صفحة الكاتب : ستار عبد الحسين الفتلاوي

قصة قصيرة مذاق الحرمان
ستار عبد الحسين الفتلاوي

نظرة الزائع معلق في السقف ، الذي تتدلى منه خيوط السخام وشباك العناكب الخاوية . تتراكم في مخيلته صورة قاتمة ، فيشعر بأنه مستلب ومبعد عن المشاركة في الحياة . تلك الطريقة الغامضة للقدر في تشكيل حياته .

يساوره قلقه اليومي المألوف بأسئلة موجعة .. كيف سيكون مصير عائلتي ؟ وكيف سأربي اطفالي ؟ ومن أين أجيء لروحي بالطمأنينة ؟ ردد في ذهنه قولا سمعه في أحدى المجالس : (إن النفوس اذا احرزت ارزاقها اطمأنت) .

يسرح منزلقا بذهنه ، يبحث لعينيه عن مستقر في سقف الحجرة يتعلق بصره بعش طيني فارغ للسنونو . اعجبه التناسق المبدع في بنائه ، كل حبة طين ملتصقة بالاخرى ، ليصنع منها في النهاية تجويفا ملتصقا بالسقف . يضع فيه بيوضه ، قال : حتى السنونو هاجر عن حجرتي المستاجرة !انا الوحيد المصر على البقاء فيها ، لاني وبكل بساطة لا املك بديلا عنها .. إيه .. إيه .. هي مكان يلمني انا وزوجتي واطفالي .كرت الدنيا في دورانها ، وتركتني عالقا اواجه مصيرا غامضا .

ماذا يمكنني ان اقول ؟ امي التي تبرأت مني ، لا لسبب إلا لأنني لم اتزوج ابنة اختها ! اخواني المرتاحون في حياتهم ، والذين ركنوا الى نسياني ، بحجة اني كل شهر او شهرين انتقل الى مكان . انتهزوا الفرصة ليأكلوا حصتي في ميراث ابي ، كأنما يخافون عودتي في يوم ما لأطالبهم بها .

استند الى يديه ، وسحب جسده المتنمل ببطء . جعل ظهره متكئا الى الحائط . صوب بصره الى زوجته الراقدة الى جواره . بدت المراة مثل هيكل خشبي ، شدت الواحه بدسر محززة .. عظمتي حوضها يبزان ثوبها الملتصق ببطنها المقعرة . اسبلت يديها الى جنبها ، في نومة عميقة تنبيء بتعب تخفيه عنه . وجهها الاسمر مبقع بالكلف ومتشنج قليلا . فمها مفتوح كأنها سمكة اخرجت من الماء . وخيط ضئيل من اللعاب قد التصق بزاوية فمها القريبة من الوسادة . عيناه المثقلة بجفون متورمة تحترق . فتنزل دموعه على مهل ..

قال : ظلمت بنت الناس معي .

كان طفلاه نائمين بعبثية الى جنب امهما . يتمددان بشكل يتعامد مع جسدها . احدهما وضع رأسه تحت ابطها ، اما الاخر فقد أتكأ راسه على اعلى فخذها . بدا رأساهما كبيران نسبة الى جسديهما . قال : يجب ان اخذهما الى الحلاق  

بمواجهته ، كانت القدور صامته ومنكفئة على وجوهها ، وفوقها يستقر الرف الوحيد المثبت بمسامير كبيرة ومعوجة  العلب المرصوفة على الرف فارغة ، او يستقر في قعرها قليل من حبات الفاصوليا او العدس . فقط علبة الملح كانت ممتلئة بملح اسمر خشن . ابريق الشاي يجلس على مؤخرته المحترقة ، ويتجه خرطومه المشروم الى الطباخ ذي العيون الثلاثة . ثقب صغير في الحائط ، يسترق شعاعا من الضوء .. تتماوج فيه ذرات من الغبار الرقيق ، وحيوات صامته لكائنات غير منظورة . انته العاليه ايقظت زوجته من نومها . فتحت عيونها المغبشة بذرات النوم . قالت : لماذا لم توقظني ؟

نظر في وجهها مليا . مستغربا انبعاثها من موتها بهذه الحيوية ! قال انت لا تزالين متعبة ، عودي للنوم .

صوته الواهن بدا كأنه يصدر من شخص اخر . يرتمي عند تخوم زمن بعيد .

قالت :اعرف انك تحب الشاي حين تستيقظ من النوم . لقد اخفيت لك نصف رغيف خبز من البارحة .

-         ولماذا تقولين اخفيته ؟!

ارتعشت اجفانها قليلا ، قبل ان تقول : لم يبق لدينا طحين . لو انك تسمح لي ان استعير شيئا من اهلي .

تعرفين جيدا انني لا اقبل مساعدة من اي احد . سأتصرف اليوم .

وضعت له وسادة ثانية خلف ظهره . قالت لا تتعب ظهرك ، سأعدلك الشاي. لمح كيس الطحين الفارغ متكوما على الارض . احس بمرارة خانقة تطبق على نفسه . قال: لا توقظي الطفلين حتى اعود . سأشتري طعام الافطار ما إن احصل على اول رزق . اومأت برأسها .. نعم .. نهضت بهدوء ، متجنبة ان توقظ طفليها . فرقعت عظامها . فاستدارت ضاحكة . توقعت ان تجد ابتسامة على وجهه .

قال : اعلم بالامك التي تجهدين في اخفائها عني ، ورغم ذلك تضحكين بوجهي .. اتعبتك معي بعدما اصبت بالانفجار .

عدلت المرأة من وقفتها ، وغامت عيونها بنظرة جادة ، قالت : مستعدة ان اتعب معك حتى نهاية العمر . اذهلته اجابتها . توقع ان يسمع كلمات مواساة ، لكن مثل هذه الاجابة ، ابدا لم تكن في حسبانه .

قال : اشعر بالذنب كلما رأيتك .. كنت كالوردة المتفتحة ، والان بسبب متاعبي ذبلت ، واصبحت نحيفة .. و ..

اشارت باصبعها : يكفي ، انت تؤذيني بكلامك ، الا اذا كان في عينيك واحدة اجمل مني !

ضحك بمرارة من دعابتها . قال : رقية انت احلى شيء في حياتي .

ساعدته على ارتداء ملابسه . ناولته عكازتيه ، وفتحت له الباب . قالت : في امان الله .. الله يبسط لك رزقك .

دس الفتاح في قفل الصندوق الحديدي . رفع الباب الى الاعلى ، وجعله يتكأ على عمود رفيع . نفض الغبار عن عل السكائر وجلس على الكرسي الصغير ، بعد ان وضع المخدة التي صنعتها رقية له . يسمع وقع اقدام من خلفه. فيستدير ببطء لتواجهه تكشيرة (عبودي) المجنون .

-         سلام عليكم (ابو احمد)

-         عليكم السلام . اهلا (عبودي)

-         عمي ، اريد (جكاره)

-         ولو انني لم استفتح بأي رزق ، ولكن ولا يهمك ، فأنت فالك حلو ..                                           مد يده الى جيبه ، واخرج علبة سكائره . (عبودي) ينظر الى حركاته بامتنان . يمج دخان السكاره من منخريه ، وقد امتص روحها بنفس واحد. يتململ (ابو احمد) في جلسته . يثير فضوله الشريط الاحمر المعقود على رقبة (عبودي) . ولا يزال يجد في حلقه طعما حرا .. يتسرب اليه من نوافذ عقله المشرعة على متاعبه . لم تكسر حلاوة الشاي من حدة الطعم المعدني في فمه .. طعم ادوية المفاصل ومسكنات الالام . قال : ياعبودي  لماذا تحتفظ بهذا الشريط حول رقبتك ؟! يشرد (عبودي) عن الوجود . وجهه المشوش بلحيته الرمادية ترتسم فيه نظرة عقلانية لنبي مشرد . قال: هذا الشريط من بيرق سيدنا الحسين .. في احد الايام اراد الاطباء ان يقصوا قدمي .. اقصد يقطعوها قالوا اني مصاب بالقنقري . أمي لم تحمل ذلك ، وذهبت الى الحسين تتوسل به الله ان ينجيني . قالت فقد عقله والان يا ربي يفقد قدمه .

-         وبعد ذلك ؟

-         احضرت لي هذا الشريط الاحمر ن الذي لا يفارقني . اخرجتني امي من المستشفى ، وقدمي كما ترى سليمة ، اضرب بها في الارض طولا وعرضا. اختفت النظرة العقلانية وحلت محلها نظرة مفتوحة على عالم اخر .

قال : اخرتني بحديثك يا عمي . تعطيني (جكاره) وتثرثر معي ساعة ها هي جكارتك .

يرمي بعقب السيكاره الممصوص من يده . ويذهب مسرعا .

يشبح بعينيه ناحية طريق كربلاء . تتفتح  همومه في مخيلته ، مثلما تتفتح ازهار سامة ، وتسيل عصارتها في شرايينه .

قال سيدي يا حسين ، انت شفيعنا ، وانت مظلوم وتعلم كيف تكون حالة المظلوم ؟ سيدي هذه دموعي اعلقها على بابك . يقف منفردا ، حيث تنعكس ثريات الكرستال من خلاله . وينحني فوق راسه القوس المنمق بالكاشي الملون لباب الرجاء . يضع رأسه على عضادة الباب ، تغمره مظاهر الهيبة المشوبة بالجمال .. وتتلألأ امام ناظريه انوار القبة الذهبية يشع من خفايا نفسه نور ملكوتي . وهو يرى البيرق المخضوب بالدم يرف فوق القبة .

يستفيق من غيابه ، وارتعاشه مبهمة تهز جسده . قال : لابد ان يلطف بي القدير فقد تشفعت اليه بعزيز .

حسب ان ما قاله شيء يشبه النبوءة ، ارتمت على شفتيه ، وان يدا خفيه ستمتد اليه لتحل عقد المكاره . 


قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat


ستار عبد الحسين الفتلاوي
 (للدخول لصفحة الكاتب إضغط هنا)

    طباعة   ||   أخبر صديقك عن الموضوع   ||   إضافة تعليق   ||   التاريخ : 2012/10/07



كتابة تعليق لموضوع : قصة قصيرة مذاق الحرمان
الإسم * :
بريدك الالكتروني :
نص التعليق * :
 



حمل تطبيق (كتابات في الميزان) من Google Play



اعلان هام من قبل موقع كتابات في الميزان

البحث :





الكتّاب :

الملفات :

مقالات مهمة :



 إنسانية الإمام السيستاني

 بعد إحراجهم بكشف عصيانها وخيانتهم للشعب: المرجعية الدينية العليا تـُحرج الحكومة بمخالفة كلام المعصومين.. والعاصفة تقترب!!!

 كلام موجه الى العقلاء من ابناء شعبي ( 1 )

 حقيقة الادعياء .. متمرجعون وسفراء

 قراءة في خطبة المرجعية : هل اقترب أَجلُ الحكومةِ الحالية؟!

 خطر البترية على بعض اتباع المرجعية قراءة في تاثيرات الادعياء على اتباع العلماء

 إلى دعاة المرجعية العربية العراقية ..مع كل الاحترام

 مهزلة بيان الصرخي حول سوريا

 قراءة في خطبة الجمعة ( 4 / رمضان/ 1437هـ الموافق 10/6/2016 )

 المؤسسة الدينية بين الواقع والافتراء : سلسلة مقالات للشيخ محمد مهدي الاصفي ردا على حسن الكشميري وكتابيه (جولة في دهاليز مظلمة) و(محنة الهروب من الواقع)

 الى الحميداوي ( لانتوقع منكم غير الفتنة )

 السيستاني .. رسالة مهدوية عاجلة

 من عطاء المرجعية العليا

 قراءة في فتوى الدفاع المقدس وتحصين فكر الأمة

 فتوى السيد السيستاني بالجهاد الكفائي وصداها في الصحافة العالمية

 ما هو رأي أستاذ فقهاء النجف وقم المشرّفتَين السيد الخوئي بمن غصب الخلافة ؟

 مواقف شديدة الحساسية/٢ "بانوراما" الحشد..

أحدث مقالات الكتّاب :


مقالات متنوعة :





 لنشر مقالاتكم يمكنكم مراسلتنا على info@kitabat.info

تم تأسيس الموقع بتاريخ 1/4/2010 © محمد البغدادي 

 لا تتحمل الإدارة مسؤولية ما ينشر في الموقع من الناحيتين القانونية والأخلاقية.

  Designed , Hosted & Programmed By : King 4 Host . Net