صفحة الكاتب : محمد الحمّار

هل نُعلم الأطفال وهم يُسيَّسون؟
محمد الحمّار

المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الموقع، وإنما تعبر عن رأي الكاتب.

"مواجهات بين سلفيين وقوات الأمن"؛ "اغتيال الناشط السياسي لطفي نقض في تطاوين"؛ "نواب التأسيسي يتمتعون بجرايات خيالية"؛ منظومة الفساد على حالها ومالُ الشعب المنهوب لم يعد إلى خزينة الدولة"؛ "السياسيون لا تهمهم إلا مصالحهم"؛ "لا يعجبني أي حزب". هذا قليل من الكثير الذي يتهاطل على مسامع الكبار والصغار في تونس اليوم. ولا نخال شباب المدراس والجامعات خالي البال من مثل هذه الرسائل. كما لا نظن أنّ الكبار يرغبون في وأد الضمير الشبابي حتى لا يتفاعل مع ما يحدث خارج الفضاء التعليمي. لذا بودنا أن نعرف إن كان الدرس المدرسي (والجامعي) ذا صلة بما يحدث خارج قاعة الدراسة. وبودنا أيضا أن نعلم ما الذي عسى يقوم به المدرسون للنأي بالتلاميذ والطلبة عن أمراض نفسية مثل العُصاب والفُصام وغيرها من الأدواء التي تضرب بشدة لمّا يكون الشخص (التلميذ والطالب) مفصولا عن الواقع المجتمعي اليومي ، الاجتماعي والسياسي والأمني بالخصوص.
ما من شك في أنّه مهما قيل و يقال عن تدهور العلاقة بين المتعلمين ومدرسيهم خلال ما لا يقل عن عقد من الزمن، على الأخص في القطاعين الثانوي والعالي، يبقى تلاميذنا وطلبتنا جد مُحترِمين لمُدرسيهم. كما يبقى المدرسون أوفياء لمهمتهم ولمبدأ تحسين علاقتهم بالمتعلمين. وخير دليل على ذلك أنّ الأجواء في المدرسة وفي الجامعة قد اتسمت عموما  بالهدوء وبالتوازن خلال ما يناهز السنتين (منذ 14 جانفي 2011) وذلك بالرغم من صعوبة الأوضاع السياسية في البلاد ومن حدة التجاذبات التي يطول الحديث عنها في الأسرة وفي المدرسة نفسها وفي الجامعة بطبيعة الحال. لكن يحق التساؤل: في ظل تعثر الإصلاح بخصوص هذه الأوضاع وانعدامه بخصوص المنظومة التربوية، هل أنّ الهدوء والتوازن مضمونين إلى ما لا نهاية له؟ أم أنّ الإصلاح يشترط إنجاز عمل من صنف تمهيدي لم تتوفر الظروف للبدء فيه بعدُ؟
في هذا السياق أعتقد أنّ هنالك حلقة ناقصة من المفروض أن تَصل المدرسة (والجامعة) بالمحيط الخارجي وفي نفس الوقت تصل المربي والسياسي ببعضهما البعض. ولا أقصد بهذا الكلام تسييس التلاميذ والدرس. فهنالك فرق بين تسييس المدرسة (والتربية)، وتربية السياسة إن صح التعبير. إذ إنّ الفكرة الأولى تعني دس الشأن السياسي العمومي في الدرس وبالتالي في عقل متعلم مازال قاصرا وبريئا، والزج به في عالم متشعب ولا يرحم أحيانا. وهذه منهجية منبوذة إطلاقا. ونبذُها متفق عليه من طرف غالبية المعنيين بالشأنين السياسي والتربوي، لكلٍّ حسب حُجته، حتى المستبدون منهم، وفي كل الأحقاب الزمنية وفي كل البلدان. أما الثانية فنعني بها إخضاع السياسة، مفهوما وممارسةً، للتربية. والخلط بين المنهجيتين هو الذي أدى بالنخب في بلد مثل تونس منذ أن عرف المجتمع المعاصر شيئا اسمه السياسة إلى إقصاء التمشي الثاني من تفكيرهم ومن تخطيطهم ومن حساباتهم، وذلك بدعوى فساد التمشي الأول. لذا نعتقد أنّ الوقت قد حان (وكان ذلك حتى قبل اندلاع حركة 14 جانفي) لكي يتم التمييز بين هذا وذاك حتى يحصل تطويرٌ لعقلية الأجيال الصاعدة من أجل تمكينهم من ممارسة سياسية سليمة تليق بهم وبالبلاد وبالعصر.
من هذا المنظور وبعد إنجاز التمييز ستبرز الممارسة السياسية كحاجة طبيعية لدى المتمدرسين تهدف إلى تسهيل إدراكهم لحقيقة مجريات الأحداث المجتمعية وإلى تفاعلهم مع كبريات القضايا المحلية والعالمية وذلك بواسطة مناهج توضع للغرض يكون عمادها تكوين مرتكزات التفكير السياسي، لا تلقين السياسة، ويكون من بين نتائجها نحتُ آدابٍ وأخلاقياتٍ للسياسة لا صبّ القوالب السياسية الجاهزة في عقولٍ مازالت غضة مثلما تربّت عليه الناشئة الحالية ظلما و إجحافا في الأسرة وفي الشارع وأحيانا في المدرسة. ذلك هو الانفتاح الحقيقي على المحيط إذ لا يجوز أن تكون علاقة المتعلم بالمحيط محكومة بقانون سوق الشغل والاقتصاد دون سواهما، مثلما أراده وخطط له ونفذه النظام في تونس منذ الثمانينات من القرن الماضي تقريبا، وإنما الأجدى أن تكون هذه العلاقة خاضعة للقانون الطبيعي والإنساني بكل ما يشتمل عليه من روافد.
لقد  كان الهندي المهاتما غاندي مربيا لأنه كان يفسر القانون البريطاني ليُطوعه لعقليه شعبه. وكان الأمريكي مارتن لوثر كنغ كاهنا مرشدا ومربيا. وكان حتى كولن باول رمز السياسة الأمريكية المحافظة في أواخر القرن المنقضي مهووسا بالشأن التربوي. أما قدوة المسلمين محمد صلى الله عليه وسلم فلا يمكن أن ننكر فضله العظيم في تبليغ الرسالة الإلهية الخالدة بطريقة تربوية غير مسبوقة ولا متبوعة من حيث نجاعتها المنهجية فضلا عن مضمونها. في ضوء هذا كان بودنا أن ينجز أهل الاختصاص في تونس، من علماء اجتماع ونفس وانثروبولوجيا تحديدا، تقييما علميا حتى نتبيّن الأمر في مجتمعنا اليوم ونرى إن كانت الطبقة السياسية التي تقود الشعب في هاته المرحلة الحاسمة والهشة من تاريخه تتوخى أساليب تربوية بالمعنى التحرري والشامل الذي وصفناه أنفا. ثم كان بودنا أن ينكبّ الباحثون على ظواهر مثل السلفية والإسلام السياسي على الأخص علّهم يستنتجون من بحوثهم أنّ مثل هاته الظواهر قدمت نفسها على أنها هي التربية وقدمت رموزَها على أنهم هُم المربون. وإن ثبت هذا فالأمر فهو على غاية من الخطورة، لأن المجتمع في هاته الحالة أصبح رهينة للسياسة باسم الإسلام لا رهنا بالتربية الإسلامية. فهذه الأخيرة هي العلم (التربوي) وما أحوج مجتمعنا للعلم. أما السياسة باسم الدين فهي العائق الأكبر أمام العلم وأمام التربية وبالتالي أمام إخضاع السياسة للتربية الحرة، والمتحررة والمتأصلة، في الآن ذاته.
بالنهاية قد نكون أدركنا لماذا يصعب الحديث عن الإصلاح في تونس اليوم، إن في مجال التربية والتعليم أم في أي مجال حيوي آخر. فنشوء فكرٍ إصلاحي قابل للتطبيق يبقى غير ممكن من دون التمييز المنهجي بين العلم كاختصاص على غرار علم السياسة وعلم التربية من جهة، والسياسة كممارسة من جهة ثانية. وذلك بناءً على أنّ هذا التمييز هو الذي من شأنه أن يفتح الطريق أمام السياسيين والتربويين والنخب كافة على حدّ سواء لكي يتفقوا على منهجية لتسخير العلم في خدمة السياسة. وهل هنالك أفضل من المدرسة مكانا يبدأ فيه التغيير المجتمعي الشامل؟
 


قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat


محمد الحمّار
 (للدخول لصفحة الكاتب إضغط هنا)

    طباعة   ||   أخبر صديقك عن الموضوع   ||   إضافة تعليق   ||   التاريخ : 2012/11/11



كتابة تعليق لموضوع : هل نُعلم الأطفال وهم يُسيَّسون؟
الإسم * :
بريدك الالكتروني :
نص التعليق * :
 



حمل تطبيق (كتابات في الميزان) من Google Play



اعلان هام من قبل موقع كتابات في الميزان

البحث :





الكتّاب :

الملفات :

مقالات مهمة :



 إنسانية الإمام السيستاني

 بعد إحراجهم بكشف عصيانها وخيانتهم للشعب: المرجعية الدينية العليا تـُحرج الحكومة بمخالفة كلام المعصومين.. والعاصفة تقترب!!!

 كلام موجه الى العقلاء من ابناء شعبي ( 1 )

 حقيقة الادعياء .. متمرجعون وسفراء

 قراءة في خطبة المرجعية : هل اقترب أَجلُ الحكومةِ الحالية؟!

 خطر البترية على بعض اتباع المرجعية قراءة في تاثيرات الادعياء على اتباع العلماء

 إلى دعاة المرجعية العربية العراقية ..مع كل الاحترام

 مهزلة بيان الصرخي حول سوريا

 قراءة في خطبة الجمعة ( 4 / رمضان/ 1437هـ الموافق 10/6/2016 )

 المؤسسة الدينية بين الواقع والافتراء : سلسلة مقالات للشيخ محمد مهدي الاصفي ردا على حسن الكشميري وكتابيه (جولة في دهاليز مظلمة) و(محنة الهروب من الواقع)

 الى الحميداوي ( لانتوقع منكم غير الفتنة )

 السيستاني .. رسالة مهدوية عاجلة

 من عطاء المرجعية العليا

 قراءة في فتوى الدفاع المقدس وتحصين فكر الأمة

 فتوى السيد السيستاني بالجهاد الكفائي وصداها في الصحافة العالمية

 ما هو رأي أستاذ فقهاء النجف وقم المشرّفتَين السيد الخوئي بمن غصب الخلافة ؟

 مواقف شديدة الحساسية/٢ "بانوراما" الحشد..

أحدث مقالات الكتّاب :


مقالات متنوعة :





 لنشر مقالاتكم يمكنكم مراسلتنا على info@kitabat.info

تم تأسيس الموقع بتاريخ 1/4/2010 © محمد البغدادي 

 لا تتحمل الإدارة مسؤولية ما ينشر في الموقع من الناحيتين القانونية والأخلاقية.

  Designed , Hosted & Programmed By : King 4 Host . Net