، اتعرفون لماذا؟ لان الحسين السبط بعين الله تعالى، اولم نقرا في الزيارة الشريفة {السلام عليك يا ثار الله} وهل يمكن لاحد ان يقضي على هذا الثار بفضائية او بصحيفة او حتى بملايين الفضائيات والصحف والاذاعات؟ ابدا، وصدقت زينب عندما قالت لابن اخيها الامام السجاد متحدثة عن ابيها عن جدها رسول الله {وليجتهدن ائمة الكفر واشياع الضلالة في محوه وتطميسه، فلا يزداد اثره الا ظهورا، وامره الا علوا} وهذا ما يلمسه العالم على مر التاريخ، فلمحاولات قتل ذكرى عاشوراء اثر عكسي دائما، وما تركيا هذا العام الا الشاهد على ما قالته زينب عليها السلام.
      ان انتشار عاشوراء في العالم لا يعود فيه الفضل الى احد ابدا، فالفضل في ذلك كله لله تعالى الذي اراد لهذا الحدث وهذه الدماء ان ينتشر نورها ليعم العالم، وما ذلك على الله ببعيد، ولذلك فلا يبذلن احد جهده لمواجهة ما يسميه بالمد الشيعي، لانه معجون بدم الحسين عليه السلام، ودم الحسين عليه السلام لا يمكن لاحد ان يتصدى له كائنا من كان، لانه من نور الله تعالى ونور الله لا يطفأ ابدا وصدق العزيز الجبار الذي قال في محكم كتابه الكريم {يريدون ليطفؤوا نور الله بافواههم والله متم نوره ولو كره الكافرون} ومن لا يصدق ما اقول فليجرب وان قيل {من جرب المجرب ندم}.            
عاشوراء..سلطة الاصلاح
      لو قدر الله تعالى لسبط نبيه الكريم (ص) سيد شباب اهل الجنة عليه السلام الامام الحسين بن علي بن ابي طالب بن فاطمة الزهراء بنت رسول الله (ص) ان ينتصر على الطاغية يزيد بن معاوية بن ابي سفيان بن هند آكلة الاكباد، في عاشوراء عام 61 للهجرة، فبماذا كانت ستتميز سلطته عن سلطة الطاغية؟ وما الذي كان سيقوله عند اول خطاب عام يلقيه في مسجد الكوفة بعد ان يدخلها منتصرا؟.
      ربما، اذا عدنا لوصيته عليه السلام التي تركها في المدينة المنورة عند اخيه محمد بن الحنفية عليه السلام فسنقرا بعض ملامح مشروعه الذي خرج من اجله.
      يقول عليه السلام في تلك الوصية:  
      واني لم اخرج اشرا ولا بطرا ولا مفسدا ولا ظالما، وانما خرجت لطلب الاصلاح في امة جدي (ص) اريد ان آمر بالمعروف وانهى عن المنكر، واسير بسيرة جدي وابي علي بن ابي طالب، فمن قبلني بقبول الحق فالله اولى بالحق ومن رد علي هذا اصبر حتى يقضي الله بيني وبين القوم بالحق وهو خير الحاكمين.
      ان اول ما يلفت الانتباه في الوصية هو انه عليه السلام تجاوز فترة من الزمن تمتد قرابة ربع قرن وهي الفترة الزمنية الممتدة بين وفاة الرسول الكريم (ص) حتى انتخاب امير المؤمنين علي بن ابي طالب عليه السلام خليفة وحاكما للمسلمين، وهو، عليه السلام، لم يقفز على هذه الفترة جهلا او سهوا ابدا، وانما كان يقصد ذلك بكامل الوعي والادراك والمعرفة.
      انه انتقل بوصيته من سيرة رسول الله (ص) مباشرة الى سيرة علي بن ابي طالب، من دون ان تتحكم في عملية الانتقال هذه اية عواطف او قرابات او انتماءات قبلية او عائلية او ما اشبه، ابدا، فالحسين السبط عليه السلام امام، كما قال عنه وعن اخيه الحسن السبط عليه السلام، جدهما رسول الله (ص) بقوله {الحسن والحسين امامان قاما او قعدا} فكيف تتحكم الاهواء والعواطف والانتماءات غير الرسالية من قبيل الانتماء للقبيلة او العائلة او المنطقة او الاثنية او اي شئ آخر برؤيته عند تحديد الموقف والهدف؟.
      لقد كرر الامام الحسين السبط عليه السلام في وصيته تلك جوهر الرؤية التي كان قد قالها من قبل ابيه الامام امير المؤمنين عليه السلام، عندما قال له عبد الرحمن بن عوف في اجتماع الشورى الستة (امدد يدك لابايعك على كتاب الله وسنة رسوله وسيرة الشيخين) رفض الامام ذلك، قائلا: اما القرآن فنعم، واما سنة رسول الله فنعم، واما سيرة الشيخين فلا، لماذا؟ لانه، ربما، لم يشأ الاقرار بمنهج (خلافة) لم ير فيه شيئا من سيرة رسول الله (ص) وما قرره الشرع في كتابه المقدس، القرآن الكريم.
      الحسين السبط، اذن، كان دقيقا في تحديد النموذج الذي سيسير عليه، وليس اعتباطا باي شكل من الاشكال.
      وهذا يعني انه عليه السلام:
      الف: يرى في الامام علي الاستمرار الحقيقي والطبيعي لرسول الله (ص) في كل شئ، خاصة على صعيد الحكم والادارة والسياسة، وما دون ذلك خروج عن المنهج السليم الذي شرعه الله تعالى للبشرية.
      بمعنى آخر فان منهج رسول الله (ص) يستمر بمدرسة اهل البيت عليهم السلام دون سواها من المدارس والمشارب التي مالت بالامة يمينا وشمالا منذ لحظة التحاق الرسول الكريم بالرفيق الاعلى.
      باء: سيستمر على ذات المنهج، فهو لم يات بجديد او ببدعة في الحكم والسياسة والادارة، كما ان قوله وفعله هو قول رسول الله (ص) وفعله، وهو قول الاسلام وفعله، ويستمر هذا النهج الى آخر ائمة اهل البيت عليهم السلام، فقولهم وفعلهم هو قول وفعل جدهم رسول الله (ص).
      بعبارة اخرى، انه، عليه السلام، يمثل الامتداد المتجدد لمنهجية الرسول الكريم (ص) والامام علي عليه السلام، المستنبطة من القران الكريم.
      قد تتغير الادوار والادوات، وقد يتغير الزمان والمكان، الا ان النهج والفعل والنتيجة واحدة، هو العدل والحق والحرية والكرامة والامانة والمساواة بين الرعية في الحقوق والواجبات وتكافؤ الفرص ودولة المواطن.
      جيم: لم يعترف بشرعية الفترة الزمنية الممتدة بين زمني حكومة الرسول الكريم وحكومة امير المؤمنين، والتي انتجت منهجية توريث السلطة بعد ان الغت مبدا الشورى.
      اي انه عليه السلام اعتبر ان مدة الـ (25) عاما من السلطة التي اعقبت وفاة رسول الله (ص) وقبل انتخاب امير المؤمنين عليه السلام حاكما على بلاد المسلمين، هي الارضية التي نمت فيها سلطة الفرد ثم تضخمت لتنتج سلطة الديكتاتور المستبد الذي حول الشورى الى ملك عضوض، واقصد به معاوية بن ابي سفيان.
      ان قوله في وصيته {ومن رد علي هذا اصبر} دليل من طرف خفي على طعنه عليه السلام باية سلطة تتحكم في رقاب الناس بالفرض والاكراه، وهي طبيعة سلطة ربع القرن التي تجاوزها وتجاهلها الامام عند تحديد منهجيته في خروجه للسلطة، والتي انتجت فيما بعد، ابتداءا من معاوية، سلطة الفرد الذي يعتمد العصبية بعيدا عن الدين الذي حافظ عليه الحاكم كورقة التوت التي يحتاجها ليستر بها سوءاته فقط، هذه السلطة التي يقول عنها ابن خلدون في مقدمته المعروفة (فقد رايت كيف صار الامر الى الملك وبقيت معاني الخلافة من تحري الدين ومذاهبه والجري على منهاج الحق ولم يظهر التغير الا في الوازع الذي كان دينيا ثم انقلب عصبية وسيفا.
      وهكذا كان الامر لعهد معاوية ومروان وابنه عبد الملك والصدر الاول من خلفاء بني العباس الى الرشيد وبعض ولده.
      ثم ذهبت معاني الخلافة ولم يبق الا رسمها، وصار الامر ملكا بحتا وجرت طبيعة التغلب الى غايتها واستعملت في اعراضها من القهر والتغلب في الشهوات والملاذ).
      تاسيسا على كل ذلك، نستنتج بان الحسين السبط عليه السلام حدد معيار (الاصلاح) الذي تحدث عنه في وصيته الانفة الذكر في ثلاث قضايا:
      القضية الاولى: اصلاح المنهج والنظرية السياسية.
      القضية الثانية: اصلاح السلطة الفاسدة واعادة تحديد ملامح الحاكم العادل.
      القضية الثالثة: اصلاح ادوات الحاكم، سواء تلك التي يستخدمها للوصول الى السلطة او التي يستخدمها لتكريس سلطته واستمرارها، بما فيها المؤسسة الدينية التي تشرعن فساد السلطة، والمؤسسة الاعلامية التي تروج لشرعية فساد السلطة.
      ان اية سلطة في العالم، سواء القديم منه او الحديث، تستند الى فلسفة ما، والا فستكون عبثا لا تقوى على الصمود والاستدامة، ولذلك فعندما نريد ان نناقش الاراء السياسية والدينية لاية سلطة، يلزمنا اولا ان نناقش الفلسفة التي تستند عليها تلك السلطة، فاذا اردنا تفنيد آراءها السياسية والدينية علينا اولا ان نفند او نبطل الفلسفة التي تعتمدها، والعكس هو الصحيح.
      ولقد حدد الاسلام معالم سلطة الحق بعدد من المبادئ التي تشاد عليها، تقف على راسها مبدا (الشورى) الذي يعني:
      اولا: ان الناس هم الذين يختارون الحاكم وليس لاحد ان يفرض نفسه عليهم بالقوة او الاكراه تحت اي مسمى او ذريعة، وذلك لقوله تعالى {وامرهم شورى بينهم}.
      يقول المرجع الراحل، فقيه اهل البيت عليهم السلام، الامام السيد محمد الحسيني الشيرازي (قدس سره) في كتابه (الشورى في الاسلام):
      اما وجوب المشورة في مجئ الحاكم الى الحكم، فلانه نوع تسلط على الناس، والناس لا يصح التسلط عليهم الا برضاهم.
      ثانيا: للامة الحق في عزل الحاكم اذا لم يلتزم بما تعاقد عليه معها، فحنث بيمينه او مارس الظلم او تجاوز على حقوق الناس او مد يده الى بيت المال بالحرام او حتى اذا فشل في انجاز ما تعاقد عليه معها.
      ولقد شرعن الامام امير المؤمنين عليه السلام هذا الحق بقوله معلقا على مقتل الخليفة الثالث:
      انه قد كان على الامة وال احد احداثا، واوجد الناس مقالا، فقالوا، ثم نقموا فغيروا.
      ثالثا: ان اختيار الامة للحاكم يكون لشخصه كونه يتميز بمواصفات معينة تؤهله للسلطة اكثر من غيره، وليس لاسرته او عشيرته، ولذلك فليس من حق الحاكم ان يورث السلطة لكائن من كان، فالتوريث ضد الشورى لانه مبدا يقوم على اساس نقل السلطة داخل الاسرة الواحدة بالاكراه وليس بارادة الناس وقبول الامة، وهي عملية استئثار بالسلطة يرفضها الدين والمنطق والعقل.
      ان الشورى التي تعني مبدا تداول السلطة بشكل سلمي وعبر (بيعة) الامة للمرشح، الانتخابات العامة، بعد اختياره من بين عدد من المرشحين، يفسح المجال لكل مواطن في ان يتبوأ مقعد الخلافة اذا رات الامة فيه الاهلية لذلك، فلا استحواذ على السلطة ولا احتكار للسلطة ولا توريث، وهذا هو جوهر مبدا المساواة في الحقوق والواجبات الذي يعتمده الاسلام في السلطة.
      يقول العلامة المرحوم الشيخ محمد مهدي شمس الدين في كتابه (نظام الحكم والادارة في الاسلام) معلقا على الحديث الشريف عن رسول الله (ص) {الناس كلهم كاسنان المشط} ما يلي:
      في هذا التشبيه الفذ يلمح النبي الى معنى سام شريف، فكما ان المشط يفقد فائدته اذا لم تستو اسنانه جميعا، كذلك المجتمع لا يؤتي فائدته الاجتماعية، وهي التكامل، اذا لم يستو افراده جميعا في الحقوق والواجبات، ولذلك لا يجوز ان تقوم العلاقات الاجتماعية على سيادة فريق، واستئثاره بالخيرات، واستخدام فريق يعمر لغيره الموائد ليحرز لنفسه الفتات.
      رابعا: ان الامة التي تمارس حقها في اختيار الحاكم، مسؤولة عن اختيارها ان خيرا فخير وان شرا فشر، ولذلك فلا يجوز لها ان تتهرب من مسؤولية الاختيار باي شكل من الاشكال، ومن اجل ان تتنعم باختيارها عليها ان تحسن الاختيار فلا تتسرع في الحكم على المرشحين، كما ان عليها ان تدقق في المرشحين قبل ان تختار واحدا من بينهم، والا فسيكون اختيارها وبال عليها تحصد الظلم والتخلف بسببه.
      ان قول الله تعالى في محكم كتابه الكريم {وما ظلمناهم ولكن كانوا انفسهم يظلمون} اشارة واضحة جدا الى حقيقة ان الانسان مسؤول عن اختياره، فعندما يستعجل الاختيار او لا يهتم به فيدلي بصوته الى كائن من كان من المرشحين من دون تمحيص او تدقيق، فانه سيحصد فشلا وظلما ليس الا نفسه هو المسؤول عنه، ومثله كمثل التلميذ الذي يختار الاهمال والتهرب والكسل واللاابالية طوال العام الدراسي ثم تكون النتيجة الحتمية لتلك المقدمات هي الرسوب في صفه، فمن الذي يتحمل فشله يا ترى سوى نفسه وخياراته؟.
      لقد كرر القران الكريم هذا المعنى في اكثر من آية كقوله تعالى {ان السمع والبصر والفؤاد كل اولئك كان عنه مسؤولا} وقوله تعالى {وقفوهم انهم مسؤولون} من اجل ان لا يتحجج الانسان اذا اخطا في اختياره، فيتعب نفسه بالبحث عمن يرمي المسؤولية برقبته ليتخلص منها.
      ان الامة ليست مجبرة على (الاختيار) ابدا، واذا تمكن احد من ان ينزو على السلطة فهذا لا يعني ان الله تعالى هو الذي مكنه من ذلك، فيكون على الامة ان تطيعه مرغمة لانها مجبرة على القبول به، ابدا، فلو كان الامر كذلك لسقط مبدا الاختيار بالضربة القاضية، وبالتالي لسقط مبدا المحاسبة والمساءلة للعباد من قبل الله تعالى، ومن ثم سيسقط مبدا المفاضلة في حسن الاختيار، فما الذي بقي من آدمية الانسان اذن؟.
      ان الانسان، كما نعرف، يتميز عن الحيوان بقدرته على الاختيار، فاذا سقط هذا المبدا او سلبه احد هذا الحق فستنتهي آدميته فكان كالحيوان بل هو اضل سبيلا، لانه اسقط حق، بتنوين القاف، الله تعالى منحه اياه، اما الحيوان فلم يمنحه خالقه هذا الحق، فهو منتفي بانتفاء الموضوع كما يقول المناطقة.
      تاسيسا على هذه الحقائق، فان الحسين السبط عليه السلام اعلن في وصيته بانه سيعيد جوهر كل هذه المعاني والحقوق الى العملية السياسية بعد ان اصابها التغيير والتشويه بدرجة كبيرة.
      لقد رسم الاسلام خارطة طريق للوصول الى السلطة وبطريقة شرعية، تحول دون حصول (البيعة) بطريقة (الفلتة) والتي تعني لغويا (الامر يقع عن غير روية ولا تدبر) كما حصل مع (بيعة) الخليفة الاول على حد قول الخليفة الثاني، لان مثل هذه السلطة تجر الويلات على الامة وقد تقودها الى الفرقة والتهلكة، اما امير المؤمنين علي بن ابي طالب عليه السلام، فقد رفض ان يتبوأ موقع الحاكم في الامة بهذه الطريقة، انه ارادها ان تكون بيعة واعية، ولذلك قال يصف بيعته {لم تكن بيعتكم اياي فلتة} وهو الامر الذي اراد ان يكرسه الامام الحسين عليه السلام في الامة من خلال خروجه الى السلطة ساعيا الى تغيير الخطا الذي حصل في مسار الخلافة، وعلى وجه الخصوص بعد ان ورث يزيد السلطة عن ابيه لتتحول الخلافة بذلك الى ملك عضوض، وهو الامر الذي يتناقض ومبدا الشورى جملة وتفصيلا، على الرغم من كل المحاولات التي بذلها الامويون لشرعنة هذا النوع من السلطة، والذي لا زال احفادهم من الوهابيين وامثالهم يسعون لاقناع الامة بشرعيته بلا طائل، كما هو الحال مثلا مع سلطة اسرة آل سعود الفاسدة في الجزيرة العربية.
      وان اسوأ تشويه واخطر تغيير حصل عليها هو ما اعتبره الامويون بان وصولهم الى السلطة انما بقضاء من الله تعالى وقدر منه، فلماذا ينازعهم البعض هذا الامر؟ ولماذا يخرج عليهم الناقمون؟ ولماذا يسعى البعض من الامة الى اسقاطهم عن عرش الخلافة؟.
      انهم روجوا في الامة، لحظة اعتلاء الخليفة الثالث سدة الحكم، مقولة ان الخلافة قميص يقمصه الله تعالى من يشاء من عباده، ولذلك لا يحق لاحد ان ينزع عنه هذا القميص مهما فجر او فسق او ظلم او خرج على ارادة الناس او تمرد على الدين وقيمه، في محاولة منهم لتخدير الامة والقبول بالامر الواقع والاستسلام له.
      انهم مارسوا، بالترغيب والترهيب والخداع والتضليل، عملية غسيل دماغ ضخمة لاقناع الناس بهذا المبدا غير السليم، والذي نسفه امير المؤمنين عليه السلام لما اراده الناس على البيعة بعد مقتل الخليفة الثالث، بقوله {دعوني والتمسوا غيري} فرفضه السلطة، وهي غير الامامة بلا شك، بادئ الامر دليل على انها ليست قميص يقمصه الله تعالى من يشاء من عباده، ابدا، والا لما رفضها الامام، وانما لسعى اليها سعيا حثيثا كما فعل غيره، وانما هي من فعل الانسان وبارادته.
      يقول المفكر محمد عابد الجابري بهذا الصدد:  
      فالامويون الذين استولوا على السلطة بالقوة لم يجدوا ما يبررون به سلطتهم واعمالهم التي كانت موسومة بالعسف والعنف الا ان قالوا ان ما حدث كان قضاء وقدرا من الله، فهو الذي ساق الينا الخلافة وقدر علينا بسابق علمه ان ناتي ما نفعل، وقد رتبوا على هذا نتيجة اخرى فقالوا ان الله لا يحاسب الخلفاء لانه هو الذي جعلهم امراء على الناس، وقد وضعوا لذلك حديثا روجوا له يقول: ان الله تعالى اذا استرعى عبدا رعية كتب له الحسنات ولم يكتب عليه السيئات.
      وتواصل قول وتدوين الاحاديث المكذوبة لتكريس هذا النهج، منها على سبيل المثال لا الحصر
   انكم سترون بعدي اثرة وامورا تكرهونها، قالوا: فماذا تامرنا يا رسول الله؟ قال: ادوا اليهم حقهم، وسلوا الله حقكم.
      من راى من اميره شيئا يكرهه فليصبر عليه، فان من فارق الجماعة شبرا فمات الا ميتة جاهلية.
       ستكون هنات وهنات، فمن اراد ان يفرق امر هذه الامة وهي جمع فاضربوه بالسيف كائنا من كان.
      ولقد نجح الامويون، وللاسف الشديد، في تكريس هذه الفلسفة في الامة قرونا طويلة من الزمن، لتستمر الى يومنا هذا، فعندما يعتبر احد فقهاء التكفير من فقهاء بلاط آل سعود بان اخذ البيعة للطاغية يزيد من قبل ابيه معاوية كانت شرعية، على الرغم من انه يرفض ان يكون رسول الله (ص) قد اخذ البيعة للامام امير المؤمنين عليه السلام في يوم الغدير الاغر لانها تنسف فلسفة الشورى على حد زعمه، فهذا يعني ان النهج الاموي لازال حيا في عقول ومنهجية مثل هؤلاء، الامر الذي يوظفونه لشرعنة النظام السياسي العربي الفاسد، فالحاكم عندنا اليوم هو امير المؤمنين وخادم الحرمين الشريفين وعبد الله المؤمن والمجاهد الاكبر وحفيد رسول الله (ص) المنحدر من سلالة ابنته الطاهرة  فاطمة الزهراء وصهره الامام علي، وهو الخليفة وهو ظل الله في الارض.
      انهم يشرعنون بيعة الفاسق يزيد، ويشرعنون توريث السلطة الذي بداه معاوية، ومن ثم سار عليه الامويون والعباسيون ومن جاء بعدهم، ليس من اجل ذاته، وانما من اجل تشريع السلطة الفاسدة التي يستظلون اليوم بظلها، وينعمون بخيراتها على حساب معاناة الناس، ما يمنحهم القدرة الى ان ياخذوا دينهم من اي (خليفة) كان وان كان فاسقا كيزيد، ولهذا السبب فعندما تسال احدهم عن صحة راي من الاراء السياسية المتعلقة بالسلطة التي يستظلون تحتها يجيبك بالقول: ان معاوية مثلا فعل ذلك ما يعني شرعية الممارسة، او ان يزيد فعل ذلك، افهل نستغرب، بعد كل هذا، اذا سمعنا احدهم يتمنى ان يكون هو من قتل الحسين السبط عليه السلام لانه بذلك سيحيي سنة بقتل من يخرج على امام زمانه كما فعل الطاغية يزيد على حد قوله؟.
      ولذلك فعندما نسمع ان شيخا من شيوخ البلاط او فقيها من وعاظ السلاطين يفتي بحرمة الخروج على ولي الامر او لا يجيز التظاهر او الاعتصام ضده، كونه ظل الله في الارض وانه العبد الذي قمصه الله تعالى قميص الخلافة، فان علينا ان نتذكر بانه ينتهج سياسة بني امية الذين  لفقوا من اجل تثبيتها في الامة كحقائق لا يرقى اليها الشك الكثير من الاحاديث المكذوبة على رسول الله (ص) عبر ما بذلوه من اموال طائلة اشتروا بها ضمائر الناس كابي هريرة الذي دفع له معاوية الكثير من الاموال لينقل احاديث موضوعة تمجد بسلطة بني امية، وتنتقص من مكانة امير المؤمنين عليه السلام، الى جانب الماكينة الاعلامية التي تحركت وقتها لنشر مثل هذه الاكاذيب والاحاديث الموضوعة، في عملية غسيل دماغ يندر حصولها في امة من الامم.
      انه ذات النهج الاموي الذي كان ياخذ على الظنة ويقتل على الشبهة، بعد ان شرعن الظلم والطغيان وحرم على الامة التمرد عليه.
      لقد اراد الامام الحسين عليه السلام بخروجه واستشهاده في كربلاء في عاشوراء عام 61 للهجرة ان يحطم هذه الاصنام (الفكرية) و (الفقهية) التي ما انزل الله تعالى بها من سلطان، واراد ان يبين للامة بان ما يفعله الامويون ليس بقضاء الله تعالى وقدره، فهو ليس فعلا محتوما وقضاءا مبرما، عليها ان تنصاع وتستسلم له، ابدا، بل انه عمل يخالف الاسلام وسنن الكون وكل القيم الانسانية، انه عمل من صنع الانسان وليس من صنع الله تعالى، ولذلك فان من حق الامة ان تغير وتبدل، كما ان من حقها ان ترفض الظلم اذا صدر عن الحاكم، فهو ليس ظل الله في الارض كما انه ليس معينا من قبله تعالى، انه وصل الى السلطة بطرق الارض وليس بطرق السماء، وهو نزا على السلطة بسبب خطا حصل في الامة، كأن تكون غفلت عنه او كانت في سبات فاستغل الظالم الظروف المؤاتية لينزو على السلطة، او ان رقاب الناس دانت له بالسيف او بالمال او بالسلطان يوزعه على من يستعصي امره عليه، كما فعل معاوية مع عمرو بن العاص الذي اشتراه بملك مصر، او ما فعله يزيد مع عمر بن سعد بملك الري.
      والحمد لله فلقد استوعبت الشعوب العربية اليوم رسالة عاشوراء الحسين السبط عليه السلام، فلم تعد تصدق وعاظ السلاطين الذين يحرمون الخروج على ولي الامر، كما انها لم تعد تنظر الى الحاكم كانه ظل الله في الارض الذي يجب عليها طاعته مهما غير او بدل او سرق او سحق حقوقها او قتل او اعتدى على اعراض الناس او استولى وعشيرته وعائلته على كل فرص الخير.
      لم يعد للتضليل (الديني) المزيف سلطة على عقول الناس، ولم تعد لدعاية الحاكم الظالم سلطة على ارادة الناس ووعيها واختياراتها.
      ولذلك يشهد العالم العربي اليوم ربيعا منعشا سيسقط كل الاصنام التي نزت على السلطة بقوة الحديد والنار، وبشرعية فتاوى فقهاء البلاط الذين يقدمون مصالح البلاط على مصالح العباد.
      وعلى الرغم من هذا الربيع، الا اننا لازلنا نسمع او نقرا بعض الفتاوى التضليلية التي لازال يتوسل بها ويلجا اليها بعض الحكام المستبدين من امثال آل سعود وآل خليفة وطاغوت اليمن ومن لف لفهم، وكانهم ما سمعوا بان الشعوب الحرة التي نور الله تعالى قلبها بالوعي والادراك فراحت تحسن اختيارها، ان هذه الشعوب قد سحقت فتاواهم (الدينية) المزيفة باقدامها؟ واحرقت الاوراق والقراطيس التي كتبت عليها، او كانهم لم ينتبهوا الى السقوط المدوي الذي تهاوت بسببه المؤسسة الدينية الفاسدة الى الحضيض بعد ان لم تعد الشعوب تعير اية اهمية لفتاواها المضللة والفاسدة؟.
      ان وراء كل سلطة فاسدة سلطتان فاسدتان، الاولى هي سلطة المؤسسة الدينية الفاسدة التي تسخر فتاواها (الدينية) في خدمة اهداف الحاكم الظالم، فهي تشرعن توريث السلطة والفساد المالي والاداري والقتل وحصد الارواح وكل شئ يريده او يطلبه منها النظام السياسي الفاسد.
      اما السلطة الثانية فهي سلطة الاعلام الفاسد الذي يروج للفتاوى الفاسدة التي تشرعن فساد السلطة السياسية.
      انها منظومة متكاملة يبرر احدها للاخر، ويروج احدها للاخر، والقاسم المشترك والهدف الواحد لها هو تضليل الراي العام وارهابه من اجل ان لا يخرج على (ولي الامر) الذي (عينه الله تعالى) حاكما على رقاب الناس والذي سيكتب له الله تعالى حسنات غيره ويمحو سيئاته ويسجلها في حساب الناس.
      ان المؤسسة الدينية الفاسدة لا تاخذ بنظر الاعتبار مصالح الناس ابدا، فهي مثلا لم تشكك بشرعية الحاكم الذي يستولي على السلطة بالتوريث بعد ان يقتل الابن اباه او يزيحه عن السلطة ويبعده الى المنفى، كما حصل لامير قطر الحالي مثلا، ولكنها تحرم على المواطن احتجاجه وتظاهره ضده، كما انها لم تعر اهتماما باللصوصية التي يمارسها الحاكم الظالم والتي ازكمت رائحتها الانوف، الا انها تحرم الجهر بالقول على من ظلم، بضم الظاء، وهي لم تسال يوما عن ملايين الابرياء الذين يقبعون خلف القضبان في سجون مظلمة لا يميزون فيها الليل من النهار، يتعرضون فيها الى اشد انواع العذاب النفسي والجسدي، وفي احيان كثيرة الى الاغتصاب، الا انها تحتج بفتاوى (دينية) رنانة اذا ما طالب الشعب بمحاكمة زعيم طاغ مجرم اكل حقوق الناس وسرق خيرات البلد لصالح حفنة من ابنائه وزبانيته.
      ثم تاتي المؤسسة الاعلامية الفاسدة لتروج لكل ذلك، اذا بنا نقرا مقالات من يدعون الثقافة والفكر المتنور والعقل المنفتح، وفي القرن الواحد والعشرين، تبرر لواحدة من افسد الاسر الحاكمة في العالم، واكثرها دموية، قتلت حتى الان بفتاوى التكفير التي تصدر عن فقهاء بلاطها، اكثر من (4) ملايين انسان، من اجل اقامة وديمومة سلطتها، واقصد بها اسرة آل سعود الفاسدة، التي وظفت (الدين المزيف) لخداع الناس ولشرعنة سلطة التوريث الجاهلية المنشا والاموية النهج، فاي جهل هذا واي تخلف واي تضليل؟.
      كيف يجيز (مثقفو السلاطين) لانفسهم بنشر مثل هذه الخزعبلات التي تبرر الظلم والفسق لاسرة نزت على السلطة بالقهر والقتل والتدمير؟ سلطة تحتضن الارهاب ومؤسساته بمختلف اشكالها؟ سلطة تمارس السحق المنظم لحقوق الانسان وخاصة المرأة التي لازالت مغيبة بفتاوى المؤسسة الدينية الفاسدة، ومقتولة بدينهم المزيف؟.
      وهل يظنون ان بامكانهم خداع الناس بمثل هذه المقالات الفاسدة، بعد ان نفض الشارع العربي عن نفسه غبار الذل والسكينة؟ وبعد ان ازاح عن عينيه وعن قلبه غشاوة فتاوى (الدين المزيف)؟ فلم يعد للحاكم قدسية دينية من النوع الذي ظلت المؤسسة الدينية الفاسدة تلبسه اياه لخداع الراي العام؟ ولم يعد للفتاوى التي تحرم الخروج عليه مهما فعل قيمة تذكر؟.
مؤاخذات عاشورائية
      ما ان يحل علينا شهر محرم الحرام من كل عام، حتى يشحذ (النشامى) من المستهزئين والمشككين والمعاندين، كل انواع اسلحتهم للهجوم على الشعائر الحسينية، فيجردون سيوفهم ويعبئون سياراتهم المفخخة ويملأون مدافعهم ويزرعون الطرقات بالعبوات الناسفة ويتربصون بالمارة، وكل ذلك استعدادا للهجوم على الشعائر الحسينية وكانها اس البلاء ومصدر التخلف ومنبع الاستهزاء، او كانها البدعة التي تقود صاحبها الى النار لا محالة.
      وان جيش (النشامى) هذا يتلفع باحد عباءتين:
      الاولى: عباءة الحرص على الدين، لدرجة ان بعضهم يذرف دمعة او دمعتين من دموع التماسيح ليطمئن متلقيه بانه انما يتهجم على الشعائر الحسينية من باب الحرص على الحسين عليه السلام وعلى قيم ثورته وعلى رسالة عاشوراء، وانه لم يقصد الا خيرا.
      علما بان الكثيرين من هذا الصنف لا يعرفون متى يحل عليهم شهر رمضان الكريم، ليعرفوا متى انتهى موسم الصوم، الا انهم يترقبون هلال شهر محرم الحرام لحظة بلحظة، ليبدأوا خططهم الهجومية.
      انهم يظهرون للعيان وكانهم حريصون على الدين فيخافون من ان تشوبه شائبة او يطعن به طاعن.
      الثانية: عباءة الحرص على حضارة المسلمين، وكيف انهم نشروا العلم والتعلم والمعارف بين سائر امم الارض فانى لهم الاستمرار في اداء رسالتهم هذه بمثل هذه الشعائر التي يعتبرونها ضد الحضارة؟ كما اراد الطاغية الذليل صدام حسين ان يقنعنا وقتها بمثل هذه الفكرة عندما شن حربه الشعواء ضدها عام 1975؟.
      ونحن هنا لا ننكر الجهود المعرفية الكبيرة التي بذلها، ولا يزال، الكثير من المفكرين والمثقفين والكتاب والاعلاميين، كمساهمة منهم في ترشيد الشعائر الحسينية، اولئك الذين يناقشون الامور بروية وعقلانية وواقعية ومعرفة واطلاع واحترام، الا اننا نقصد هنا ما دون ذلك.
      في هذا المقال ساحاول ان اسرد مؤاخذاتهم على الشعائر الحسينية، والرد عليها، بعد الملاحظات التالية:
      الف: بالتاكيد، فلقد دخلت في الشعائر الحسينية بعض الممارسات والطقوس التي لا تنسجم والقيمة الدينية والحضارية للذكرى، الامر الذي دفع ببعض الفقهاء الى استهجانها او على الاقل عدم التشجيع عليها، الا ان (النشامى) عادة ما يتهجمون على كل الشعائر بلا تمييز، الا ما ندر منهم من الحريصين على الذكرى.
      باء: ان عموم الشعائر الحسينية تدخل في اطار مفهوم الاية الكريمة {ومن يعظم شعائر الله فانها من تقوى القلوب} ولذلك فان من يمارسها يعتقد جازما بانه يتقرب بها الى الله تعالى من خلال اظهار المودة والمحبة لاهل البيت عليهم السلام والواردة في قوله تعالى {قل لا اسالكم عليه اجرا الا المودة في القربى} ومن الواضح فان تفسير (القربى) في الاية هم اهل البيت عليهم السلام باجماع المفسرين والفقهاء ورواة الحديث.
      والذي يحيي الشعائر الحسينية احد صنفين:
      فاما ان يكون متدينا وملتزما بواجباته الدينية، فهو يتعبد بها قربة الى الله تعالى، بناء على فتوى المرجع الديني والفقيه الذي يقلده، حالها كحال اية قضية عبادية اخرى، ولذلك فلا يحق لاحد كائنا من كان ان يمنعه من ذلك او يستهزئ به، لان فعله مبني على راي فقيه مجتهد، فما الداعي اذن لان احشر انا وامثالي، ممن ليسوا بمراجع تقليد ولا فقهاء دين ولا يحق لهم الفتيا ولم يقلدهم احد في مثل هذه القضايا، نفسي بمثل هذه المواضيع، وادس انفي بمثل هذه القضايا؟.
      نعم، اذا كانت محاولتي لدس الانف هي ان ابدي رايا عاما فلا باس في ذلك، اما ان اتدخل في الجانب العقدي وما يتعلق بالحلال والحرام والواجب والمستحب والمباح والمندوب فذلك ليس من اختصاصي ابدا، ومسبقا يجب ان افهم بان قفزتي ستاتي في الهواء لانه ليس هناك احد ممن يمارسون الشعائر الحسينية سيقلدني في فتواي قبل ان يباشر الشعيرة او يتوقف عنها.
      او يكون غير متدين وغير ملتزم بشعائر دينه، فهو ربما يمارس الشعائر الحسينية حبا للظهور، رياءا او سمعة، او لاظهار عضلاته او لاي سبب آخر، لا علينا، وهم طبعا الاقلية من بين الملأ.
      ان مثل هذا الصنف لا تنفع به ومعه حتى فتوى مرجع التقليد اذا ما حرم شعيرة من الشعائر الحسينية، مثلا، فما الداعي اذن لان اوجه خطابي (الفكري) او الثقافي اليه؟.
      ان مثله كمثل من يستعد للحج الى بيت الله الحرام وربما يصله قبل الحجيج، ليس حرصا منه على اداء مناسك شعيرة من شعائر الله تعالى، لا، وانما من اجل ان يسرق الحجيج او يفسد في الموسم او للتجارة فحسب او ما اشبه، فما الداعي ان نعلم مثل هذا مناسك الحج او ان ننبهه اذا اخطا في ركن من اركانه؟.
      جيم: لقد اختلف فقهاؤنا ومراجعنا في حلية او استحباب هذه الشعيرة الحسينية او تلك، ولكل منهم حججه الدينية والفقهية، وكم سيكون الامر رائعا اذا تركنا امور الشعائر الحسينية لهم لا يتدخل بها كل من هب ودب، خاصة وان بعض من يتدخل في شؤونها ليس ملتزما دينيا فلماذا يتدخل في امور الدين؟ بل ان البعض منهم (يساريا، ماركسيا، شيوعيا) فما له والشعائر الحسينية؟ يحلل هذه ويحرم تلك؟.
      والمضحك، ان بعضهم يتبنى نهجا (علمانيا) ويدير مواقع الكترونية (علمانية) الا انه في محرم الحرام تراه ينظم حملات توقيع ضد هذه الشعيرة او تلك، فما دخل (العلمانية) بشعائر الحسين عليه السلام يا ترى؟.
      ان على كل من يحرص على تنقية الشعائر الحسينية مما يسميها بالشوائب، ان يلتجئ الى مراجع الدين وفقهاء المسلمين لتحديد الموقف من اي منها، فالمصلحة تكمن في ان نحصر (الخلاف) حولها بين الفقهاء والمراجع من دون ان ننشر الخلاف ليتحول في احيان كثيرة الى اختلاف يفسد للود اكثر من قضية.
      لقد اعجبني رد احد (الخطباء) في احدى البلاد العربية عندما الح عليه الحاضرون بسؤالهم عن رايه ببعض الشعائر الحسينية، قائلا لهم: من منكم يقلدني اذا اصدرت فتوى بشان الشعيرة التي تسالونني عنها؟ فلم يحر احدا منهم جوابا، فقال لهم: فلماذا تسالونني اذن عن قضية تعتبرونها تعود الى فتاوى المراجع، وانتم تعلمون انني لست منهم؟.
      لقد كتب المفكر الاسلامي الشهيد آية الله السيد حسن الشيرازي قدس سره (اغتاله ازلام الطاغية الذليل صدام حسين في بيروت عام 1980) قبل اكثر من نصف قرن كتابا رائعا بعنوان (الشعائر الحسينية) شرح فيه بالتفصيل المباني الفقهية لكل شعيرة من هذه الشعائر، اتمنى على كل من تراوده الشكوك بشان اي منها ان يقرا هذا الكتاب، بغض النظر عما اذا كان سيقنع القارئ ام لا؟ الا انه بكل تاكيد سيرسم صورة مناسبة في الذهن ستساعد من يريد ان يتبنى رايا بشان الشعائر الحسينية بدرجة كبيرة.
      دال: ان من حق المرء ان يناقش ما يتعلق  بالشعائر الحسينية، شريطة ان يلتزم باخلاقيات الحوار، فلا يسب او يتهجم او يستهزئ او يكفر او يتهم من يمارسها بالشرك، كما يفعل الوهابيون الارهابيون، فحرية الراي مكفولة بلا شك في مثل هذه المواضيع اذا كان صاحبه مطلع على الموضوع ويريد فعلا ممارسة الاصلاح، اما ان يتوسل بالعنف والقتل والتفجير والتدمير لفرض رايه، وليمنع هذه الشعيرة او تلك، فهذا ما لا يقبل به عقل او منطق او ضمير او حتى دين، والذي قال تعالى بشانه {لا اكراه في الدين}.
      ان من يريد ان يؤثر ايجابيا في الموضوع عندما يخوض بالشعائر الحسينية، عليه ان يراعي حساسية الامر، وكذلك مشاعر الناس المؤمنين بها، فلا يطعن بما لا يؤمن به، ولا يخرج من الدين من يمارسها.
      هاء: قد تكون بعض الشعائر الحسينية وفدت الينا من هنا وهناك، من هذه الملة او من ذاك الشعب افهل في ذلك ضير؟ وهل ان مثل هذا يقلل من مصداقيتها او يطعن بشرعيتها؟ وهل ان كل وافد الينا هو موضع شبهة او اشكال شرعي؟.
      بالتاكيد كلا، فليس كل ما يرد الينا من خارج ثقافتنا سئ، فلقد اقر الاسلام الكثير من الشعائر التي كان يمارسها عرب الجاهلية بعد ان لم ير فيها ما يمس الدين وقيمه السامية واهدافه النبيلة، منها موضوع الاشهر الحرم وخصوصية يوم الجمعة التي شرع فيه صلاة الجمعة وغير ذلك.
      كما ان الكثير من علوم المسلمين وفدت من غيرهم، فاخذوا بها بلا حساسية ثم طوروها وبلوروها، فعلم المنطق، مثلا، وفد اليهم من (الفرس) اذ يذكر المؤرخون بان اول من استخدم علم المنطق هم الفرس الذين نقلوه الى المسلمين عندما اسلموا، فهل يعني ذلك اننا سنكره هذا العلم او نرفضه لمجرد ان اصله (فارسيا)؟ بل ان مؤسس مدرسة بغداد المنطقية اصله رومي واسمه (ابي بشر متي بن يونس) الفيلسوف المنطقي.
      كما ان الكثير من علوم اللغة العربية وعلوم الفلسفة والتفسير والحديث والعرفان والتصوف وغيرها وردت الى المسلمين من غير العرب، حملة الدين الاسلامي الاوائل، بل ان الكثير من كبار علماء اللغة والفقه والفلسفة هم من غير المسلمين، فما الضير في ذلك اذا كان الاسلام قد هضمها وطورها المسلمون بما ينسجم والدين وقيمه وثوابته؟.
      الا يعلم المسلمون ان مؤسسي المذاهب الاسلامية الاربعة، كلهم من الفرس على اغلب راي المؤرخين، او على الاقل ثلاثة منهم هم من الفرس؟ والا يعلم المسلمون ان اصحاب الصحاح، بل ان كبيرهم وابرزهم، وهو البخاري، فارسيا؟ فما الضير في ذلك؟.
      ان الدين وشعائره والعلم ومبادئه بلا هوية، لا اثنية ولا جغرافية، فليس المشكلة في ما يقول هذا العالم او ذاك، وانما تقع المشكلة اذا انحرف قوله عن قول الحق وقيم الدين ومبادئه الحقة، وهذا ما لم ينطبق البتة على الشعائر الحسينية بالتاكيد.
      يقول المفكر المغربي الدكتور محمد عابد الجابري في كتابه (نحن والتراث) ما نصه متحدثا عن ذلك:
      لقد اختار الغزالي من الفكر اليوناني، بل ومن التوراة والانجيل ومن التراث الفارسي والهندي ومن الاحاديث الموضوعة او المشكوك فيها، ما يستجيب لمشاغله واهتماماته، ويصلح لبناء رؤيته الخاصة التي املتها عليه معطيات عصره، بل المرحلة التاريخية التي عاش فيها.
      ومع ذلك فان الغزالي هذا يعده المسلمون والعرب تحديدا احد اعاظم فلاسفتهم، وهو بالمناسبة ليس بعربي وانما فارسيا من نيسابور.
      ويضيف في فقرة اخرى: واما الفكر السني والفكر الصوفي فان ايا منهما لم ينج من التاثير الحراني، نسبة الى عقيدة وفلسفة (الروحانيين) من صابئة حران، رغم عدائهما للفلسفة والفلاسفة، لقد قبل اهل السنة    على العموم التاويلات ذات المصدر الهرمسي الحراني لكثير من جوانب الحياة الروحية في الاسلام.
      ولقد ذهب عدد لا باس به من المؤرخين والمفكرين القدماء والمعاصرين الى ان (شيخ الاسلام) ابن تيمية اخذ عقائده من اليهود، خاصة ما يتعلق بفكرة التكفير التي بلورها عن نظرية (شعب الله المختار) التي يؤمن بها اليهود، ثم انتقلت الفكرة من جيل الى جيل الى ان وصلت الى (الحزب الوهابي) الذي يعتبر اتباعه انهم الوحيدون على حق وهم دون غيرهم من بني البشر الموحدون الحقيقيون والصادقون، ولذلك ذهبوا الى تكفير اتباع بقية المذاهب والاديان الاخرى، وجواز قتلهم واستباحة اعراضهم واموالهم، بعد نعتهم بالشرك واحيانا بالوثنية.    
      واو: ان تاريخ الشعائر الحسينية يشير الى انها تتسع اكثر فاكثر وتتجذر اكثر فاكثر كلما حاربها (النشامى) ولذلك فان من الافضل لهم، اذا ارادوا ان يقضوا عليها، ان يتركوا الناس وشانهم لتنطفئ جذوة الشعائر الحسينية شيئا فشيئا.
      وسيزداد التاثير الايجابي اتساعا وانتشارا اذا تدخل في شؤون الشعائر الحسينية النظام السياسي، ولقد راينا كيف ان بعض الانظمة السياسية ساعدت على نشر الشعائر الحسينية وتكريسها في المجتمع بتدخلها السافر في شؤونها، طبعا من حيث لا تريد، وليس تجربة الانظمة السياسية الفاسدة التي تعاقبت على الحكم في العراق، خاصة رئيس الوزراء ياسين الهاشمي الذي جند كل قواه البوليسية لمحاربتها ومنعها وكذلك الطاغية الذليل صدام حسين الذي قتل واعدم وطارد ودمر وامر بقصف المرقدين الطاهرين لسيد شباب اهل الجنة الحسين السبط واخيه ابا الفضل العباس عليهما السلام في مدينة كربلاء المقدسة، ببعيدة عنا.
      ولذلك، فان نصيحتي لكل من يحاول ان يدس انفه بهذا الموضوع، ان لا يتسرع في الامر، الا اذا قرر ان يساهم في نشر الشعائر الحسينية اكثر فاكثر، فسيجزيه الله عن الاسلام واهل البيت خير جزاء المحسنين.
      اما (اليساريون) فانهم من اشد الناس تاثيرا (ايجابيا) على الشعائر الحسينية اذا ما تدخلوا في شؤونها، لان الناس تعلموا بالتجربة ان ما يتدخل بامره هؤلاء يصلح دنياهم وآخرتهم، فهل يتصور (اليساريون) بان الناس سيقلدونهم في شؤون دينهم اذا ما ابدوا رايا في الشعائر الحسينية؟ وهم الذين خسروا الدنيا ولم يربحوا الآخرة؟ كيف ذلك والحكمة تقول (فاقد الشئ لا يعطيه) فمن لا دين له كيف يتوقع ان يقلده الناس في دينهم؟.
   زاي: لم يقل احد من العلماء والفقهاء بان الشعائر الحسينية اصل من اصول الدين الاسلامي، او حتى من اصول المذهب الشيعي، اي ان من لم يؤمن بها او يمارسها كما هي فهو كافر خارج عن الملة والدين، ويستحق ان يقام عليه حد الكافر او المرتد، لم يقل احد مثل هذا الكلام، ولذلك فان الناس مخيرون بين ان يمارسوها بكل اشكالها او ان يختاروا ما يشاؤون منها، كما ان لهم ان لا يمارسوا ايا منها، فان ذلك لا يطعن في دينهم ولا حتى في تشيعهم.
      ان اية شعيرة لا تعتبر جزءا من اصول الدين، يكون المرء مخير بين ان يمارسها او لا يمارسها، على الرغم من كل التشجيع والحث على ممارستها، فالشعيرة التي لا يتوقف عليها ايمان المسلم، كالصلاة او الصوم او الحج او غيرها من العبادات الواجبة، يكون المرء مخيرا ازاءها فلماذا كل هذا التهويل المضاد للشعائر الحسينية؟ لماذا لا نترك الناس وخياراتهم؟ لماذا لا نحترم خياراتهم؟.
      لقد اقام البعض الدنيا ولم يقعدوها بمجرد ان مسؤولا في العاصمة بغداد قرر اغلاق الملاهي الليلية غير المرخصة، وحجتهم في الحملة الشعواء التي شنوها ضده هي انه يحدد خيارات الناس، ويتدخل في تحديد خياراتهم، فلماذا اذن تتدخلوا في خيارات الناس ازاء كل ما يتعلق بالحسين السبط عليه السلام؟.
      لو ان امرءا قرر ان يمشي العمر كله من اجل الحسين عليه السلام، فما الذي يضير غيره في الامر؟ لماذا يتدخل الاخرون في خياراته؟ لا زال انه لم يؤذ احدا؟.
      اما اهم المؤاخذات التي يكررها (النشامى) في كل عام بشان الشعائر الحسينية، فهي على سبيل المثال لا الحصر:
      اولا: البكاء، فهم يستشكلون عليه على اعتبار ان من العيب بمكان ان يظل المرء يبكي على قضية مر عليها اكثر من (14) قرنا، فهل يعقل هذا؟.
      ان البكاء بحد ذاته رسالة، على عكس الضحك، والدليل على ذلك، فلو ان امرءا مر في طريقه على طفلة تبكي، انه سيبادر لا شعوريا الى السؤال منها عن سبب بكائها، ما يعني انها تمكنت من جلب انتباهه واثارة مشاعره نحو ازمتها بالدمعة ونجحت في ايصال رسالتها اليه عن طريق البكاء، اما اذا مر المرء على طفلة تضحك فهل سيبادر الى السؤال منها عن سبب ضحكها؟ بالتاكيد كلا.
      انك تتعاطف مع الدمعة بشكل لا ارادي، على عكس الضحك الذي لا يثير في نفسك فضول السؤال.
      هذا يعني ان الدمعة تحمل في طياتها رسالة ما للراي العام، ولذلك فهي امض سلاح بيد المظلوم دائما.
      وان من يبكي الحسين السبط منذ (14) قرنا انما يحمل بدمعته وببكائه رسالة حية ساخنة لم ولن ينتهي مفعولها مهما مر الزمان عليها، انه صاحب رسالة يحمل قضية مقدسة وعالمية.
      ان الدمعة على الحسين عليه السلام رسالة عظيمة لن ينطفئ اوارها ابدا، ولذلك ظلت كربلاء حية في نفوس الاحرار، فتحولت الى قبلة لهم ولكل من يبحث عن كرامته، انها اليوم رمز الكرامة والحرية.
      بالبكاء دامت ثورة الحسين السبط، وكسبت كل هذا التعاطف العالمي المستمر منذ اكثر من (14) قرنا من الزمن، وستحافظ على ديمومتها ما بقي الدهر والى يوم يبعثون، على الرغم من كل ما يبذله اعداء الحسين الشهيد لاطفاء نور نهضته المتوهج ابدا.
      وبالمناسبة، فليس هناك من بين الناس من ظل يواصل البكاء على الحسين عليه السلام طيلة (14) قرنا ابدا، فان اطول مدة يمكن لانسان ان يبكي على السبط الشهيد هو عمره الذي لا يتجاوز في احسن الفروض (60) عاما، فلماذا يستشكلون علينا باننا نبكي الحسين عليه السلام اكثر من (14) قرنا؟ فمن الذي عاش كل هذا العمر ليتهم بمثل ذلك؟.
      لقد بكى نبي الله يعقوب عليه السلام على ولده نبي الله يوسف عليه السلام اكثر من اربعين عاما وهو يعلم علم اليقين بانه لم يقتل او يمت وانما هو حي يرزق، الا انه ظل يبكي عليه حتى ابيضت عيناه من الحزن فهو كظيم حتى كاد ان يكون حرضا او يكون من الهالكين، على حد وصف القران الكريم، ولم يعترض عليه رب العزة والجلال، بل خلد دمعته لتكون انموذجا للبكاء الرسالي وللدمعة صاحبة الرسالة.
      ان مشكلة (النشامى) هي انهم لا يستوعبون مدى عظمة الجريمة التي ارتكبها بنو امية بحق سبط رسول الله (ص) سيد شباب اهل الجنة الامام الحسين بن علي بن فاطمة الزهراء عليهم السلام، وليس بمقدورهم ان يتصوروا عظم الجريمة وخطورتها على الاسلام وقيم السماء العظيمة، والا فلو تمكنوا من تصور الجريمة والظلم الذي وقع على الامام لبكوه الدهر كله، ولما جفت دموع مآقيهم ابدا.
      من منا يستطيع ان يسيطر على دموعه وهو يقرا رواية بتراجيديا انسانية؟ ومن منا لم يذرف دموعا ساخنة وهو يشاهد مسلسلا تلفزيونيا، او اي عمل درامي، عندما يمر عليه منظر القتل ظلما مثلا او التعدي على مظلوم بغير حق؟ على الرغم من ان اكثر هذه الاعمال الفنية خيالية ليس الا، الا ان البعد الانساني والاحاسيس والمشاعر التي يحملها الانسان هي التي تدفعه لان يتفاعل لا اراديا مع مثل هذه المشاهد.
      من منا لم يبك وهو يصغ الى راو يروي له قصة ماساوية حدثت لانسان؟ فما بالك اذا كان هذا الانسان سبط رسول الله (ص) وسيد شباب اهل الجنة ومعه اهل بيته واصحابه الميامين، وفيهم اكثر من 7 من صحابة رسول الله (ص) فضلا عن الطفل الرضيع والنساء والاطفال الصغار والشباب اليافعين؟.
      ان قصة انسانية ماساوية مثل قصة (تايتانك) لا يمتلك المرء ازاءها الا ان يغص بالبكاء لدرجة النحيب، على الرغم من ان بعضنا شاهدها اكثر من مرة، الا انه في كل مرة يتفاعل معها وكانها حدث حي يحصل الان، تعرض فيه عدد من الابرياء الى الموت غرقا في البحر، بالرغم من انهم كانوا في سفرة بارادتهم لم يجبرهم احد على ذلك، الا ان الابعاد الانسانية للقصة والتراجيديا التي تصاحبها هي التي تجبر المرء على ان يذرف دموع الحزن على تلك الارواح التي زهقت في تلك الحادثة الماساوية.
      فما بالك بالحسين السبط عليه السلام، الذي استشهد مع ثلة من اهل بيته واصحابه في صحراء كربلاء على يد جيش الضلال الاموي وبتلك الطريقة الماساوية التي ابكت العدو قبل الصديق؟.
      ان من له ذرة من المشاعر الانسانية لا يمتلك الا ان يجهش بالبكاء بمجرد ان يسمع القصة، فيا عجبا لمن يؤاخذ من يبكي على الحسين عليه السلام؟ الا ان يكون قلبه من صخر او حجر صلد وليس من لحم ودم ومشاعر انسانية.
      فضلا عن كل ذلك، فان الدمعة ترقق القلب وتنمي في النفس الرحمة، فلو ان الارهابي القاتل كان عنده من يبكي عليه كالحسين السبط لما قتل ضحاياه بدم بارد.
      ان لكل انسان عواطف جياشة تفلت من بين يديه في احيان كثيرة، فبدلا من ان يهدرها على موت كلب مثلا او ضياع ضبية او مقتل قرد، كما كان يفعل (خلفاء المسلمين) فان من الافضل له ان يبذلها في قضايا مقدسة تتعلق بحياته الدنيا فضلا عن الاخرة.
      ثانيا: يقول بعضهم انه بسبب ممارسة الشعائر الحسينية فان الكثير من الناس يتعرضون للقتل بسبب العمليات الارهابية التي ينفذها الوهابيون التكفيريون الارهابيون القتلة ضد كل من يحاول ان يبدي مودته لاهل البيت عليهم السلام.
      عجبا لمثل هذه المؤاخذة، فبدلا من ان يحتجوا على من يقتل الابرياء من دون سبب، يطالبون الضحية بان لا تمارس شعائرها، فمثلهم كمثل الذي يهجم على بيته لصا في منتصف الليل يسرق الحلي والاموال، وبدلا من ان يحكموا على اللص يحكموا على الضحية لانه ترك حليا او مالا في منزله.
      ثم، هل يعقل ان علينا ان نترك كل ما من شانه ان يسبب التضحية، او الضحايا؟ فاذن علينا:  
      الف: ان نمنع الناس من امتلاك السيارات، لان سياقتها تسبب سنويا آلاف الضحايا وملايين الدولارات بسبب حوادث المرور.
      ان في الولايات المتحدة لوحدها تقدر خسائر حوادث المرور سنويا باكثر من (6) مليار دولار فضلا عن مئات الالاف من القتلى والجرحى والمعوقين، فهل يعني ذلك ان على الحكومة الاميركية ان تمنع من اقتناء السيارات لهذا السبب؟ ام ان عليها ان تجد الحلول المناسبة لمشاكل السير للتقليل من حوادث السير، وبالتالي للتقليل من الخسائر المادية والمعنوية التي تسببها حوادث المرور سنويا؟.
      باء: ان نمنع كل انواع الرياضة في العالم لانها تسبب بحوادث مختلفة تزهق بسببها سنويا الالاف من الارواح البريئة.
      فلطالما تقاتل المشجعون للفرق المتنافسة، فسقط منهم قتلى وجرحى واهدرت اموالا طائلة بسبب ذلك، وكلنا يتذكر قصة مشجعي فريقي مصر والجزائر في العام قبل الماضي، وهو الحادث الذي اعتبره الرئيس المخلوع فرعون مصر بانه عمل يمس كرامة المواطن المصري.
      جيم: ان نمنع السفر بالطائرات لان الرحلات الجوية تتسبب بمقتل الالاف من المسافرين سنويا.
      وكذا نمنع السفر بالقطارات والبواخر لانها سبب مباشر من اسباب قتل الناس.
      دال: وقبل كل شئ، تعالوا نمنع الحروب التي يشنها الكبار ضد هذه الدولة او تلك، وبمسمى الشرعية الدولية.
      قولوا لي بربكم ايهما اكثر؟ ضحايا الشعائر الحسينية ام شعائر جنون التسلح في العالم؟ ضحاياها ام ضحايا السكر؟.
      لماذا رضينا بان يسقط المجتمع الدولي الطاغية الذليل صدام حسين وطاغية ليبيا الذليل هو الاخر؟ اولم يصحب عمليات الاسقاط هذه سقوط عدد كبير جدا من الضحايا؟.
      والربيع العربي، الم يتسبب بكل هذه الضحايا؟ والحربين العالميتين الم تتسبب بملايين الضحايا؟ والسعي لاقامة النظام الاشتراكي الشيوعي في الاتحاد السوفياتي المنحل، الم يتسبب بمقتل اكثر من (7) ملايين نفس بريئة، لمجرد ان القيادة المركزية للحزب الحاكم ارادت ان تطبق قانونا من قوانين النظام الاشتراكي؟.
      ولا ننسى هنا ضحايا التطرف الديني والانظمة الديكتاتورية البوليسية، فلماذا يدعم العالم المتحضر دول مثل المملكة العربية السعودية التي تحرض على التطرف الديني ليل نهار، ان من خلال المساجد والمدارس الموبوءة بمناهج التعليم التي تحرض على الكراهية والبغضاء والغاء الاخر والحقد، او من خلال فتاوى التكفير؟.
      اما ضحايا الحرية والديمقراطية فحدث عنهم ولا حرج، فهل يعني ذلك ان علينا ان نمنع الشعوب المقهورة من المطالبة باسقاط انظمتها الشمولية الديكتاتورية والحيلولة بينها وبين السعي لاقامة انظمة ديمقراطية تحترم حقوق الانسان وحريته وكرامته؟.
      دال: وطبقا لهذا المفهوم الاعوج، فان علينا ان نطالب باغلاق كل الكنائس في العالم بعد ان تم الكشف عن ضحاياها من الاطفال في اطار ما بات يعرف بفضائح الاعتداء الجنسي عليهم.
      لقد كتبت الصحف الاميركية في العام 2006 ان مطرانية لوس انجلس الكاثوليكية دفعت مبلغ 100 مليون دولار لضحايا الاعتداءات الجنسية من قبل القساوسة، كتسوية في مقابل تنازل هؤلاء الضحايا عن الترافع الى المحاكم الاميركية.
      هاء: واخيرا فان علينا ان نمنع الانجاب حتى لا ياتي الى هذا العالم اطفال تعساء جدد، لان ضحايا العنف ضد الاطفال سنويا في العالم بين 4 الى 10 مليون طفل، وان ضحاياهم بسبب الجوع اكثر من 10 ملايين طفل سنويا، كما ان مصروفات دولة كالولايات المتحدة الاميركية على العنف الاسري سنويا اكثر من 37 مليار دولار، بالاضافة الى 6 مليار دولار هي الخسائر الاقتصادية المترتبة على هذا النوع من العنف فقط.
      ثالثا: يدعي البعض بان بعض الشعائر الحسينية سبب لاستهزاء العالم المتحضر بديننا ومذهبنا، من دون ان يشيروا الى اية احصائية علمية بهذا الصدد لاثبات دعواهم، وللرد على هذه الشبهة اقول:
      الف: ان قصة الحسين السبط عليه السلام تزداد اتساعا وانتشارا في العالم يوما بعد يوم، وان الاقبال على ممارسة الشعائر الحسينية تنتشر في الافاق كل عام بل كل يوم، ففي تركيا وافريقيا على سبيل الفرض انتشرت الشعائر الحسينية بصورة ملفتة للنظر، فمن قال ان الشعائر الحسينية تسببت في انكماش وانحسار قصة كربلاء وعاشوراء؟.
      باء: لم نسمع او نقرا او نرى لحد الان اي كتاب او برنامج اذاعي او تلفزيوني او رسم كاريكاتيري انتقص من الاسلام بسبب شعيرة من الشعائر الحسينية ابدا، ولذلك فهي ليست من الاسباب التي يستشهد بها احد في هذا العالم للاستهزاء بالاسلام او للانتقالص من شعائره.
      ان كل ما يطعن ويستهزئ بالاسلام، سواء من كتب، كما هو الحال بالنسبة الى كتاب سلمان رشدي الموسوم بالايات الشيطانية، او من برامج تلفزيونية او اذاعية او من رسومات كاريكاتورية، كما حصل اكثر من مرة في الدانمارك وفي غيرها من دول العالم، او حتى قنوات فضائية وظفها اصحابها للطعن بالاسلام وتشويه اصوله وقيمه، ، انما مردها (الاحاديث المهزلة) التي ينسبها البعض لرسول الله (ص) او الفتاوى المضحكة التي يصدرها فقهاء البلاط ووعاظ السلاطين وفقهاء التكفير القابعين والمحميين بسلطة اسرة آل سعود الفاسدة ومن لف لفهم.
      اقروا كتاب الايات الشيطانية لتعرفوا ان مصدره المفضل الذي اعتمد عليه في سرد روايته هو الصحاح، خاصة صحيح البخاري، وتابعوا القنوات الفضائية المعادية، لتكتشفوا ان مصدرهم لتشويه الاسلام هو الصحاح، وسوف لن تسمعوا كلمة عن الشعائر الحسينية كمصدر من مصادر التشويه ابدا.
      ان الشعائر الحسينية لم تشوه سمعة الاسلام ابدا، وهاتوا لي دليلا واحدا يثبت ما تقولون، فـ (نحن اصحاب الدليل، اينما مال نميل) والله تعالى امرنا بالقول {قل هاتوا برهانكم ان كنتم صادقين} اما ان تطيروا الكلام على عواهنه وتخبطون خبط عشواء بلا دليل علمي رزين، فذلك مردود عليكم.
      انما الذي شوه سمعة الاسلام هي ممارسات واعمال جماعات العنف والارهاب التي ركبت الدين كمطية لتحقيق مآربها الخاصة على حساب قيم السماء العظيمة، انهم الارهابيون الذين يسوقون احاديث مكذوبة على رسول الله (ص) تبشرهم بالجلوس على طاولة العشاء في الجنة مع رسول الله (ص) اذا ما قتلوا كافرا، رافضيا كان ام مسيحيا ام يهوديا لا فرق.
      وان من شوه سمعة الاسلام هي ممارسات من يدعي الاسلام وانه خادم الحرمين الشريفين من ملوك وامراء اسرة آل سعود الفاسدة، ممارساتهم المشينة في بارات عواصم العالم ومقاهي القمار العالمية وقصص الفساد الاخلاقي والفضائح الجنسية.
      ان من شوه سمعة الاسلام هم القتلة والمجرمين الذين فجروا في نيويورك وباريس ولندن ومدريد، وقبل ذلك في العراق وافغانستان والهند والباكستان وغيرها من بلاد المسلمين.
  .    انهم من كبر قبل ان يحز رؤوس ضحاياه
      انهم اصحاب الفتاوى المضحكة التي ابكت الصديق واسرت العدو.
      ان الحريص على سمعة الاسلام عليه ان يقف بقوة ضد ممارسات هؤلاء الجهلة الذين اختطفوا الاسلام وصادروا حقوقه، لا ان ينشغلوا بما لم يثبت ابدا بانه سبب من اسباب تشويه سمعة الاسلام.
      رابعا: يدعي البعض بان الشعائر الحسينية تشغل الناس عن اعمالهم، وانها سبب للتاخر في انجاز الدولة لاعمالها ومشاريعها.
      اذن، فما بال الدول (العربية) والاسلامية التي لم يمارس فيها الشعب اي نوع من انواع الشعائر الحسينية انها متاخرة ولم تشهد اي تقدم او تحسن على اي مستوى من مستويات الحياة العامة؟.
      وفي العراق، ما باله تاخر وتخلف على كل الاصعدة زمن النظام الشمولي البائد؟ الم يمنع الطاغية الذليل الناس من ممارسة شعائر الحسين عليه السلام طوال العام؟ فلماذا تاخر وتخلف وتقهقر الى الوراء؟ ولماذا لم ياخذ هؤلاء على يديه الملطخة بدماء الابرياء يوم كان يفرض حروبه العبثية كل يوم على الشعب العراقي الابي؟ الم تكن حروبه تلك تشغل الناس عن اعمالهم وتعرقل انجاز مشاريع الدولة وتعطل الحياة اليومية؟ ناهيك عن تدمير البلاد والعباد؟.
      ان الناس يعرفون جيدا كيف ومتى يمارسون شعائر الحسين السبط عليه السلام بما لا يؤثر على الحياة العامة، واذا كان البعض ياخذ عليهم سيرهم على الاقدام في اربعين الامام الحسين عليه السلام والتي تاخذ وقتا طويلا قد يمتد الى اكثر من اسبوعين، فان ذلك يشبه الى حد بعيد العطلة السنوية التي تتمتع باجازتها كل شعوب اوربا والتي تمتد على طول الشهر الثامن، آب، من كل عام، من دون ان يدعي احد بان مثل هذه الاجازة الطويلة تعرقل سير الحياة العامة.
      ان الملايين من المسلمين يمارسون شعائر الحسين عليه السلام في دول العالم، اقصد في الغرب وفي الولايات المتحدة الاميركية وفي كندا واستراليا، من دون ان يحتج عليهم احد بان ذلك يعرقل سير الاعمال او يؤخر اشغال الناس.
      نعم، فان هذه الممارسات بحاجة الى تنظيم وترشيد، لينتفع بها الناس في حياتهم اليومية، من دون ان يعني ذلك التهجم عليها او الاستهزاء بها او الانتقاص منها، او اتهام من يمارسها بالكفر والشرك، لتبرير قتله.
      رابعا: يذهب البعض بالقول ان الشعائر الحسينية تحرض على العنف وبالتالي على الارهاب ربما، خاصة تلك التي يصاحبها منظر الدم.
      الف: لم يجبر احد احدا على ان يمارس ايا من الشعائر الحسينية (العنيفة) ولذلك فان من يمارسها لم يكره او يغصب عليها وانما يمارسها طوعا وبكامل ارادته.
      باء: ان العنف مسالة نسبية، فما يعتبره البعض عنفا لم يكن كذلك من وجهة نظر آخرين.
      خذ مثلا على ذلك، اخذ شعر اللحية بالخيط، فان البعض يمارسه بكل سهولة، على الرغم من انه قد يتسبب بخروج بعض الدم من الوجه، الا انه بالنسبة الى آخرين عنف شديد، لذلك لم يجرب في حياته ان يفعل مثل هذا الامر ابدا.
      جيم: ان الذي يمارس اية شعيرة من الشعائر الحسينية (العنيفة) انما يمارسها بنفسه ولنفسه ولم يمارسها بغيره، ولذلك فاذا صاحب الممارسة اي نوع من انواع العنف فانما يتحمل وزره من يمارسه دون غيره.
      دال: لم نسمع ابدا ان ارهابيا فجر نفسه او زرع عبوة ناسفة او ركن سيارة مفخخة في مكان مزدحم بالابرياء، ذكر بان الدافع وراء فعله العنفي الارهابي هذا مشاركته في احياء شعيرة من الشعائر الحسينية (العنيفة).
      فليس ممن يشارك في احياء الشعائر الحسينية ايا من الارهابيين الذين قادوا الطائرات التي نفذت هجمات الحادي عشر من ايلول عام 2001 في نيويورك، وليس ممن يشارك فيها ايا من عناصر حركة طالبان الارهابية التي قتلت على الهوية وحطمت التراث التاريخي في افغانستان، وليس ممن يشارك فيها ايا ممن ظل يقتل ويفجر ويدمر في العراق منذ سقوط الصنم في التاسع من نيسان عام 2003 ولحد الان.
      كذلك، فليس ممن يمارس الشعائر الحسينية، العنيفة وغير العنيفة، فقهاء التكفير الذين يصدرون فتاوى القتل والذبح والتدمير، القابعين في بلاط الاسر الفاسدة الحاكمة في دول الخليج، خاصة اسرة آل سعود الفاسدة.
      كما ان الاعلام الطائفي الذي يحرض على العنف والارهاب التابع لهذه الاسر، ليس ممن يحيي الشعائر الحسينية او حتى يشجعها او يحرض على ممارستها.
      اننا لم نسمع ابدا ان احدا يمارس الشعائر الحسينية (العنيفة) بادر الى قتل احد من المارة مثلا او من زملائه في العمل او المدرسة، لانه اصيب بعدوى العنف والارهاب جراء الشعيرة الحسينية.
      انها لم تعلم احدا العنف او تحث على الارهاب، بل على العكس، فانها ممارسات تطهر القلب من البغض والكراهية، وهي ترقق القلب وتطهره من ادران الهوى، كما انها تربي على حب الخير للاخرين والكرم والبذل في سبيل الله تعالى واطعام الفقراء والتذلل الى الله تعالى، كما انها تربي المرء على الكرامة والقوة والشجاعة والصبر وتحمل المشاق وكل صفات الخير.
      هاء: ولو فرضنا جدلا ان الواجب هو منع اية ممارسة او مؤسسة تحرض على العنف والارهاب، فتعالوا، اذن نمنع؛
      1ــ افلام الرعب التي غزتنا في عقر دورنا وفي مضاجعنا وفي غرف نوم اطفالنا، سواء من خلال الشاشة الصغيرة او الاقراص المدمجة او اشرطة الفيديو او غير ذلك.
      2ــ الالعاب الاليكترونية التي تسببت باصابة اطفالنا بالجنون جراء ما تحمل من مشاهد العنف والارهاب.
      3ــ الاغاني الحديثة التي اصابت الناس بالهوس والجنون لما تحمله من مشاهد العنف غير المعقول.
      4ــ منع عرض مشاهد الذبح من القفا بسكين عمياء والقتل بالساطور وتقطيع الاعضاء والتمثيل بالجثث وحرقها، وغير ذلك من الممارسات الارهابية التي تعرضها قنوات العنف والتحريض الطائفي يوميا، والتي حولت الارهابيين القتلة والذباحين الى نموذج للبطولة ليحتذي به الشباب اليافع.
      5ــ منع كل العاب الاطفال (العنيفة) خاصة تلك التي هي على شكل اسلحة ومتفجرات.
       6ــ واخيرا، فان علينا ان نطلب من الامم المتحدة ان لا تصدر اي قرار جديد يجيز للكبار استخدام القوة في حل النزاعات الدولية والاقليمية، فالحروب تقتل وتدمر وتشرد وتحطم كل شئ، انها عنف بامتياز.
      خامسا: يقول البعض بان الشعائر الحسينية تحولت الى تجارة، فهل صحيح ذلك؟.
      نعم، فالحسين السبط والشعائر الحسينية تجارة، لكنها مع الله تعالى ومع الاخرة وليس مع الدنيا، وليس في ذلك اي ضير، اولم يقل رب العزة في كتابه الكريم {يا ايها الذين آمنوا هل ادلكم على تجارة تنجيكم من عذاب اليم}؟ وقوله تعالى {ان الذين يتلون كتاب الله واقاموا الصلاة وانفقوا مما رزقناهم سرا وعلانية يرجون تجارة لن تبور}.
      اوليس الاتجار مع الله تعالى بالشعائر الحسينية وبغيرها من شعائر الله تعالى وفرائضه ونواهيه خير من الاتجار بالارهاب والاطفال والمخدرات والقمار والجنس والاعضاء والفن المبتذل والغناء الساقط والمسلسلات الفاحشة وسباق التسلح وادوات التعذيب التي يستوردها الطغاة لسحق ارادة الاحرار في مطامير السجون المظلمة؟.
      اوليس الاتجار مع الله تعالى خير من الاتجار بدماء الناس وارواحهم واعراضهم وعقولهم التي يستخف بها الطاغوت من خلال الاعلام المضلل، بتشديد اللام الاولى وكسرها؟ كما تفعل اسرة آل سعود الفاسدة التي تتاجر حتى ببيت الله الحرام ومواسم الحج والعمرة؟ كما انها تتجار بالفتوى الدينية المزيفة التي يصدرها فقهاء البلاط تحت الطلب؟.
      اوليس الاتجار بالشعائر الحسينية افضل من الاتجار باموال الشعوب المغلوب على امرها وباموال خيراتها في صالات القمار في عواصم الغرب وفي كازينوهات لاس فيغاس وغيرها، كما يفعل امراء الاسر الفاسدة الحاكمة في دول الخليج؟ خاصة اسرتي آل سعود وآل خليفة الفاسدتين؟.
      ان الهدف الاسمى لمن يمارس ايا من الشعائر الحسينية، هو التقرب الى الله تعالى من خلال تطهير القلب من ادران الشهوات بمختلف اشكالها، من دون ان يمنع ذلك من ان يستفيد لحياته الدنيا بعضا من الفوائد العرضية كالتي قال عنها رب العزة بقوله {وابتغ فيما آتاك الله الدار الاخرة ولا تنس نصيبك من الدنيا} من قبيل المنافع الدنيوية التي يحصل عليها المرء عند ادائه لواحدة من اعظم الفرائض الدينية، حج بيت الله الحرام، والتي تحدث عنها القرآن الكريم بقوله {واذن في الناس بالحج ياتوك رجالا وعلى كل ضامر ياتين من كل فج عميق* ليشهدوا منافع لهم ويذكروا اسم الله في ايام معلومات على ما رزقهم من بهيمة الانعام}. 
لكل شعب..عاشوراء
      يتساءل البعض، ربما، عن حاجتنا لعاشوراء في القرن الواحد والعشرين؟ فهل حقا اننا بحاجة الى الحسين بن علي عليهما السلام في هذا الزمن؟ وهل نحن بحاجة بالفعل الى حركة تشبه حركة عاشوراء في هذا الوقت؟.
      للاجابة على هذه الاسئلة، ينبغي علينا اولا ان نفهم جوهر عاشوراء وحقيقة حركة الامام الحسين عليه السلام، وماهية كربلاء لنعرف، من ثم، ما اذا كنا بالفعل بحاجة الى كل ذلك في هذا الوقت؟ ام لا؟.
      ان الحسين بن علي عليهما السلام منهج وليس شخصا، وطريقة وليس فردا، ورسالة خالدة وليس ماضيا او تاريخا سحيقا، ومثل وليس شذوذا، وتيار وليس عصبة، والى ذلك اشار عليه السلام عندما رفض البيعة للطاغية يزيد قائلا {انا اهل بيت النبوة، ومعدن الرسالة، ومختلف الملائكة، بنا فتح الله، وبنا ختم، ويزيد فاسق، فاجر شارب الخمر، قاتل النفس المحترمة معلن بالفسق والفجور، ومثلي لا يبايع مثله}.
      انه خط، والطاغية يزيد خط آخر، متناقضان في كل شئ، ولا يلتقيان في نقطة، ولا يتشابهان في شئ.
   خطان متوازيان لا يلتقيان مهما امتدا في الزمن، ومهما حاول البعض تضليل الراي العام من خلال السعي الحثيث لتبرئة الطاغية يزيد من دم الحسين عليه السلام.
      هذا من جانب:
      ومن جانب آخر، فان نهضة سيد الشهداء عليه السلام، هي حركة انسانية قبل ان تكون دينية او مذهبية او اي شئ آخر، فبقراءة سريعة لمنطلقات وادوات واهداف هذه النهضة، سنكتشف عمق البعد الانساني فيها، ما يعني انها تلبي حاجة الانسان في اي زمان وفي اي مكان، بغض النظر عن دينه او اثنيته او مناطقيته او لونه او جنسه او ما الى ذلك، فهي حركة انسانية من والى الانسان في الزمكان، ولذلك لا نجانب الحقيقة اذا قلنا بان كل شعب من شعوب الارض، متدينا كان ام غير متدين، مسلما كان ام غير مسلم، شرقيا كان ام غربيا، هو بحاجة الى عاشوراء في فترة من فترات تاريخه، والتي تتحدد، هذه الفترة، عندما:
      اولا: ينزو على السلطة حاكم بلا تفويض من الشعب او بالضد من ارادته.
      ثانيا: يسحق الحاكم حقوق الناس ويتجاوز على حرياتهم ويستاثر بخيرات البلاد وبكل فرص الخير.
      ثالثا: تستسلم المؤسسة الدينية لارادة الحاكم الظالم فتقف الى جانبه تبرر ظلمه وتجاوزه على حقوق الناس بفتاوى (دينية) تحت الطلب، تلبي حاجات السلطة، حتى اذا اقتضى الامر لي عنق الحق والحقيقة.
      رابعا: يسخر هذا الحاكم الظالم المؤسسة الاعلامية لخدمة مصالحه الخاصة ومصالح اسرته وزبانيته، فيتحول الى بوق يجهر بالظلم في لباس انساني مزيف.
      عندما يمر اي شعب من شعوب الارض بمثل هذه الظروف، فانه سيكون محتاجا الى نهج يشبه نهج عاشوراء، والذي يمكن تمييزه بما يلي:
      الف: عدم الاستسلام للظلم مهما كانت جبهة الحق ضعيفة، عدة وعددا، وجبهة الباطل قوية، عدة وعددا، ولقد ثبت الله تعالى هذه الحقيقة بقوله عز وجل {كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة باذن الله والله مع الصابرين}.
      ولقد اشار الامام الحسين السبط الى ذلك بقوله مخاطبا جيش الطاغية يزيد:
      الا واني زاحف بهذه الاسرة، مع قلة العدد وكثرة العدو.
      ويكون ذلك، عندما تكون هذه الفئة:
      اولا: على يقين من امرها، مؤمنة باهدافها، غير مترددة في اقدامها، فلا تتراجع اما الكثرة المضللة.
      ثانيا: مستعدة للتضحية، عارفة بان لكل هدف ثمن يجب ان يدفعه المرء اذا اراد ان يحققه، فتسترخص    النفس والمال والاهل من اجل القيم والمبادئ التي آمنت بها، فلا تنهار امام اغراء ولا تستسلم للضغوط.
       باء: اختيار الموت بعز على الحياة بذل، واختيار العار على النار، واختيار القتال حتى الاستشهاد على الاستسلام لارادة الظالم مقابل حفنة من الاطماع الدنيوية الزائلة، فـ {الموت في حياتكم مقهورين، والحياة في موتكم قاهرين} على حد قول امير المؤمنين عليه السلام.
      ولقد اشار الامام الحسين بن علي عليهما السلام الى ذلك بقوله {الا وان الدعي بن الدعي قد ركز بين اثنتين، بين السلة والذلة، وهيهات منا الذلة، يابى الله لنا ذلك ورسوله والمؤمنون، وجدود طابت، وحجور طهرت، وانوف حمية، ونفوس ابية، لا تؤثر طاعة اللئام على مصارع الكرام}.
      وفي خطاب آخر قال عليه السلام {لا والله لا اعطيكم بيدي اعطاء الذليل، ولا اقر اقرار العبيد}.
      وقال عليه السلام {والله لو لم يكن في الدنيا ملجأ ولا مأوى لما بايعت يزيد بن معاوية ابد}.
      جيم: مواجهة التزييف (الديني) والاعلامي الذي يسخره الظالم من خلال المؤسستين الدينية والاعلامية، وعدم ترك هذا التضليل يفل من عزيمة الانسان الثائر، او يؤثر في قناعاته.
      دال: الاستقواء بالقناعات الراسخة وليس بعدد الانصار، فالقناعة كنز لا يفنى، على حد قول الحكمة الماثورة، اما التحشيد فينبغي ان لا يؤثر في قناعات الانسان اذا كان صادقا مع نفسه، ولقد تحدث الامام السبط الشهيد عليه السلام عن ثباته وعدم الانهزام او التردد على الرغم من {خذلان الناصر} على حد قوله.
      هاء: الصبر على تحمل المشاق من اجل تحقيق الهدف، على حد قول الامام الشهيد {اصبر حتى يحكم الله بيني وبين القوم الظالمين} واسترخاص المال والنفس وكل شئ من اجل ذلك، على عكس ما يفعله البعض ثم ينتظرون النصر وتحقيق الهدف، كما يوبخ امير المؤمنين علي بن ابي طالب عليه السلام البخلاء والجبناء بقوله {فلا اموال بذلتموها للذي رزقها، ولا انفس خاطرتم بها للذي خلقها} والمثابرة على انجاز الخطة الى النهاية بلا تبديل او انحراف او زيغ.
      ان اي شعب من شعوب الارض يتبنى هذه الثوابت والقناعات والاهداف، انما هو يتمثل نهضة سيد الشهداء الامام الحسين بن علي عليهما السلام وثوابت كربلاء واهداف عاشوراء وان اختلف مع الامام في الدين او المذهب او الاثنية او المناطقية، لان الحسين (ع) كما اسلفنا، منهج وليس شخصا.
      ان نهضة سيد الشهداء تتمحور حول ثلاثة اسس رئيسية:
      الاول؛ هو الانسان.
      الثاني؛ هو اللاعنف.
      الثالث: ضد الظلم.
      بالنسبة الى المحور الاول، فان كربلاء ارادت ان تعيد الانسان الى سابق عهده كما خلقه الله تعالى، حرا، كما في قوله تعالى {يضع عنهم اصرهم والاغلال التي كانت عليهم} وكريما، كما في قوله تعالى {ولقد كرمنا بني آدم} يتمتع بارادة الاختيار بلا جبر او اكراه، كما في قوله تعالى {انا هديناه النجدين اما شاكرا واما كفورا} او في قوله تعالى {لكم دينكم ولي دين} ليكون مسؤولا على خياراته، كما في قوله تعالى {وقفوهم انهم مسؤولون} وفي قوله تعالى {ان السمع والبصر والفؤاد كل اؤلئك كان عنه مسؤولا} ومن الواضح فان الانسان لا يمكن ان يتحمل المسؤولية الا اذا كان حرا في خياراته، وقد منحه الله تعالى ذلك فعلا، كما في قوله تعالى {الذين يستمعون القول فيتبعون احسنه} او في قوله {وان احد من المشركين استجارك فاجره حتى يسمع كلام الله ثم ابلغه مامنه}.
      اما بالنسبة الى المحور الثاني، فان كل المصلحين عبر التاريخ ينطلقون بحركتهم التغييرية بشكل سلمي لا عنفي، وسلاحهم الوحيد في خوض هذه المعركة هو (الكلمة) اي المنطق والحوار والدليل والبرهان، كما في قوله تعالى {تعالوا الى كلمة سواء} الا ان الحاكم الظالم هو الذي يحول هذه المعركة (المنطقية) عادة الى حرب مسلحة يستخدم فيها كل انواع السلاح الفتاك ضد الخصم، المصلح هنا، لان الظالم عادة لا يمتلك من سلاح الحكمة والمنطق والحوار شيئا، والا لما ظلم ولما طغى، فانما يطغى الحاكم عندما يعييه المنطق فيتوسل بالسلاح الفتاك لمحاربة كل من يسعى للتغيير ويطالبه بالاصلاح.
      ولقد حدثنا القران الكريم عن الكثير من عمليات الاصلاح عبر التاريخ التي بداها مصلحون بطريقة سلمية، الا ان السلطات الحاكمة غيرت مجرى العملية الاصلاحية لتتحول الى عنف، يضطر المصلح في احيان كثيرة الى ان يلجا الى السلاح كرد طبيعي على القتل والذبح والتدمير الذي تمارسه السلطات الحاكمة، الا اذا شاءت ارادة الله تعالى ان يتدخل الغيب فياخذ على يدي الظالم لينهيه قبل ان يتورط بدماء الابرياء.
      فلقد حدثنا القران الكريم عن قصة موسى وهارون عليهما السلام عندما امرهما بالذهاب الى فرعون لابلاغه الرسالة فاوصاهما عز وجل بقوله {اذهبا الى فرعون انه طغى* فقولا له قولا لينا لعله يتذكر او يخشى} الا ان جواب الطاغوت كان قاسيا عندما رد على الكلمة اللينة بالعنف والقسوة والقوة يحدثنا عنها الله تعالى بقوله {فلاقطعن ايديكم وارجلكم من خلاف ولاصلبنكم في جذوع النخل}.
       وهكذا كانت نهضة سيد شباب اهل الجنة، انها حركة سلمية سلاحها المنطق والحوار وتخيير العدو قدر الامكان تجنبا لاراقة الدماء، ولكن عندما تاتي الاوامر من الطاغية يزيد بن معاوية ابن آكلة الاكباد هند، بان يقاتل جيشه الحسين عليه السلام قتالا اقله ان تطير فيه الرؤوس وترض الاجساد وتسبى النساء والاطفال، وعندما يخير الطاغوت المصلح بين الحرب او الذلة والقهر والعبودية، كما قال الحسين السبط {الا وان الدعي بن الدعي قد ركز بين اثنتين بين السلة والذلة، وهيهات منا الذلة} فلن يكون امام المصلح واهل بيته وصحبه الا الدفاع عن النفس اذ لا خيار الا القتل على الذلة والعبودية، لماذا؟ لانه {يابى الله لنا ذلك ورسوله والمؤمنون} على حد قول السبط الشهيد، وان كانت جبهتي الحق والباطل غير متكافئتين بالعدة والعدد، فالقضية هنا لم تعد قضية تكافؤ مادي ابدا وانما يعتمد الامر هنا على الايمان والثقة والصبر، مهما اختلفت الجبهتين، وهذا ما كان في كربلاء.
      ان نهج الحسين السبط في نهضته هو نهج الاسلام ونهج جده رسول الله (ص) الذي لم يبدا الكافرين والمشركين بقتال او حرب، ابدا، وهو نهج ابيه الامام امير المؤمنين عليه السلام، الذي لم يبادر الى قتال من نكثوا بيعته او تمردوا او خرجوا على سلطته الشرعية ابدا، الا بعد ان ولغوا بدماء الناس واعتدوا على حرماتهم وممتلكاتهم وسرقوا بيت المال لتجهيز جيوشهم بالسلاح والمؤن ولشراء الذمم والضمائر الميتة ولتشغيل ماكينة الدعاية السوداء لتضليل الراي العام.
      فالامام عليه السلام لم يذهب الى البصرة لقتال الناكثين بقيادة (ام المؤمنين) عائشة واثنين من (المبشرين بالجنة) هما طلحة والزبير الا بعد ان قتلوا الالاف واحرقوا بيوتهم واستولوا على بيت المال واعتقلوا وعذبوا عامل الامام على البصرة، عثمان بن حنيف، وحلقوا شعر راسه ولحيته، ثم بعثوه الى امير المؤمنين في المدينة، فلم يكن امام الحاكم هنا الا ان يتحرك لحماية رعايا حكومته، والا فلتمادى الناكثون في غيهم واهلكوا الحرث والنسل وقتلوا من قتلوا، وعندها لم يعد للحكومة من معنى ابدا، فالسلطة انما يريدها الناس لحمايتهم وحماية اعراضهم واموالهم، فاذا عجزت عن كل ذلك فالاولى بها ان تتنحى عن السلطة.
      ولو اكتفى الناكثون بالمعارضة السياسية السلمية، لما جهز لهم الامام جيشا لردعهم وايقافهم عند حدهم.
      كذلك فان الامام لم يجهز جيشه لقتال اهل الشام بقيادة المتمرد على سلطته الشرعية معاوية بن ابي سفيان ابن هند آكلة الاكباد الا بعد ان شن الغارة تلو الاخرى على اطراف دولة الامام فقتل ودمر وسبى وسرق واحرق، فلم يكن بدا للامام الا ان يذهب الى صفين لقتاله واعادة الامور الى نصابها، كما يصف عليه السلام الحال بقوله {ولقد ضربت انف هذا الامر وعينه، وقلبت ظهره وبطنه، فلم ار فيه الا القتال او الكفر بما جاء محمد صلى الله عليه وآله}.
      اما الخوارج الذين نكثوا بيعتهم للامام وخرجوا عليه بعد ان ارتكبوا اكبر خطا في حياتهم عندما خالفوا الامام ورفضوا الاستمرار في القتال ضد معاوية وجيشه ثم قبلوا بالتحكيم واصروا على ان يكون الاشعري هو ممثلهم في هذا التحكيم، كذلك فان الامام رفض ان يقاتلهم او يسقط اسماءهم من ديوان بيت المال او يمنعهم من المسجد، لازالوا لم يشهروا السيف بوجهه.
      لقد تمسك الامام بسلاح الحوار حتى آخر لحظة من حياته على الرغم من كل الضغوطات التي كان يمارسها ضده اقرب المقربين اليه، لانه لم يشا الخروج على قاعدة الاسلام التي جاء بها رسول الله (ص) والتي مارسها كل المصلحين من الرسل والانبياء الذين جاء على ذكرهم القران الكريم، فالرسول الكريم (ص) الذي كان على حق ومعه السماء التي توحي اليه كان يفترض الحق والباطل عند الفريقين فكان يقول للمشركين كما في قول الله تعالى {وانا او اياكم لعلى هدى او في ضلال مبين}.
      سال رجل الامام امير المؤمنين وهم في طريقهم الى البصرة: يا امير المؤمنين اي شئ نريد؟ قال {اما الذي نريد وننوي فالاصلاح ان قبلوا منا} قال: فان لم يقبلوا؟ قال الامام {ندعوهم ونعطيهم من الحق ما نرجو ان يرضوا به} قال: فان لم يرضوا؟ قال امير المؤمنين {ندعهم ما تركونا} قال الرجل: فان لم يتركونا؟ قال {نمتنع عنهم} واقتنع الرجل بكلام امير المؤمنين عليه السلام فتابع المسير.
      وواصل الامام محاولات الاصلاح من خلال الحوار والقاء الحجة تجنبا للقتال واراقة الدماء، لدرجة انه خرج لهم مرة حاسرا وبقميص واحد، وكان يكرر على اصحابه قوله عليه السلام {اللهم فاشهد، لا ترموا بسهم ولا تطعنوا برمح ولا تضربوا بسيف، واعذروا} حتى انهالت سهام القوم عليه وعلى اصحابه كالمطر وهو يصبر ويصابر ويحتسب ويقول لاصحابه {اعذروا الى القوم} حتى القى الحجة كاملة غير منقوصة.
      يقول اميرالمؤمنين عليه السلام في معرض رده وقد استبطا اصحابه اذنه لهم في القتال بصفين:
      اما قولكم: اكل ذلك كراهية الموت؟ فوالله ما ابالي، دخلت الى الموت او خرج الموت الي. واما قولكم شكا في اهل الشام، فوالله ما دفعت الحرب يوما الا وانا اطمع ان تلحق بي طائفة فتهتدي بي، وتعشو الى ضوئي، وذلك احب الي من ان اقتلها على ضلالها، وان كانت تبوء بآثامها.
      انه نهج الاصلاح اذن، فالمصلح لا يستعجل القتل على العكس من الحاكم الظالم الذي يقتل ثم يبحث عن المبرر، لان المصلح هدفه الانسان، اما الظالم فهدفه السلطة، ولذلك لم يستعجل امير المؤمنين عليه السلام ابدا القتال في اي من حروبه الثلاثة، لان هدفه كان الانسان الذي يسعى لانقاذه من التضليل والانحراف والعمى الذي يقوده في اغلب الاحيان الى الضياع في الدنيا وسوء العذاب في الاخرة.
      ذات النهج سار عليه الحسين السبط عليه السلام، فلقد سعى الى ان يؤخر المواجهة المسلحة مع السلطة الظالمة قدر المستطاع من اجل ان يكمل حجته على القوم الظالمين، مع ما له عليهم من الحجج البالغة، فلقد سعى الامام بتاخير المواجهة المسلحة الى ان يلقي الحجج الكاملة على من ضللتهم الدعاية الاموية السوداء والتي غسلت ادمغتهم بالاحاديث المكذوبة التي رووها عن رسول الله (ص).
      ففي اول مواجهة مع والي معاوية على المدينة، الوليد بن عتبة، آثر الامام ان يتخلص منه بالحسنى، فتكلم معه بكل لين ولطف درءا للمواجهة المسلحة، وعندما بادر مروان بن الحكم محرضا الوالي على قسر الامام على البيعة بتهديده بالقتل صعد الامام من لهجته للردع فقط وليس للمواجهة المسلحة، ثم تتالت كتبه وخطبه وحواراته مع القوم وبكل الطرق، فلقد اجتمع الامام في كربلاء وقبل المواجهة المسلحة بساعات حتى مع قائد الجيش الاموي عمر بن سعد بن ابي وقاص الذي حاول الامام ثنيه عن ارتكاب الاثم العظيم بقتله وقتل اهل بيته واصحابه، تارة بتذكيره بجده رسول الله وامه فاطمة الزهراء بنت رسول الله (ص) واخرى بالتعهد اليه بان يعوضه عن كل ما يمكن ان يخسره اذا رفض قتاله، الا ان الشيطان، على ما يبدو، كان قد ركب عقل القائد الاموي وروحه وكل كيانه ولذلك لم تمض فيه النصيحة ولم ينتفع بالحوار الذي منحه اكثر من فرصة للهرب من ارتكاب الاثم العظيم.
      لقد قال الامام لعمر بن سعد بن ابي وقاص في معرض حثه على ترك جيش البغي وعدم التورط بدمه:
      ويلك يا ابن سعد، اما تتقي الله الذي اليه معادك؟ اتقاتلني وانا ابن عمك؟ ذر هؤلاء القوم وكن معي فانه اقرب لك الى الله، فقال ابن سعد: اخاف ان تهدم داري، فقال السبط: انا ابنيها لك، فقال: اخاف ان تؤخذ ضيعتي، فقال الامام: انا اخلف عليك خيرا منها من مالي بالحجاز، فقال: لي عيال واخاف عليهم، وهنا اتضح للامام انه رجل ميت القلب، ميت الضمير، فرد عليه الامام بقوله {مالك، ذبحك الله على فراشك عاجلا، ولا غفر لك يوم حشرك، فوالله اني لارجو ان لا تاكل من بر العراق الا يسيرا} فرد ابن سعد مستهزءا: في الشعير كفاية.
      كما ان الامام ظل يلقي الحجة تلو الاخرى على جيش البغي في مسعى منه لثنيهم عن قتله، وبالفعل فلقد استجاب عدد منهم والتحق بجيش الحسين السبط عليه السلام كان على راسهم الحر بن يزيد الرياحي قائد القوة المسلحة التي بعثها الامويون لمنع الماء عن الحسين عليه السلام وقافلته قافلة النور والايمان، اما الاغلبية فقد كان شعارهم الاية الكريمة {افانت تنقذ من في النار} وكانهم يئسوا من رحمة الله تعالى ويئسوا من امكانية تغيير الذات واللجوء الى حرية الاختيار لانقاذ انفسهم من الورطة.
   في ذكرى عاشوراء هذا العام تحديدا، فان الشعوب العربية لجات، من حيث تريد او لا تريد، الى النهج الحسيني لتحقيق عملية الاصلاح، فها هو العالم العربي يشهد ربيعا زاهرا اراد الشارع ان يكون سلميا لا تراق فيه الدماء ولا يستخدم فيه العنف، يسير فيه على نهج الحسين السبط عليه السلام، الا ان النظام السياسي العربي الفاسد الذي يمثل الامتداد الطبيعي والتاريخي لسلطة بني امية الغاشمة والظالمة والفاسدة، ابت الا ان تكون نهضة الشعوب العربية هذه دموية عنفية وبامتياز، فلقد وغل النظام السياسي العربي الفاسد بدماء الابرياء من الذين خرجوا الى الشوارع مجردين من اي سلاح الا سلاح الكلمة مطالبين بالتغيير والاصلاح لاعادة الحرية والكرامة الى الشعوب المقهورة، فرد عليه النظام بمختلف انواع الاسلحة الفتاكة التي نزلت الى الشوارع من معسكراتها لترى النور لاول مرة، لتواجه صدور الناس العزل.
      ففي البحرين، مثلا، خرج الشعب عن بكرة ابيه بتظاهرات واعتصامات وتجمعات سلمية، لم يحمل فيها الناس غير حقوقهم الانسانية الطبيعية، من خلال الكلمة فقط، الا ان نظام اسرة آل خليفة الفاسد واجه الشعب الاعزل بالسلاح الفتاك، ثم استدعى قوات اسرة آل سعود الفاسدة لتساعده بسلاحها الفتاك على الشعب الاعزل.
      هكذا هو ديدن الطاغوت الاموي، منذ الطاغية يزيد والى اليوم، يواجه الكلمة بالرصاص، والمسيرات السلمية بالدبابات والطائرات، لانه اتفه من ان يقدر على الحوار مع الشعب بالكلمة والمنطق والراي، اذا ما طالبه بالاصلاح والتغيير.
      ان كل الشعوب العربية التي تحركت حتى الان ضد النظام السياسي العربي الفاسد توحدت في شعارها الذي يعبر عن اللاعنف بقولها (سلمية سلمية) الا ان بعض هذا النظام الفاسد سعى الى جرها لحمل السلاح لمواجهة سلاح السلطة، كما هو الحال مثلا في اليمن عندما دفعت اسرة آل سعود الفاسدة الشارع باتجاه العنف رغما عنه، من خلال مد اعوانها بالمال والسلاح للحيلولة دون تحقيق الهدف النهائي والمتمثل باسقاط الطاغوت واقامة البديل، الديمقراطية، لانها، اسرة آل سعود الفاسدة، تتوجس خيفة من الديمقراطية على حدودها، ولذلك فهي تحاول جر البلاد الى حرب اهلية مثلا او الى تحقيق توازن الرعب بين مختلف الاطراف في مسعى منها لاغراق البلاد بالدم، فقد يدفع ذلك الشعب اليمني الى ان يلجا اليها للتوصل الى حل تقبل به اسرة آل سعود الفاسدة وفي نفس الوقت يحقق بعض مطاليب الشعب، الا ان اليمنيين اثبتوا مرة اخرى بانهم اذكى من الاعيب آل سعود التي طالما ضحكوا بها على ذقون الشعوب العربية والاسلامية على حد سواء.
      سيتحرك بقية الشارع العربي لياتي على ما تبقى من النظام السياسي العربي الفاسد، وهو يستلهم جوهر حركته من عاشوراء التي ارادها الحسين عليه السلام سلمية ولا عنفية الا ان الامويين ابوا الا ان يلطخوا ايديهم وسلطتهم بالدماء الطاهرة لال الرسول (ص).
      فالنظام السياسي العربي الفاسد يتكون من شقين، الاول هو الانظمة الانقلابية العسكرية التي وصلت الى الحكم بالسرقات المسلحة (الانقلابات العسكرية) فهذه الانظمة اوشكت على الانتهاء تقريبا بعد ان سقطت اربعة من اكثرها دموية وهي انظمة الطغاة المستبدين في العراق وتونس ومصر وليبيا حسب التسلسل الزمني، اما الباقي منها فينتظر دوره وهو ثابت في موقعه في الصف، وعلى راسهم نظام الحكم في اليمن.
      اذا انتهى الشق الاول من النظام السياسي العربي الفاسد فسياتي الدور على الشق الثاني هو الانظمة الملكية التي تتوارث السلطة بالضد من ارادة شعوبها، طبعا على راس هذه النوع من الانظمة هي تلك الحاكمة في دول الخليج واخص بالذكر سلطة العائلتين الفاسدتين آل سعود وآل خليفة اللتان تعاونتا على ذبح الشعب البحريني الذي خرج الى الشارع بنهضة حسينية سلمية كادت ان تاتي على عرشي الاسرتين لولا الالة العسكرية الفتاكة التي نزلت الى الشارع وبضوء اخضر من ادارة الرئيس اوباما التي بات من الواضح انها تكيل بمكيالين، وهي اليوم تستخدم الشق الثاني من النظام السياسي العربي الفاسد، الملكي، للسيطرة على مسارات الربيع العربي، وذلك لاسباب ثلاثة:
      الاول: ارتباط مصالحها الاستراتيجية في المنطقة وامنها القومي بها، فهي ترى فيها الحليف الاستراتيجي والتقليدي الذي حفظ مصالحها الاستراتيجية طوال عقود من الزمن.
      الثاني: ولذلك فهي تسعى للبحث عن طرق تؤمن لها تغييرا سلميا ومسيطرا عليه وغير منفلت، ربما كعرفان بالجميل الذي فعلته هذه الانظمة لها، من جانب، وللحيلولة دون خروج ازمة الامور من بين يديها، من جهة ثانية.
      الثالث: لاستنزاف اموالها الطائلة وخيرات البلاد الطائلة على سياساتها ازاء الربيع العربي، والا ماذا يعني ان يتضخم دور(المحروسة) قطر لهذه الدرجة؟ الا ان تكون الولايات المتحدة الاميركية ومعها حليفاتها الغربيات، قد دفعت بها وباموالها الى الامام لتتستر هي خلفها، وبذلك تكون قد ضربت عصفورين بحجر:
      العصفور الاول؛ انها نفذت اجنداتها كما تريد بلا زيادة او نقصان، ولكن هذه المرة بواجهة عربية، وليس بواجهة غربية قد تتحسس منها الشعوب العربية.
      العصفور الثاني: استنزفت اموالها واموال بقية الانظمة في منطقة الخليج ما سيسهل عليها مهمة التغيير المرتقب في المنطقة، فمن جانب سوف لن يكون امام هذه الانظمة اية خيارات للعناد او الرفض، ومن جانب آخر فان البديل سياتي لها طائعا بعد ان يكون قد جاء الى السلطة مثقلا بالتزامات دولية ربما اقلها الديون.
      ان الانظمة الملكية، خاصة الحاكمة في دول الخليج، تلعب الان دور حصان طروادة وخازن بيت المال، تصرف على الربيع العربي بارادة غربية، اميركية تحديدا، وسينتهي مفعولها عندما تنتهي مهامها المرسومة لها في واشنطن ولندن وباريس، فعندها تقول لهم (الشرعية الدولية) او (الناتو) لا فرق (كش ملك) فيسقط الواحد بعد الاخر تباعا في مزبلة التاريخ، فهل ستنتبه هذه الاسر الى ما تفعله؟ ام انها مصرة على الجهل او تتجاهل؟ لا فرق.
      ان الشعوب العربية ارادت ان تغير النظام السياسي العربي الفاسد بطرق سلمية، الا ان الغرب، وبادوات عربية، خليجية على وجه التحديد، سعى لتوريطها بالدم لتنشغل بنفسها فلا تقوم لها قائمة.
      ولقد نجح الغرب في توظيف النظام السياسي العربي، الملكي تحديدا، في خدمة اهدافه، لتحقيق هذا الغرض ولذلك نرى اليوم ان كلا من: 1ـ المال الخليجي 2ـ الاعلام الخليجي 3ـ الفتوى الدينية (الخليجية) 4ـ السلطة الخليجية 5ـ خيرات البلاد الخليجية، كلها برسم الخدمة الغربية، تنفذ وتدعم وتساند اجنداته بالطريقة المرسومة لها، من اجل تدمير الربيع العربي والهروب من التغيير، من خلال تحويله وتغيير مساره الانساني من حركة مطلبية وحقوقية سلمية وشعبية، الى حركة عنفية، مصبوغة بلون الدم.
      انها محاولة من الاسر الفاسدة للهروب الى الامام، ظنا منها بان تقديم مثل هذه الخدمات الجبارة للغرب سيعفيها من التزام السقوط على يد شعوبها الثائرة، وما دروا بان التغيير بالكامل قادم لا محالة، وان موعدهم الصبح {اليس الصبح بقريب}؟. 
قراءات كربلائية
      لم يهتم رسول الله (ص) وائمة اهل البيت عليهم السلام بأمر، اهتمامهم بقضية سيد شباب اهل الجنة الامام الحسين السبط بن علي بن ابي طالب بن فاطمة الزهراء بنت رسول الله (ص) واستشهاده في كربلاء في العاشر من المحرم عام 61 للهجرة، على يد جيش البغي الذي بعثه الطاغية يزيد بن معاوية لمقاتلته والثلة الطاهرة من اهل بيته المنتجبين واصحابه الميامين.
      فالحسين السبط هو المولود الوحيد الذي بكاه جده حزنا يوم مولده، بعد ان استبشر به ضاحكا مسرورا.
      وهو الذي تحدث عن مستقبله جده رسول الله (ص) ما لم يتحدث عن اية قضية اخرى، وكانه كان يريد ان يرسم خارطة طريق الامة لحظة مولد حفيده الثاني مرورا بكل الحوادث المؤلمة التي ستمر عليها، وانتهاءا بمقتل السبط في كربلاء في عاشوراء.
      فلقد امتلأت كتب التاريخ بالكثير جدا من الانباء عن واقعة عاشوراء قبل وقوعها، كما انها امتلأت بروايات عن رسول الله (ص) ينبئ فيها عن الواقعة، منها ما ذكره مستدرك الصحيحين وتاريخ ابن عساكر ومقتل الخوارزمي والطبري والبلاذري والطبراني وابن سعد والذهبي والهيثمي والعسقلاني وابن كثير ومجمع الزوائد والفصول المهمة والروض النضير والصواعق المحرقة وكنز العمال والخصائص الكبرى ومثير الاحزان واللهوف، وغيرها، بالاضافة الى عديد الروايات عن امير المؤمنين ينبئ فيها عن الحدث.
      هذا قبل الواقعة، اما بعد الواقعة، فلقد استمر الاهتمام بالحدث من قبل ائمة اهل البيت (ع) ولعل من ابرز مصاديق هذا الاهتمام هو استحباب زيارة الحسين (ع) عند زيارة مراقد الائمة والمعصومين الباقين، وكانهم يريدون القول ان زيارة اي معصوم لن تكتمل وتظل ناقصة من دون زيارة السبط الشهيد.
        انه محور السلسلة الذهبية لاهل البيت عليهم السلام، ولقد جاء في قول اكثر من معصوم {كلنا سفن النجاة، ولكن سفينة جدي الحسين اوسع، وفي لجج البحار اسرع}.
      وليس في الامر عبث او غرابة، فلهذا الاهتمام سر وفلسفة، والا ففي تاريخ المسلمين الكثير جدا من الشهداء الابرار، كما ان في تاريخهم العديد من الايام العظيمة والحوادث الخطيرة، فلماذا الاهتمام بالحسين  (ع) تحديدا؟ ولماذا الاهتمام بعاشوراء دون غيره من الايام؟ اوليس في الامر سر؟ وفي الاهتمام فلسفة؟.
      ربما يمكن تلمس الجواب على هذه الاسئلة من خلال الانتباه الى ما اكد عليه اهل البيت (ع) عند حديثهم عن قضية الحسين السبط، فلقد تكررت عبارة (عارفا بحقه) في كل اقوالهم التي وردت على لسانهم لتوكيد سر الاهتمام بالامام الشهيد، كما في قول الامام جعفر بن محمد الصادق عليه السلام {من زار الحسين عارفا بحقه} ما يعني ان جدية الاهتمام بعاشوراء وبكربلاء وبالحسين السبط تتجلى في معرفة الحق الذي كان عليه الامام، الحق في رفض البيعة للطاغية يزيد والحق في الخروج للسلطة والحق في التصدي للظلم والحق في رفض الاستسلام والحق في التغيير والاصلاح والامر بالمعروف والنهي عن المنكر والحق في سعيه للسير بسيرة جده رسول الله (ص) وابيه امير المؤمنين عليه السلام، والحق في كل خطوة خطاها عليه السلام منذ لحظة وصول خبر هلاك معاوية الى المدينة المنورة وحتى لحظة استشهاده في عاشوراء عام 61 للهجرة.
      بمعنى آخر فان من يشكك في كل ما فعله الامام الشهيد، فانما لم يكن عارفا بحقه، وبالتالي فسوف لن يكون قادرا الى الاهتمام بقضية الحسين عليه السلام باي شكل من الاشكال، وهؤلاء هم الشريحة التي تمر عليهم الذكرى مرور الكرام، وربما تمر عليهم من دون ان يشعروا بها.
      ان اليقين باحقية الامام السبط عليه السلام، بداية التعبير عن الاهتمام بقضيته، اما الشك والريبة في اي حق من حقوقه فهو بداية تجاهل قضيته، ولذلك فان من يسعى لمحاربة الحسين (ع) من خلال التشكيك بنهجه او الاستهزاء والاستهتار بالشعائر الحسينية او حتى بمواقفه من البيعة للطاغية يزيد مثلا او ذهابه الى الكوفة او ما اشبه، وقول البعض من ان السبط قتل بسيف جده لانه خرج على (امام) زمانه، ان كل ذلك انما الهدف منه هو بث الشك والريبة والتردد في نفوس الناس لابعادهم عن عاشوراء، والا فكيف للمرء ان يهتم بكربلاء اذا كان شاكا في مواقف السبط؟ وكيف يمكنه ان يهتم بعاشوراء وقيمها واهدافها وعظمة هذا اليوم اذا كان شاكا في اهداف الحسين عليه السلام؟ او كان جاهلا في امره؟ او مترددا في الاعتقاد بنهجه؟.
   لقد ارتايت ان اقرا فلسفة الاهتمام هذه وسرها من خلال نصوص الزيارات الماثورة عن اهل البيت (ع).
      بمعنى آخر، ساحاول ان اقرا معالم مدرسة كربلاء التي خطها الحسين السبط (ع) بدمه الطاهر في عاشوراء، مع الثلة المؤمنة من اهل بيته واصحابه الميامين، وفيهم عدد كبير من صحابة رسول الله (ص) قتلهم الطاغية يزيد بلا اكتراث، من خلال نصوص الزيارات الماثورة.
   وقبل ذلك اود التنبيه الى ما يلي:
      اولا: ان قصة الحسين السبط هي قصة الاسلام، بما تحمل من تفاصيل الجهاد في سبيل الله من اجل صيانة حقوق الانسان الذي خلقه الله تعالى وكرمه كما في قوله تعالى {ولقد كرمنا بني آدم} ومن اجل تحريره من الجبت والطاغوت الذي يصادر ارادته، خاصة ارادة الاختيار التي بها يحاسبه الله تعالى يوم القيامة، اذ اعتبره مخيرا قادرا على تحديد مساراته في الحياة الدنيا بعقله وارادته وحريته، بعد ان هداه النجدين، من دون ان يجبره على احدهما، فقال عز من قائل {انا هديناه النجدين، اما شاكرا واما كفورا} فـ {لا اكراه في الدين}.
      ثانيا: ان قصة الحسين السبط هي قصة رسول الله (ص) وقصة خليفته الامام علي (ع) ولذلك فان من يستشكل بقوله لماذا كل هذا الاهتمام بيوم عاشوراء، وعدم الاهتمام بذات الدرجة بيوم استشهاد رسول الله (ص)؟ او بيوم استشهاد امير المؤمنين في محراب الكوفة؟ اوليس رسول الله (ص) اعظم من الحسين السبط؟ اوليس الامام علي اعظم منه؟ فلماذا كل هذا التحيز للحسين على حساب رسول الله وعلي؟.
     ان وراء مثل هذه الاشكالات والشكوك يد خفية يحركها الشيطان، فـ:
      الف: ومن قال ان رسول الله (ص) وعلي بن ابي طالب ليسا باعظم من الحسين السبط؟.
      لا يختلف اثنان على هذه الحقيقة ابدا، فالرسول الكريم هو اعظم من خلق الله تعالى من البشر، كما ان منزلة امير المؤمنين عليه السلام لا تضاهيها منزلة الحسين السبط ابدا.
      ثانيا: انما وقع الاختلاف بين الناس على مكانة وعظمة الحسين السبط وعظمة عاشوراء، فهو ما اختلف فيه الناس، لدرجة ان بعضهم يساوي بين السبط وبين الطاغية الارعن يزيد، او انه لا زال يسعى لتبرير جريمة الامويين وحادثة كربلاء، او انهم يسعون لتبرئة يزيد الطاغية من دم الحسين السبط من خلال تحميل اي انسان في هذا العالم المسؤولية الا يزيد.
        ان مثل هذه التساؤلات هي محاولة للتعامل مع عاشوراء كاي حدث في التاريخ، وبالتالي فهي محاولات لافراغ الحدث من محتواه العظيم الذي ميز بين جبهتين، جبهة الحق وجبهة الباطل، وللتقليل من خطر الجريمة النكراء التي ارتكبها الامويون بحق الاسلام بقتلهم الحسين السبط عليه السلام.
      وان من يثير مثل هذه التساؤلات من اجل تحقيق هذه الاهداف، هو نفسه الذي يسعى دائما الى التقليل من اهمية كل آية قرآنية نزلت بحق امير المؤمنين عليه السلام او رواية قيلت بحقه على لسان رسول الله (ص) او كل حدث عظيم كان فيه الامام علي دون غيره رجل الموقف، وكل ذلك من اجل تضييع الحق وتمييع الموقف الرسالي التاريخي، من جهة، ومن اجل ترك ظلال داكنة من الشك والريبة لتبرير مواقف الاخرين المخجلة التي لو كان لهم معشار ما لابي الحسن عليه السلام لاقاموا الدنيا ولم يقعدوها، وصدق الخطيب المبدع ورائد المنبر الحسيني المرحوم الدكتور احمد الوائلي عندما قال ذات مرة وهو يتحدث عن نوايا من يشكك باسلام ابو طالب عليه السلام والد الامام امير المؤمنين عليه السلام:
      لو ان ابا طالب كان ابا لمعاوية او لعمرو بن العاص لاقاموا الدنيا ولم يقعدوها، ولكان ابو طالب، عندها، اول القوم اسلاما واقدمهم ايمانا، ولكنه ابا علي، ولذلك انهال كل هذا التشكيك باسلامه.
      جيم: واخيرا، فان اي حديث عن الحسين (ع) هو حديث عن رسول الله (ص) الذي قال بحقه {حسين مني وانا من حسين} و {احب الله من احب حسينا} وان اي حديث عن عاشوراء هو حديث عن كل ايام رسول الله (ص) التي جاهد فيها الكفار والمشركين من اجل اعلاء كلمة الله تعالى ونصرة المظلومين والمستضعفين، وان اي حديث عن جريمة الطاغية يزيد بقتله الامام، هو حديث عن جرائم اسلافه من آبائه واجداده وجداته الذين قاتلوا جده رسول الله (ص) في مواطن كثيرة، ومن بعده قاتلوا ابيه في مواطن عدة.
      ان الحديث عن الحسين وعن عاشوراء وعن كربلاء هي مناسبة مستمرة للحديث عن رسول الله (ص) وعن مكة واالمدينة وعن ايام الجهاد والقتال التي قاد فيها رسول الله (ص) جيوش المسلمين ضد جيوش بني امية وباقي زعماء قريش المشركين والمعاندين، من اجل اعلاء كلمة الله تعالى ونصرة المظلومين، ولذلك فعندما سال الحسين السبط عليه السلام جيش الضلال الذي بعثه الطاغية يزيد لقتاله في كربلاء عن سبب مقاتلته له والدافع الذي يحرضهم على قتله، وهو الذي لم يقتل منهم احدا ولم يات ببدعة في دين جده رسول الله (ص) ولم يرتكب جرما او ياكل حق احد؟ اجابوه بقولهم: بغضا لابيك، ما يعني انهم كانوا بموقفهم يلخصون موقف السلف الطالح الذي قاتل جده رسول الله (ص) واباه امير المؤمنين (ع).
      ان عاشوراء لخصت كل تاريخ الاسلام والمسلمين خلال نصف قرن من الزمن، فلقد تجلت فيها كل القيم الرسالية والمناقب السماوية ومكارم الاخلاق التي بعث رسول الله (ص) ليتممها والمثل والطهر والايمان والاخلاص والتضحية في سبيل الله تعالى، والتي مثلتها جبهة الحق التي قادها الحسين السبط، فيما تجلى الكفر والفسق والضلال والانحطاط الاخلاقي والدونية وحب الدنيا والاستخفاف بالعقول والتهتك وهتك الحرمات في جبهة الباطل التي قادها الطاغية يزيد حفيد آكلة الاكباد هند لعنهما الله تعالى.
      وان اول خلق الهي عظيم تجلى في عاشوراء هو (الامر بالمعروف والنهي عن المنكر} الذي يقول عنه رسول الله (ص) انه من خلق الله تعالى، ولذلك نقرا في اكثر من نص في الزيارات قولنا نخاطب السبط الشهيد {وامرت بالمعروف ونهيت عن المنكر}.
      وتتكرر العبارة عند زيارة الشهداء السعداء الذي استشهدوا بين يدي الحسين السبط سواء من اهل بيته او من الاصحاب، فضلا عن تكرار النص عند زيارة اخ الحسين السبط وصاحب رايته في عاشوراء العباس بن علي بن ابي طالب، ابا الفضل وقمر بني هاشم عليه السلام.
      ولا نجانب الحقيقة اذا قلنا بان عاشوراء احيت الاسلام من جديد بهذا المبدا، الذي يقول عنه رسول الله (ص) {انما هلك من كان قبلكم لانهم لم يكونوا يامرون بالمعروف ولا ينهون عن المنكر} او قوله {من امر بالمعروف ونهى عن المنكر فهو خليفة الله في الارض، وخليفة رسوله}.
      ولذلك ثبته الحسين السبط في وصيته التي تركها في المدينة عند اخيه محمد بن الحنفية كاحد ابرز اهدافه العظيمة التي خرج من اجل تحقيقها، معرضا حياته وحياة اهل بيته واصحابه للخطر من اجلها.
      ولشد ما اهتم الاسلام بهذا المبدا من خلال توكيده في كل مصادره التشريعية بدءا من القران الكريم اذ قال الله تعالى في محكم آياته البينات:
      ولتكن منكم امة يدعون الى الخير ويامرون بالمعروف وينهون عن المنكر اولئك هم المفلحون.
      كنتم خير امة اخرجت للناس تامرون بالمعروف وتنهون عن المنكر.
      يا بني اقم الصلاة وامر بالمعروف وانه عن المنكر واصبر على ما اصابك ان ذلك من عزم الامور.
      والمؤمنون والمؤمنات بعضهم اولياء بعض يامرون بالمعروف وينهون عن المنكر.
      ومن وصايا امير المؤمنين عليه السلام لولده محمد بن الحنفية قوله {وامر بالمعروف تكن من اهله،       فان استتمام الامور عند الله تبارك وتعالى الامر بالمعروف والنهي عن المنكر.
      ولتوكيد موقع هذا الخلق في المنظومة الجهادية يقول عليه السلام {ما اعمال البر كلها والجهاد في سبيل الله عند الامر بالمعروف والنهي عن المنكر، الا كنفثة في بحر لجي} لانه يحقن الدماء ولا يدفع باتجاه الحروب والدمار ويساهم في الاصلاح السلمي غير العنفي والدموي، فهو كالوقاية من الظلم والفساد والطغيان، التي هي خير من العلاج.
      وكذلك قوله عليه السلام {وان الامر بالمعروف والنهي عن المنكر لخلقان من خلق الله سبحانه، وانهما لا يقربان من اجل، ولا ينقصان من رزق}.
     ويقول عليه السلام {فان الله سبحانه لم يلعن القرن الماضي بين ايديكم الا لتركهم الامر بالمعروف والنهي عن المنكر، فلعن الله السفهاء لركوب المعاصي والحلماء لترك التناهي}.
      لقد شرع الله تعالى الامر بالمعروف والنهي عن المنكر كخلق اجتماعي يقوم، بتشديد الواو، المجتمع بما في ذلك السياسة وكل ما يتعلق بالشان العام، وما يتعلق بمصالح الناس، الا ان الامة، وللاسف الشديد، قلصت المفهوم لتحصره في اطر ضيقة لا تتعدى نهي البنت اذا ظهر شئ من شعر راسها، ليصب الناهي على راسها جام غضب الله تعالى الذي سيعلقها من شعر راسها منكوسة الى الاسفل في نار جهنم يوم القيامة، اما اذا بادر لصوص مسلحون لسرقة البلد في انقلاب عسكري في منتصف الليل فهذا ليس بمنكر ابدا، ولذلك ليس هناك من داع لانكاره، وفي احيان كثيرة لا يحق لاحد ان ينكره، والا فسيعرض نفسه للاعتقال وربما للقتل، اعتمادا على فتوى (دينية) تصدر عن فقهاء البلاط الذين يسخرهم اللصوص لشرعنة لصوصيتهم، كما يفعل النظام السياسي العربي الفاسد، خاصة الاسر الفاسدة الحاكمة في دول الخليج، وعلى راسها اسرة آل سعود واسرة آل خليفة ومن لف لفهما.
      ان بالامر بالمعروف والنهي عن المنكر، والذي يعني بلغة اليوم (المراقبة والمساءلة) تقام الحقوق.
      انه اساس بناء نظام الشورى وضد التوريث، فاذا كانت الديمقراطية تعني ان يكون المجتمع مؤثرا في سياسات السلطة وخياراتها، فان مبدا الامر والنهي هو الذي يمنح الامة هذه القدرة على التاثير في السياسات العامة، ولو كان الخليفة الثالث قد قبل من الصحابي الجليل والعظيم ابي ذر الغفاري ممارسته حق الرقابة وحرية التعبير عن الراي، اي لو قبل منه ان يتمتع بحقه في ممارسة الامر بالمعروف والنهي عن المنكر، لما وصلت امور الدولة الى ما وصلت اليه لتنتهي بقتل الخليفة واثارة تلك الفتنة العمياء في الامة.
      وان من ابرز مصاديق الامر بالمعروف والنهي عن المنكر، هو حق الرعية في مراقبة مؤسسات الدولة والمسؤولين بغض النظر عن انتماءاتهم وولاءاتهم، وان قدرة الناس على عزل مسؤول ما بسبب فساد مثلا او فشل او لصوصية، لهو اكبر دليل على قرب النظام السياسي من النهج الحسيني ومن الديمقراطية وادواتها.
      كذا الحال بالنسبة الى الاعلام، فاذا كان قادرا على ملاحقة الخطا والفساد والفشل الى عقر داره، ثم تمكن من فضحه وكشفه امام الراي العام، وبالتالي تمكن من وأده وعزل المسؤول المتسبب به، عندها سنكون قريبين جدا من النهج الحسيني والنظام الديمقراطي، اما اذا كان الاعلام بوقا من ابواق السلطة، يكرر ما تقوله ويكذب على الراي العام اذا اقتضت الضرورة لانقاذ مسؤول فاسد مثلا من العقاب، فهذا يعني اننا بعيدين عن نهج الحسين السبط وعن الديمقراطية مسافة طويلة جدا.
      ولقد نجحت عدد من الشعوب العربية لحد الان في اسقاط الانظمة السياسية الاستبدادية الفاسدة، والتي كانت تكمم الافواه وتقمع الراي الحر وتصادر حق المواطن في التعبير عن نفسه، فهل انتهت المهمة عند هذا الحد؟.
      بالتاكيد كلا، اذ ان عليها ان تواصل مشوار الثورة على مخلفات الانظمة البوليسية البائدة من اجل بناء نظام سياسي جديد يعتمد:
      المشاركة السياسية، من اجل ان لا يحتكر احد، فردا كان او حزبا او عائلة، السلطة ابدا، لان الاحتكار، بكل انواعه وباية مبررات او ذرائع كانت، سيفضي الى استخدام العنف والقوة في فرض ارادة الحاكم، ما ينتهي بالبلاد مرة اخرى الى الاستبداد والديكتاتورية والنظام الشمولي.
      وليس المقصود بالمشاركة السياسية هو ان يكون كل المجتمع في السلطة، ابدا، وانما يعني:
      الف: قدرة كل مواطن مؤهل لان يكون في يوم من الايام في السلطة، وهذا يعني مبدا المساواة في الحقوق والواجبات.
      باء: قدرة كل مواطن في ان يبدي رايا ما في اية قضية من القضايا العامة التي تهم المجتمع، سواء من خلال وسائل الاعلام او من خلال التجمع والتظاهر والخطاب وغير ذلك.
      جيم: قدرة اي مواطن على ان يشكل مع الاخرين مجموعات ضغط للتاثير في سياسات السلطة وخياراتها، سواء من خلال تشكيل الاحزاب او منظمات المجتمع المدني من نقابات مهنية وغيرها.
      ان تشريع مبدا (الامر بالمعروف والنهي عن المنكر) اي (المساءلة والمحاسبة) يكرس مبدا التغيير السلمي في السلطة، والذي يسمى اليوم بمبدا التداول السلمي للسلطة، فبدلا من ان يضطر الشعب الى تغيير الحاكم بالقوة وربما بالمؤامرات والانقلابات العسكرية واحيانا بالاستعانة بالقوى الاجنبية، فان المبدا سيمكنه من ممارسة التغيير بالتي هي احسن، من خلال صندوق الاقتراع مثلا او بالتظاهرات والاعتصامات السلمية او حتى من خلال الاعلام الذي سيمارس قدرته على التغيير من خلال الكلمة والتقرير والمعلومة، كما يحصل في بلدان العالم الديمقراطي.
      كما ان تشريع المبدا يعني فيما يعنيه جواز عزل الحاكم اذا رات فيه الامة خيانة او فشلا، وهو على عكس ما سعى بنو امية الى تشريعه من عدم جواز الخروج على الحاكم حتى اذا كان فاسقا، والطعن بشرعية اية محاولة من قبل الامة للخروج على الحاكم الظالم، اما الاسلام، الذي نموذجه مدرسة اهل البيت عليهم السلام، فقد شرع التغيير والخروج على الحاكم اذا ظلم وتجاوز على حقوق الناس بلا مواربة، والى ذلك اشار الامام الحسين السبط عليه السلام بقوله مخاطبا الجيش الذي مع الحر بن يزيد الرياحي، معللا سبب خروجه على النظام السياسي الفاسد، النظام الاموي {ايها الناس ان رسول الله (ص) قال: من راى سلطانا جائرا، مستحلا لحرام الله، ناكثا لعهد الله، مخالفا لسنة رسول الله، يعمل في عباد الله بالاثم والعدوان، فلم يغير ما عليه بفعل ولا قول كان حقا على الله ان يدخله مدخله، الا وان هؤلاء قد لزموا طاعة الشيطان وتركوا طاعة الرحمن، واظهروا الفساد وعطلوا الحدود، واستاثروا بالفئ، واحلوا حرام الله، وحرموا حلاله، وانا احق من غير}.
      هذا النص، الذي ينبثق عن روح الاية الكريمة {لا ينال عهدي الظالمين} يمنح الشرعية للحاكم اذا كان عادلا، بغض النظر عن اي شئ آخر، اما اذا كان ظالما، فلا شرعية له حتى اذا كان (خليفة رسول الله) ولذلك فنحن نعتقد باحقية امير المؤمنين عليه السلام في استخلاف رسول الله (ص) ليس لكونه ابن عمه وصهره وما الى ذلك من المميزات العظيمة بذاتها، وانما لانه اعدل وافقه واعلم من كانوا من الصحابة، وما يؤكد هذه الحقيقة، الى جانب ما ورد على لسان رسول الله (ص) بحقه، هو ان كل من قاتل الامام او خرج عليه او نقض بيعته او خذله في موطن او اكثر، ان كل هؤلاء لم يفعلوا ذلك بسبب ظلم وجدوه في سيرته ابدا، فالكل يشهد له بالعدل، بمن فيهم معاوية، فاحقية واهلية الامام في السلطة والحكم بعدله وليس باي شئ آخر، وهو القائل لعبد الله بن عباس عندما رآه عليه السلام يخصف نعله بذي قار، فساله الامام: ما قيمة هذا النعل؟ فاجابه ابن عباس: لا قيمة لها، فقال عليه السلام {والله لهي احب الي من امرتكم، الا ان اقيم حقا، او ادفع باطلا}.
      لماذا لا ينتهي الحاكم في بلادنا الا بالقتل والسحل والاغتيال؟ ولماذا لا يشيع بالمواكب الرسمية؟ ولماذا لا تعزف خلف جنازته انغام الموسيقى الحزينة؟ ولماذا لا يبكيه الشعب عندما تنتهي صلاحيته؟ وبعبارة اخرى، لماذا يختم الحاكم عندنا حياته بموت التافهين؟ بلا كرامة وبلا حياء وبلا تقدير وبلا ذكر طيب؟.
      لماذا ارتبط مصير البلاد بمصير الطاغية؟ فاذا ارد احد ازاحته عن السلطة وتغيير نظامه، كان عليه ان يدمر البلاد قبل ان يتحقق له ذلك؟ كما لو ان احدا اراد ان يغير مقعد مرافق بيته، اذ عليه ان يحطم المرافق كلها ليتسنى له تغيير المقعد، على حد قول احد المواطنين، اما في الغرب فان تغيير مقعد المرافق لا يستدعي اكثر من تغيير برغيين فقط لا غير من دون المساس بالمرافق.
      لو شرع النظام السياسي الحاكم في بلادنا مبدا (الامر بالمعروف والنهي عن المنكر) لحفظ الكرامة لنفسه ولشعبه، ولكان ينهي حياته السياسية بعز وكرامة، ولكنه عندما يرفض ان يصغ الى الراي الاخر، ولا يقبل من احد نصيحة او نقد، ولا يسمع الا اصداء احاديثه التاريخية التي يخطب بها القائد الضرورة امام الملأ الذي عليه ان يسمع فقط لينفذ، ولتتحول عباراته غير المفهومة الى منهج تعليمي تسطره كتب المناهج التعليمية في المدارس والجامعات التي يحصل كثير من الطلاب على شهادات الدراسات العليا بكتابة الرسائل الجامعية في خطب السيد الرئيس وبيانات القائد الضرورة، فبالتاكيد انه سيموت بلا كرامة، وهو حال الطغاة المعاصرون من امثال صدام حسين وبن علي ومبارك واخيرا وليس آخرا القذافي، الذين ماتوا او سيموتون بذل وهوان، والقائمة تطول لتشمل قريبا طغاة آخرون من بينهم ملوك وامراء الاسر الفاسدة الحاكمة في الخليج وفي غير الخليج.
      ان الديمقراطية التي من ابرز معالمها مبدا (المحاسبة والمساءلة) ضمانة اكيدة لكرامة الحاكم الذي سيعود الى منزله مع اسرته معززا مكرما بعد ان تنتهي ولايته الدستورية، حتى اذا كان قد اخطا او فشل او ارتكب جرما، فهو في هذه الحالة سيلقى معاملة كريمة امام القضاء كما هو حال الكثير من زعماء البلاد الديمقراطية من الذين يستدعيهم القضاء بعد انقضاء مدد متفاوتة على تركهم السلطة عندما يكتشف القضاء انه كان قد مارس استغلالا سيئا للسلطة عندما كان حاكما او مسؤولا.
      اما في بلداننا، اليمن مثلا، فالحاكم الظالم يخشى ان يستدعيه القضاء لانه لا يقدر على دفع تهمة ولا يتمكن من الدفاع عن نفسه لكثرة ما ارتكب من ظلم وتعدي على الناس، ولذلك نرى ان طاغوت اليمن السعيد يواصل قتل شعبه حتى يضمن له عدم الاستدعاء للمثول امام القضاء والحيلولة دون اية ملاحقة قانونية، يستجديها من الولايات المتحدة او بريطانيا او من الامم المتحدة، وهو الذي كان الى الامس القريب يبيع المواقف الوطنية للراي العام عندما كان يرفض تدخل هؤلاء في الشان اليمني، معتبرا ذلك مس بسيادة البلاد، فاين السيادة اليوم يا ترى؟ وهو يطلب من العالم ان يضمنوا له الحصانة القانونية على ورق مختوم جراء ما ارتكبه من جرائم؟.
      انه يعلم علم اليقين من انه لو مثل امام القضاء فسوف يلاقي مصيرا كمصير طاغوت العراق الذليل صدام حسين، الذي ارتكب ضد شعبه من الجرائم ما لم يرتكبه طاغوت، فهل من معتبر؟.
      ولذلك، اعتقد ان من مصلحة (الحكام) الجدد الذين استخلفهم الله تعالى بعد هلاك طغاة بلدانهم، خاصة في العراق وتونس ومصر وليبيا، ان يشرعوا بانفسهم مبدا التداول السلمي للسلطة ليتركوها طوعا قبل ان تجبرهم شعوبهم على تركها كرها، ففي الحالة الاولى سيحفظون كرامتهم ويصونون ماء وجههم، اما في الحالة الثانية فسيخسرون كرامتهم وماء وجههم، كما سيخسرون الدنيا، السلطة، والاخرة، غضب الجبار.
      ان احتكار السلطة بذرائع شتى، سيعرض الحاكم لفقدان الذاكرة، ما يفقده الموت بكرامة وعز، فماذا ستختارون ايها الحكام الجدد؟ الموت باحترام وعز وكرامة؟ ام الموت الذليل؟.
      وصدق الله تعالى الذي قال في محكم كتابه الكريم {لقد كان في قصصهم عبرة لاولي الالباب ما كان حديثا يفترى ولكن تصديق الذي بين يديه وتفصيل كل شئ وهدى ورحمة لقوم يؤمنون} فالمرء الذي يتعلم من سير اسلافه، يرحم نفسه قبل ان يرحم غيره، فتعلم العبرة يجنب المرء موت الذل، فهل من مدكر؟.
عاشوراء..رسالة الديمقراطية
      في عاشوراء عام (61 هـ) شهدت الأرض (كربلاء على وجه التحديد) أخطر عملية إرهابية مروعة، كان ضحيتها سبط رسول الله (ص) وسيد شباب أهل الجنة، سيد الشهداء الإمام الحسين بن علي (ع) أسست للإرهاب السلطوي الذي امتد، بمرور الزمن ، لجماعات العنف والإرهاب والتطرف، التي تتلبس بلبوس الإسلام وتوظف قيمه النبيلة لتحقيق أغراضها الدنيئة، وليحصد أرواح الأبرياء على مدى قرابة أربعة عشر قرنا.
      لقد لخص الحسين (ع) جوهر رسالته، بقوله عليه السلام {إني لم اخرج أشرا ولا بطرا ولا مفسدا ولا ظالما ، وإنما خرجت لطلب الإصلاح في أمة جدي ، أريد أن آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر، فمن قبلني بقبول الحق فالله أولى بالحق ، ومن رد علي هذا ، أصبر حتى يقضي الله بيني وبين القوم بالحق ، وهو خير الحاكمين}.
      إنه الإصلاح الذي تحتاجه الأمة كلما شهدت في حياتها إنحرافا أو زيغا عن طريق الصواب، أو كلما حاولت السلطة (المفروضة على الناس بالإكراه ، أو المنتخبة من قبلهم ، لا فرق) تسخير القيم النبيلة، لخدمة أغراض أنانية لا تخدم الناس، ولا تساهم في عملية النهوض والبناء والتنمية.
      والإصلاح، الذي هو جوهر رسالة الحسين (ع) مسؤولية، والمسؤولية لا يتصدى لها المرء بالإكراه أبدا، لأن الإكراه عنف، والعنف مرفوض في الإسلام، بنص القرآن الكريم الذي يقول {لا إكراه في الدين، قد تبين الرشد من الغي}.
      وبالنسبة إلى عهد الحسين (ع) فإن الانحراف الذي كان بحاجة إلى الإصلاح، تلخص في ثلاثة مستويات:
      الأول ــ الانحراف في القيادة، عندما تبوأ مقعد السلطة، طاغية أرعن متحلل مستبد بنظام شمولي، هو يزيد بن معاوية، الذي ما دخل الإيمان في قلبه طرفة عين أبدا، والذي وصفه الإمام الحسين (ع) بقوله لواليه على المدينة المنورة عندما طلب منه البيعة {أيها الأمير، إنا أهل بيت النبوة، ومعدن الرسالة، ومختلف الملائكة، بنا فتح الله، وبنا ختم، ويزيد فاسق، فاجر، شارب الخمر، قاتل النفس المحترمة، معلن بالفسق والفجور، ومثلي لا يبايع مثله} وإذا بهذا اليزيد، يتبوأ منصب خليفة رسول الله (ص) بإرادة ملكية سامية، ما أنزل الله بها من سلطان، صدرت عن أبيه معاوية بن أبي سفيان ـ ابن آكلة الأكباد ـ الذي حول الخلافة، من الشورى إلى ملك عضوض يتلاقفه صبيان بني أمية (الشجرة الخبيثة) كما صرح ابوه، ابو سفيان، بذلك.
      فعندما يتبوأ طاغوت، مقعدا ليس له أهلا، لا من الناحية الشرعية ولا من الناحية القانونية ولا حتى من الناحية الواقعية، يلزم على الأحرار التصدي لمسؤولية الإصلاح لإعادة الأمور إلى نصابها، وإن كلفهم ذلك، دماءهم وحياتهم وكل ما يملكون، كما فعل ذلك سبط رسول الله الإمام الحسين بن علي (ع) وإلا، فسيكون الأمر كما قال أمير المؤمنين، علي بن أبي طالب عليه السلام، وهو يصف أمثال يزيد بقوله {ولكني آسى أن يلي أمر هذه الأمة سفهاؤها، وفجارها، فيتخذوا مال الله دولا، وعباده خولا، والصالحين حربا، والفاسقين حزبا، فإن منهم الذي قد شرب فيكم الحرام، وجلد حدا في الإسلام، وان منهم من لم يسلم حتى رضخت له على الإسلام الرضائخ}.
      الثاني ــ سياسة التمييز الطائفي والعرقي، التي انتهجها الحكم الأموي، فميز في العطاء على أساس الانتماء العرقي والمذهبي ـ إن صح التعبير ـ كما فرق بين المسلمين على أساس الانتماء القبلي (العشائري) والمناطقي (الأقاليم).
      فهذا قرار (الخليفة معاوية) يأمر بالنص (انظروا إلى من قامت عليه البينة، أنه يحب عليا وأهل بيته، فامحوه من الديوان، وأسقطوا عطاءه ورزقه) ثم شفع ذلك بنسخة أخرى تنص على أن (من اتهمتموه بموالاة هؤلاء القوم، فنكلوا به واهدموا داره).
      وهو القائل، حين استولى على العراق، ونقل بيت المال من الكوفة إلى دمشق، وزاد في عطاءات أهل الشام، وحط من عطاءات أهل العراق (الأرض لله ، وأنا خليفة الله ، فما آخذ من مال الله فهو لي ، وما تركته كان جائزا لي).
      الثالث ــ الاستئثار بالفئ، والتصرف به كيف يشاء الحاكم، وكأنه، ملك ورثه عن أبيه، فحرم منه أناس، وأتخم فيه آخرون، وأغدقه على ضمائر باعت آخرتها بدنيا غيرها، ووهبه لكل أفاك أثيم، ومنعه عن المحتاجين، وصرفه على ملذاته، في دائرة ضيقة، شملت الأهل والأقارب وأبناء القبيلة، وعناصر وأنصار الحزب الحاكم فقط، فهذا أحدهم يقول ؛ (إنما السواد ـ يعني العراق ـ بستان لقريش ، ما شئنا أخذنا منه ، وما شئنا تركناه) ، أما الثاني ، فيقول (لنأخذن حاجتنا من هذا الفئ، وإن رغمت أنوف أقوام).
      وهذه المستويات الثلاثة، هي الأخطر التي تحتاج، في كل حين، إلى الإصلاح بكل الطرق، لأنها، لو تركت لتستم، فستنتج طاغية ذليل كصدام حسين، لن يترك السلطة التي اغتصبها رغما عن أنف الشعب، إلا بعد أن يدمر كل شئ تدميرا، ثم يسلم البلاد والعباد، إلى الأجنبي المحتل.
      والى ذلك أشار الحسين (ع) بقوله {أيها الناس، إن رسول الله (ص)  قال: من رأى سلطانا جائرا، مستحلا لحرام الله، ناكثا لعهد الله، مخالفا لسنة رسول الله، يعمل في عباد الله بالإثم والعدوان، فلم يغير ما عليه بفعل ولا قول، كان حقا على الله أن يدخله مدخله.
      ألا وإن هؤلاء ، قد لزموا طاعة الشيطان، وتركوا طاعة الرحمن، واظهروا الفساد وعطلوا الحدود، واستأثروا بالفئ، وأحلوا حرام الله، وحرموا حلاله، وأنا أحق من غير}.
      مشروعية الثورة إذن، تنبثق من مسؤولية التصدي للإصلاح، وعلى مختلف الأصعدة، وفي عهد الحسين (ع) كل شئ كان بحاجة إلى الإصلاح الجذري، فالسياسة كانت بحاجة إلى الإصلاح، والسلطة كذلك، والاقتصاد والعطاء، والتصرف في بيت المال، كذلك، كان بحاجة إلى الإصلاح، كما أن العلاقة بين الحاكم والمحكوم، كانت، هي الأخرى، بحاجة إلى الإصلاح.
      هذا من جانب، ومن جانب آخر، فإن الحسين (ع) لم ينهض للتصدي لمسؤولية الإصلاح، إلا بعد أن:
      أولا ــ نكث معاوية بكل الشروط التي تصالح عليها مع الإمام الحسن بن علي (ع) عندما خطب قائلا (أتروني قاتلتكم على الصلاة والزكاة والحج ؟ وقد علمت أنكم تصلون وتزكون وتحجون، ولكني قاتلتكم لأتأمر عليكم وألي رقابكم، وقد آتاني الله ذلك وانتم كارهون، ألا أن كل دم أصيب في هذه مطلول، وكل شرط شرطته، فتحت قدمي هاتين).
      ومن أهم وابرز الشروط التي نقضها معاوية، هو شرط أن يكون أمر المسلمين شورى بينهم، بعد هلاكه، إلا انه نصب ابنه يزيد ملكا على المسلمين قبل أن يهلك.
      ثانيا ــ وصلته مئات الآلاف من الرسائل التي تطالبه بالتصدي لمسؤولية الإصلاح والتغيير، والتي اعتبرها الإمام (ع) نوع من أنواع البيعة الشفهية والتحريرية، كما أشار إليها بقوله (ع) {وقد أتتني كتبكم، وقدمت علي رسلكم ببيعتكم، وأنكم لا تسلموني ولا تخذلوني، فإن تممتم علي بيعتكم، تصيبوا رشدكم، فإني الحسين بن علي بن فاطمة بنت رسول الله (ص) نفسي مع أنفسكم، وأهلي مع أهليكم، فلكم في أسوة}.
      ثالثا ــ تيقن من أن الطاغية يزيد، يدبر له مؤامرة لاغتياله، حتى لو كان متعلقا بأستار الكعبة، وأن من المستحيل فتح باب الحوار بين الطرفين، بأية صورة من الصور، بسبب أن يزيد كان يعتبره الحلقة الأقوى في المجتمع الإسلامي التي يجب ترويضها طوع البنان، ليستتب له الأمر في السلطة والخلافة، لما كان يمثله الإمام (ع) من امتداد مباشر لرسول الإسلام محمد بن عبد الله (ص) بالإضافة إلى منزلته عند الناس، وثقتهم به، وغير ذلك، ما يعني عند يزيد، أن انتزاع البيعة له من الحسين (ع) يسهل عليه اخذ البيعة من الآخرين، لما يمثل الإمام من شرعية ومشروعية، ولذلك قرر إنتزاع البيعة منه، طوعا أو كرها، والى ذلك أشار الإمام الحسين (ع) بقوله {ألا وأن الدعي بن الدعي قد ركز بين اثنتين، بين السلة والذلة، وهيهات منا الذلة، يأبى الله لنا ذلك ورسوله والمؤمنون، وجدود طابت، وحجور طهرت، وأنوف حمية، ونفوس أبية، لا نؤثر طاعة اللئام على مصارع الكرام}.
      ولكل ذلك قال يزيد لواليه على المدينة، الوليد بن عتبة، في كتابه الذي أمره فيه بأن يأخذ البيعة من الحسين (ع) (أما بعد، فخذ حسينا أخذا ليس فيه رخصة، حتى يبايع، والسلام).
      لقد فهم الحسين (ع) هذه الحقيقة ووعاها جيدا، عندما قال {وأيم الله، لو كنت في جحر هامة من هذه الهوام، لاستخرجوني، حتى يقضوا بي حاجتهم، والله ليعتدن علي كما اعتدت اليهود في يوم السبت} أو في قوله {والله لا يدعوني حتى يستخرجوا هذه العلقة من جوفي، فإذا فعلوا، سلط الله عليهم من يذلهم، حتى يكونوا أذل من فرام المرأة}.
      لقد استهدف الحسين (ع) بثورته، الإصلاح بكل معنى الكلمة، فأراد أولا أن يعيد تشييد البناء السياسي في الدولة، على نفس الأسس التي بعث بها رسول الله (ص) في:
      أولا ــ الحرية، فقال وهو يخاطب الجيش الأموي {إن لم يكن لكم دين، وكنتم لا تخافون المعاد، فكونوا أحرارا في دنياكم} أي أراد أن يستثير قيمة الحرية في نفوسهم ومشاعرهم، بعد أن سحقها وصادرها النظام المستبد، لأنه كان يرى (ع) أن الإنسان العبد الذي لا يمتلك حريته، لا يمكنه أن يغير حاله السيئ إلى حال أفضل أبدا.
      ثانيا ــ المساواة، والمشاركة، فلقد اشترك في ثورته الكبير والصغير، المرأة والرجل، الشيعي والسني (من هو عثماني الهوى ، كما يصفه التاريخ) المسلم والمسيحي، السيد والعبد، وكل فئات المجتمع آنئذ، من دون أن يميز بينهم، لا على أساس عرقي، ولا على أساس طائفي أو طبقي، لأنه (ع) اعتبر أن ثورته، فرصة لكل من يريد أن يدخل التاريخ من أوسع أبوابه، لا يجوز له أن يحرم منها أحد أبدا، فآثر على نفسه، أن لا يغلق هذه الباب بوجه أحد أبدا، فهو باب رحمة الله، وسفينة النجاة، فكيف يمنع من يريد أن ينجو بنفسه من غضب الجبار يوم يقوم الأشهاد؟.
      أما رسالة الإرهاب التي سجلتها كربلاء ، فيمكن تلخيصها بما يلي:
      أولا ــ التسلط على رقاب الناس بالقوة والإكراه.   
      ثانيا ــ فرض البيعة تحت حد السيف، وتخيير الناس بين البيعة أو القتل (بين السلة والذلة).  
      ثالثا ــ التزييف، كوسيلة قذرة لغسل أدمغة الناس،  تزييف التاريخ والدين والحقائق وكل شئ، من أجل تبرير الاستبداد والإرهاب وجرائم الطاغوت.
      ومنذ العاشر من المحرم عام (61 هـ) ولحد الآن، حاول الطغاة، وكل الأنظمة المستبدة، إخماد وهج الثورة وتشويه رسالة الحسين (ع) والطعن في مبادئها النبيلة، تارة بقتل كل من ينادي (يا حسين) وأخرى بالدعاية التضليلية السوداء، التي صورت السبط الشهيد، رجل متمرد خرج على إمام زمانه، وأنه قتل بسيف جده، وثالثة بمنع محبيه وعشاق ثورته، من زيارة قبره، لدرجة أن بعضهم حاول المستحيل، من اجل محو أي أثر للقبر الشريف، وكل ذلك، لأن الحسين (ع) ثورة من اجل الحرية والمساواة والمشاركة الشعبية الواسعة، وأن أمة، تمتلك الحسين (ع) وعاشوراء وكربلاء، ينبغي أن لا تعيش ذليلة ومتخلفة بين بقية أمم الأرض وشعوبها.
      لقد كان الحسين (ع) ولا يزال، ضحية العنف والإرهاب، بسبب الاستبداد والديكتاتورية والأنظمة الشمولية، التي وظفت كل شئ ـ حتى الدين ـ من أجل تشويه سمعة الإمام (ع) وتلقين الناس بكل ما يخالف الحقيقة والواقع.
      أما نظام الطاغية الذليل صدام حسين، فقد سعى بكل جهده، من أجل القضاء على كل ما يمت إلى الحسين (ع) بصلة (اسمه، رسمه، قبره، نهجه، كلمة تقال بحقه أو عنه، شعائره) وكل شئ، فقتل زواره، وأعدم محبيه، واغتال عشاقه، ومنع كل مظاهر الحزن والعزاء عليه (ع) حتى في اليوم العاشر من المحرم، من كل عام.
      وبكلمة، إنه حارب الحسين (ع) بكل الوسائل والطرق، تارة باسم التمدن والحضارة، وأخرى باسم المجهود الحربي، وثالثة باسم القضاء على المؤامرات الخارجية ــ كما حصل ذلك في العشرين من صفر المظفر(عام 1977 م) ذكرى زيارة أربعين الحسين (ع) عندما حاصر المشاة، الذين قصدوا كربلاء من مدينة النجف الاشرف، بالطائرات النفاثة، والدبابات، ومختلف صنوف القوات المسلحة، بحجة إكتشافه، لتلك المؤامرة المزعومة، فقتل من قتل، وأعدم من أعدم، وسجن من سجن ــ.
   وأتذكر يوم كنا صغارا في المرحلة المتوسطة، كيف كان الأساتذة يهددوننا بالرسوب في أهم المواد الدراسية، إذا نقلت لهم العيون، مشاركتنا في موكب عزاء أو مجلس للحسين (ع).
   وأتذكر، يوم كنت صغيرا، وصرخت بأعلى صوتي في أحد مواكب العزاء الحسيني بين الحرمين الطاهرين للحسين وأخيه العباس (عليهما السلام) (صلوا على محمد وآل محمد) ثم لم أشعر ما حل بي، حتى أفقت بين يدي معاون مدير أمن محافظة كربلاء، يسألني بعصبية (أأنت الذي صرخت بهذا الشعار الممنوع؟) أجبته مستغربا (نعم، ولكن لماذا ممنوع، الصلاة على محمد وآل محمد؟ وهل في ذلك أي ضرر؟) لكمني ـ وأنا ابن الرابعة عشرة ـ وقال (ألا تعلم بأن الصراخ بمثل هذه الشعارات ممنوع؟ الأوامر مشددة بهذا الخصوص، أخرج، واحذر أن أرى وجهك ثانية هنا، في مكتبي).
      أما المقبور حسين كامل (الأغبى من بين كل من عرفت من أزلام النظام) فقد وقف بين الحرمين الطاهرين للحسين والعباس (عليهما السلام) بعد أن قضى على الانتفاضة في شعبان (آذار) عام (1991 م) وخط على الدبابات التي اجتاح واستباح بها المدينة المقدسة (لا شيعة بعد اليوم) وقف بين الحرمين مزهوا ومنتفخا، وهو يتحدث إلى سيده وقاتله الطاغية الذليل، ناقلا إليه مباشرة، بشرى تفاصيل ما جرى في المدينة (سيدي، أكلمك وأنا الآن أقف بين الصنمين، هنا، في كربلاء).
      هل كان رب الحسين غافلا عما يفعل الظالمون؟.
      كلا وألف كلا، فإن الله إن يمهل، فهو لن يهمل أبدا، هيهات.
      وتمر الأيام، وإذا بالطاغية الذليل، يستخرج من جوف بالوعة، أشعث أغبر، يتنقل القمل في رأسه العفن النتن، وزبانيته وأزلامه وأذنابه وعائلته، يمزقهم الله تمزيقا، ويطحنهم طحن الرحى، وينثرهم في الأرض نثرا، ويوزعهم (شذرا مذرا) بين قتيل وأسير ومشرد ومختفي، ليكونوا عبرة لمن يعتبر.
      يخطئ من ينوي مواجهة الحسين (ع) بأي شكل من الأشكال، وبأية أعذار أو حجج أو شعار أو مسمى، وفي كل الظروف، وسيخسر من يشن الحرب على الحسين (ع) إن عاجلا أم آجلا، إذ سيبقى الحسين (ع) شامخا لا يناله أحد أبدا أبدا أبدا.
      ولم تخطئ العقيلة زينب بنت علي (ع) أخت الحسين (ع) التي تحدت الطاغية يزيد بن معاوية ــ المنتصر عسكريا آنئذ ــ في مجلسه وفي عقر داره، وبحضور وزرائه وقادة جيشه وضيوفه وزواره، مفتخرا مزهوا، بقولها {وكد كيدك، واسع سعيك، فوالله، لا تمحو ذكرنا، ولا تميت وحينا، وهل جمعك إلا بدد؟ وأيامك إلا عدد؟ وكيدك إلا فند؟} لأنها كانت تتحدث عن لسان جدها رسول الله (ص) الذي قال {إن للحسين في قلوب المؤمنين حرارة، لا تنطفئ أبدا} والرسول (ص) يتحدث عن الله تعالى، الذي أوحى إليه بقوله عز وجل {يريدون ليطفئوا نور الله بأفواههم، والله متم نوره، ولو كره الكافرون}.
      فإلى كل الذين يحاربون الحسين (ع) أو ينوون محاربته، أحذركم، ولكم فيمن سبقكم عبرة، والحديث الشريف عن رسول الله (ص) يقول {العاقل، من اتعض بتجارب غيره}.
   صدق رسول الله (ص) والعاقبة للمتقين.
زينب..اعلام لا دعاية
      ان قدرة اي قضية في العالم على الصمود في الذاكرة والاستمرار مع الزمن والديمومة عبر تعاقب الاجيال، تتناسب تناسبا عكسيا مع الحرب الاعلامية والسياسية والنفسية وربما العسكرية التي يشنها خصومها ضدها، الا قضية الامام السبط الشهيد الحسين بن علي عليهما السلام، فانها تتناسب تناسبا طرديا، اذ كلما زاد اعداؤها من حربهم الضروس ضدها كلما تجذرت في النفوس وانتشرت في الافاق واتسع نطاقها وترسخت ديمومتها، وذلك يعود لسببين:
      السبب الاول؛ هو البعد الغيبي في القضية، والذي اشارت اليه زينب بنت علي عليهما السلام في حديثها مع ابن اخيها الامام علي بن الحسين السجاد (زين العابدين) عليه السلام عندما نظر الى اهله مجزرين و بينهم مهجة الزهراء البتول عليها السلام، فاطمة بنت محمد (ص) بحالة تذيب القلوب، اشتد قلقه، فلما تبينت ذلك منه عمته زينب أخذت تصبره قائلة:
      مالي أراك تجود بنفسك يا بقية جدي وأبي وإخوتي، فوالله إن هذا لعهد من الله الى جدك وابيك، ولقد أخذ الله ميثاق اناس لا تعرفهم فراعنة هذه الارض وهم معروفون في اهل السماوات، انهم يجمعون هذه الاعضاء المقطعة والجسوم المضرجة فيوارونها وينصبون بهذا الطف علما لقبر أبيك سيد الشهداء لايدرس أثره ولا يمحي رسمه على كرور الليالي والايام، وليجتهدن ائمة الكفر وأشياع الضلال في محوه وتطميسه فلا يزداد اثره الا علوا.
      اما السبب الثاني؛ فيعود الى الخطة الاعلامية الذكية التي رسمتها العقيلة زينب (ع) والتي باشرت بتنفيذها منذ لحظة استشهاد السبط في كربلاء في العاشر من المحرم عام 61 للهجرة على يد جيش البغي والضلال الاموي، وحتى لحظة وفاتها ودفنها في غوطة الشام، حيث قبرها الشريف ومرقدها ومزارها العظيم اليوم، مرورا بالكوفة والشام والمدينة ثم استقرارها في الشام، عاصمة الحزب الاموي آنذاك.
      لقد رسمت عقيلة بني هاشم زينب بنت علي بن ابي طالب عليهم السلام معالم الاعلام الرسالي الناجح من خلال خطتها الاعلامية الذكية التي واجهت بها الطاغية يزيد وحزبه الاموي، والتي اعتمدت:
      اولا: الحرب النفسية، التي حولت الظالم المنتصر (عسكريا) من موقع الهجوم الى موقع الدفاع، ومن موقع من يوجه التهم الى الخصم المهزوم (عسكريا) الى متهم، فبدلا من ان يستشعر الظالم (المنتصر) عسكريا هزيمتها (المادية) ويتذوق حلاوة النصر المزعوم بكبرياء وخيلاء، اذا بها تقلب الطاولة عليه في مجلسه وامام حشد من زواره ووزرائه وخدمه وحشمه، وبحضور عدد غفير من الوفود الاجنبية التي حضرت لتهنئته بالنصر العسكري الذي اشاعت ماكينته الدعائية بانه حققه على خوارج متمردين من الديلم والروم، ولا علاقة لهم بالاسلام او بالنبي الكريم (ص).
      ولقد اعتمدت الحرب النفسية هذه على الاسس التالية:
      الف: استحقار الخصم، والتقليل من شأنه.
      باء: فضحه، والكشف عن كل الحقائق التي حاول التستر عليها، وكذلك القيم السماوية والمناقبيات التي حاول التمترس بها وخلفها لتبرير فعلته الشنيعة، بقتله سبط رسول الله (ص) وثلة من اهل بيته واصحابه الميامين، وفيهم عدد من صحابة رسول الله (ص) والتابعين والقراء.
      جيم: تحديه باقوى العبارات التي تنم عن ثقة عالية بالنفس وايمان راسخ بالنتيجة والمنقلب.
      دال: ارهابه وارعابه بالكلمة الصادقة والراي الحصيف المعتمد على النص السماوي.
      هاء: توظيف سياسة الهجوم كافضل وسيلة، ليس للدفاع هنا، وانما لانزال الهزيمة النفسية والمعنوية بالخصم، الظالم، على قاعدة {ما غزي قوم في عقر دورهم الا  ذلوا}.
      واو: نقل المعركة عبر الافاق الى الاجيال القادمة، والحيلولة دون محاصرتها وقبرها في مهدها من قبل الظالم واجهزته القمعية والتضليلية، وكانها، زينب بنت علي، تقرا المستقبل بروح معنوية عالية على طريقة (من يبكي أخيرا).
      ثانيا: اعتماد الاعلام بعيدا عن الدعاية الرخيصة، فكما نعرف فان الاخيرة يحددها الزمان ويؤطرها المكان، فالدعاية كالنار في الهشيم سريعة الاشتعال وسريعة الخفوت،ولذلك فان اثرها ضعيف وبصمتها زائلة، اما الاعلام فلا يحدده الزمان ولا يؤطره المكان، وهو كالنار في الحطب بطئ الاشتعال الا انه يمتلك ديمومة طويلة الامد، لقوة اندفاعه وعظم حجم التاثير المستمر.
      ان الدعاية التي تعني تبليغ المتلقي قرارا، لا يمكن ان يدوم كثيرا في الاذهان لانه عادة ما يعتمد التضليل والخداع، اما الاعلام الذي يعني تبليغ المتلقي المعلومة والخبر ليبني قراره ورايه وموقفه بعيدا عن الضغط والاكراه والجبر والعسف، فهو يعتمد العقل والمنطق بعيدا عن الغش والتضليل، ولذلك فان المتلقي للمعلومة بحرية يبدع في صياغة رايه وقراره وموقفه، سواء على صعيد الوعي او على صعيد الوسائل، وهذا ما نلحظه بالضبط على مستوى القضية الحسينية، فلقد ابدعت البشرية في وعيها للقضية على مدى اكثر من قرابة (14) قرنا، كما انها ابدعت في الوسائل، بعيدا عن تدخل الانظمة والسياسات، بل على العكس من ذلك، فان تدخل الاخيرة عادة ما كان سلبيا من خلال شن الحرب النفسية والدعائية وفي احيان كثيرة الدموية، كما يحصل اليوم في العراق على يد جماعات العنف والارهاب والجماعات التكفيرية المتحالفة مع ايتام الطاغية الذليل صدام حسين،  لقمع كل من يسعى لاحياء ذكرى واقعة الطف بطريقة من الطرق، وهو السر الكامن وراء ديمومة الذكرى وخلود القضية.
      لقد اعتمد الاعلام الزينبي على الاسس التالية، والتي تعد سر نجاح هذا الاعلام الذي خلد الذكرى:
      اولا: الشجاعة، على قاعدة الآية القرآنية الكريمة {الذين يبلغون رسالات الله ويخشونه ولا يخشون احدا الا الله وكفى بالله حسيبا}.
      ثانيا: الوضوح والشفافية بعيدا عن التهويل والتضخيم او حتى الانكار والتجاهل.
      ثالثا: الصدق وعدم اللجوء الى التضليل.
      رابعا: الشمولية في الطرح وتغطية الحدث، وبتفاصيله، لما لها من اهمية في رسم الصورة في ذهن المتلقي، ومساعدته على اتخاذ القرار الصحيح والموقف السليم.
      خامسا: التسلح بالمنطق للرد على كل محاولات الطاغوت لتضليل الراي العام من خلال توظيف الكذب والغش والتزوير وكل ادوات الدعاية السوداء.
      سادسا: مخاطبة العقل والوجدان في آن واحد في عملية متناسقة ومتوازنة قل نظيرها، فالحسين عليه السلام (عبرة) بكسر العين، و (عبرة) بفتح العين، وهو عقل ومنطق، وعاطفة ووجدان، لا يمكن الفصل بين البعدين ابدا، والا فستصاب القضية بخلل واضح، ولهذا السبب اهتم اهل البيت عليهم السلام بقضية الحسين عليه السلام على مستوى البعدين، الوجداني والعاطفي من جهة والعقلي والفكري والثقافي من جهة اخرى، الاول من خلال الشعائر الحسينية، والثاني من خلال التركيز على منطلقات الثورة واهدافها وجوهرها، ولذلك جاء في الماثور عن ائمة اهل البيت عليهم السلام {من زار الحسين عارفا بحقه} والحق هنا يعني المنطق والفكر والهدف والادوات والوسائل التي وظفها الحسين السبط في مشروعه النهضوي الاستشهادي.
      ان قراءة متأنية لنص الخطاب الثوري الذي القته العقيلة زينب (ع) في مجلس الطاغية القاتل يزيد بن معاوية، توضح لنا بانه احتوى على كل عناصر الرسالة الاعلامية الحقيقية التي اعتمدها الاعلام الزينبي.
      لقد قالت عليها السلام في ذلك الخطاب، الرسالة:
      الحمد لله رب العالمين، وصلى الله على رسوله وآله أجمعين، صدق الله سبحانه حيث يقول {ثُمَّ كَانَ عَاقِبَةَ الَّذِينَ أَسَاؤُوا السُّوأَى أَن كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَكَانُوا بِهَا يَسْتَهْزِؤُون}.
      أظننت يا يزيد حيث أخذت علينا أقطار الأرض، وآفاق السماء، فأصبحنا نساق كما تساق الاسارى ان بنا على الله هوانا، وبك عليه كرامة، وان ذلك لعظم خطرك عنده؟ فشمخت بأنفك، ونظرت في عطفك، جذلان مسرورا، حين رأيت الدنيا لك مستوسقة، والأمور متسقة، وحين صفا لك ملكنا وسلطاننا فمهلا مهلا، أنسيت قول الله تعالى {وَلاَ يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِّأَنفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُواْ إِثْمًا وَلَهْمُ عَذَابٌ مُّهِينٌ}. 
      أمن العدل يا ابن الطلقاء، تخديرك حرائرك وإماءك، وسوقك بنات رسول الله سبايا، قد هتكت ستورهن، وأبديت وجوههن، تحدو بهن الأعداء من بلد إلى بلد، ويستشرفهن أهل المناهل والمعاقل، ويتصفح وجوههن القريب والبعيد، والدني والشريف، ليس معهن من حماتهن حمي ولا من رجالهن ولي، وكيف يرتجى مراقبة من لفظ فوه أكباد الازكياء، ونبت لحمه من دماء الشهداء، وكيف يستبطأ في بغضنا أهل البيت من نظر إلينا بالشنف والشنآن، والاحن والاضغان، ثم تقول غير متأثم ولا مستعظم:
                                                  لأهلوا واستهلوا فرحا             ثم قالوا يا يزيد لا تشل
منحنيا على ثنايا أبي عبد الله سيد شباب أهل الجنة تنكتها بمخصرتك وكيف لا تقول ذلك، وقد نكأت القرحة، واستأصلت الشأفة، بإراقتك دماء ذرية محمد (ص) ونجوم الأرض من آل عبد المطلب وتهتف بأشياخك، زعمت أنك تناديهم، فلتردن وشيكا موردهم ولتودن أنك شللت وبكمت ولم تكن قلت ما قلت وفعلت ما فعلت.
      اللهم خذ لنا بحقنا، وانتقم ممن ظلمنا، واحلل غضبك بمن سفك دماءنا، وقتل حماتنا، فو الله ما فريت الا جلدك، ولا حززت الا لحمك، ولتردن على رسول الله (ص) بما تحملت من سفك دماء ذريته وانتهكت من حرمته في عترته ولحمته، حيث يجمع الله شملهم، ويلم شعثهم ويأخذ بحقهم {ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا بل أحياء عند ربهم يرزقون}.
      وحسبك بالله حاكما، وبمحمد (ص) خصيما، وبجبريل ظهيرا، وسيعلم من سول لك ومكنك من رقاب المسلمين بئس للظالمين بدلا وأيكم شر مكانا واضعف جندا، ولئن جرت علي الدواهي مخاطبتك، إني لاستصغر قدرك واستعظم تقريعك، واستكثر توبيخك، ولكن العيون عبرى، والصدور حرى
ألا فالعجب كل العجب لقتل حزب الله النجباء، بحزب الشيطان الطلقاء، فهذه الأيدي تنطف من دمائنا، والأفواه تتحلب من لحومنا وتلك الجثث الطواهر الزواكي تنتابها العواسل، وتعفرها أمهات الفراعل ولئن اتخذتنا مغنما، لتجدنا وشيكا مغرما، حين لا تجد الا ما قدمت يداك وما ربك بظلام للعبيد، والى الله المشتكى وعليه المعول.
      فكد كيدك، واسع سعيك، وناصب جهدك، فو الله لا تمحو ذكرنا، ولا تميت وحينا، ولا يرحض عنك عارها، وهل رأيك الا فند وأيامك الا عدد، وجمعك إلا بدد، يوم ينادى المنادي ألا لعنة الله على الظالمين
والحمد لله رب العالمين، الذي ختم لأولنا بالسعادة والمغفرة ولآخرنا بالشهادة والرحمة، ونسأل الله أن يكمل لهم الثواب، ويوجب لهم المزيد ويحسن علينا الخلافة، انه رحيم ودود، وحسبنا ونعم الوكيل.
     انه، بحق، خطاب الهي جمع كل قيم السماء في {افضل الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر}.
      فسلام على زينب بنت علي عليهما السلام، يوم ولدت ويوم حملت رسالة كربلاء لتنقلها من الصحراء الى آفاق الدنيا خالدة، ويوم توفيت مظلومة غير ظالمة، ويوم تبعث حية في مقعد صدق عند مليك مقتدر.   
عاشوراء..ما قبل العدل
      لقد خلق الله تعالى الخلق ليقيم الناس العدل، ولا يتحقق العدل الا اذا كان الانسان مسؤولا، ولا يكون المرء مسؤولا الا بثلاثة شروط هي:
      الحرية
      الكرامة
      الاختيار
      هذه المعادلة العقلية والمنطقية تحدث عنها القران الكريم في العديد من الايات.
      عن فلسفة العدل قال العظيم في محكم كتابه الكريم:
      {لقد ارسلنا رسلنا بالبينات وانزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط} وقال تعالى {وتمت كلمت ربك صدقا وعدلا لا مبدل لكلماته وهو السميع العليم} وقال عز من قائل {ان الله يامر بالعدل والاحسان} وقال سبحانه {وامرت لاعدل بينكم} وقال تعالى {واذا حكمتم بين الناس ان تحكموا بالعدل} وقال سبحانه {واذا قلتم فاعدلوا} وقال سبحانه {ولا يجرمنكم شنان قوم على الا تعدلوا اعدلوا هو اقرب للتقوى}.
      ولذلك فقد تواترت الروايات عن اهل البيت عليهم السلام قولهم عن فلسفة ظهور الامام الثاني عشر من ائمة اهل البيت عليهم السلام الحجة المنتظر(عج) {يملأ الارض قسطا وعدلا بعد ما ملئت ظلما وجورا}.
      اما عن فلسفة المسؤولية فقد قال تعالى:
   .{ولا تقف ما ليس لك به علم ان السمع والبصر والفؤاد كل اولئك كان عنه مسؤولا}  
      عن شروط المسؤولية، قال تعالى:
      الف: عن الحرية:  
      {الذين يتبعون الرسول النبي الامي الذي يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والانجيل يامرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث ويضع عنهم اصرهم والاغلال التي كانت عليهم فالذين امنوا به وعزروه ونصروه واتبعوا النور الذي انزل معه اولئك هم المفلحون}.
      باء: وعن الكرامة:
      {ولقد كرمنا بني ادم وحملناهم في البر والبحر ورزقناهم من الطيبات وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلا}.
      جيم: وعن تعدد الخيارات:
      {وهديناه النجدين} و {انا هديناه السبيل اما شاكرا واما كفورا} و {لا اكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي}.
      دال: وعن حرية الاختيار بعيدا عن الفرض والاكراه:
      {وكذب به قومك وهو الحق قل لست عليكم بوكيل} و {فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنتَ مُذَكِّرٌ* لَّسْتَ عَلَيْهِم بِمُصَيْطِرٍ} و {قال يا قوم ارايتم ان كنت على بينة من ربي واتاني رحمة من عنده فعميت عليكم انلزمكموها وانتم لها كارهون}.
      نستنتج من هذا النهج القرآني، معادلة انسانية ومنطقية وعقلية في غاية الاهمية، تقول، ان الانسان ملزم بان يقيم العدل في المجتمع وعلى كل الاصعدة، سواء كان حاكما او محكوما، فان عليه ان يعدل في قوله وفعله وحكمه، يعدل في العائلة ويعدل مع جيرانه ويعدل مع المجتمع، كما ان من واجبه ان يعدل في تعامله مع الحاكم اذا كان محكوما، ومع الرعية اذا كان حاكما.
      ولكن، هل بامكان الانسان ان يعدل ان لم يكن مسؤولا؟ اي ان كان عاجزا عن تحمل المسؤولية؟ بالتاكيد كلا، لان الانسان غير المسؤول، ولاي سبب كان، لا يمكنه ان يمارس كل ما من شانه ان يحقق العدل في المجتمع.
      اذن، يجب ان يكون الانسان مسؤولا لننتظر منه ان يمارس العدل في المجتمع، وقبل ذلك مع نفسه، فيفكر بعدل ويتحدث بعدل ويحكم بعدل.
      هنا يقفز السؤال الاخر، وهو:
      هل يمكن للانسان ان يكون مسؤولا اذا لم يكن حرا؟ او لا يتمتع بكرامته؟ او ان يكون مجبرا على شئ؟ سواء تعلق هذا الشئ بعقيدته او تفكيره او رايه او حتى مستلزمات حياته؟ بالتاكيد كلا والف كلا.
      من هنا نفهم بان قاعدة العدل هي شروط المسؤولية، ولذلك فان الله تعالى في منهجه القرآني الرباني ابتدأ بشروط المسؤولية لينتهي بقيمة العدل، فالحرية اولا، والكرامة قبل المسؤولية والمسؤولية قبل تحقيق العدل، وهكذا في منظومة فلسفية رائعة تبدا بالحرية وتنتهي بالعدل وتمر بحرية الاختيار، لان الانسان المجبر على عقيدة ما لا يمكن ان يكون مسؤولا، وان غير المسؤول لا ننتتظر منه ان يقيم العدل ابدا.
      ولقد بذل رسول الله (ص) كل جهده من اجل تحقيق هذا النهج القرآني، فاقام، صلى الله عليه وآله وسلم، العدل كقيمة عليا وهدف اسمى وجوهر للرسالة في مجتمع المدينة، ليس للمسلمين فحسب وانما لكل المواطنين الذين عاشوا في ظل سلطته السياسية، لان العدل قيمة انسانية وهي للجميع بلا استثناء او تمييز، اولم يقل القرآن الكريم {ليقوم الناس بالقسط}؟.
      وبعد وفاته (ص) انقسم المسلمون الى تيارين:
      الاول: هو الذي ظل ملتزما بالنهج القرآني الذي حوله، بتشديد الواو، رسول الله (ص) الى واقع يمشي على الارض بكل حذافيره، ولقد مثل اهل البيت عليهم السلام هذا النهج في سلوكهم وفي تعاملهم مع الاخرين، وعندما اعتلى السلطة امير المؤمنين عليه السلام وابنه السبط الحسن عليه السلام، وابنه الشهيد السبط الحسين عليه السلام في نهضته المباركة.
      الثاني: هو الذي ابتعد شيئا فشيئا عن هذا النهج حتى انتهى باصحابه الى تحويل الخلافة الى ملك عضوض اقامه معاوية بن ابي سفيان، وهو الطليق ابن الطليق وابن آكلة الاكباد، والذي ورث، بتشديد الراء، السلطة الى ابنه يزيد الخليع الخمار اللاعب بالقرود.
      بالنسبة الى التيار الاول، فقد تمثل النهج القرآني بفعل اهل البيت واداءهم وليس باقوالهم فقط، فمثلا
   عن عدم اجبار امير المؤمنين عليه السلام لاحد على البيعة يقول (ع) {ما منهم، اي المهاجرين والانصار، رجل الا وقد اعطاني الطاعة وسمح لي بالبيعة طائعا غير مكره}.
      ويصف لنا المؤرخون حال امير المؤمنين عليه السلام عندما طلبه المسلمون للخلافة بقولهم:
      خرج علي الى المسجد فصعد المنبر وعليه ازار وطاق وعمامة خز ونعلاه في يده متوكئا على قوس فبايعه الناس وجاؤوا بسعد بن ابي وقاص فقال علي بايع قال لا ابايع حتى يبايع الناس والله ما عليك مني بأس فقال الامام خلوا سبيله.
      وجاؤوا بابن عمر (عبد الله) فقال له الامام بايع قال لا ابايع حتى يبايع الناس فقال الامام ائتني بحميل (اي كفيل) قال لا ارى حميلا فقال الاشتر خل عني اضرب عنقه فقال الامام دعوه انا حميله واضاف {انك ما علمت لسئ الخلق صغيرا وكبيرا}.
      نفس المنهج الرباني سار عليه والتزم به الامام الحسن السبط عليه السلام، فعندما ساله اصحابه عن علة تسليمه السلطة لمعاوية اجاب قائلا {اني رايت هوى معظم الناس مع الصلح وكراهتهم للحرب فما اردت ان احمل الناس على ما يكرهون}.
      وقال لبعض اصحابه ممن كان يكره الاتفاق مع معاوية ويميل الى حربه {ليس الناس مثلك، لا رايهم كرايك لا يحبون ما تحب}.
      واضاف {ما اردت بمصالحتي معاوية الا ان ادفع القتل عندما رايت تباطؤ اصحابي عن الحرب ونكولهم عن القتال}.
      الحسن السبط عليه السلام، اذن، ملتزم بالنهج القراني الذي يعتمد على عدم الاكراه وتسليم الخيار بيد الناس، ليختاروا بارادتهم ومن ثم ليتحملوا عاقبة خياراتهم.
      الحسين الشهيد السبط عليه السلام، هو الاخر ملتزم بنفس النهج القرآني، فهو لم يفرض ارادته على احد ابدا، لانه كان يؤمن بان الاكراه ضد الحرية وان من تسلب، بضم التاء، منه الحرية لا يكون قادرا على الاختيار، ومن لا يختار بارادته الحرة لا يمكن تحميله المسؤولية ابدا، ولذلك لطالما استوقف الامام اصحابه ليقول لهم { فمن احب منكم الانصراف فلينصرف في غير حرج ليس عليه منا ذمام}.
      كما انه خاطب جيش البغي في اكثر من موقف بقوله { ايها الناس اذ كرهتموني فدعوني انصرف عنكم الى مامني من الارض} في محاولة منه عليه السلام لمنحهم حق الاختيار ليلقي عليهم الحجة تلو الاخرى مع ما له عليهم من الحجج البالغة.
      بل انه خير، بتشديد الياء، اصحابه في ليلة العاشر، اي قبل سويعات من بدأ المعركة، بين البقاء معه او الانصراف، ليضع الخيار بايديهم فيتحملوا المسؤولية بارادتهم، فقال لهم {هذا الليل قد غشيكم فاتخذوه جملا، ثم ليأخذ كل رجل منكم بيد رجل من اهل بيتي، ثم تفرقوا في سوادكم ومدائنكم حتى يفرج الله ، فان القوم انما يطلبوني ولو قد اصابوني لهوا عن طلب غيري}.
      اما التيار الثاني، فقد تطور لينتج في العصر الحديث كل الحركات التكفيرية التي تسعى لفرض اجنداتها بالقتل والتدمير، وهو النهج الذي تبنته اسرة آل سعود المتحالفة مع الحزب الوهابي منذ اكثر من قرنين من الزمن  تقريبا، وما عمليات القتل والتفجير والتفخيخ والعمليات الانتحارية القذرة ضد الابرياء، كما حصل مؤخرا في مدينة البصرة الفيحاء عندما فجر ارهابي تكفيري حاقد نفسه في جموع المعزين باربعين سيد الشهداء عليه السلام، الا انموذج لهذا النهج الاموي الذي تمكن من رقاب المسلمين بالحديد والنار، فسحق حرية الانسان وصادر ارادته والغى حقه في الاختيار بارادة حرة وكريمة ليتحمل مسؤوليته بوعي وادراك، ليتحول الانسان، في ظل هذا النظام، الى دمية عديمة الطعم واللون والرائحة، همها علفها.
      ولقد مثلت عاشوراء قمة التزام التيار الاول بهذا النهج القرآني، عندما رفض السبط الحسين بن علي بن ابي طالب عليهم السلام اعطاء البيعة للطاغية يزيد، ليس بصفته الشخصية فحسب، وانما بصفته نهجا منحرفا عن الفلسفة القرآنية التي تحدثنا عنها للتو، والتي تعتمد الارادة الحرة في الاختيار ليتحمل بعدها المرء مسؤوليته في هذه الحياة.
      فعندما رفض الحسين السبط عليه السلام البيعة، فانما اراد ان يثبت الحقائق التالية:
      اولا: ان الانسان حر في خياراته، فلا يحق لاحد ان يفرض عليه بيعة او موقفا او رايا او حتى دينا، وان فرض معاوية ولاية العهد لابنه يزيد على المسلمين لا يعتمد على دين او نص او سيرة او حتى على عقل سليم او منطق صحيح.
      ثانيا: ان البيعة التزام لا يجوز للانسان ان يعطيها لكل من هب ودب، بل ان عليه ان يمحص في هوية الشخص الذي ينوي مبايعته، لانه مسؤول عنها وهي ليست لقلقة لسان او مصافحة يد بيد بلا معنى، ابدا، فلقد قال الله تعالى في محكم كتابه الكريم {ان العهد كان مسؤولا} ولذلك فان المرء مسؤول على ان يدقق في خياراته قبل ان يختار، والا فانه سيتحمل عاقبة ما يفعل ويقول ويبايع.
      ثالثا: ان للحاكم شروطا لا ينبغي تجاهلها، لاي سبب كان، لحظة عقد البيعة، ولقد اشار الامام امير المؤمنين عليه السلام الى ذلك في احدى خطبه بقوله {ولكني آسى ان يلي امر هذه الامة سفهاؤها وفجارها، فيتخذوا مال الله دولا، وعباده خولا، والصالحين حربا، والفاسقين حزبا} كما اشار الامام الحسن السبط بن علي عليهما السلام الى هذه الشروط في معرض رده على معاوية عندما حاول ايهام المسلمين بانه اولى من الحسن السبط بالامر، اي الحكم، فرد عليه الامام عليه السلام بقوله {ويلك يا معاوية انما الخليفة من سار بسيرة رسول الله (ص) وعمل بطاعة الله ولعمري انا لاعلام الهدى ومنار التقى ولكنك يا معاوية ممن ابار السنن واحيا البدع واتخذ عباد الله خولا ودين الله لعبا}.
      اما الامام الحسين الشهيد فقد تحدث عن هذه الشروط الواجب الاخذ بها عند البيعة، بقوله {ايها الناس ان رسول الله (ص) قال: من راى سلطانا جائرا مستحلا لحرام الله ناكثا لعهد الله مخالفا لسنة رسول الله يعمل في عباد الله بالاثم والعدوان فلم يغير ما عليه بفعل ولا قول كان حقا على الله ان يدخله مدخله، الا وان هؤلاء، يعني الحزب الاموي، قد لزموا طاعة الشيطان وتركوا طاعة الرحمن واظهروا الفساد وعطلوا الحدود واستاثروا بالفئ واحلوا حرام الله وحرموا حلاله وانا احق من غير}.
      لقد اراد الحسين السبط عليه السلام ان يثبت المبدا القرآني في لحظة هي في غاية الخطورة والحرج من تاريخ الامة، المبدا الذي يقول ان الانسان حر في خياراته، فللحسين ان يبايع او لا يبايع يزيد بعيدا عن كل انواع الضغط والاكراه والعسف، بغض النظر عن استحقاق الاخير للبيعة من عدم ذلك، فعندما اقدم الطاغية يزيد على قتل الحسين عليه السلام لانه رفض البيعة، انما ادان نفسه واثبت بذلك انه لا يلتزم لا بدين ولا برسالة، وانما همه السلطة فحسب حتى اذا جاءت على حساب دماء الناس وجماجم الابرياء.
      ان كل ذلك هو الذي جعل الحسين السبط عليه السلام ان يتعامل بحزم شديد مع موضوع البيعة، لدرجة انه قال لاخيه محمد بن الحنفية {يا اخي، والله لو لم يكن في الدنيا ملجأ ولا مأوى لما بايعت يزيد بن معاوية ابدا} فالتشدد في الموقف جاء من قبل الحسين السبط عليه السلام لتثبيت النهج القرآني المشار اليه، ولولاه لما بقي من الاسلام الا اسمه ومن الدين الا رسمه، ولتحول المسلمون كلهم الى عبيد في حضرة (الخليفة) الظالم، كما هو شان الكثير من الشعوب (الاسلامية) التي غسلت ادمغتها ماكينة دعاية الحزب الاموي، اذا بامراء آل سعود ولاة امرهم، ويا لسخرية القدر، وصدق الحسين السبط حفيد رسول الله (ص) الذي قال {انا لله وانا اليه راجعون، وعلى الاسلام السلام اذ قد بليت الامة براع مثل يزيد}.
      واليوم، فعلى الاسلام السلام ان قد بليت الامة برعاة مثل آل سعود، الذين ملئت بطونهم من الحرام وملئوا بالحرام والفسق والفجور من قمة رؤوسهم والى اخمص اقدامهم.
      لقد ارادت عاشوراء ان تستحضر الامة كل الشروط التي تسبق تحقيق العدل، ولقد نجح الحسين السبط عليه السلام، بتضحيته الجسيمة، ان يهز ضمير الامة لتستعيد الامة حريتها وكرامتها وارادتها وقدرتها على الاختيار، لتتحمل، من ثمة، مسؤوليتها في التغيير ومواجهة الظلم والعدوان الذي يمارسه الطاغوت بحقها، عندما يسومها سوء العذاب بعد ان يتخذها خولا ويتصرف بالمال العام كملك خاص به وبعشيرته.
   ان شعارات مثل:
      {هيهات منا الذلة} {كونوا احرارا في دنياكم} {لا اعطيكم بيدي اعطاء الذليل ولا اقر لكم اقرار العبيد} {مثلي لا يبايع مثله} تحولت اليوم الى منهج ثوري يسعى كل الاحرار في العالم الى التعلم منه وتجسيده، لما تمثل من قيم ومفاهيم يتطلع اليها كل انسان بغض النظر عن دينه واثنيته ومذهبه وموطنه، على اعتبار ان الحسين عليه السلام للانسان وليس لدين او لمذهب معين، وهو كالشمس تشرق على كل البشرية، ويبقى لكل انسان طريقته واسلوبه الخاص في الاستفادة من نور شعاعها الوضاء.
من الحسين بن علي إلى الفضائيات العربية
      أحقا ، نسيتم أيام السنة وشهورها ، في زحمة مشاغل الدنيا الفانية ، فلم تتذكروا محرم الحرام؟.
      أحقا ، نسيتم التاريخ وحوادثه العظيمة ، فلم يخطر ببالكم ذكرى مصابي الأليم الذي قال عنه رسول الله (ص) (لا يوم كيومك يا أبا عبد الله)؟ والذي اهتزت لوقعته العظيمة ، السماوات والأرض؟.
      أحقا، نسيتم عاشوراء، وما جرى فيه على آل رسول الله، الذي تدعون أنكم تنتسبون إلى دينه؟
   فلم إذن كل هذا التغافل المتعمد عن كربلاء وعاشوراء والحسين بن علي بن أبي طالب ، ابن فاطمة الزهراء بنت رسول الله وخير خلقه، أبي القاسم محمد بن عبد الله (ص)؟.
      أم ترونه حدث عاب، يشبه إلى حد بعيد كل حوادث التاريخ الغابر؟.
      أم أنكم مشغولون بذكريات أعظم وأهم؟.
      إن لم يكن لكم دين، وكنتم لا تخافون المعاد، فكونوا أحرارا في دنياكم، والحر ينتصر لظلامة الحر ولو بكلمة طيبة، أو دمعة ساخنة يسكبها على خديه، أو بشارة سوداء تعتلي الشاشة الصغيرة، لتظهروا حزنكم وتعاطفكم معي، أنا سبط رسول الله الذي قتل ضمآنا بشط فرات؟.
      أم خدعتكم ماكينة الدعاية الأموية السوداء، فصدقتم قولها، وتبنيتم تهمتها، كوني متمرد خرج على إمام زمانه، يقود عصابة  تريد شق عصا المسلمين؟ أو أنني من بلاد الفرس أو الديلم؟.
      ألم تحرك فيكم مصيبتي، غيرتكم العربية؟ أم تشكون بنسبي وأنا {ابن مكة ومنى، أنا ابن زمزم والصفا، أنا ابن من حمل الركن بأطراف الرداء، أنا ابن خير من أاتزر وارتدى، أنا ابن خير من انتعل واحتفى، أنا ابن خير من طاف وسعى، أنا بن خير من حج ولبى، أنا ابن من حمل على البراق في الهواء، أنا ابن من أسري به من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى، أنا ابن من بلغ به جبريل إلى سدرة المنتهى، أنا ابن من دنى فتدلى فكان قاب قوسين أو أدنى، أنا ابن من صلى بملائكة السماء، أنا ابن من أوحى إليه الجليل ما أوحى، أنا ابن محمد المصطفى، أنا ابن علي المرتضى، أنا ابن من ضرب خراطيم الخلق حتى قالوا: لا اله إلا الله.
      أنا ابن من ضرب بين يدي رسول الله بسيفين، وطعن برمحين، وهاجر الهجرتين، وبايع البيعتين، وقاتل ببدر وحنين، ولم يكفر بالله طرفة عين.
      أنا ابن صالح المؤمنين، ووارث النبيين، وقامع الملحدين، ويعسوب الدين، ونور المجاهدين، وزين العابدين، وتاج البكائين، وأصبر الصابرين، وأفضل القائمين من آل ياسين، رسول رب العالمين.
      أنا ابن المؤيد بجبرائيل، المنصور بميكائيل، أنا ابن المحامي عن حرم المسلمين، وقاتل المارقين والناكثين والقاسطين، المجاهد أعداءه الناصبين، وأفخر من مشى من قريش أجمعين، وأول من أجاب واستجاب لله ولرسوله من المؤمنين، وأول السابقين، وقاصم المعتدين، ومبيد المشركين، وسهم من مرامي الله على المنافقين، ولسان حكمة العابدين، وناصر دين الله، وولي أمر الله، وبستان حكمة الله، وعيبة علمه.
      سمح، سخي، بهي، بهلول، زكي، أبطحي، رضي، مقدام، همام، صابر، صوام، مهذب، قوام، قاطع الأصلاب، ومفرق الأحزاب، أربطهم عنانا، وأثبتهم جنانا، وأمضاهم عزيمة، وأشدهم شكيمة، أسد باسل، يطحنهم في الحروب إذا ازدلفت الأسنة وقربت الأعنة طحن الرحى، ويذرهم فيها ذرو الريح الهشيم، ليث الحجاز، وكبش العراق، مكي مدني خيفي عقبي بدري أحدي شجري مهاجري.
      من العرب سيدها، ومن الوغى ليثها، وارث المشعرين، وأبو السبطين: الحسن والحسين، ذاك أبي علي بن أبي طالب.
   أنا ابن فاطمة الزهراء ، أنا ابن سيدة النساء}.
      أم أن هذه الدنيا قد تغيرت وتنكرت وأدبر معروفها، وأنكم: {الناس عبيد الدنيا، والدين لعق على ألسنتهم، فإذا محصوا بالبلاء، قل الديانون}؟.
      ترى، ألا استحق منكم خبرا أو برنامجا أو حتى لقطة بسيطة تعربوا فيها عن مشاركتكم رسول الله (ص) مصابه بسبطه وبأهل بيته وأصحابه، في يوم عاشوراء؟.
      قد لا تدر عليكم الذكرى أموالا طائلة، كتلك التي تحصلون عليها من برامج الإعلانات التجارية مدفوعة الثمن، أو من برامج الهوى ومسلسلات التحلل الخلقي ولكن، أو ليس  لرسول الله عليكم حقا في المودة  بالقربى، كما يقول القرآن الكريم على لسانه (ص) {قل لا أسالكم عليه أجرا، إلا المودة في القربى}؟.
      لماذا إذن كل هذا الجفاء؟ ولماذا كل هذا التجاهل المخجل لعاشوراء؟ التي سقيت شجرة رسالتها بدمي الطاهر ودماء أهل بيت النبوة وأصحابي الميامين؟.
      بماذا ستجيبون جدي رسول الله (ص) إذا سألكم يوم المحشر، لم لم تذكروا مصاب سبطي الحسين، يوم أن ذكرتم كل شئ؟ أم أن مصابي أهون عليكم من كل ذلك؟.
      أوليس لعاشوراء حرمة عندكم؟.
      وانتم، الذين تدعون إيمانكم وتبنيكم الحرية والرأي والرأي الآخر، ألا تستحق عاشوراء أن تكون رأيا في فضائياتكم، إن كنتم على دين جدي محمد (ص) الذي أنقذكم الله به من الضلالة، أو رأيا آخر إن كنتم على دين غيره؟.
      ألا تستحق كربلاء أن تكون شيئا في برامجكم، فلماذا يشاهد العالم كل شئ فيها إلا هذه الذكرى التاريخية التي لم تمر بمثلها البشرية، ولن؟.
   أم تحسبونها ذكرى طائفية، لا تحبون التعامل معها حتى لا تثيروا الفتنة؟.
   الا في الفتنة سقطتم.  
      ألا تستحوا؟ ألا تخجلوا؟ من أنفسكم إن لم يكن من جدي رسول الله (ص) وأهل بيته (عليهم السلام)
      إن لم يكن بإمكانكم أن تتبنوا عاشوراء في برامجكم، لأي سبب كان، فأوقفوا، على الأقل، برامج العري والخلاعة والطرب، في هذه الأيام التي يحزن فيها على مصاب آل الرسول، حتى الملائكة، وكل من أحب الله ورسوله وأهل بيته، والذي قال عني {حسين مني وأنا من حسين، أحب الله من أحب حسينا} والحبيب يحزن على مصاب حبيبه، أم أنكم لا تريدون أن تحبوا الله؟ أو يحببكم الله تعالى؟.
      لا أطالبكم بفعل ما تعلنون عنه يوم يموت الزعيم، عندما تنكسوا الأعلام، وتعلنوا الحداد أربعين يوما أو أكثر، وتستبدلوا برامجكم المعتادة ببرامج خاصة، إنما أقول لكم، احترموا مشاعر المسلمين، وعظموا شعائر الله {ومن يعظم شعائر الله فإنها من تقوى القلوب} ووقروا أيام الله، وهو القائل في محكم كتابه الكريم {وذكرهم بأيام الله}.
دماء في عاشوراء
             كان يتمنى أن يكون في صفوف الجيش الأموي، يوم تعبأ الجنود، واستعدوا وقاتلوا سبط رسول الله (ص) الإمام الحسين بن علي بن فاطمة بنت رسول الله (ص) في العاشر من المحرم الحرام عام (61 هـ) ليقتل هاشميا، أو يقطع رأس شهيد، أو يسرق قيراط طفلة هامت بوجهها في صحراء كربلاء، ليلة الحادي عشر من المحرم، لينال الجائزة والحضوة عند ابن آكلة الأكباد، الطاغية يزيد بن معاوية، أمير (المؤمنين من أمثاله).
      أما، وقد فاته ذلك، فلماذا لا يقتل أنصار الحسين (ع) في يوم الحسين (ع) في أرض الحسين (عليه السلام)؟ حتى لا تظل المشاركة حسرة في قلبه؟.
      كان الجندي الأموي، الذي لا يمتلك سلاحا يقتل فيه الحسين (ع) أو أحد من أهل بيته وأنصاره، يلتقط حجرا من الأرض، ليرميه على جسد الحسين (ع) فيضرب به جبهته الشريفة، مثلا، من أجل أن يعبر، بكل الطرق، عن حقده الدفين على الدين وأئمته وأهله، وليكشف، من جانب آخ، عن معدنه وماهيته وحقيقته.
      آخر، لم يحصل على رأس شهيد بعد انتهاء المعركة، فقد توزعت الرؤوس على الزعماء والكبار، ولم يبق منها شئ له، فكيف سيقنع الأمير، بأنه قاتل قتالا مريرا ضد السبط الشهيد؟ ومن سيصدقه، وهو يتكلم بلا دليل مادي ملموس؟ يجب أن يضبط بالجرم المشهود ليصدقه الطاغية، فيعطيه الجائزة، أسوة بالآخرين.
      تذكر أنه رأى الحسين (ع) ظهر عاشوراء، وقد اختلى برضيعه عبد الله (علي الأصغر) ليقبره في حفرة صغيرة، بعيدا عن عيون أمه الرباب، بعد أن ناله سهم مثلث من الأعداء، ذبحه من الوريد إلى الوريد، بدلا من أن يسقوه ماءا.
      أسرع إلى المكان، حفر القبر، واستخرج الرضيع (وعمره ستة أشهر فقط) ليحز رأسه، ويرفعه على رأس رمح طويل، فرحا مسرورا، فقد ضمن الجائزة، وهو يصرخ ويقول (إشهدوا لي عند الأمير، فقد قاتلت السبط الشهيد، وأهل بيته وأصحابه، وها هو الدليل على ما أقول).
      أي نوع من البشر كانوا أولئك؟ وأي نوع من البشر هؤلاء، أحفادهم؟.
      منذ اليوم الأول من المحرم، منع المعنيون، دخول السيارات إلى داخل مدينة كربلاء، تحسبا لارتكاب الإرهابيين، جريمة.
      فكر في أن يرمي أنصار الحسين (ع) بحجر من بعيد، من خارج أسوار المدينة.
      رأى انه لا يصيبهم في مقتل، فأطلق عدة قذائف على المدينة، لتقتل وتجرح المئات، وهو يصرخ ويقول (إشهدوا لي عند الأمير، أني أول من رمى في عاشوراء هذا العام).
      وكرر فعلته الشنعاء في الكاظمية المقدسة، عند مرقد الإمام موسى الكاظم (عليه السلام) كما كررها في أماكن أخرى من العراق، والعالم.
      لم يكن بحاجة إلى دليل مادي ملموس، ليقدمه إلى الأمير، لينال به رضاه والجائزة، فقد بثت الفضائيات صور الضحايا (رؤوس وأعضاء ودماء غطت ارض الحسين (ع) في يوم الحسين (ع)) مباشرة، شاهدها الأمير منتشيا، قال مقربون منه، أنه ارتعش لذة، عندما رأى منظر الدم والرؤوس المتطايرة، تغطي أرض الطف.
      العالم اصطف مع الضحايا، معزيا ومستنكرا.
      وحدهم الإرهابيون، الامويون الجدد، هم اللذين تلفعوا بالصمت، فلم يستنكروا أو يشجبوا أو يعزوا.
      ولنتذكر، فإن من يصنع الملاذ الآمن للإرهابيين، يساهم في جريمتهم، لا فرق في أن يكون (تكفيريا) في داخل العراق، أو حاكما في بلاد الجيران، فهؤلاء جميعا عليهم أن يعيدوا النظر في موقفهم، قبل أن يضطر العراقيون للإفصاح عن هوياتهم، وأسمائهم، بل وحتى ارتباطاتهم.
      أما الشهداء، فستروي دماءهم، شجرة الحق والحرية والعدل، لتورق عراقا جديدا، خال من الاستبداد والديكتاتورية والنظام الشمولي والعنف والإرهاب والظلم والتمييز.
      لن ينال الإرهابيون من عزيمتنا، متى ما ضربوا؟ وأين ما ضربوا؟ وكيف ما ضربوا؟ فلقد انكشف أمرهم، وافتضحت نواياهم.
      لقد سقطت، بجرائمهم، مقولة المقاومة، الشريفة منها وغير الشريفة، فكل أنواع الإرهاب، غير شريف بالمطلق.
   ضربوا في اربيل، ليثيروا الفتنة القومية، ففشلوا، وضربوا، قبلها، في النجف الاشرف، ليثيروا الفتنة الطائفية، ففشلوا، ويضربون اليوم في كربلاء المقدسة والكاظمية المقدسة وفي مناطق أخرى، وبالتزامن، ليثيروا الحرب الأهلية، وسيفشلون.
      اقتلونا أكثر، فسنقوى أكثر، وسنتحد ونحيا بعزم وإصرار لن يلين، حتى يتطهر العراق من رجسكم، ومن خطركم، أيها الغرباء الأجانب عن أرض العراق، وثقافة العراقيين، وتاريخهم وواقعهم.
      لن تعود عقارب الزمن إلى الوراء، مهما قتلتم.
      قد يعيد التاريخ نفسه، إلا أن من المستحيل أن يعود القهقرى.
      وإذا كان دم الحسين بن علي (ع) قد حفظ الإسلام من الانحراف، وفضح الطاغوت وأساليبه ووسائله، فإن دماء أنصاره التي أريقت يوم أمس، ستحفظ العراق من خطر الانزلاق في مهاوي الديكتاتورية والاستبداد، من جديد، وستفضح الإرهابيين، وجماعات العنف والتعصب الأعمى، وستحصن العراقيين من الرضوخ لحكم الأقلية، أيا كان نوعها.
     فسينهزم الجمع ويولي الدبر{ويمكرون ويمكر الله، والله خير الماكرين}.

ملاحظة مهمة جدا
للمؤسسات والافراد، كامل الحق في نشر او اقتباس كل المادة ككتاب او مجموعة كراسات او مقالات، مع الاشارة الى المصدر او عدمه، شريطة ان لا يؤثر النشر او الاقتباس على جوهر الفكرة، ومن الله تعالى نستمد العون والسداد، فهو حسبنا ونعم الوكيل.

تم جمع وتنقيح المجموعة في ايلول 2012 المصادف ذو القعدة 1433 للهجرة
 


قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat


نزار حيدر
 (للدخول لصفحة الكاتب إضغط هنا)

    طباعة   ||   أخبر صديقك عن الموضوع   ||   إضافة تعليق   ||   التاريخ : 2012/11/19



كتابة تعليق لموضوع : الحسين..عاشوراء..كربلاء ... ثلاثية الكرامة الانسانية
الإسم * :
بريدك الالكتروني :
نص التعليق * :
 



حمل تطبيق (كتابات في الميزان) من Google Play



اعلان هام من قبل موقع كتابات في الميزان

البحث :





الكتّاب :

الملفات :

مقالات مهمة :



 إنسانية الإمام السيستاني

 بعد إحراجهم بكشف عصيانها وخيانتهم للشعب: المرجعية الدينية العليا تـُحرج الحكومة بمخالفة كلام المعصومين.. والعاصفة تقترب!!!

 كلام موجه الى العقلاء من ابناء شعبي ( 1 )

 حقيقة الادعياء .. متمرجعون وسفراء

 قراءة في خطبة المرجعية : هل اقترب أَجلُ الحكومةِ الحالية؟!

 خطر البترية على بعض اتباع المرجعية قراءة في تاثيرات الادعياء على اتباع العلماء

 إلى دعاة المرجعية العربية العراقية ..مع كل الاحترام

 مهزلة بيان الصرخي حول سوريا

 قراءة في خطبة الجمعة ( 4 / رمضان/ 1437هـ الموافق 10/6/2016 )

 المؤسسة الدينية بين الواقع والافتراء : سلسلة مقالات للشيخ محمد مهدي الاصفي ردا على حسن الكشميري وكتابيه (جولة في دهاليز مظلمة) و(محنة الهروب من الواقع)

 الى الحميداوي ( لانتوقع منكم غير الفتنة )

 السيستاني .. رسالة مهدوية عاجلة

 من عطاء المرجعية العليا

 قراءة في فتوى الدفاع المقدس وتحصين فكر الأمة

 فتوى السيد السيستاني بالجهاد الكفائي وصداها في الصحافة العالمية

 ما هو رأي أستاذ فقهاء النجف وقم المشرّفتَين السيد الخوئي بمن غصب الخلافة ؟

 مواقف شديدة الحساسية/٢ "بانوراما" الحشد..

أحدث مقالات الكتّاب :


مقالات متنوعة :





 لنشر مقالاتكم يمكنكم مراسلتنا على info@kitabat.info

تم تأسيس الموقع بتاريخ 1/4/2010 © محمد البغدادي 

 لا تتحمل الإدارة مسؤولية ما ينشر في الموقع من الناحيتين القانونية والأخلاقية.

  Designed , Hosted & Programmed By : King 4 Host . Net